اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح سنن أبي داود [023] للشيخ : عبد المحسن العباد
حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن موسى بن أبي عائشة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! كيف الطهور؟ فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً، ثم مسح برأسه فأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه وبالسباحتين باطن أذنيه، ثم غسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم أو ظلم وأساء) ].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة: [ باب الوضوء ثلاثاً ثلاثاً ]. يعني: كونه يتوضأ ويغسل الأعضاء ثلاثاً ثلاثاً، وقد سبق أن مر جملة من الأحاديث التي تدل على هذه الترجمة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً، ولكن ذلك في غير الرأس؛ لأنه يمسح مرة واحدة ولا يكرر فيه المسح، فالمقصود من الترجمة ذكر أعداد الغسلات التي تكون في الوضوء وأنها ثلاث، وهذا هو الحد الأعلى، ولهذا أتى بترجمة الوضوء ثلاثاً، والوضوء مرتين، والوضوء مرة؛ لأن الأحاديث وردت في هذه الأمور الثلاثة، فيجوز الوضوء إما ثلاثاً وإما مرتين وإما مرة، والكمال والحد الأعلى هو الثلاث والثنتان متوسطة، والواحدة هي المجزئة وهي الحد الأدنى.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل وقال: يا رسول الله! كيف الطهور؟) يعني: كيف يتوضأ الإنسان؟ والطُهور بالضم؛ لأن المراد به الفعل الذي هو الوضوء، فالرسول صلى الله عليه وسلم دعا بماء وتوضأ والسائل يراه وينظر إليه.
وهذا فيه بيان السنن بالفعل، وقد جاء عن عدد من الصحابة أنهم توضئوا والناس يرون وضوءهم؛ لأن قدوتهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في هذا الحديث؛ لأنه لما سأله رجل طلب ماءً يتوضأ فتوضأ وذلك الرجل ينظر إليه، وقال: (إن هذا هو الطهور) فما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من التوضؤ أمام الناس إنما قدوتهم في ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام كما جاء في هذا الحديث.
قوله: [ (ودعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثاً)].
يعني: قبل أن يبدأ بالوضوء، وهذا مقدمة الوضوء، وليس غسل اليدين من فروض الوضوء، وإنما يبدأ بتنظيفهما قبل أن يدخلهما في الإناء، وقد ذكرنا أن هذا مستحب إلا إذا علم أن في اليد نجاسة فيجب غسلها، وإلا إذا كان الإنسان قائماً من نوم الليل فإنه يجب عليه أن يغسل يديه ثلاثاً قبل إدخالها الإناء، وأما في غير ذلك فيكون الأمر مستحباً، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما توضأ أفرغ على يديه وغسلهما ثلاثاً.
قوله: [ (ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً، ثم مسح برأسه فأدخل إصبعيه السباحتين في إذنيه ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه وبالسباحتين باطن أذنيه) ].
ذكر المسح على الرأس، ولم يذكر عدداً فيه، وقد ذكر أنه غسل غيره ثلاثاً ثلاثاً، وبين كيفية المسح، وأن الأذنين من الرأس، وقد مسحهما بهذه الكيفية حيث أدخل السباحتين -وهما السبابتان- في أذنيه ومسح بهما داخل أذنيه، ومسح بإبهاميه ظاهر أذنيه، فهذا فيه بيان كيفية مسح الأذنين، وأن السبابتين يمسح بهما داخلهما والإبهامين يمسح بهما خارجهما.
قوله: [ (ثم غسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم أو ظلم وأساء) ].
يعني: أنه بعدما توضأ والسائل وغير السائل يرون قال بعد ذلك: (هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم)، وهذا يدلنا على أن الزيادة على الثلاث لا تجوز، وأنها إساءة وعدوان وظلم، وأنه يجب الاقتصار على الثلاث.
لكن يبقى الإشكال بذكر النقص؛ لأنه قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ مرتين مرتين، وتوضأ مرة مرة، والحديث الذي معنا فيه: (توضأ ثلاثاً ثلاثاً)، فهذا فيه إشكال، فمن أهل العلم من قال: إن ذكر النقص شاذ؛ لأنه مخالف للروايات الأخرى، ومنهم من قال: إن المراد به فيما إذا نقص عن مرة واحدة بحيث إن بعض الأعضاء لم يصل إليها الماء، أو بقي شيء يسير من عضو من الأعضاء لم يصل إليه الماء؛ فإن هذا فيه إساءة وظلم؛ لأنه لم يحصل بذلك الوضوء، وأما إذا توضأ الإنسان مرة واحدة مستوعبة ولا يبقى شيء لم يصل إليه الماء من أعضاء الوضوء -وكذلك المرتان- فهذا ليس من الإساءة، بل جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي أحاديث كثيرة جاء: أنه توضأ مرة مرة، وجاء: أنه توضأ مرتين مرتين، وفي بعضها: أنه توضأ ثلاثاً ثلاثاً.
فذكر النقص إما أن يكون شاذاً أو يكون المراد به حصول التقصير في وصول الماء إلى بعض الأعضاء. وعلى هذا يستقيم ذكر النقص.
مسدد مر ذكره، وأبو عوانة هو الوضاح بن عبد الله اليشكري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن موسى بن أبي عائشة ].
موسى بن أبي عائشة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده].
عمرو بن شعيب هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن الأربعة.
وأبوه شعيب صدوق أيضاً، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة وفي الأدب المفرد، وأصحاب السنن الأربعة.
وجده هو عبد الله بن عمرو بن العاص، وليس جده محمداً ؛ لأنه لو كان جده محمداً فسيكون الحديث منقطعاً ويكون مرسلاً؛ لأن كون محمد يضيف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حديثاً يكون مرسلاً فيه انقطاع، لكن المقصود بالجد هو عبد الله بن عمرو ، وقد ذكر الحافظ أن شعيباً صح سماعه من جده عبد الله بن عمرو ، فيكون الرجال الثلاثة الذين في الإسناد هم عمرو وشعيب وعبد الله بن عمرو الذي هو الجد، وليس محمد بن عبد الله ؛ فإنه لو كان هو المذكور في السند لكان الحديث مرسلاً وفيه انقطاع، ولكن الحديث متصل، والعلماء يقولون: إن الحديث إذا صح إلى عمرو بن شعيب فإنه يكون حسناً؛ لأنه صدوق وحديثه حسن، وأبوه صدوق وحديثه حسن، وإنما الكلام فيما دون عمرو بن شعيب ، فمن دونه هو الذي ينظر فيه، وإذا وصل الحديث إلى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فإنه يكون حسناً ولا انقطاع فيه؛ لأن شعيباً صح سماعه من جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما. وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما صحابي ابن صحابي، وهو أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
حدثنا محمد بن العلاء حدثنا زيد -يعني: ابن الحباب - حدثنا عبد الرحمن بن ثوبان حدثنا عبد الله بن الفضل الهاشمي عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين)].
أورد أبو داود رحمه الله باب الوضوء مرتين، يعني: مرتين مرتين؛ بحيث يغسل الأعضاء كلها من مرتين. وقد جاء الغسل ثلاثاً ثلاثاً، وجاء مرتين مرتين، وجاء مرة مرة، وجاء التفاوت بحيث يكون بعضها مرتين وبعضها ثلاثاً.
وهنا أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين) يعني: غسل وجهه مرتين، وغسل يديه إلى المرفقين مرتين، ومسح رأسه مرة واحدة، وغسل رجليه مرتين، فهذا فيه ذكر أن الأعضاء تغسل مرتين وهذا مما جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زيد يعني: ابن الحباب ].
زيد بن الحباب صدوق يخطئ في حديث الثوري، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الرحمن بن ثوبان ].
عبد الرحمن بن ثوبان هو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان منسوب إلى جده، وهو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الله بن الفضل الهاشمي ].
عبد الله بن الفضل الهاشمي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعرج ].
الأعرج لقب، واسمه عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة ].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو رضي الله عنه وأرضاه أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.
أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ولكنه ليس واضحاً في مطابقة الترجمة؛ لأنه ليس فيه ذكر المرتين مرتين، وإنما فيه ذكر المرة الواحدة؛ لأنه كان يأخذ غرفة ويغسل بها وجهه، وغرفة يغسل بها يده اليمنى، وغرفة يغسل بها يده اليسرى وهكذا، فهو لا يتفق مع الترجمة هذه، وإنما يتفق مع الترجمة التي بعدها وهي: باب الوضوء مرة مرة.
قوله: [ عن عطاء بن يسار قال: قال لنا ابن عباس رضي الله عنهما: (أتحبون أن أريكم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فدعا بإناء فيه ماء فاغترف غرفة بيده اليمنى فتمضمض واستنشق، ثم أخذ أخرى فجمع بها يديه، ثم غسل وجهه) ].
يعني: أن الغرفة بدل ما كانت في يد وحدة جعلها في اليدين وغسل وجهه باليدين.
قوله: [ (ثم أخذ أخرى فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ أخرى فغسل بها يده اليسرى، ثم قبض قبضة من الماء ثم نفض يده، ثم مسح بها رأسه وأذنيه) ].
يعني: أن الماء الذي كان للرأس ليس ماءً محمولاً في اليدين إلى الرأس حتى يصب عليه، وإنما بلَّ اليدين في الماء، ومسح رأسه بما بقي في يديه من الماء، وهذا يطابق ما سبق أن تقدم أنه مسح رأسه بفضل ماء بقي في يديه، كما في رواية الربيع التي سبق أن مرت.
قوله: [ (ثم قبض قبضة أخرى من الماء فرش على رجله اليمنى وفيها النعل، ثم مسحها بيديه: يد فوق القدم ويد تحت النعل، ثم صنع باليسرى مثل ذلك) ].
وهذا الذي ذكر فيما يتعلق بقضية الرجلين-أي: أنه رش عليهما ومسحها يد فوق القدم ويد تحت النعل- غير صحيح؛ لأنه مخالف لما جاء في الروايات الأخرى من أنه غسلهما، وأن الرجلين تغسلان ولا تمسحان، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ويل للأعقاب من النار) فحكمهما الغسل وليس المسح، ولكن يمكن أن يقال: إن المسح المذكور في بعض الروايات المراد به الغسل الخفيف، وليس المراد به المسح الذي هو مثل المسح على الخفين ويكون في جهة معينة، بل الغسل يكون للرجل كلها حتى تستوعب، ولكن يكون الغسل خفيفاً، والغسل الخفيف يقال له: مسح، لكن كونه يرش على رجليه وهما في النعلان ويجعل يده تحت نعليه ويده الأخرى فوق قدميه أو فوق رجله هذا لا يتفق مع الرواية الأخرى التي فيها غسل الرجلين.
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي .
[حدثنا محمد بن بشر ].
هو محمد بن بشر العبدي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشام بن سعد ].
هشام بن سعد صدوق له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا زيد ].
هو زيد بن أسلم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن يسار ].
عطاء بن يسار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: قال لنا ابن عباس ].
ابن عباس رضي الله عنه مر ذكره.
وكما قلت: هذا الحديث لا يطابق الترجمة التي هي باب الوضوء مرتين، وإنما يطابق الترجمة التي بعد هذه، فلعل الحديث تحت الترجمة الثانية، وأن الترجمة هذه تأخرت عن مكانها وأن مكانها كان قبل حديث ابن عباس ، فإذا كانت الترجمة تأخر مكانها أو تأخرت عن مكانها، وأن مكانها كان قبل حديث ابن عباس فإن ذلك يستقيم، وأما دخولها تحت الوضوء مرتين فليس فيه ما يدل على الترجمة؛ لأنه ليس فيه إلا الوضوء مرة واحدة.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ألا أخبركم بوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فتوضأ مرة مرة)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمة الله عليه باب الوضوء مرة مرة. وسبق أن مر باب الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، وباب الوضوء مرتين مرتين، وهذه الترجمة معقودة لبيان الوضوء مرة مرة، أي: أن الإنسان يغسل أعضاء الوضوء مرة واحدة وهذا هو الحد الأدنى الذي لا بد منه، وما زاد عليه فهو كمال، ونهاية الكمال ثلاث مرات، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، وجاء عنه الوضوء مرتين مرتين، وجاء عنه الوضوء مرة مرة، وكل هذا يدل على أن هذه الأمور الثلاثة كلها سائغة ومشروعة وبعضها أكمل من بعض.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (ألا أريكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فتوضأ مرة مرة) والمقصود: أن الوضوء يكون مرة مرة، وهذا هو الحد الأدنى، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء عنه صفات متعددة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يبينون صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ما جاء عن الصحابة يعزونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوجه صحيحة، فإن ذلك يدل على تعدد الأفعال والرسول صلى الله عليه وسلم فعل هذه الأمور لبيان الجواز ولبيان الأكمل والأفضل، فالوضوء مرة مرة هو الحد الأدنى، وهو الفرض الذي لا بد منه، وما زاد على ذلك فهو كمال، فيكون الوضوء مرتين مرتين، أو ثلاثاً ثلاثاً، لكن لا يزاد على ثلاث؛ لأنه سبق أن مر في الحديث: (من زاد على ذلك فقد أساء وظلم) ولا ينقص الوضوء عن أي عضو من الأعضاء ولو كان قليلاً؛ لأنه قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ويل للأعقاب من النار) لأنهم غسلوا أرجلهم ولكنهم ما استوعبوا الغسل فبدت أعقابهم لم يمسها الماء، ولما رآها رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: (ويل للأعقاب من النار).
إذاً: الأمر الواجب اللازم هو مرة واحدة مستوعبة بحيث لا يبقى من أعضاء الوضوء شيء لم يصل إليه الماء، وما زاد على ذلك فهو كمال، وأعلى الكمال ثلاث بحيث لا يزاد عن ذلك.
وأورد أبو داود رحمه الله تحت هذه الترجمة حديث ابن عباس ، ولكن سبق أن ذكرت أن الحديث الثاني من الحديثين اللذين أوردهما أبو داود تحت ترجمة الوضوء مرتين مرتين لا يدل على الوضوء مرتين مرتين، وإنما يدل على الوضوء مرة مرة وهو يطابق هذه الترجمة ولا يطابق الترجمة السابقة، ولعل الترجمة تأخرت عن مكانها وكان من حقها أن تتقدم على الحديث الذي قبل هذه الترجمة حتى يكون الحديثان الدالان على الوضوء مرة مرة، تحت ترجمة الوضوء مرة مرة، فإن حديث ابن عباس هذا فيه اختصار وأنه توضأ مرة مرة، ولكن حديث ابن عباس المتقدم فيه تفصيل، وأنه غسل كل عضو مرة واحدة: غسل وجهه مرة واحدة، وغسل يده اليمنى مرة، ثم أخذ غرفة وغسل يده اليسرى، ثم غرف غرفة ومسح رأسه وغسل رجله اليمنى مرة وغسل رجله اليسرى مرة، وهذا يدل على أن الغسل إنما يكون مرة واحدة، فهذا يفيد بأن الحديث السابق مطابق لهذه الترجمة، وليس للترجمة السابقة.
هو مسدد بن مسرهد، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .
[حدثنا يحيى ].
يحيى هو ابن سعيد القطان البصري، وهو ثقة إمام من أئمة الجرح والتعديل، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان ].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة فقيه وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[حدثني زيد بن أسلم ].
هو زيد بن أسلم المدني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن يسار ].
عطاء بن يسار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس ].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثنا حميد بن مسعدة حدثنا معتمر قال: سمعت ليثاً يذكر عن طلحة عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: (دخلت -يعني: على النبي صلى الله عليه وسلم- وهو يتوضأ والماء يسيل من وجهه ولحيته على صدره، فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق) ].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة وهي [ باب في الفرق بين المضمضة والاستنشاق ]، يعني: الفصل بينهما، وأنه يتمضمض على حدة ويستنشق على حدة، وليس المقصود بيان الفرق بينهما من حيث المعنى؛ فإن المقصود هو ما جاء في نفس الحديث الذي أورده المصنف من ذكر الفصل بين المضمضة والاستنشاق بأن يأخذ ماءً للمضمضة وماءً للاستنشاق، هذا هو الفصل بينهما، يعني: أنه يفرق بينهما، أي: أنه عكس أو ضد الجمع بينهما، وقد سبق أن مرت أحاديث عديدة فيها الجمع بين المضمضة والاستنشاق من كف واحد، وهذا الذي في الترجمة يقابل ذلك الذي تقدم من الجمع بينهما، وهو الفصل بحيث يتمضمض بماء مستقل، ثم يأخذ ماءً ويستنشق به.
وأورد فيه أبو داود رحمه الله حديث كعب جد طلحة بن مصرف وهو كعب بن عمرو أو عمرو بن كعب، وفيه أنه جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ فرآه يفصل بين المضمضة والاستنشاق، لكن الحديث ضعيف من جهة والد طلحة بن مصرف وهو مجهول، وكذلك أيضاً من جهة الراوي عن طلحة وهو ليث بن أبي سليم ، وكذلك أيضاً فيه اختلاف في جد طلحة ، فمن العلماء من قال: إنه صحابي، ومنهم قال: إنه مجهول، ومن المعلوم أن جهالة الصحابة لا تؤثر، ولكن الجهالة تؤثر في غيرهم، فالجهالة إنما تؤثر في غير الصحابة، ولكن والد طلحة بن مصرف مجهول فيكفي في رد الحديث وعدم قبوله، ولكن بعض أهل العلم يقول: جاءت بعض الأحاديث تدل على الفصل، لكنها في الحقيقة ليست صريحة، مثل بعض الأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم تمضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وكونه نص على المضمضة ثلاثاً، والاستنشاق ثلاثاً، معناه: أنه بعد ما فرغ من المضمضة ثلاث مرات أخذ في الاستنشاق ثلاث مرات، قالوا: وهذا فصل بين المضمضة والاستنشاق، بمعنى: أنه يتمضمض ثلاثاً أولاً ويستنشق ثلاثاً بعد ذلك، وهذا فصل، وذكروا بعض الأحاديث التي من هذا النوع، والجمع لا شك أنه هو القوي والواضح الذي دلت عليه الأحاديث، وفيه التنصيص على أنه تمضمض واستنشق من كف واحدة كما جاء في بعض الروايات الصحيحة التي سبق أن مرت من طرق متعددة، يعني: أنه تمضمض ببعض ما في كفه، ثم استنشق بالباقي، فتكون الكف الواحدة منها مضمضة ومنها استنشاق، لكن بعض أهل العلم يقول: إن كلاً من الفصل والوصل في المضمضة والاستنشاق ثابت، ولكن الأحاديث التي جاءت بالوصل صريحة وواضحة وجلية وقوية والأحاديث التي جاءت في الفصل بين المضمضة والاستنشاق ليست صريحة، والأمر في ذلك واسع، فلو أن الإنسان تمضمض من كف واستنشق من كف أخرى لم يكن بذلك بأس إن شاء الله.
قوله: [ (والماء يسيل من وجهه ولحيته على صدره)].
يعني: أنه كان يغسل وجهه ولحيته، وأن الماء لكثرته كان يتساقط على صدره من وجهه ولحيته.
حميد بن مسعدة صدوق، أخرج حديثه مسلم وأصحاب السنن الأربعة.
[حدثنا معتمر ].
هو معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت ليثاً ] .
ليث هو ابن أبي سليم ، وسبق أن مر في حديث مضى قبل هذا فيه رواية ليث غير منسوب عن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده، وقلنا: إنه ليث بن أبي سليم وفي تهذيب التهذيب في ترجمة ليث بن أبي سليم أن من تلاميذه معتمر بن سليمان . لكن بعض الذين تكلموا عن الحديث اكتفوا بالكلام في تضعيفه بوالد طلحة بن مصرف ، وهو مصرف بن عمرو بن كعب أو ابن كعب بن عمرو ، وليث بن أبي سليم علة أخرى يعل بها الحديث. فالحديث ضعيف.
وليث بن أبي سليم صدوق اختلط جداً ولم يتميز حديثه فترك.
يعني: أنه صدوق ولكنه حصل له الاختلاط، ولم يتميز ما كان قبل الاختلاط مما كان بعد الاختلاط فترك ولم يحتج بحديثه، يعني: على سبيل الاستقلال، أما لو جاء عنه ما يدل على ما جاء عن غيره فهذا أمره واضح، ولكن حيث يكون الشيء ما جاء إلا من طريقه فإنه لاختلاطه وعدم تميز ما كان قبل الاختلاط مما كان بعد الاختلاط لا يعول عليه، والمختلط إذا عرف ما روي عنه قبل الاختلاط فإنه يقبل؛ لأن الاختلاط طرأ بعد ذلك، وقد سمع عنه قبل الاختلاط، فالذي عرف أنه من حديثه قبل الاختلاط يقبل، وما كان بعد اختلاط يرد، لكن إذا لم يتميز حديثه الذي قبل الاختلاط والذي بعد الاختلاط مثل ليث بن أبي سليم فإنه لا يعول عليه، لكن إذا جاء ما يشهد له، أو جاء شيء يعضده فيكون له أصل، وأما إن جاء من طريق ليث بن أبي سليم وقد اختلط ولم يتميز حديثه فإنه لا يعول على ما يأتي به منفرداً.
وليث أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن طلحة عن أبيه عن جده].
طلحة هو طلحة بن مصرف ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وأبوه هو مصرف بن عمرو أو كعب بن عمرو ، وهو مجهول، أخرج حديثه أبو داود ، وجده هو عمرو بن كعب أو كعب بن عمرو ، وهو صحابي، أخرج له أبو داود .
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً ثم لينثر) ].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة في الاستنثار، والاستنثار ملازم للاستنشاق، حيث يأتي التعبير بالاستنشاق ويأتي التعبير بالاستنثار، فهما متلازمان؛ لأن الاستنشاق يعقبه استنثار، والاستنثار يسبقه استنشاق؛ فإن إدخال الماء إلى الأنف وجذبه بقوة النفس استنشاق، ودفعه حتى يخرج بحيث ينظف ما كان داخل الأنف استنثار.
وحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هذا فيه ذكر الجمع بينهما؛ لأنه قال: (فليجعل في أنفه ماءً -وهذا هو الاستنشاق- ثم لينثر)، يعني: يخرج ذلك الماء الذي أدخله في أنفه بحيث يخرج ذلك الماء الشيء الذي هو غير نظيف من أنفه، فالمضمضة فيها تنظيف الفم، والاستنشاق فيه تنظيف الأنف.
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .
[عن مالك ].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة الإمام المعروف المشهور.
[عن أبي الزناد ].
أبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان ، لقبه أبو الزناد ، وهو لقب على صيغة الكنية وليس أبو الزناد كنيته، وإنما كنيته أبو عبد الرحمن ، وهو مدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعرج ].
الأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، والأعرج لقبه، واسمه عبد الرحمن بن هرمز ، ويأتي أحياناً بلقبه الأعرج كما هنا، ويأتي أحياناً باسمه عبد الرحمن بن هرمز ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة ].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.
أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسنتثروا مرتين بالغتين أو ثلاثاً) يعني: ثلاثاً ليست بهذا الوصف، فتكون الثالثة في مقابل اثنتين بالغتين، يعني: أن اثنتين بالغتين تعادل ثلاثاً ليس فيهما مبالغة، ويحتمل أن يكون في ذلك شك من الراوي، يعني: أنه قال هذا أو هذا.
هو إبراهيم بن موسى الرازي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا وكيع ].
هو وكيع بن الجرح الرؤاسي الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن أبي ذئب ].
ابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب مشهور بهذه النسبة إلى أحد أجداده، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قارظ ].
هو قارظ بن شيبة ، وهو لا بأس به، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة ، ولا بأس به تعادل صدوق إلا عند ابن معين فإنها بمعنى ثقة، ولهذا يقولون: لا بأس به عند ابن معين توثيق، يعني أنها تعادل ثقة، وأما عند غيره فالمشهور أنها بمعنى صدوق، والصدوق هو: ما قل عن درجة الثقة ممن يحسن حديثه.
[عن أبي غطفان ].
هو أبو غطفان بن طريف أو ابن مالك المري ، قيل: اسمه سعد ، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود و**النسائي وابن ماجة .
[عن ابن عباس ].
ابن عباس رضي الله عنه مر ذكره.
أورد أبو داود رحمه الله حديث لقيط بن صبرة رضي الله تعالى عنه أنه وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد بني المنتفق، وذكر ما جرى عند مجيئهم إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهى في آخر الأمر إلى أن سأل عن الوضوء -وهذا محل الشاهد- فقال له صلى الله عليه وسلم: (أسبغ الوضوء) وإسباغ الوضوء سبق أن ذكرنا أنه يكون بالغسل ثلاث مرات ويكون بالدلك، كل هذا يقال له: إسباغ، والحد الأدنى الذي لابد منه هو الاستيعاب مرة واحدة بحيث يجري الماء على جميع الأعضاء مرة واحدة، وإن لم يكن فيه دلك، ولكن الدلك وذكر العدد هو الذي فيه الإسباغ، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع) يعني: أن ما يكون بين الأصابع يعمل على أن يصل إليه الماء، وذلك بأن يحركه بإصبعه بحيث يصل الماء إليه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نص على تخليل ما بين الأصابع؛ لأنه مكان منخفض قد ينبو عنه الماء مثل العقب الذي يكون وراء الكعب؛ ففيه انخفاض نوعاً ما، لذا قد ينبو عنه الماء، وهنا كذلك الذي يكون بين الأصابع قد ينبو عنه الماء، فأرشد عليه الصلاة والسلام إلى أن يخلل.
والتخليل الواجب والشيء الذي لا بد منه هو التحقق من أن الماء وصل إلى جميع الأعضاء ما كان بين الأصابع وما كان غير ذلك، فالعمل على وصول الماء إلى جميع الأعضاء هذا أمر متعين، وما زاد على ذلك فهو المستحب، وهو الإسباغ.
وقوله: (وبالغ في الاستنشاق) هذا محل الشاهد للاستنثار، وقوله: (إلا أن تكون صائماً) يعني: إذا كان الإنسان صائماً لا يبالغ في الاستنشاق؛ لأنه قد يدخل الماء بسبب ذلك إلى جوفه، ويدخل الماء عن طريق الأنف إلى الحلق فيصل إلى جوفه، فلا يبالغ في الاستنشاق إذا كان صائماً، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرشد إلى المبالغة في الاستنشاق، وهذا من كمال الوضوء، إلا أن يكون الإنسان صائماً فلا يبالغ؛ لئلا يترتب على ذلك وصول الماء إلى جوفه عن طريق أنفه.
قوله: [عن لقيط بن صبرة رضي الله عنه قال: كنت وافد بني المنتفق أو في وفد بني المنتفق].
قالوا: يحتمل أن يكون قوله: (وافد) بمعنى: أنه كبيرهم، أو أن المقصود أنه كان في جملتهم، والعبارة فيها شك: إما كذا وإما كذا، يعني: إما وافد بني المنتفق أو في وفد بني المنتفق.
قوله: [قال: فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نصادفه في منزله، وصادفنا عائشة أم المؤمنين، قال: فأمرت لنا بخزيرة فصنعت لنا، قال: وأتينا بقناع -ولم يقل قتيبة : القناع، والقناع :الطبق فيه تمر- ].
يقول لقيط بن صبرة رضي الله عنه: إننا لما جئنا وافدين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جئنا إلى منزل النبي عليه الصلاة والسلام فلم نجده فيه، ووجدنا عائشة رضي الله عنها، فأكرمتهم وأمرت لهم بخزيرة ة تصنع، والخزيرة قيل: هي اللحم الصغار الذي يصب عليه الماء ويغلى ثم بعد ذلك يذر عليه الدقيق، هذا يقال له: خزيرة؛ لأن فيه لحم ودقيق، قالوا: وإن كان الدقيق بدون لحم فهو عصيدة.
وبعضهم يقول: إن الخزيرة ما كانت من نخالة الدقيق، وما كان من الدقيق فإنه يقال له: حريرة، يعني: إذا كان معه شيء من اللحم، وأما إذا كان ليس معه لحم فإنه يقال له: عصيدة.
فأمرت عائشة رضي الله عنها بأن يصنع لهم تلك الخزيرة، ثم أوتي لهم بقناع، والقناع: وعاء فيه تمر أو قدح فيه تمر، قيل: إنما سمي قناعاً لأنه عطف طرفه فقيل له: قناع.
قال: ولم يكن في كلام قتيبة القناع، يعني: وإنما هو في كلام غيره ممن أجملهم في قوله: في آخرين؛ لأنه قال: حدثنا قتيبة بن سعيد في آخرين، يعني: هو وغيره، لكن هو حكاه على لفظ قتيبة الذي ذكره، ولكنه أشار إلى هذه الكلمة التي ليست من رواية قتيبة ، فقال: ولم يقل قتيبة : القناع، يعني: بل هو في لفظ غيره، ثم أتى بتفسير القناع، وذكر أنه: طبق فيه تمر، يعني: أنها قدمت لهم شيئاً يبدءون به ويأكلون منه حتى يُنتهى من صنع الخزيرة التي هي اللحم الذي معه دقيق، ففيه تعجيل الشيء الجاهز الموجود الذي يبدأ به الضيف حتى ينتهي صنع الطعام الذي يُعد له كاللحم والدقيق.
قوله: [ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (هل أصبتم شيئاً أو أُمر لكم بشيء؟ قال: قلنا: نعم يا رسول الله!)].
يعني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء وهم جالسون فقال: (هل أصبتم شيئاً أو أُمر لكم بشيء؟ قالوا: نعم يا رسول الله!) أي: قد أصابوا؛ حيث قدم لهم التمر الذي في الطبق، وأكلوا منه وأمر لهم بالخزيرة التي تصنع من اللحم والدقيق.
قوله: [ (فبينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس إذ دفع الراعي غنمه إلى المراح ومعه سخلة تيعر، فقال: ما ولدت يا فلان؟! قال: بهمة، قال: فاذبح لنا مكانها شاة) ].
ثم قال: لقيط بن صبرة : (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دفع الراعي -يعني: راعي غنم الرسول صلى الله عليه وسلم- إلى المراح)، يعني: أتى بها إلى المكان الذي تبيت به ليلاً، فالمراح هو: المكان الذي تبيت به الدواب ليلاً، (وإذا مع الراعي سخلة تيعر)، يعني: تصيح، والسخلة هي: الصغيرة من أولاد الغنم.
المولد هو الذي يباشر التوليد أو يكون عند التي تلد بحيث يساعدها عند الولادة، ولهذا يقال للقابلة: المولدة؛ لأنها تساعد المرأة عند الولادة، فالمولد يكون عندها، وإذا احتاجت إلى معالجة يعالجها بحيث يضم بطنها أو يعمل شيئاً حتى تخرج وتتخلص من حملها فتضعه.
قوله: (فقال: بهمة) ].
يعني: أنها أنثى، وأن السؤال يحتمل لأن يكون هل نوع المولود أنثى أو ذكر أو يحتمل العدد؛ لأنه قد يكون هناك توأم، فالسؤال هو لهذا. (فقال: بهمة)، وهي: الصغيرة، ويقال: إنها تطلق على الذكر والأنثى.
قوله: [ (قال: فاذبح لنا مكانها شاة) ].
أي: لأن العدد بلغ مائة، وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن الغنم لا تزيد عنده على مائة، فإذا زادت على مائة يذبح منها بحيث لا تزيد على مائة، ولذا قال: (اذبح لنا مكانها شاة)، لأنه وصل العدد بها إلى مائة، فأمره أن يذبح مكانها شاة، أي: لا يذبحها هي وإنما يذبح مكانها شاة.
قوله: [ (ثم قال: لا تحسِبنَّ -ولم يقل: لا تحسَبنَّ- أنا من أجلك ذبحناها؛ لنا غنم مائة لا نريد أن تزيد) ].
ثم بين عليه الصلاة والسلام أن هذا الذبح الذي حصل لم يحصل من عدم الرغبة في الذبح، وأنه كان يكفيهم الشيء الذي كان يصنع لهم وهي الخزيرة التي كانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها أمرت بها، فخشي أن يكونوا فهموا أنه ذبح لهم بالإضافة إلى الخزيرة، فبين عليه الصلاة والسلام أنه كان على هذه الطريقة وعلى هذا المنهج، وهو أنه إذا بلغ العدد مائة فإنه لا يتركه يزيد أو لا يتركه يصل إلى هذا المقدار، بل يذبح منه، فهو إكرام لهم، وفي نفس الوقت فيه اعتذار لهم بأن هذا هديه وهذه طريقته صلى الله عليه وسلم: أنه لا تزيد غنمه على مائة.
وقوله: [ (قال: لا تحسِبنَّ) ]، يعني: بالكسر، (ولم يقل: لا تحسَبنَّ)، يعني: أنه ضبط اللفظة، وإن كانت هذه لغة لبعض العرب وهذه لغة لبعض العرب إلا أنه نص على الشيء الذي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أن السين مكسورة، ولم يسمع منه أن السين مفتوحة، ويحتمل أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم خاطبه لأنه كبيرهم، ولعل هذا فيه إشارة إلى قول وافد بني المنتفق؛ لأن الخطاب لشخص، ومن المعلوم أن معه غيره، فهو كأنه كبيرهم وكأنه رئيسهم، فخاطب الرئيس.
قوله: [ (قال: قلت يا رسول الله! إن لي امرأة وإن في لسانها شيئاً -يعني: البذاء- قال: فطلقها إذاً) ].
ثم إن لقيط بن صبرة قال: إن لي امرأة وإن في لسانها شيئاً يعني: البذاء. فعبر بالشيء عن شيء غير محمود وهو بذاءة وسلاطة اللسان، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (فطلقها إذاً)، يعني: إذاً: تخلص من بذاءة لسانها بفراقها وطلاقها.
قوله: [ (فقال له: يا رسول الله! إن لي معها صحبة، ولي منها ولد) ].
يعني: أنه أشار إلى الأمور الحسنة التي حصلت بينه وبينها وهي أنها صاحبته وله معها صحبة طويلة وكثيرة، وله منها ولد، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما رآه متمسكاً بها وله رغبة فيها أرشده إلى أن يفعل الأسباب التي تجعلها تترك ذلك الشيء الذي ينكره منها.
قوله: (قال له: فمرها -يقول: عظها-).
يعني: ائت بالوعظ لعله يرقق قلبها، وخوفها بالله عز وجل، وبين لها خطورة اللسان، وما فيه من الأضرار وأن حفظ اللسان مطلوب، وأن خطر اللسان عظيم وأضراره كبيرة، وما يترتب على ذلك في الآخرة؛ فيبين لها الأشياء التي في خطورة اللسان، ومن المعلوم أن اللسان أمره خطير، كما يقولون: كلم اللسان أمضى من كلم السنان. يعني: أن الجرح الذي يكون عن طريق اللسان يكون أشد من الجرح الذي يكون بالسنان؛ لأن خطره عظيم، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) وما بين لحييه هو اللسان، وكذلك جاء في حديث معاذ المشهور: (وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟! فقال: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟!) وقال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).
فأمره أن يأمرها بمعروف وينهاها عن منكر، ويأتي بالكلام الذي يلين قلبها ويخوفها من الله عز وجل.
قوله: [ (قال: فإن يك فيها خير فستفعل)].
يعني: تستجيب لك وتنقاد وتذعن للشيء الذي رغبتها فيه وأرشدتها إليه وهو ترك البذاءة في اللسان.
قوله: [ (ولا تضرب ضعينتك كضربك أميتك)].
أرشده وأمره بألا يضربها، والمقصود أنه لا يضربها ضرباً مبرحاً، وإلا فإن الضرب جاء الأمر به في القرآن عند الحاجة وعند الضرورة التي تلجأ إليه، ولكن إذا أمكن تفاديه بأي وسيلة فهذا هو المطلوب، وإذا صير إليه فيكون غير مبرح لا يكون مؤثراً، وإنما يكون خفيفاً فيه تأديب.
وقوله: (أميتك) تصغير أمة وليس في هذا استهانة بالإماء وضربهن، ولكن يمكن أن يكون المقصود أنهم كانوا يفعلون ذلك وأنهم كانوا يعاملون الإماء على خلاف ما يعاملون النساء الحرائر، ويمكن أن يكون المقصود أنه إذا وجد ضرب لأمر لا بد منه فليكن على وجه لا يؤثر لا بالنسبة للأمة ولا بالنسبة للزوجة الحرة.
قوله: [ (فقلت: يا رسول الله! أخبرني عن الوضوء؟ قال: أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق)].
ثم سأله عن الوضوء فأخبره صلى الله عليه وسلم كيف يفعل، ولعل المقصود من ذلك أن كان الوضوء معروفاً عندهم، وإنما أراد أن يعرف سننه والأمور المستحبة فيه، والأمور التي فيها كمال فيه، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يصف له الوضوء، وإنما قال: (أسبغ الوضوء)، يعني: الذي هو الكمال، (وخلل بين الأصابع)، يعني: حتى تتحقق من أن الماء وصل إلى جميع الأعضاء، (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً).
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[في آخرين].
يعني: أن أبا داود رحمه الله سمع الحديث من مشايخ آخرين غير قتيبة .
[قالوا: حدثنا يحيى بن سليم ].
يعني: أن قتيبة حدثه في آخرين، لكن هؤلاء الذين حدثوه أراد أن يقتصر على تسمية واحد منهم، ويمكن أن تكون كلمة حدثنا تغني عن قوله: (في آخرين) لأن طريقة المحدثين إذا قال أحدهم: (حدثنا) أنه يقصد شيخه وغيره، وإذا قال: (حدثني) يقصد أنه حدثه وحده ليس معه أحد.
فالمصنف ذكر شيوخاً متعددين ولهذا قال: قالوا، وهذا يبين بأن المقصود الشيوخ، ولكنه لم يذكر أسماء الشيوخ الآخرين، بل اقتصر على قتيبة ، ولعل هؤلاء الشيوخ الآخرين إما ترك ذكرهم اختصاراً واكتفاءً بـقتيبة أو أن فيهم من فيه كلام، كما مر بنا في سنن النسائي أنه كثيراً إذا جاء ابن لهيعة في السند لا يذكره، وإنما يقول: حدثنا فلان وذكر آخر. يشير بهذا الآخر إلى ابن لهيعة الذي تركه، والذي لا يريد أن يذكره؛ لأنه لا يروي عنه فيشير إليه إشارة؛ لأن التحديث حصل لجماعة فهو يذكر واحداً منهم ويترك غيره، لكنه لا يسكت بحيث كأن ذلك الذي ترك ما له وجود، بل هو موجود، ولكنه أراد أن يتركه، فقال: وذكر آخر، فهنا قوله: (في آخرين) يحتمل أن يكون اختصاراً؛ فبدل ما يعددهم اكتفى بواحد منهم الذي هو ثقة وهو قتيبة ، ويحتمل أن يكون المقصود أن فيهم أناساً لا يريد أن يذكرهم ولا يريد أن يكونوا من رجاله الذين يروي عنهم.
ويحيى بن سليم الطائفي صدوق سيء الحفظ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسماعيل بن كثير ].
إسماعيل بن كثير ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه].
عاصم بن لقيط بن صبرة ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
وأبوه صحابي أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
أورد أبو داود رحمه الله حديث لقيط بن صبرة من طريق أخرى، ولكنه أحال على الطريق السابقة وأشار إلى بعض الفروق التي جاءت في الطريقة الثانية وهي قوله: (لم ننشب أن جاء) يعني: لم نلبث إلا مدة قليلة حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقلع، يعني: يتكفأ في مشيته صلى الله عليه وسلم، وهذا فيه بيان لكيفية مشيه صلى الله عليه وسلم وأنه كان يمشي بهذه الهيئة، وهذا بمعنى ما جاء أنه كان إذا مشى كأنه منحدر من صبب. يعني: ليس عنده مشية المتبخترين المتجبرين المتكبرين، وليس فيه أيضاً نعومة النساء ولين النساء وحركة النساء، وإنما كان يمشي بهذه الهيئة يعني: بقوة وبنشاط، فصلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وقوله: [وقال: عصيدة].
يعني: أن عائشة أمرت لهم بعصيدة مكان الخزيرة، والعصيدة هي: الدقيق الذي ليس معه لحم، فإذا كان معه لحم صار خزيرة.
قوله: [حدثنا عقبة بن مكرم ].
عقبة بن مكرم ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة .
[حدثنا يحيى بن سعيد ].
هو يحيى بن سعيد القطان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن جريج ].
ابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني إسماعيل بن كثير عن عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه].
قد مر ذكر هؤلاء الثلاثة.
أورد أبو داود رحمه الله حديث لقيط بن صبرة من طريق أخرى وفيه أنه قال: (إذا توضأت فمضمض)، يعني: أن الطريق السابقة فيها الاستنشاق وهذه الطريق فيها المضمضة، ومعنى هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى المضمضة والاستنشاق.
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس ].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهري ، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا أبو عاصم ].
هو أبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن جريج ].
ابن جريج قد مر ذكره.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح سنن أبي داود [023] للشيخ : عبد المحسن العباد
https://audio.islamweb.net