إسلام ويب

قصر الأمل هو عنوان حياة المؤمن الحق، يحتذي في ذلك بنبيه صلى الله عليه وسلم الحاث على ارتقاب الآخرة بقوله وفعله، وإنما يطيل الأمل من أتي من حبه للدنيا وظنه بأن الموت قدر لا يرد إلا على الشيوخ دون الشباب، ومن غفل عن الاتعاظ بالجنائز المحمولة أمام ناظريه، فأشبه بذلك فعل الكفرة الذين ألهاهم طول الأمل وبلوغ الوطر عن الاستعداد للآخرة والزهد في الدنيا.

معنى قصر الأمل

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

أما بعد:

قصر الأمل: هو العلم بقرب الرحيل، قال الله عز وجل: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3]، أي: ذرهم لا يهتمون إلا بالطعام والشراب ويلههم طول الأمل وبلوغ الوطر واستقامة الحال عن الاستعداد للآخرة، قال عز وجل: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر:55-57].

ترك متاع الدنيا والاستعداد للآخرة

قال النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عمر رضي الله عنهما: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لسقمك ومن حياتك لموتك، في بعض الروايات: فإنك يا عبد الله! لا تدري ما اسمك غداً.

فقوله صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، الغريب -كما قال الحسن - لا ينافس في عزها، ولا يجزع من ذلها، له شأن وللناس شأن، فالمؤمن غريب في الدنيا؛ لأن المؤمنين من الجنة وإلى الجنة:

كم منزل للمرء يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل

يقول ابن القيم رحمه الله:

فحيَّ على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم

ولكننا سبي العدو فهل ترىنعود إلى أوطاننا ونسلم

فأهل الإيمان غرباء في الدنيا؛ لأنهم من أهل الجنة وليسوا من أهل الدنيا الذين صارت الدنيا أكبر همهم ومبلغ علمهم.

قال الحسن بن آدم : إنك على مطيتين راحلتين تحملانك: يحملك الليل إلى النهار، والنهار إلى الليل حتى يسلمانك إلى الآخرة، فالعبد إما أن يكون غريباً في الدنيا أو يحس أنه عابر سبيل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما لي وللدنيا؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل رجل قال في ظل شجرة، ثم راح وتركها).

قال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة، قال: أنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ، قال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، قال: أتعلم تفسيرها؟ يعني: أنت لله عبد وإليه راجع، وما دمت راجعاً فأنت موقوف، وما دمت موقوفاً فأنت مسئول، وما دمت مسئولاً فأعد للسؤال جواباً، قال: ما الحيلة؟ قال: يسيرة؛ تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى، وإن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وما بقي.

أقام معروف الصلاة ثم قال لرجل: صل بنا، قال: أنا إن صليت بكم هذه الصلاة لا أصلي بكم غيرها، قال: وأنت تحدث نفسك أن تصلي صلاة غيرها؟ نعوذ بالله من طول الأمل؛ فإنه يمنع من خير العمل.

اجتمع ثلاثة من العلماء فقال اثنان للثالث: ما أملك؟ قال: ما أتى علي شهر إلا وظننت أني سأموت فيه، فقالا: هذا هو الأمل، ثم قال لأحدهما: ما أملك؟ قال: ما أتى علي أسبوع أو جمعة إلا وظننت أني سأموت فيها، قال: فقال الآخران: هذا هو الأمل، فقالوا للثالث: ما أملك؟ قال: وما أمل من نفسه بيد غيره؟

فإن الموت كما قيل: كرب بيد سواك لا تدري متى يغشاك.

قال بعض الحكماء: كيف يأمن من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته وسنته تهدم عمره؟

وفي الحديث: (خط النبي صلى الله عليه وسلم خطاً وخط إلى جواره خطاً آخر، ثم خط خطاً آخر أبعد منه، ثم قال للخط الأول: هذا هو الإنسان، وللذي يليه: وهذا هو أجله، وأشار إلى الخط الأبعد فقال: وهذا هو أمله، فبينما هو كذلك إذ جاءه الأقرب).

أسباب طول الأمل

فالعبد يؤمل أنه يعيش خمسين سنة أو ستين سنة ولعله ما بقي من عمره إلا سنة أو أقل من سنة، قال العلماء: السبب في طول الأمل أمران:

الأمر الأول: حب الدنيا، والأمر الثاني: الجهل.

أما حب الدنيا فإنه من حبه للدنيا يقدر أنه يعيش فيها مدة طويلة؛ فإنه يجهز ما يحتاجه في هذه المدة الطويلة من أموال ويحاول أن يصل إلى جاه أو إلى سلطان أو إلى شهرة، فهو يقدر أنه يعيش طويلاً في الدنيا؛ لأنه يكره الموت، فيعمل ما يوافق هواه، ويظن أنه يعيش مدة مديدة في الدنيا.

أما الجهل فإنه يجعله على شبابه ويظن أن الموت لا يأتيه وهو في سن الشباب، ولو عد الأشياخ في ناحيته أو في قريته لوجد أنهم يعدون على أصابع اليد الواحدة، وهذا يدل على أنه إلى أن يموت شيخ يموت ألف صبي وشاب، وأن أكثر الناس يموتون في فترة الصبا والشباب، وقليل منهم من يصل إلى أرذل العمر.

أما علاج حب الدنيا فأن يعلق العبد قلبه بالآخرة، وأن يتذكر الآخرة، وأن يسعى للآخرة سعيها، فإن حب الخطير هو الذي يمحو عن القلب حب الحقير، فلا يمكن أن يزهد في الدنيا وأن يقدر قرب خروجه من الدنيا إلا وهو يوقن بالآخرة ويؤمن بالآخرة.

أما الجهل فينبغي للعبد أن ينظر إلى جوارحه وأن ينظر إلى لحمه وشحمه ويعلم أنه ما من شيء من ذلك إلا وهو طعمة للدود، وما من شيء من عظامه إلا سيبلى إلا عجب الذنب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (منه يركب ابن آدم).

فينظر إلى عينيه اللتين ينظر بهما إلى ما يحل وما يحرم، ويعلم أنهما طعمة للدود، وأن عظامه سوف تتناثر في قبره، وأن مفاصله سوف تنفك أربطتها، لا نتحدث عن غيب، وإنما نتحدث عن شهادة.

والعبد ألف دائماً أنه يشيع الجنائز، وأنه يسير بجوار الخشبة، وما ألف أنه المحمول على الخشبة، فعلاجه أن يستحضر أنه لابد أن يكون له مثل هذا المشهد، ولابد يوماً أن يكون محمولاً على الخشبة.

كل ابن آدم وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول

فيقيس نفسه بغيره، وأن كل إنسان له أجل محدود، قال عز وجل: لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]، وينبغي عليه أن يستعد لنزول الموت قال الحسن البصري : فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لب فيها فرحاً. وما ألزم عبد قلبه ذكر الموت إلا صغرت في عينه الدنيا وهان عليه كل ما فيها.

ونظر ابن مطيع إلى داره فأعجبه حسنها ثم بكى وقال: والله! لولا الموت لكنت بك مسروراً، ولولا ما نصير إليه من ضيق القبور لقرت بالدنيا أعيننا.

وقال عمر بن عبد العزيز : ألا ترون أنكم تشيعون في كل يوم غادياً رائحاً إلى الله تعالى قد قضى نحبه وانقطع أمله، فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسباب وفارق الأحباب وواجه الحساب؟

فينبغي للعبد أن يكثر من ذكر الموت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من ذكر هادم اللذات) أي: نغصوا بذكر الموت لذات الدنيا وشهوات النفوس؛ حتى ينقطع ركونكم إلى هذه الدنيا الفانية الزائفة الزائلة، وحتى تسعون للآخرة سعيها.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , قصر الأمل للشيخ : أحمد فريد

https://audio.islamweb.net