اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح سنن أبي داود [007] للشيخ : عبد المحسن العباد
حدثنا عثمان وأبو بكر ابنا أبي شيبة قالا: حدثنا عمر بن سعد عن سفيان عن الضحاك بن عثمان عن نافع عن ابن عمر قال: (مر رجل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه).
قال أبو داود : وروي عن ابن عمر وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تيمم ثم رد على الرجل السلام) ].
قوله: [باب: أيرد الرجل السلام وهو يبول؟]
أي: هل الإنسان إذا كان على قضاء الحاجة وسلم عليه أحد يرد عليه السلام أو لا يرد؟
والجواب: أنه لا يرد؛ وذلك أن السلام ذكر لله عز وجل؛ ولأنه دعاء ورده دعاء، والسلام من أسماء الله عز وجل.
وذكر الله لا يكون عند قضاء الحاجة، ومن ذلك رد السلام، وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (أن رجلاً مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه)، وهذا يدل على أن الإنسان لا ينبغي له أن يسلم على من يقضي حاجته؛ لأن كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد عليه فيه إشارة وتنبيه إلى أنه ليس للإنسان أن يسلم على من يبول، وأنه إذا سلم عليه وهو يبول لا يرد؛ لأن ترك النبي صلى الله عليه وسلم الرد عليه يدل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يرد السلام وهو يقضي الحاجة.
وعلى هذا فيفهم من الحديث أن الإنسان لا ينبغي له أن يسلم على من يبول، وعلى المسلم عليه الذي يقضي حاجته ألا يرد السلام، وفيه أيضاً دليل على أن ذكر الله عز وجل لا يكون في حال قضاء الحاجة.
وفيه أيضاً دليل على أن الإنسان إذا كان يقضي حاجته لا ينبغي له أن يتكلم، ولا أن يخاطب الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أجاب المسلّم بشيء، لا بكلام ولا برد السلام؛ لأن التحية ورد السلام لا يناسب أن يكون في مثل هذه الحال، فهذا يفيد أن الإنسان لا يتكلم وهو يقضي حاجته.
وإذا كانت هناك ضرورة تدعو إلى الكلام فللإنسان أن يتكلم على قدر الحاجة.
ثم أشار أبو داود رحمه الله إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام بعدما تيمم رد عليه، فقال: وروي عن ابن عمر وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تيمم ثم رد عليه السلام)، يعني: أنه بعدما انتهى من بوله تيمم ثم رد عليه السلام.
وهذا فيه أن الإنسان حينما يرد السلام ينبغي أن يكون على طهارة، ولكن إذا كان الإنسان ليس على قضاء الحاجة وكان غير متوضئ وغير متيمم فيجوز له أن يذكر الله وأن يرد السلام؛ ولكن الأولى والأشرف أن يكون على طهارة، وقد أورد أبو داود رحمه الله هذا الحديث مسنداً في باب التيمم في الحضر.
والمقصود من هذا: أن يكون رد السلام على حال أكمل وأفضل، وإلا فإن ذكر الله عز وجل والإنسان محدث وليس على وضوء سائغ وجائز، وسيأتي الحديث الذي يدل على ذلك، وهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه)، يعني: سواء كان متوضئاً أو غير متوضئ.
ولكن الذي حصل في هذا: هو الإشارة إلى ما هو أكمل وإلى ما هو أفضل، والحديث الذي سيأتي يدل على أن ذلك سائغ وجائز، ولا تنافي بين هذا الحديث والحديث الذي سيأتي والذي فيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه).
أبو شيبة هو محمد بن إبراهيم ، ويكنى بـأبي شيبة وابناه هما: عثمان وأبو بكر ، وأبو بكر اسمه عبد الله ولكنه مشهور بكنيته، وكل منهما ثقة، وكل منهما خرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي .
و أبو بكر هو المشهور أكثر من عثمان في كثرة الرواية، وكثرة الحديث؛ ولهذا خرج له مسلم في صحيحه -أي: لـأبي بكر - أكثر من ألف وخمسمائة حديث، وهو أكثر الشيوخ الذين روى عنهم مسلم ، يعني: أن الأحاديث التي حدث بها مسلم عن شيوخه أكثرها ما كان عن أبي بكر بن أبي شيبة.
وقد اشتهر أبو بكر بن أبي شيبة بكنيته، وكذلك ينسب إلى أبيه بالكنية، فيقال: أبو بكر بن أبي شيبة ، وأبو بكر اسمه عبد الله ، وأبو شيبة اسمه محمد ، وهذا فيه الاشتهار بالكنى، والاشتهار بكنية الأب أيضاً، ومثل هذا شهرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه أبو بكر بن أبي قحافة ، فهو مشهور بكنيته وينسب إلى أبيه مكنى، وهو عبد الله بن عثمان رضي الله عنه، وليس مشهوراً باسمه واسم أبيه، وأبوه ليس مشهوراً باسمه، وإنما اشتهر بالكنية.
وهنا أبو بكر بن أبي شيبة اشتهر بكنيته وكنية أبيه.
و أبو بكر رضي الله عنه ليس له ولد اسمه بكر، ولا لـعمر ابن اسمه حفص، ولكن هذه كنى حصل الاشتهار بها، ولعلها حصلت في زمن مبكر وقبل أن يولد للإنسان ولد، فاستمر عليها وعلى ذكرها.
[حدثنا عمر بن سعد ].
هو أبو داود الحفري ، والحفر: محلة من الكوفة، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن الأربعة.
[ عن سفيان ].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ، وهو ثقة فقيه، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهنا جاء غير منسوب، لأن أبا داود الحفري من أهل الكوفة، وهو يروي عن سفيان الثوري ، وكذلك الضحاك بن عثمان يروي عنه أيضاً سفيان الثوري ، وحديث سفيان الثوري أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وكما قلت: هو من الذين وصفوا باللقب الرفيع الذي هو من أعلى صيغ التعديل: أمير المؤمنين في الحديث، وهو مشهور بالفقه، ومشهور بالحديث رحمة الله عليه.
[عن الضحاك بن عثمان ].
هو الضحاك بن عثمان الأسدي، وهو صدوق يهم، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[ عن نافع ].
هو نافع مولى ابن عمر ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
(عن ابن عمر ).
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عن الصحابة أجمعين.
أورد أبو داود رحمه الله تعالى حديث المهاجر بن قنفذ رضي الله عنه: (أنه مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلم عليه فلم يرد عليه السلام، حتى توضأ ورد عليه السلام، ثم اعتذر النبي صلى الله عليه وسلم إليه وقال: إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر).
أي: أن حالة البول هذه حالة ليست محلاً لذكر الله عز وجل، ولكن بعد أن يقضي الإنسان حاجته -حتى قبل أن يتوضأ- هذه حالة لا مانع فيها من ذكر اسم الله عز وجل، ولا مانع من قراءة القرآن، والقرآن هو خير الذكر وأفضل الذكر.
ولكن كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد عليه السلام إلا بعد أن توضأ، وأشار إلى أنه كره أن يرد إلا وهو على طهارة فيه إشارة إلى الأكمل، وفي هذا أيضاً إشارة إلى أن الإنسان ينبغي له أن يحرص على أن يكون على طهارة؛ حتى يكون أكمل في ذكره لله عز وجل وفي قراءته للقرآن.
وإن كان ذكره لله عز وجل بعدما ينتهي من بوله وقبل أن يتوضأ سائغ وجائز، إلا أن هذا فيه إشارة إلى الأكمل وإشارة إلى الأفضل، وفيه حسن خلقه صلى الله عليه وسلم في اعتذاره للمهاجر بن قنفذ وبيانه له حتى يكون في ذلك بيان لهذا الحكم الشرعي، ولتطييب خاطره ونفسه من كونه سلم ولم يرد عليه، وفيه تنبيه أيضاً كما أسلفت إلى أن الإنسان لا ينبغي له أن يسلم على من يقضي حاجته.
هو أبو موسى العنزي الملقب: الزمن البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة، فكل منهم روى عنه مباشرة بدون واسطة.
وسبق أن ذكرت في درس مضى أن ثلاثة من صغار شيوخ البخاري هم من رجال الكتب الستة وماتوا في سنة واحدة، وهم: محمد بن المثنى هذا، ومحمد بن بشار بندار ويعقوب بن إبراهيم الدورقي ، فهؤلاء ثلاثة شيوخ لأصحاب الكتب الستة، وقد ماتوا في سنة واحدة قبل وفاة البخاري بأربع سنوات، وهي سنة (252هـ).
وذكروا عن محمد بن المثنى أنه مثل محمد بن بشار في أمور كثيرة، فقالوا: اتفقا في سنة الولادة، وسنة الوفاة، وكلاهما من أهل البصرة، وكانا متفقين في كثير من الشيوخ والتلاميذ، ولهذا قال الحافظ ابن حجر في ترجمة محمد بن المثنى : وكان هو وبندار كفرسي رهان. يعني: متماثلين، لا أحد منهما يسبق الآخر، كما أن فرسي الرهان يكون بينهما تماثل.
وقال: إن هذين الاثنين ماتا في سنة واحدة، وكانا كفرسي رهان، واتفقا في أمور كثيرة.
[ حدثنا عبد الأعلى ].
هو عبد الأعلى بن عبد الأعلى البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا سعيد ].
هو ابن أبي عروبة ، وإذا جاء سعيد يروي عن قتادة فالمقصود به ابن أبي عروبة .
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن قتادة ].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن الحسن ].
هو الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو ثقة، أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ عن حضين بن المنذر أبي ساسان ].
حضين بن المنذر أبي ساسان ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة .
[ عن المهاجر بن قنفذ ].
المهاجر بن قنفذ رضي الله عنه صحابي، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة .
وفي هذا الحديث أنه توضأ، وفي الحديث الذي روي عن ابن عمر وغيره أنه تيمم، والذي يبدو أنهما قصتان، إحداهما فيها وضوء، والأخرى فيها تيمم.
حدثنا محمد بن العلاء حدثنا ابن أبي زائدة عن أبيه عن خالد بن سلمة -يعني: الفأفاء- عن البهي عن عروة عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله عز وجل على كل أحيانه) ].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة بعنوان: باب في الرجل يذكر الله تعالى على غير طهر، بعد أن ذكر الترجمة السابقة التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد السلام إلا بعدما توضأ أو تيمم.
ومن المعلوم أن الوقت الذي بين قضاء الحاجة وبين التيمم أو الوضوء يجوز للإنسان أن يذكر الله عز وجل فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم ما حصل منه رد السلام إلا بعد الوضوء أو التيمم، وهذا فيه إشارة إلى الأكمل، وأن الإنسان إذا ذكر الله في حال طهارته فهذا أكمل وأفضل.
وبعد هذا أورد هذه الترجمة الدالة على جواز ذكر الله عز وجل على غير طهارة، لكن ليس في حال قضاء الحاجة، ففي حال قضاء الحاجة لا يرد الإنسان السلام، ولكن فيما بين قضاء الحاجة وبين الوضوء أو التيمم يجوز للإنسان أن يذكر الله عز وجل.
فأورد أبو داود رحمه الله هذا الباب بعد الباب الذي قبله إشارة إلى أن ما جاء في الباب الذي قبله إنما هو إشارة إلى الأكمل، وفي هذا الباب إشارة إلى الجواز وعدم الحرج، وأنه لا بأس بذلك، وأن الذكر قبل الوضوء خلاف الأولى، ولكن ليس من قبيل التحريم، وإنما الأولى والأفضل والأكمل أن يكون الذكر على طهارة، ولكن ذكر الله عز وجل على غير طهارة جائز لحديث عائشة هذا الذي أورده أبو داود رحمه الله.
وكثيراً ما يأتي في التراجم وفي الأحاديث ذكر الرجل، ولا مفهوم له، بمعنى: أن حكم المرأة لا يخالف حكم الرجل، بل حكم الرجل والمرأة واحد، والأحكام هي للرجال والنساء، ولكن يذكر الرجال في التراجم ويأتي ذكرهم في الأحاديث بلفظ الرجل أو الرجال؛ لأن الغالب أن الخطاب مع الرجال؛ لا لأن الحكم يختص بالرجال؛ فبعض الرجال لا يذكر الله على كل أحيانه وبعض النساء كذلك.
وقد جاءت أحاديث كثيرة فيها ذكر الرجال، ولا مفهوم لذكر الرجال، بمعنى: أن النساء ليس لها حكم آخر، بل حكم النساء هو حكم الرجال، والأصل هو تساوي النساء والرجال في الأحكام، إلا ما جاء يخص الرجال دون النساء، وما جاء يخص النساء دون الرجال، فعند ذلك يصار إلى التفريق، أما حيث لا تفريق وحيث لا يأتي شيء يدل على أن هذا خاص بالرجال أو هذا خاص بالنساء فالأصل هو التساوي بين الرجال والنساء.
وقد جاءت جملة كبيرة من الأحاديث في هذا المعنى الذي هو ذكر الرجل، ولا مفهوم له، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه) وكذلك المرأة التي تصوم صوماً تداوم عليه فلها أن تصوم.
فقوله: (إلا رجل) هذا لا مفهوم له، بل المرأة مثل الرجل.
وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (من وجد متاعه عند رجل قد أفلس…)، كذلك المرأة إذا كانت مفلسة وقد بيع لها شيء والمبيع موجود عندها فالذي وجده من الغرماء أحق به، سواء وجده عند رجل أو عند امرأة، فقوله: (من وجد متاعه عند رجل) لا مفهوم للرجل، فالمرأة مثل الرجل.
وعلى هذا فالقاعدة: أن أحكام الرجال والنساء واحدة، ولا يختص الرجال بحكم دون النساء، ولا النساء بحكم دون الرجال، إلا إذا جاء شيء يدل على التخصيص؛ إما لأنها أحكام تتعلق بالنساء أو لأنها أحكام يفرق فيها بين الرجال والنساء.
وهذه الأحكام التي يفرق بها بين الرجال والنساء كثيرة، وقد أشرت إلى جملة منها في الفوائد المنتقاة من فتح الباري وكتب أخرى، وهذه هي الفائدة الوحيدة التي ما عزوتها إلى كتاب؛ لأنني لم أنقلها من كتاب، ولكنني كنت أدون ما يعرض لي من فروق بين الرجال والنساء، فتجمعت جملة كبيرة، فأوردتها في ذلك الكتاب، وهي غير معزوة إلى أحد؛ لأنها مسائل كثيرة يفرق فيها بين الرجال والنساء، فهي الفائدة الوحيدة التي لم تنسب ولم تعز إلى مصدر أو كتاب معين، وهي جملة كبيرة من الأحكام التي يختلف فيها الرجال عن النساء، ويفرق فيها بين الرجال والنساء.
والحاصل: أن ذكر الرجل في التراجم وكذلك في الأحاديث لا مفهوم له، وإنما المقصود من ذلك: أن الغالب أن الخطاب مع الرجال دون النساء.
وبعد ذلك أورد حديث عائشة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه).
هو محمد بن العلاء أبو كريب ، مشهور بكنيته أبي كريب ، وبعض المحدثين يذكره بكنيته، فيقول: أبو كريب ويكتفي بها، وبعضهم يذكره باسمه منسوباً، فيقول: محمد بن العلاء ، وبعضهم يجمع بين الاسم والكنية والنسبة، ومعرفة الكنى للمحدثين مهمة، وفائدتها: ألا يظن الشخص الواحد شخصين، وذلك فيما لو جاء في أحد الأسانيد: أبو كريب ، وجاء في إسناد آخر محمد بن العلاء .
فالذي لا يعرف أن أبا كريب هو محمد بن العلاء يظن أن أبا كريب شخص، وأن محمد بن العلاء شخص آخر، لكن من يعرف أنه واحد فسواء جاء أبو كريب أو جاء محمد بن العلاء فالنتيجة واحدة؛ إذا إنها يراد بها شخص واحد، وإنما يذكر باسمه في بعض الأحيان، ويذكر بلقبه في بعض الأحيان، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا ابن أبي زائدة ].
هو يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبيه ].
وهو ثقة يدلس، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن خالد بن سلمة -يعني: الفأفاء - ].
كلمة (يعني) سبق أن مر التنبيه عليها، وأن المقصود منها: أن تلميذ الراوي اكتفى باسمه، وتلميذه هو زكريا بن أبي زائدة ، وهو ما زاد على أن قال: خالد بن سلمة ، لكن يحيى بن زكريا ، أو من دونه هو الذي قال: الفأفاء، وكلمة (يعني) لها قائل ولها فاعل، ففاعلها زكريا بن أبي زائدة ، وقائلها: من دون زكريا بن أبي زائدة .
و خالد بن سلمة صدوق، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة.
[ عن البهي ].
البهي لقب، واسم صاحب اللقب عبد الله بن يسار ، وهو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[ عن عروة ].
هو عروة بن الزبير بن العوام ، وهو ثقة فقيه، من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وقد مر ذكرهم فيما مضى، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن عائشة ].
عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق ، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد مر ذكرهم قريباً.
حدثنا نصر بن علي عن أبي علي الحنفي عن همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه).
قال أبو داود : هذا حديث منكر، وإنما يعرف عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن أنس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من وَرِق ثم ألقاه) والوهم فيه من همام ، ولم يروه إلا همام ].
ثم أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة بعنوان: باب الخاتم يكون فيه ذكر الله يدخل فيه الخلاء.
وهذه الترجمة المقصود منها: أن ما كان فيه ذكر الله عز وجل هل يدخل به الخلاء أو لا يدخل به في محل الخلاء أو محل قضاء الحاجة؟
وهذا يقال فيه: إن الأولى والذي ينبغي أنه إذا تيسر ألا يدخل الخلاء بشيء فيه ذكر الله فليفعل، ولكنه إذا حصل أمر يقتضي ذلك فإنه لا بأس بذلك، لكن حيث أمكن ألا يدخل بشيء فيه ذكر الله فهذا هو الذي ينبغي.
ولكن إن دعت إلى ذلك الحاجة فإنه لا بأس بإدخاله مع الإنسان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه خاتم مكتوب فيه (محمد رسول الله) (محمد) سطر، و(رسول) سطر، و(الله) سطر، وهذا فيه ذكر الله؛ لأنه مكتوب فيه (محمد رسول الله) صلى الله عليه وسلم؛ ومن أجل ذلك قال في الترجمة: فيه ذكر الله.
ثم أورد حديث أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه)، يعني: أنه لا يدخل به الخلاء، وإنما يدخل بدون الخاتم؛ وذلك لأن فيه ذكر الله عز وجل.
فأورد أبو داود رحمه الله حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في هذا، وأنه كان صلى الله عليه وسلم يضع الخاتم.
ثم بعد ذلك قال أبو داود : إنه حديث منكر. وبين أن المعروف أنه عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري ، عن أنس : (أنه اتخذ خاتماً من ورق فألقاه).
والفرق إنما هو في وضع الخاتم عند دخول الخلاء، كما جاء في حديث الطريق الأولى التي هي: همام عن ابن جريج ، ولكن قال أبو داود : إن الحديث منكر، والوهم فيه من همام ، والمخالفة فيه من همام ، مع أن هماماً ليس من الضعفاء، والمشهور في تعريف المنكر: رواية الضعيف مخالفاً الثقة، وهمام ليس بضعيف، ولكنه من الثقات، وقد أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو ثقة ربما وهم.
قالوا: ولعل المقصود بذلك: التوسع في معنى المنكر، وهو ما فيه المخالفة من الثقة لمن هو أوثق منه، ومن الضعيف للثقة، وعلى هذا فيكون المقصود به: الشاذ؛ لأن مخالفة الثقة للثقات يسمى شاذاً ولا يسمى منكراً، لكن بعض أهل العلم يتوسع في إطلاق المنكر على ما فيه المخالفة.
قالوا: وهذا يتفق مع هذا التوسع، وهو أنه لا توجد هنا المخالفة؛ لأنه ليس هنا ضعيف خالف ثقة، وإنما ثقة خالف من هو أوثق منه.
ولهذا فإن بعض أهل العلم قال: إن أبا داود نوزع في بيان أنه منكر، وأنه ليس فيه إلا تدليس ابن جريج ، فإنه مدلس، فإن صرح بالسماع فإنه يصحح، وإلا فإن العلة فيه ليست من همام ، وإنما هي من تدليس ابن جريج .
وأما الحكم فهو أنه حيث أمكن ألا يدخل الخلاء بشيء فيه ذكر الله عز وجل فهذا هو الذي ينبغي، ولكن إذا احتيج إلى ذلك أو دعا الأمر إلى ذلك -كأن خيف أن يسرق ذلك الشيء الذي فيه ذكر الله عز وجل لو وضعه في الخارج- فإنه يدخل به ولا بأس بذلك، وقد عمت البلوى في أن الناس لابد أن يكون في جيوبهم شيء فيه ذكر الله عز وجل من الأوراق النقدية وغير النقدية، فالدخول بها الخلاء مما تدعو إليه الحاجة ولا يمكن التحرز منه.
هو نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي ، وقد وافق اسمه واسم أبيه اسم جده وجد أبيه، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي علي الحنفي ].
هو عبيد الله بن عبد المجيد ، وهو مشهور بكنيته ونسبته، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن همام ].
هو همام بن يحيى، وهو ثقة ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن ابن جريج ].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي ، وهو ثقة يرسل ويدلس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ عن الزهري ].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أنس ].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنس بن مالك من صغار الصحابة، والزهري من صغار التابعين.
وهذا الحديث فيه رواية تابعي صغير عن صحابي صغير؛ لأن أنساً رضي الله عنه عُمِّر، وطالت حياته، فأدركه صغار التابعين، ومنهم من روى عنه، ومنهم من لم يروِ عنه، وهنا الزهري يروي عنه، وقد سبق أن ذكرنا أن حديث الأعمش عنه مرسل؛ لأن الأعمش لم يروِ عن أنس .
[ قال أبو داود : هذا حديث منكر، وإنما يعرف عن ابن جريج عن زياد بن سعد ].
و زياد بن سعد أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وهو يعني بهذا أن المعروف ذكر الواسطة بين ابن جريج وبين الزهري ، وهو زياد بن سعد ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وبعض أهل العلم قال: إنه يمكن أن يكونا حديثين، فيكون هذا حديث وهذا حديث، فالذي جاء من هذا الطريق حديث، والذي جاء من ذلك الطريق حديث آخر.
وقال: يمكن أن يصحح الحديث الذي قال عنه أبو داود : إنه منكر؛ وذلك لأنه ليس فيه إلا احتمال تدليس ابن جريج ، فإن صرح بالسماع حكم له بالصحة والثبوت، وإلا فالعلة فيه ليست من همام ، وإنما هي من تدليس ابن جريج .
قوله: (اتخذ خاتماً من ورق ثم ألقاه) ].
الوَرِق هو: الفضة، والمعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ذهب ثم ألقاه فألقى الناس خواتيمهم، وبين لهم أنه حرام، وأما الوَرِق فإنه حلال ومباح اتخاذه، والنبي صلى الله عليه وسلم قد اتخذ خاتماً من ورق واستمر عليه الصلاة والسلام عليه، وجاء عن أنس : (أنه كان يرى وبيص خاتمه في يده صلى الله عليه وسلم)، وكان اتخذ الخاتم من أجل أن يختم به كتبه إلى الزعماء والملوك والرؤساء؛ لأن أصله أنه قيل: إنهم لا يقبلون الكتاب إلا مختوماً، فاتخذ خاتماً وكتب فيه: (محمد رسول الله) صلى الله عليه وسلم.
فهذا الحديث الذي فيه وضع الخاتم هو من طريق زياد بن سعد عن الزهري ، لكن فيه أن الخاتم من فضة، والذي أعرف أن الذي نزعه النبي صلى الله عليه وسلم ونزع الناس خواتيمهم هو أنه كان من ذهب، فما أدري هل قضية الفضة حصل فيها شيء من هذا أم لا؟ ولكن الفضة بقيت مباحة واستمرت إباحتها، وعلى هذا فيجوز اتخاذ الخاتم من الفضة.
حدثنا زهير بن حرب وهناد بن السري قالا: حدثنا وكيع حدثنا الأعمش قال: سمعت مجاهداً يحدث عن طاوس عن ابن عباس قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير: أما هذا فكان لا يستنزه من البول، وأما هذا فكان يمشي بالنميمة. ثم دعا بعسيب رطب فشقه باثنين، ثم غرس على هذا واحداً وعلى هذا واحداً وقال: لعله يخفف عنها ما لم ييبسا).
قال هناد : (يستتر) مكان (يستنزه) ].
الاستبراء من البول: هو الاستنزاه منه، والحرص على السلامة من أن يتطاير على الثوب أو الجسد، فلا يتهاون الإنسان في البول بأن يقع على جسده أو ملابسه ثم لا يستنزه منه، بل عليه أن يحرص على ألا يكون في ثيابه على بدنه نجاسة؛ لأنه ورد الوعيد الشديد فيه، وبيان أنه من الكبائر؛ وذلك لأنه جاء فيه عذاب القبر.
ومن المعلوم أن الكبائر هي: الذنوب التي عليها حد في الدنيا، أو توعد عليها بلعنة أو غضب أو نار.
وهنا بين أن صاحب ذلك القبر يعذب في قبره؛ بسبب عدم الاستنزاه من البول، فالإنسان إذا علم النجاسة فعليه أن يبادر إلى إزالتها.
لكنه إذا صلى ثم علم أن في ثوبه أو على بدنه نجاسة فإن صلاته صحيحة، وإن علم في أثناء الصلاة فإن عليه أن ينزع الذي فيه نجاسة إذا كان يمكن نزعه ويواصل الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في نعليه وفي أثناء الصلاة نزعهما، فالناس نزعوا نعالهم، ولما فرغ أخبرهم بأن جبريل جاءه وأخبره بأن فيهما نجاسة.
فكون النبي صلى الله عليه وسلم بنى على ما قبل النزع دلنا على أن الصلاة تصح في الثوب إذا كان فيه نجاسة أو البدن إذا كان عليه نجاسة إذا لم يعلم إلا بعد الفراغ من الصلاة.
وسواء كان قد أصابته النجاسة ولا يدري عنها ولا عرفها إلا بعد الصلاة، أو كان يعلمها من قبل ولكنه نسيها فإن الصلاة تصح، وهذا بخلاف الوضوء، فإن الإنسان إذا صلى بدون وضوء فعليه أن يعيد الصلاة، وإذا صلى وفي ثوبه نجاسة أو عليه نجاسة ولم يعلم بها إلا بعد الفراغ من الصلاة فإن صلاته صحيحة، بدليل حديث نزع الرسول صلى الله عليه وسلم نعليه وهو في الصلاة، وقد اعتبر ما مضى من صلاته قبل النزع، فلو كان ذلك غير سائغ وغير صحيح لاستأنف النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة من أولها.
أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عباس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير)، يعني: أن الله تعالى أطلع نبيه على أن صاحبي هذين القبرين يعذبان، وقال: (وما يعذبان في كبير)، وليس معنى قوله: (وما يعذبان في كبير) يعني: تسهيل أو تهوين النميمة وعدم الاستبراء من البول، وإنما المقصود: أن تركه شيء سهل عليهما ويسير عليهما، وليس عليهما في تركه مشقة، وليس فيه تعب عليهما، بل تركه هين عليهما، ولكنهما تهاونا في ذلك ووقعا في هذا الأمر المحرم، مع أنه ليس بشيء كبير يشق عليهما، بل هو هين إذا وفقهما الله عز وجل للتخلص منه والسلامة منه.
فلا يعني ذلك أنه ليس من الكبائر؛ لأن الذنب كبير، ولهذا فالإنسان يعذب عليه في قبره، ولكن المقصود بالنفي هو أنه هين عليهما التخلص منه والسلامة منه، وعدم الوقوع فيه، ومع ذلك فقد وجد منهما التهاون حتى وقعا فيما وقعا فيه.
وقوله: (إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستنزه من البول أو لا يستبرئ من البول) هذا فيه إثبات عذاب القبر، والأحاديث فيه متواترة، بل قد جاء في القرآن إثبات عذاب القبر، كما قال الله عز وجل في آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، فهم يعرضون على النار غدواً وعشياً، أي: وهم في القبور قبل أن تقوم الساعة.
فهذا فيه إثبات عذاب القبر من القرآن الكريم، وأما الأحاديث فهي أحاديث كثيرة جداً ومتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن عذاب القبر حق، وأنه يصل إلى من يستحقه، فالكفار يعذبون في قبورهم كما جاء في آل فرعون، والعصاة من شاء الله عز وجل أن يعذب عذب ومن شاء ألا يعذب فإن الله تعالى يعفو عنه ويتجاوز.
والحديث الذي معنا يفهم منه أنهما كانا مسلمين؛ لأنهما لو كانا كافرين لكان العذاب على الكفر، فالكفر والشرك أعظم الذنوب وأخطرها، ولكن المقصود: أنهما عُذّبا بهذا الذنب الكبير الذي هو المشي بالنميمة وعدم الاستبراء من البول.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ جريدة رطبة وشقها قطعتين، وغرز في كل قبر قطعة، وقال: (لعله يخفف عنهما مالم ييبسا)، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن يفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلعه الله على هذا الغيب الذي هو حصول العذاب في هذا القبر، وعلى سبب العذاب: وهو النميمة وعدم الاستبراء من البول، وأما الناس فإنهم لا يعلمون، ولا يحصل لهم ما يحصل للرسول صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يطلعه الله عز وجل من الغيب على مالم يطلع عليه أمته، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع).
فالرسول صلى الله عليه وسلم قد أطلعه الله على ما يجري في القبور، ويسمع ما يحصل في القبور من العذاب والصراع والصياح الذي يكون بسبب ذلك، والبهائم كذلك تسمع ما يجري في القبور، والله تعالى أخفى ذلك على المكلفين: الجن والإنس؛ حتى يتبين أولياء الله من أعداء الله، وحتى يتبين من يؤمن بالغيب ومن لا يؤمن بالغيب؛ لأنهم لو أطلعوا على ما يجري في الغيب وما يجري في القبور لما بقي هناك تمييز بين من يكون ولياً وبين من كان غير ولي، والله تعالى شاء أن يكون الناس فريقين: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)، فريق يؤمن بالغيب، وفريق لا يؤمن إلا بما يشاهده ويعاينه.
فالبهائم -كما جاء في بعض الأحاديث- تسمع، والرسول صلى الله عليه وسلم يسمع، وقد قال: (لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع)، يعني: أنهم لو سمعوا ما يجري في القبور من الصراخ والصياح لما قرّ لهم قرار ولا هدأ لهم بال، بل يمكن أن يصيبهم المرض، ويصيبهم التعب حتى يموتوا، ولا يتمكن بعضهم من أن يدفن بعضاً، والله أطلع نبيه على مالم يطلعهم عليه.
إذاً: هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن يأتي ويغرز أو يضع شيئاً على المقابر، أو ما إلى ذلك من الأشياء التي تفعل في بعض الجهات وفي بعض البلاد؛ فإن هذا من الأمور المنكرة.
هو أبو خيثمة ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي .
[ وهناد بن السري ].
هناد بن السري ثقة، أخرج له البخاري في (خلق أفعال العباد) ومسلم وأصحاب السنن الأربعة.
[ حدثنا وكيع ].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا الأعمش ].
هو سليمان بن مهران الكاهلي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
و الأعمش لقب، ومعرفة الألقاب أمر مهم، وفائدته مثل فائدة معرفة الكنى التي أشرت إليها سابقاً، وهي ألا يظن الشخص الواحد شخصين فيما إذا ذكر باسمه في موضع وذكر لقبه في موضع آخر، فإن الذي لا يعرف يظن أن هذا غير هذا، وهذا غير هذا، ومن يعرف يعلم أنه لا فرق بين هذا وهذا، وأن كلها تطلق على شخص واحد، وإنما ذُكر مرة باسمه ومرة بكنيته.
[ سمعت مجاهداً ].
هو مجاهد بن جبر المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن طاوس ].
هو ابن كيسان ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس ].
وهو أحد العبادلة، وأحد السبعة المكثرين من رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مر ذكر ذلك قريباً.
[ قال هناد : (يستتر) مكان (يستنزه) ].
هناد هو شيخ أبي داود الثاني؛ لأن أبا داود له في هذا الحديث شيخان: الأول: زهير بن حرب والثاني: هناد ، وقد ساق أبو داود الحديث على لفظ زهير الذي هو شيخه الأول، ونبه في الآخر إلى أن هناداً خالف زهيراً بلفظ (يستنزه)، فأتى مكانها بلفظ (يستتر)، فساق لفظ الشيخ الأول، وأتى بمخالفة الشيخ الثاني للشيخ الأول في هذه الكلمة، وهي (يستتر) مكان (يستنزه) يعني: يستتر عند البول، وطبعاً هذا المعنى يختلف، وهذا على هذه الرواية فيه لزوم الاستتار وعدم كشف العورة أمام الناس عند قضاء الحاجة.
عقد أبو داود السجستاني رحمه الله هذه الترجمة بعنوان: باب الاستبراء من البول.
والمقصود من ذلك: التنزه منه، والتحرز والتوقي من أن يقع شيء من النجاسة على جسد الإنسان، وعلى ثوب الإنسان، فعلى الإنسان أن يتوقى ذلك، وسبق أن مر حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (مر النبي عليه الصلاة والسلام بقبرين فقال: إنهما -أي: صاحبي القبرين- ليعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستبرئ من البول أو فكان لا يستنزه من البول، ثم دعا بجريدة رطبة فشقها اثنتين، وغرس على كل واحد منهما قطعة وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا).
وهذا يدل على أن عدم التنزه من البول من الكبائر؛ لأنه جاء الإخبار بالعذاب عليه في القبر، ومن المعلوم أن الكبيرة هي: ما كان عليها حدّ في الدنيا أو توعد عليها بلعنة أو غضب أو نار.
وهنا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن وجود العذاب في حق هذين الرجلين اللذين كان أحدهما لا يستبرئ من البول، وكان الثاني يمشي بالنميمة، وهو دال على أنهما من الكبائر، وقد ذكرنا أن عذاب القبر حق، وأنه جاء في القرآن ما يدل عليه في حق الكفار، كما قال الله عز وجل عن آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46].
وهذا الحديث فيه: أن من الناس من يعذب في قبره، وفيه: بيان سبب العذاب، وهو المشي بالنميمة، وعدم التنزه من البول، ففيه ذكر العذاب وذكر سببه، وفيه: أن النبي عليه الصلاة والسلام وضع في كل قبر قطعة من عسيب أو من جريدة رطبة، وقال: (لعله يخفف عنهما مالم ييبسا).
وهذا يشعر بأن صاحبي القبر من المسلمين، ولكنهما عُذّبا بهذين الذنبين، ولو كانا كافرين لكان التعذيب للكفر؛ لأن كل ذنب يعتبر دون الكفر ودون الشرك بالله عز وجل، وذكرنا أنه لا يجوز لأحد أن يفعل كما فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام من وضع الشيء الرطب وغرزه في القبور؛ لأن هذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام، وذلك أن الله تعالى أطلعه على الغيب، وأطلعه على أن صاحبي القبر معذبان، وأطلعه على سبب عذابهما، وهو مشي أحدهما بالنميمة، وعدم استبراء الآخر من البول، وليس أحد يحصل له ما حصل للرسول صلى الله عليه وسلم من الاطلاع على الغيب، فلا يجوز فعل ذلك.
وعذاب القبر حق على كل من يستحقه، ومن شاء الله عز وجل أن يعذب به من المسلمين فإنه يصل إليه ذلك ولابد، وسواء دُفن أو لم يُدفن؛ لأنه لا يختص الأمر بمن دفن في الأرض، بل من يستحق العذاب في البرزخ يصل إليه العذاب، فلا يقال: من أكلته السباع وهو مستحق لعذاب القبر يسلم منه، ولا لمن أحرق وذر في الهواء وهو مستحق لعذاب القبر فإنه يسلم منه، بل إن عذاب القبر يصل إلى كل من شاء الله تعالى أن يعذب فيه.
وعذاب القبر من الأمور الغيبية التي لا تقاس على أمور وأحوال الدنيا، فإننا نؤمن بعذاب القبر، ونعرف أن القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار، ولو فتحنا القبور فلن نرى جنة ولا ناراً، ولكن ذلك لا يجعل الإنسان يتردد أو يتوقف أو يشك، بل عليه أن يصدق وإن لم ير؛ لأن أمور الآخرة أو أمور البرزخ تختلف عن أمور الدنيا، فأمور الدنيا يعرف فيها الناس النار وعذابها وحصول ذلك، وما جاء في الكتاب والسنة من حصول العذاب على المقبورين، فنحن نؤمن به وإن لم نره، وإن لم نشاهده ونعاينه، وهذا هو الفرق بين من يؤمن بالغيب وبين من لا يؤمن بالغيب ولا يؤمن إلا بما يشاهده ويعاينه.
وبهذا يكون التمييز بين أولياء الله وأعداء الله، ويكون التمييز بين من يكون موفقاً ومن يكون مخذولاً، وبين من يؤمن بالغيب ومن لا يؤمن بالغيب.
وهناك مثال في الدنيا يوضح لنا هذا المعنى: وهو أن الأرواح يحصل لها في النوم نعيم، ويحصل لها عذاب، فينام الشخصان في مكان واحد ثم يقومان من نومهما، وأحدهما كان مرتاحاً في نومه ووجد في نومه ما يسره، ووجد أنه يأكل من النعيم ما لذ وطاب ثم يقوم من نومه ولعابه يسيل! والآخر معه في نفس الغرفة، أو في نفس المكان، ولكنه رأى في منامه أن الوحوش تطارده، والحيات تلاحقه، والعقارب تلسعه، ثم قام من نومه فزعاً، خائفاً مذعوراً، وريقه ناشف!
فهذان اثنان في مكان واحد، وقد حصل لأرواحهما ما حصل من الفرق الشاسع، والبون البعيد، فكذلك ما يجري في القبور، فإنه قد يكون الاثنان مقبورين في قبر واحد، وأحدهما منعم والآخر معذب، ولا يصل إلى المنعم من عذاب المعذب شيء، ولا يصل إلى المعذب من نعيم المنعم شيء، بل هذا له نعيمه وهذا له عذابه، والله تعالى على كل شيء قدير.
والمهم في الأمر: أن المسلم لا يتردد ولا يتوقف في الإيمان والتصديق بما جاء به كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، سواء أدركه أو لم يدركه، وسواء عقله أو لم يعقله، مع العلم بأن أمور الآخرة ليست مثل أمور الدنيا، وأمور البرزخ ليست مثل أمور الدنيا، حتى يقيس الإنسان هذا على هذا، فإن هناك فرقاً، ولا تستوي أمور الدنيا وأمور الآخرة، فإذا وجد الإنسان الشيء الذي لا يعرفه فلا يتوقف ويترد أو يشك فيما جاء به الحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، بل الواجب التصديق والإيمان.
والقبور فيها أصوات، وفيها صياح وأهوال، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع).
وقد مر بنا الحديث، وعرفنا ما يتعلق بإسناده، وقد أورد أبو داود رحمه الله له إسناداً آخر حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: بمعناه، يعني: لم يسق متن الحديث الذي جاء بهذا الإسناد، وإنما أحال إلى المتن المتقدم، ولكن من حيث المعنى، يعني: أنه موافق للمتن من حيث المعنى، وليس من حيث اللفظ، ولهذا قال: بمعناه.
وفرق بين أن يقول: بمثله أو بنحوه أو بمعناه؛ لأنه إذا قال: بمثله فمعناه: أن المتن مطابق للمتن لفظاً ومعنى، وإذا قال: بنحوه فمعناه: أنه قريب منه، وإذا قال: بمعناه فالمراد: بمعنى الحديث المتقدم وليس بلفظه.
فهنا أحال إلى المتن المتقدم وقال: بمعناه، ولكنه ذكر كلمة جاءت عن شخص على صيغة، وجاءت عن شخص آخر على صغيرة أخرى.
وهي مثلما تقدم في الحديث المتقدم ذكر الاستنزاه والاستتار، حيث قال أحد الرواة: (كان أحدهما لا يستتر)، وقال راوٍ آخر: (كان أحدهما لا يستنزه من البول)، والاستنزاه هو: التحرز، والاستتار: فُسّر أيضاً بأنه التحرز والتوقي، وأنهما بمعنى واحد، وفسر أنه بمعنى عدم كشف العورة والتهاون في ذلك.
ولكن المطابق لما جاء في الحديث من ذكر البول يدل على أن المقصود من ذلك هو عدم التنزه وعدم التحرز منه؛ لأن كشف العورة يمكن أن تكون مع البول ومع قضاء الحاجة ومع غير ذلك، ولكن الشيء الذي يتعلق ويضاف إلى البول هو عدم التوقي وعدم التحرز منه.
عثمان بن أبي شيبة سبق أن مر بنا، وهو عثمان بن محمد بن إبراهيم العبسي ، وأبوه مشهور بكنيته أبي شيبة ، وهو محمد بن إبراهيم ، وعثمان هذا ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، إلا الترمذي .
[ حدثنا جرير ].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن منصور ].
هو منصور بن المعتمر الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن مجاهد ].
هو مجاهد بن جبر المكي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن ابن عباس ].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وهم: عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله عمر وعبد الله بن عمرو ، وابن عباس أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد مر ذكرهم مراراً.
ومجاهد يروي عن ابن عباس بواسطة وبغير واسطة، وكل منهما صحيح.
[وقال أبو معاوية ].
أبو معاوية لم يأت ذكره في الإسناد، وهو أبو معاوية محمد بن خازم الضرير الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وقوله: (مالم ييبسا) يعني: ما دامت الرطوبة موجودة، وهذا يعني أنه يخفف العذاب بسبب الرطوبة التي في الجريدتين، ومعنى هذا: أن التخفيف مؤقت وليس بدائم، وهذا يبين أن التخفيف إنما هو في حق المسلمين وليس في حق الكفار؛ لأن الكفار لا يخفف عنهم العذاب، كما قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر:36]، والذي خفف عنه عذاب النار هو أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بسبب شفاعته له، وهي شفاعة في التخفيف، والذي حصل له مستثنى مما جاء في هذه الآية، وهذا التخفيف الذي حصل له قد جاء بيانه في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنه في ضحضاح من نار، عليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه).. وهو أخف الناس.
وهذا الذي هو أخف الناس يرى أنه لا أحد أشد منه عذاباً؛ لأن كون نعليه في رجليه وشدة حرارتهما يصل إلى دماغه، فالدماغ يغلي من شدة حرارة ما يحصل للرجلين، فإن هذا يبين أن عذاب الله شديد، وأن عذاب النار شديد، وأن أهل النار متفاوتون فيها، وأقلهم عذاباً يرى أنه ليس هناك أحد أشد منه عذاباً والعياذ بالله!
قال أبو داود : قال منصور عن أبي وائل عن أبي موسى رضي الله عنه في هذا الحديث قال: (جلد أحدهم) وقال عاصم عن أبي وائل عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (جسد أحدهم) ].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عبد الرحمن بن حسنة رضي الله عنه أنه قال: (انطلقت أنا وعمرو بن العاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج ومعه دَرَقة)، وهي: الترس الذي يتخذ للوقاية في الحرب، ويكون من الجلد قال: (فاستتر بها ثم بال، فقلنا: انظروا إليه يبول كما تبول المرأة)، يعني: تعجباً من هذا الفعل.
وهذا الذي قالاه -أو قاله أحدهما أو قاله أحد معهما- يحتمل أن يكون المراد به أنه جهل من قائله، أو أنه كان قبل إسلام عمرو وقبل إسلام عبد الرحمن بن حسنة وعند ذلك لا يكون هناك إشكال من حيث صدور هذه المقالة، والمذموم هو الكلام الذي فيه تشبيه الرسول صلى الله عليه وسلم في عمله -وهو يبول- بالنساء، وهذا أمر منكر؛ لأن الواجب هو أن كل ما يصدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على التمام والكمال، وهو أحسن حال وأحسن هيئة.
والرسول عليه الصلاة والسلام لما سمع ذلك قال: (ألم تعلموا ما لقي صاحب بني إسرائيل؟) يعني: بسبب الكلام الذي قاله لهم، ثم ذكر أنه عذب في قبره؛ لأنهم كانوا في شرعهم ودينهم أن الواحد منهم إذا أصابته نجاسة فإنه يقطع مكان النجاسة ولا يغسلها، وهذا من الأمور الشاقة التي كلف بها بنو إسرائيل وخففها الله عن هذه الأمة، فجعل ما تحصل فيه النجاسة يغسل بالماء، وأما أولئك فكانوا يقرضونه بالمقاريض ويقطعونه، وإذا أصابت الثوب نجاسة لا يغسلونه ولكنهم يقطعون القطعة التي عليها النجاسة ويرمونها، وهذا يتطلب منهم الاحتراز الشديد؛ حتى لا تفسد عليهم ثيابهم، إذ يلزمهم أن يقطعوها إذا أصابها شيء من البول أو شيء من النجاسة.
فكانوا يفعلون ذلك اعتماداً على ما في دينهم، فهذا الذي عبر عنه بصاحب بني إسرائيل نهاهم أن ينفذوا هذا الشيء الذي فيه مشقة عليهم، وقد جاء في دينهم وشرعهم، فُعذّب في قبره؛ لأنه نهاهم أن يفعلوا شيئاً هم مكلفون به ومطلوب منهم.
ففي قول الرسول صلى الله عليه وسلم هذا تنبيه إلى أنه إذا كان صاحب بني إسرائيل عذب في قبره بسبب ذلك، فإن الذي يحصل منه شيء يتعلق بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه قد يناله ما نال صاحب بني إسرائيل ووجد منه ما قد يكون سبباً في تعذيبه في قبره.
وفي هذا الحديث بيان أن من أسباب عذاب القبر الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف؛ لأن صاحب بني إسرائيل نهاهم عن شيء هو مشروع في دينهم، وأمر واجب عليهم في دينهم، فنهاهم أن يطبقوا ما جاء في دينهم، ولو كان في ذلك مشقة عليهم؛ لأن التكاليف لابد أن تنفّذ ولو كان فيها مشقة على النفوس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حُفّت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)، وهذه الأمة خفف الله عنها ما هو شديد مما كلفت به الأمم السابقة.
ولهذا جاء في حديث الإسراء: (لما أسري برسول الله عليه الصلاة والسلام وفرضت عليه وعلى أمته خمسون صلاة، ومر بموسى اقترح عليه ونصحه بأن يرجع ويطلب من الله التخفيف، وقال: إن بني إسرائيل كلفوا بشيء وما قاموا به) أي: أنه قد جرّب، فهو ينصح نبينا محمداً عليه الصلاة والسلام أن يطلب التخفيف؛ حتى لا يحصل لهذه الأمة من العجز عما كُلّفت به ويحصل منهم التقصير كما حصل من بني إسرائيل الذين كلفوا وما قاموا بما كلفوا به.
فالحديث يفيد أن من أسباب عذاب القبر مثل هذا العمل الذي فيه الاعتراض على الأحكام الشرعية والنهي عن تنفيذ ما جاء به الشرع؛ لأن ذلك الرجل نهاهم أن ينفذوا ما جاء في شرعهم فعُذّب في قبره.
[ قال أبو داود : قال منصور عن أبي وائل عن أبي موسى في هذا الحديث قال: (جلد أحدهم) ].
هذا الحديث جاء أيضاً من طريق أبي موسى وفيه قصة، وهذا مما حصل لبني إسرائيل من الآصار التي حُمّلوها وما فيها المشقة عليهم، والله تعالى خفف عنا ولم يكلفنا ما كلفوا به، وكان فيما جاء في حديث أبي موسى : (جلد أحدهم)، يعني: إذا أصابت النجاسة جلد أحدهم قطعه، وفسر الجلد بأنه الجلد الذي يلبس؛ لأنه كان مما يلبس: الجلود، وعلى هذا فالمقصود به: الجلد الذي يلبس، وفسر بأنه على ظاهره، وأن النجاسة كانت إذا أصابت جلد الإنسان فإنه يقطع أو يزيل هذه التي وقعت عليها النجاسة من جلده، ففسر بهذا، وفسر بهذا، ويكون هذا مما كلفوا به مما هو شاق عليهم.
ولهذا قال الله عز وجل في آخر سورة البقرة: رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة:286]، فإن هذا يكون من الآصار التي كلفوا بها والتي خففها الله عز وجل عن هذه الأمة رحمة بها.
[وقال عاصم عن أبي وائل عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جسد أحدهم) ].
ثم ذكر طريقاً آخر لحديث أبي موسى غير الطريق السابق وفيه بدل (جلد أحدهم): (جسد أحدهم)، ولكن قد جاء عند غير أبي داود من هذا الطريق: (ثياب أحدهم).
والشيخ الألباني جعل هذه الرواية التي هي ذكر الجسد ضعيفة، وكما ذكرت: جاء في بعض الأحاديث عند غير أبي داود من هذه الطريق: (ثياب أحدهم) بدل (جسد أحدهم).
ويحتمل أن يكون المقصود هو إزالة ما حصل من النجاسة من على الجلد، لا أن الجسد يقطع، بل تكون مثل الرواية السابقة، لكن الروايات التي جاءت وفيها ذكر الثياب تبين أن تلك هي المحفوظة أو المعروفة، وهذه تكون ضعيفة أو أنها تفسر بما فُسّرت تلك، أو تحمل على ما تقدم من ذكر الجلد، وأن المقصود به: أنه يزال كما يزال الجلد، ويراد بالجسد: الجلد، وليس المراد به جسد الإنسان بمعنى أنه يقطع ويمزق.
ومحتمل أن يكون المراد بجلد أحدهم: الجلد الذي يلبسه؛ لأنهم كانوا يلبسون الجلود، ويحتمل أن يكون جلده بمعنى: أن القطعة من جلد الإنسان التي وقعت عليها النجاسة يزيلها.
وفي ذلك شدة عليهم، وذلك يتطلب منهم أن يحذروا من أن يحصل منهم ذلك؛ حتى لا يحصل هذا الجزاء أو هذا الذي كُلّفوا به؛ لأن الإنسان إذا عرف أن جسده سيحصل له شيء بسبب ذلك فإنه سوف يحذر من أن يقع منه ذلك الذي يسبب قطعه أو يسبب إزالة الجلد.
هو ابن مسرهد الذي مرّ ذكره مراراً، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .
[حدثنا عبد الواحد بن زياد ].
عبد الواحد بن زياد ثقة، وفي حديثه عن الأعمش مقال، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
وهذا الحديث رواه عبد الواحد عن الأعمش ، ولكن الحديث جاء من طرق متعددة.
[حدثنا الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، والأعمش لقبه.
[ عن زيد بن وهب ].
زيد بن وهب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن عبد الرحمن بن حسنة ].
عبد الرحمن بن حسنة رضي الله عنه صحابي، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة .
[ قال أبو داود : قال منصور ].
يعني: في حديث أبي موسى الأشعري ، وهذا أشار إليه إشارة، ومنصور هو: ابن المعتمر الذي مر ذكره قريباً، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي وائل ].
هو شقيق بن سلمة ، وهو ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو مشهور بكنيته أبي وائل ، ويأتي ذكره أحياناً باسمه.
[ عن أبي موسى ].
هو أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[ وقال عاصم : عن أبي وائل ].
هو عاصم بن أبي النجود بهدلة ، وأبوه مشهور بكنيته أبي النجود، واسمه بهدلة ، وهو صدوق له أوهام، وهو أحد القراء وصاحب القراءة المشهورة: قراءة عاصم ، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، ولكن حديثه في الصحيحين مقرون، يعني: أنه لم يرو عنه صاحبا الصحيح استقلالاً، وإنما رويا عنه مقروناً مع غيره، ومن المعلوم أن من كان كذلك يكون أقل ممن روي عنه على سبيل الاستقلال.
[ عن أبي وائل عن أبي موسى ].
و أبو وائل وأبو موسى قد مر ذكرهما.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح سنن أبي داود [007] للشيخ : عبد المحسن العباد
https://audio.islamweb.net