إسلام ويب

لقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريم حرم مكة، وأنها أحلت له ساعة من نهار يوم الفتح حيث دخلها عنوة، ثم عادت لها حرمتها إلى يوم القيامة، وبين أنه لا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، واستثنى من ذلك الإذخر، وذلك لحاجة الناس إليه.

تحريم حرم مكة

شرح حديث (إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين ...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب تحريم حرم مكة.

حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي حدثني يحيى -يعني ابن أبي كثير - عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما فتح الله تعالى على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيهم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنما أحلت لي ساعة من النهار، ثم هي حرام إلى يوم القيامة، لا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، فقال عباس رضي الله عنه أو قال: قال العباس : يا رسول الله! إلا الإذخر فإنه لقبورنا وبيوتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إلا الإذخر).

قال أبو داود : حدثنا وزادنا فيه ابن المصفى عن الوليد : (فقام أبو شاه -رجل من أهل اليمن- فقال: يا رسول الله! اكتبوا لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اكتبوا لـأبي شاه ، قلت: للأوزاعي : ما قوله: اكتبوا لـأبي شاه ؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ].

قوله: [ باب تحريم حرم مكة ].

هذه الترجمة فيها ذكر جملة من النصوص الدالة على تحريم مكة وأنها حرم، وقد جاء تحريم حرمين اثنين هما: مكة والمدينة، وليس هناك مكان ثالث حصل له ذلك الوصف الذي هو التحريم ووصف بأنه حرم إلا هذين المكانين مكة والمدينة، فمكة حرم والمدينة حرم وغيرهما لم يأت شيء يدل عليه، وإنما التحريم خاص بهذين البلدين المقدسين مكة والمدينة.

والترجمة تتعلق بتحريم حرم مكة، وقد جاء فيه أحاديث كثيرة أورد أبو داود منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس بعد أن فتح الله عليه مكة ودخلها فاتحاً، وكانت مكة فتحت عنوة وليس صلحاً بينه وبين المشركين، وقد دخل صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه المغفر وخطب الناس وقال: (إن الله حبس عن مكة الفيل) كما جاء في سورة الفيل.

قوله: (وسلط عليها رسوله والمؤمنين) يعني: مكنهم من ولايتها والتغلب على أهلها.

قوله: (وإنما أحلت لي ساعة من النهار) وفي بعض الأحاديث: (وقد عادت حرمتها باليوم كما عادت حرمتها بالأمس).

قوله: (ثم هي حرام إلى يوم القيامة لا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها) يعني: أنه لا يزعج صيدها ولا يجوز شيء يزعجه وينفره ويجعله يشرد، وإنما هو آمن ومن دخله كان آمناً، وإذا كان التنفير ممنوعاً منه فإن القتل من باب أولى، فلا يقتل الصيد، مثل ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه فيما يتعلق بحرم المدينة قال: (لو وجدت الظباء ترتع لما نفرتها أو لما زجرتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المدينة حرم)، والله عز وجل جعل الصيد إذا دخل مكة وكذلك المدينة آمناً، وجعل له من الغذاء ما يتغذى به حيث حرم قطع الشجر وقطع النبات حتى يكون ذلك الصيد عندما يدخل المكان الآمن عنده قوته وعنده الشيء الذي يرعاه، ولو قطع الشجر وصارت الأرض جرداء فإن الصيد لا يبقى، وإنما يذهب يبحث عن الرعي ويذهب عن القوت والطعام، فجاءت الشريعة بكون الصيد يكون آمناً وبكون قوته يكون موجوداً عنده.

قوله: (ولا تحل لقطتها إلا لمنشد) أي: لمن يستمر على التعريف بها، وذلك أن اللقطة إذا فقدت في مكة فإن مكة يتردد عليها الناس للحج في كل عام، ولذلك ميزت على غيرها لقطتها لا تكون كلقطة غيرها بأن تعرف ثم يستفيد منها من عرفها، بل إنها تعرف دائماً، وذلك أن صاحبها قد يأتي في حجة أخرى أو في حجة ثانية أو ثالثة وهكذا، فلا تملك لقطتها أو لا يستفاد من لقطتها كما يستفاد منها في الأماكن الأخرى غير مكة.

قوله: (قال العباس : يا رسول الله! إلا الإذخر).

يعني: هذا تلقين استثناء، يريد أن يستثني من ذلك الإذخر.

قوله: (فإنه لقبورنا وبيوتنا) يعني: لبيوتهم؛ لأنه نبت له رائحة طيبة ويجعلونه في البيوت بحيث يسقفونها به، وكذلك في قبورهم يجعلونه بين اللبن بحيث لا ينزل التراب والرمل على الميت في لحده، فقال عليه الصلاة والسلام: (إلا الإذخر) فدل هذا على أن الإذخر مستثنى، وأنه يجوز قطعه كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: [ (فقام أبو شاه -رجل من أهل اليمن- فقال: يا رسول الله! اكتبوا لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لـأبي شاه) ] المقصود بذلك كتابة هذه الخطبة التي سمعها، فأراد أن تكتب له حتى تكون معه، وحتى يذهب بها إلى أهله في اليمن، وهذا الحديث يدل على أن مكة حرم حرمها الله عز وجل، وقد جاءت الأحاديث في تحريم المدينة.

ويدل هذا الحديث أيضاً على أن فتح مكة كان عنوة، وأنه ليس صلحاً بينه وبين الكفار، وأن هذا الحل الذي حصل له صلى الله عليه وسلم مستثنى، وأنها بعد ذلك ستعود حرمتها كما كان قبل ذلك؛ فحرمتها مستمرة إلى يوم القيامة ولا يستثنى من ذلك إلا تلك الساعة التي أحلها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.

ويدل أيضاً على أن الاستثناء ليس بلازم أن يكون مقصوداً عند أول الكلام، بل إذا ذكِّر به المتكلم أو لفت النظر إليه في الحال ثم أتى به فإنه يمكن، ومثل الاستثناء اليمين، لو أن إنساناً حلف وقيل له: قل: إن شاء الله فقال: إن شاء الله، فإنه يكون مستثنياً، وإن لم يحصل ذلك منه عند بداية النطق بذلك، فإن هذا الحديث يدل على نفع الاستثناء في مثل هذه الحال.

ويدل الحديث أيضاً على كتابة العلم، وقد جاء في بعض الأحاديث النهي عن كتابة الحديث في أول الأمر؛ وذلك لما كان يخشى من اختلاطه بالقرآن، ولكنه بعد ذلك رخص فيه، وهذا الحديث يدل على الترخيص، وقد قالأبو هريرة عن عبد الله بن عمرو : إنه كان يكتب ولا أكتب، ثم بعد ذلك اتفق العلماء على استحباب كتابة العلم، وأن ذلك أمر مطلوب؛ وذلك أن القرآن قد حفظ وميز عن غيره فلا يكون هناك التباس بين القرآن وبين غيره، فاتفق العلماء على استحباب كتابة العلم وعلى الاشتغال بالعلم كتابة وحفظاً.

قوله: (ولا يعضد شجرها).

العضد هو القطع، والشجر الذي يعضد هو الذي أنبته الله عز وجل، وأما الشيء الذي ينبته الناس لأنفسهم فإنهم يستفيدون منه ويستعملونه ولا يمنعون منه، أما الشيء الذي أنبته الله تعالى فكما أسلفنا -والله أعلم- أنه منع منه ليكون قوتاً للصيد الذي إذا دخل الحرم كان آمناً.

وكون الإنسان يذهب بإبله لترعى في الحرم يبدو أنه غير سليم؛ لأن هذا يؤدي إلى إزالة النبات من الحرم، لكن إذا كانت الإبل انفلتت من نفسها وأكلت فهذا شيء آخر، وأما كون الإنسان يقصد ويتعمد الرعي في الحرم فهذا وسيلة إلى تخلية الحرم من النبات، ويكون الصيد الذي يدخل الحرم ويكون آمناً لا يجد شيئاً يقتاته ويأكله.

قوله: (ولا تحل لقطتها إلا لمنشد) يعني: الشيء اليسير التافه مثل الريال والريالين والسكين والمقص وما إلى ذلك من الأشياء التافهة، فهذه يأخذها الإنسان ولا تحتاج إلى تعريف، وإنما الشيء الذي له شأن وله وزن في النفوس هذا هو الذي يوصف بأنه لقطة تنشد، وإذا كانت في غير الحرم فتعرف لمدة سنة ثم يستفيد منها صاحبها الذي عرفها، أما في الحرم فتعرف دائماً.

تراجم رجال إسناد حديث: (إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين)

قوله: [ حدثنا أحمد بن حنبل ].

هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا الوليد بن مسلم ].

هو الوليد بن مسلم الدمشقي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا الأوزاعي ].

هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثني يحيى -يعني: ابن أبي كثير - ].

هو يحيى بن أبي كثير اليمامي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي سلمة ].

هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي هريرة ]

هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.

معنى قوله: (فقام أبو شاه فقال: يا رسول الله اكتبوا لي...)

[ قال أبو داود : وزادنا فيه ابن المصفى ].

يعني: له طريق آخر من طريق محمد بن مصفى عن الوليد وفيه: [ (فقام أبو شاه رجل من أهل اليمن) ].

وفي الصحيحين هذا الحديث، وفيه قصة أبي شاه وكونه قال: [ (اكتبوا لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لـأبي شاه) ].

قوله: [ ابن المصفى ].

هو محمد بن مصفى صدوق له أوهام، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة .

طريق أخرى لحديث تحريم مكة وفيه (...ولا يختلى خلاها) وتراجم رجال الإسناد

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه القصة قال: (ولا يختلى خلاها) ].

أورد المصنف رحمه الله الحديث من طريق أخرى وقال: (ولا يختلى خلاها) يعني: لا يقطع نباتها لا الشجر الكبار ولا الشجر الصغار أو النبات الصغير الذي هو الحشيش الرطب.

قوله: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة ].

عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة وابن ماجة .

[ حدثنا جرير ].

هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن منصور ].

هو منصور بن معتمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن مجاهد ].

هو مجاهد بن جبر المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن طاوس ].

هو طاوس بن كيسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن عباس ].

هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

شرح حديث عائشة (...ألا نبني لك بمنى بيتاً أو بناءً يظلك من الشمس؟ فقال: لا...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن يوسف بن ماهك عن أمه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! ألا نبني لك بمنى بيتاً أو بناء يظلك من الشمس؟ فقال: لا، إنما هو مناخ من سبق إليه) ].

أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! ألا نبني لك بمنى بيتاً أو بناء يظلك به من الشمس؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا، إنما هو مناخ من سبق إليه).

هذا الحديث يدل على أن الحق في منى للسابق، وأن من سبق إلى مكان منها فهو أحق به من غيره.

والحديث تكلم في إسناده الألباني وضعفه، وابن القيم حسنه في تهذيب السنن، ومعناه صحيح من جهة أن من سبق إلى مكان فهو أحق به، وليس لأحد أن يقيمه من مكانه الذي هو فيه؛ لأن كون الإنسان يأتي بعده ويقيمه من مكانه ويجلس فيه ليس بلائق، فمعناه صحيح من جهة أن السابق إلى المكان هو أحق به، والأشياء المباحة والأشياء التي هي للناس عموماً إذا سبق أحد إلى شيء منها فإن له ذلك، ولكن من حيث الإسناد فيه كلام من جهة إبراهيم بن مهاجر ومن جهة أم يوسف بن ماهك .

والحديث يدل على عدم جواز البناء في منى.

تراجم رجال إسناد حديث عائشة (.. ألا نبني لك بمنى بيتاً أو بناء يظلك من الشمس؟ فقال لا....)

قوله: [ حدثنا أحمد بن حنبل ].

أحمد بن حنبل مر ذكره.

[ حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ].

عبد الرحمن بن مهدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا إسرائيل ].

هو إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن إبراهيم بن مهاجر ].

إبراهيم بن مهاجر وهو صدوق لين الحفظ، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.

[ عن يوسف بن ماهك ].

يوسف بن ماهك وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أمه ].

هي مسيكة الملكية لا يعرف حالها، أخرج حديثها أبو داود والترمذي وابن ماجة .

[ عن عائشة ].

عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق ، وهي من أوعية السنة وحفظتها، وواحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

شرح حديث: (احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا الحسن بن علي حدثنا أبو عاصم عن جعفر بن يحيى بن ثوبان أخبرني عمارة بن ثوبان حدثني موسى بن باذان قال: أتيت يعلى بن أمية رضي الله عنه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه) ].

أورد أبو داود حديث يعلى بن أمية رضي الله عنه أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه) يعني: كونه يشترى الطعام في حال قلته ثم يحتكره حتى يزيد سعره فيباع غالياً، هذا هو الاحتكار، وهو حرام في كل مكان في مكة وفي غيرها، ولكنه في مكة لا شك أنه أشد وأخطر وأسوأ، واحتكار الطعام ظلم وهو خلاف الحق، وفيه ميل من الحق إلى الباطل، ولكن هذا الحديث غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

تراجم رجال إسناد حديث: (احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه)

قوله: [ حدثنا الحسن بن علي ].

هو الحسن بن علي الحلواني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي .

[ حدثنا أبو عاصم ].

هو أبو عاصم النبيل واسمه الضحاك بن مخلد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن جعفر بن يحيى بن ثوبان ].

جعفر بن يحيى بن ثوبان وهو مقبول، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود وابن ماجة .

[ عن عمارة بن ثوبان ].

عمارة بن ثوبان وهو مستور ، والمستور هو مجهول الحال، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود وابن ماجة .

[ عن موسى بن باذان ].

موسى بن باذان وهو مجهول، أخرج حديثه أبو داود .

[ عن يعلى بن أمية ].

يعلى بن أمية صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

وفي الحديث ثلاثة متكلم فيهم، فيه مجهول العين ومجهول الحال الذي هو المستور وفيه المقبول الذي لا يقبل حديثه إلا إذا اعتضد.

والحديث ضعيف مرفوعاً، والصحيح أنه موقوف على عمر رضي الله عنه كما قال في الحاشية.

يقول المنذري : أخرجه البخاري في التاريخ الكبير عن يعلى بن أمية : أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: (احتكار الطعام بمكة إلحاد) ويشبه أن يكون البخاري علل المسند بهذا.

وذلك أن البخاري رواه أولاً مرفوعاً من طريق أبي عاصم به، ثم رواه من وجه آخر عن عمر موقوفاً، فيكون قد أشار إلى ما نبه إليه المنذري على أن الحديث ضعيف، وإذا صح الأثر عن عمر فهو كما ذكرنا أن المعنى صحيح ولا إشكال فيه ولا غبار عليه، واحتكار الطعام في أي مكان حرام، ويزداد حرمة في الحرم.

ما جاء في نبيذ السقاية

شرح حديث ابن عباس (... دخل رسول الله على راحلته وخلفه أسامة بن زيد فدعا بشراب فأتي بنبيذ فشرب منه...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب: في نبيذ السقاية.

حدثنا عمرو بن عون حدثنا خالد عن حميد عن بكر بن عبد الله قال: (قال رجل لـابن عباس رضي الله عنهما: ما بال أهل هذا البيت يسقون النبيذ وبنو عمهم يسقون اللبن والعسل والسويق؟ أبخل بهم أم حاجة؟ فقال ابن عباس : ما بنا من بخل ولا بنا من حاجة، ولكن دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على راحلته وخلفه أسامة بن زيد رضي الله عنهما، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشراب، فأتي بنبيذ فشرب منه، ودفع فضله إلى أسامة بن زيد فشرب منه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أحسنتم وأجملتم كذلك فافعلوا، فنحن هكذا لا نريد أن نغير ما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ].

قوله: باب: في نبيذ السقاية يعني: النبيذ الذي يكون في سقاية الحجاج.

والنبيذ: هو زبيب أو تمر ينبذ في الماء في أحواض، ويكون طعمه حلواً، ولا يبقى مدة حتى يصل إلى حد الإسكار؛ وإذا بلغ إلى حد الإسكار فإنه يكون محرماً؛ لكونه مسكراً، هذا هو النبيذ الذي يقاس على الخمر في التحريم، فقبل أن يصل إلى حد الإسكار فإنه يكون طعمه حلواً وشربه سائغاً، ولكنه إذا مكث ووصل إلى حد الإسكار يكون حراماً لا يجوز استعماله.

فالنبيذ نبيذان: نبيذ محرم وهو الذي وصل إلى حد الإسكار، ونبيذ لم يصل إلى حد الإسكار فإنه يكون حلالاً ويكون مباحاً فهذا هو النبيذ، ولهذا ذكروا في قصة عمر رضي الله عنه لما طعن أنهم كانوا يسقونه النبيذ فيخرج من جوفه، فالنبيذ هو الماء الذي وضع فيه تمر ليحليه، فكان يشربه ويخرج من جوفه.

قوله: [ (قال رجل لـابن عباس : ما بال أهل هذا البيت يسقون النبيذ وبنو عمهم يسقون اللبن والعسل والسويق؟!].

يعني: بيت العباس الذين هم أهل السقاية.

قوله: (أبخل بهم أم حاجة؟!) يعني: أبخل مع وجود المال أو حاجة حيث إن المال غير موجود، وأن هذا هو الذي يستطيعونه؟ فقال: لا هذا ولا هذا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم جاء وهو راكب على دابته وخلفه أسامة فناولوه منه فشرب منه وأعطى أسامة الفضلة فشربها، وقال: (أحسنتم وأجملتم، كذلك فافعلوا، فنحن هكذا لا نريد أن نغير ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وبنو العباس كانوا يفعلون ذلك؛ لأن زمزم فيه شيء من الملوحة، وهم يضعون هذا ليذهبوا هذه الملوحة التي في الماء؛ لأن العرب كانت تستعذب الماء، أو أن المقصود منه زيادة الإحسان في تقديم شيء حلو.

ومعلوم أن ماء زمزم وإن لم يوضع فيه شيء فهو ماء طيب وشراب مبارك، والإنسان يشرب ويتزود منه، ولو سافر به إلى بلده كان ذلك طيباً وحسناً ولا مانع منه.

تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس (دخل رسول الله على راحلته وخلفه أسامة بن زيد فدعا بشراب فأتي بنبيذ فشرب منه...)

قوله: [ حدثنا عمرو بن عون ].

عمرو بن عون ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا خالد ].

هو خالد بن عبد الله الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن حميد ].

هو حميد بن أبي حميد الطويل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن بكر بن عبد الله ].

هو بكر بن عبد الله المزني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن عباس ].

ابن عباس مر ذكره.

حكم الإقامة بمكة بعد الحج للمهاجرين وغيرهم

شرح حديث: (للمهاجرين إقامة بعد الصدر ثلاثاً)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب: الإقامة بمكة.

حدثنا القعنبي حدثنا عبد العزيز -يعني الدراوردي - عن عبد الرحمن بن حميد أنه سمع عمر بن عبد العزيز يسأل السائب بن يزيد رضي الله عنه: (هل سمعت في الإقامة بمكة شيئاً؟ قال: أخبرني ابن الحضرمي رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: للمهاجرين إقامة بعد الصدر ثلاثاً) ].

قوله: باب: الإقامة بمكة يعني: الإقامة بمكة بعد الحج.

وذكر فيه حديث العلاء الحضرمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (للمهاجرين إقامة بمكة بعد الصدر ثلاثاً) يعني: أنهم إذا انتهوا من منى في اليوم الثالث عشر فلهم أن يقيموا بعد أيام منى ثلاثة أيام وهي الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر، وهذا للمهاجرين؛ لأن المهاجرين تركوا مكة وهي بلدهم لله ومن أجل الله، وهاجروا منها إلى المدينة، فليس لهم أن يبقوا فيها أكثر من ثلاثة أيام، وليس لهم أن يتخذوها وطناً.

وأما غير المهاجرين فلم يأت شيء يدل على التحديد لهم بعد الصدر من منى.

أما من هجر بلداً وتركها لله فهل يجوز له أن يقيم بها ثلاثاً بعد أن هاجر منها؟

يبدو أن هذا الحكم يخص مكة؛ لأن الهجرة منها كانت لإظهار الإسلام وإقامة الإسلام، ولهذا (لا هجرة بعد الفتح)، وهي الهجرة التي حصل لها بها وصف المهاجرين وبالمقابل وصف الأنصار، والمهاجرون أفضل من الأنصار.

إذاً: كون الإنسان إذا كان في بلد شرك وهاجر منه ثم صار ذلك البلد بلداً إسلامياً فله أن يرجع إليه؛ لأن هذا الحكم يبدو أنه خاص بالمهاجرين من مكة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا هجرة بعد الفتح)، ولأن الوصف بذلك إنما حصل لهم لكونهم تركوا مكة وخرجوا منها لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم.

تراجم رجال إسناد حديث: (للمهاجرين إقامة بعد الصدر ثلاثاً)

قوله: [ حدثنا القعنبي ].

هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .

[ حدثنا عبد العزيز يعني الدراوردي ].

هو عبد العزيز بن محمد الدراوردي صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عبد الرحمن بن حميد ].

هو عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ يسأل السائب بن يزيد ].

السائب بن يزيد صحابي صغير، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو الذي ثبت عنه أنه قال: (حج بي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن سبع سنين).

[ أخبرني ابن الحضرمي ].

هو العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح سنن أبي داود [232] للشيخ : عبد المحسن العباد

https://audio.islamweb.net