إسلام ويب

على الداعية في كل زمان ومكان الاهتمام بجانب الدعوة دون النظر إلى استجابة المدعو من عدمها، مستدلاً على ذلك بما يصلح الاستدلال به في مقابل عقل المخاطب وما يفهمه مازجاً بين الترغيب تارة والترهيب تارة أخرى، وهذه هي طريقة القرآن والأنبياء والدعاة المجيدين في القديم والحديث.

تفسير قوله تعالى: (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة ... وما ربك بغافل عما تعملون)

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل في آخر سورة النمل: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ * وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [النمل:91-93].

مناسبة الآيات لما قبلها

في هذه الآيات الأخيرة من هذه السورة -وبعد أن ذكر الله سبحانه من جاء بالحسنة ومن جاء بالسيئة- أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للقوم: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا [النمل:91] فتناسبت هذه الآية في سياقها مع ما قبلها من الآيات.

فقد ذكر الله سبحانه وتعالى قبل هذه الآية قوله تعالى: ويَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ [الأنعام:73]، والنفخ في الصور كائن يوم القيامة، فالله يقول: اذكروا هذا اليوم العظيم الذي يفزع فيه مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [النمل:87]، وهذا تخويف من الله سبحانه وتعالى بيوم القيامة، والسورة كما ذكرنا قبل ذلك سورة مكية، أي أنها نزلت في وقت كان يؤذى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤذى فيه المؤمنون، ويطردون من ديارهم، ويشردون، ويقتلون، ويعذبون، فجاء القرآن ليطمئن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ويخبرهم أن هؤلاء الذين يفزعونكم الآن سيفزعون يوم القيامة، ويخيفهم الله، ويعذبهم في ذلك اليوم.

والإنسان مهما كان فيه من قوة فلن يبلغ أن يضرب الأرض بقدمه فيخرقها، ولا أن يبلغ الجبال طولاً، أو يضاهيها قوة، فهي أقوى من الإنسان بكل حال، ولذا فمهما عتا فلن يكونوا أقوى من الجبال التي تصير هباء يوم القيامة، قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا [طه:105].

وبما أنهم ضعفاء لا حول لهم ولا قوة فلا داعي لأن يتكبروا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين، فإنهم مهما بلغوا من القوة فلن يكونوا كهذه الجبال التي تنسف يوم القيامة، وإذا كان هذا هو صنعنا بالجبال الراسيات، قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا [طه:105-107]، فكيف سيكون صنعنا بهم!؟

وإذا كانت الجبال لم تكذب ربها سبحانه وتعالى حين عرضت عليها الأمانة، قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا [الأحزاب:72]، وكان حالها يوم القيامة أن ينسفها الله نسفاً، فكيف بمن قبل هذه الأمانة ولم يقم بها؟ وكيف بحال هؤلاء الكفار الذين استكبروا على النبي صلى الله عليه وسلم؟ وكيف سيصنع بهم يوم القيامة؟

قال سبحانه: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل:88]، ومرورها قبل يوم القيامة، وقيل في الدنيا، على أنها يوم القيامة ستنسف وتطير من مكانها كالسحاب، ثم يذرها سبحانه وتعالى قاعاً صفصفاً: لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا [طه:107]، أي: لا يرى فيها مرتفعات ولا منخفضات.

ومن بديع صنع الله عز وجل: أن هذه الجبال العظيمة القوية التي تنظر إليها وتراها راسية في مكانها، ليست ثابتة، بل حتى الأرض التي يقوم الإنسان فوقها ليست ثابتة، وإنما تتحرك في مسار معدود محدود بقضاء الله وقدره سبحانه وتعالى.

فالناظر يظن أن هذه الجبال الراسيات ثابتة، والحقيقة أنها متحركة بتحرك الأرض التي هي فوقها، ففي الدنيا تتحرك الجبال بتحرك الأرض، إذ أن الأرض تدور حول نفسها وتجري في مستقر لها حول الشمس، وبتحركها تحدث الأيام والشهور والسنون.

فكل شيء في الكون يتحرك كما تتحرك السحاب، وإن كنا ننظر إليها على أنها تتحرك ببطء، لكنها في الحقيقة تسير سريعاً في هذا الفضاء، وأنت لا تدري بذلك ولا تنشغل به، وهذا من بديع صنع الله سبحانه في الدنيا أن أرسى الجبال وهي متحركة كالسحاب، ويوم القيامة ينسفها ربنا سبحانه وتعالى نسفاً.

وإذا كان الله يصنع ذلك أليس قادراً على أن يعذب هؤلاء المشركين؟ وهم الذين أرادوا إخراج النبي صلى الله عليه وسلم كما أخبر الله عنهم فقال: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].

فمن جاء بالحسنة أي: بقول لا إله إلا الله وعمل صالحاً كان في أمان من الله عز وجل يوم القيامة، وكان له الخير والجنة، ولهم الأمن يوم الفزع الأكبر، ومن أشرك بالله وعتا وأفسد في الأرض وعلا على أمر ربه سبحانه، فكبت وجوههم في النار، ويقال لهم: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:90].

تعظيم الله لمكة

يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول لقومه: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [النمل:91]، والكلام مناسب للحال الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ولسياق الآيات العظيمة في آخر هذه السورة.

وفي الآية خطاب من الله لنبيه أن يقول للكفار: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ [النمل:91]، أي: أن هذه البلدة التي تريدون أن تثبتوني أو تقتلوني أو تخرجوني منها ليست ببلدكم، ولستم تملكونها، ولكن الأرض أرض الله سبحانه وتعالى.

فهو الذي حرمها وجعلها حرماً آمناً تتنعمون فيها، وفي ذلك إشارة إلى ظلم هؤلاء، إذ أن مكة بلدة جعلها الله سبحانه في وسط الأرض، وحرمها سبحانه وتعالى وجعل المعصية فيها حراماً، فحرم فيها القتل والقتال، وأنعم عليكم بهذه النعمة وجعلكم في أمان ممن حولكم من العرب وغيرهم.

ثم إذا منَّ الله عليكم بها وأمنكم فيها تريدون أن تطردوني منها، وتريدون أن تخرجوني، أو تقتلوني، وتعملون على أن تفزعوا المؤمنين؟! فاذكروا يوم العرض على الله عز وجل -يوم الفزع الأكبر-، واذكروا أن الله أمركم بعبادته، وأمركم أن تشكروه على نعمته عليكم سبحانه.

قال: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ [النمل:91]، فالله هو رب كل شيء سبحانه، وذكر الله البلدة تعظيماً لها وتخصيصاً لها، ثم ذكر أن له كل شيء، فالله ليس رب هذه البلدة وحدها، بل هو رب كل شيء سبحانه، وهو المالك المدبر للأمر.

وعبر سبحانه بقوله: رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ [النمل:91]، وفيه: التنويه بعظيم شأن مكة التي حرمها الله عز وجل، والله لا يحرم شيئاً إلا لتعظيمه، أو لتحقيره، فحرم هذه البلدة تعظيماً لها، وحرم الميتة والدم ولحم الخنزير تحقيراً له، وهنا البلدة التي عظمها الله سبحانه فحرمها، قال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67].

وهذه نعمة من الله سبحانه على أهل مكة، إذ أن العرب في جاهليتهم كانوا لا يعرفون إلا السلب والنهب والخطف والقتل ويأكل بعضهم بعضاً، فيأكل القوي فيها الضعيف، ويقتل بعضهم بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، وكل ذلك يجري في القرى التي حولهم حتى إذا ما أتوا على مكة كفوا عن ذلك كله، إذ أن مكة حرمها الله سبحانه قدراً وشرعاً، فجعلها بلدة محرمة، وكلهم يدخلون إليها حجاجاً ومعتمرين، كما أنهم يعرفون فضل أهلها، حتى إن أهلها ليستكبرون على الغير ويمنعونهم من الطواف إلا في ثياب أهل مكة،ويعجب المرء حينما يرى أهل مكة وقد أنعم الله عليهم بتحريم هذه البلدة فإذا أهلها يستكبرون على غيرهم، بل وصل بهم الترفع على غيرهم أن يمنعوا غير المكي من الطواف بثيابه التي يقدم بها من بلده؛ لأنها بزعمهم ثياب عصي الله فيها، فإما أن يشتروا الثياب من مكة، وإما أن يطوفوا عرايا، وإما أن يستعيروا ثياباً للطواف من أهل مكة، ويستوي في ذلك الرجال والنساء.

وبرغم أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بتعظيم هذه البلدة وتعظيم دين رب العالمين وأمرهم بعبادته، إلا أنهم تطاولوا عليه صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم أنه أمر أن يعبد الرب الذي خلقه، وخلق هذه البلدة، وخلق كل شيء، وهو المالك لكل شيء.

فضل هذه الأمة ونبيها

ثم قال سبحانه: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [النمل:91] وفي الآية الأخرى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، فكان النبي صلوات الله وسلامه عليه هو أول المسلمين في هذه الأمة، وهنا يقول: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [النمل:91]، ففيه: تنويه وإشارة لهذه الأمة على فضلها، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم هو أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:163]، كما ذكر في سورة الأنعام فإنه أيضاً من هذه الأمة، وهذا تشريف لهذه الأمة وتكريم لها.

والمسلمون في قوله تعالى: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [النمل:91]، هم: المستسلمون لرب العالمين، فهم يسلمون وجوههم وقلوبهم وأبدانهم لله سبحانه، فهو يحكم فيهم بما يشاء فينفذون شرعه.

بيان وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم

قال تعالى: وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ [النمل:92]، أي: وأمرت أن أقرأ القرآن، والتلاوة هي: القراءة التي فيها التدبر، وتلاوة النبي صلى الله عليه وسلم لهذا القرآن العظيم وقراءته؛ ليتعلم الناس كيف يقرءونه وكيف يتدبرونه، قال تعالى: وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ [النمل:92].

أي: أنني لست عليكم بحفيظ، ولست عليكم بوكيل، ولست عليكم بمسيطر، وإنما وظيفتي أن أتلو عليكم كلام رب العالمين، فمن هداه الله سبحانه فليحمد الله على نعمة الهدى، ومن اهتدى فهو الذي ينتفع بهداه، ولن ينتفع الله عز وجل به شيئاً، قال تعالى: فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ [النمل:92].

وجزاء الهدى والسير فيه جنة رب العالمين، ثم قال تعالى: وَمَنْ ضَلَّ [النمل:92] أي: ومن كسب السيئة فإنما سيضل على نفسه، قال تعالى: فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ [النمل:92] أي: ومن ضل عن دين رب العالمين وعن الهدى: فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ [النمل:92]، أي: لا أملك لكم من الله شيئاً، وقد أنذرتكم.

وفي الآية تفصيل لما سبق والمعنى: من جاء بالحسنة، أي: بلا إله إلا الله واهتدى، فله خير منها عند رب العالمين سبحانه وهذا الخير ينتفع هو به بسبب إيمانه.

وَمَنْ ضَلَّ [النمل:92]، أي: أتى بالسيئة، من الشرك وغيره من المعاصي والبلاء، فقل لهؤلاء: إنما أنا من المنذرين وقد أبلغتكم وأنذرتكم، وكما أن النبي منذر فهو مبشر؛ إلا أن المناسب للسياق هنا أن يذكر الإنذار فقط؛ لأن هؤلاء قد ضلوا، فناسب أن يقول: إني منذر لكم، ولذلك كان يقوم إليهم وينذرهم صلوات الله وسلامه عليه، ويحذرهم من غضب الله، فإذا اشتدوا عليه يقول: (إنما جئتكم بالذبح)، أي: إنما جئتكم بالجهاد من الله سبحانه وتعالى، فسأجاهدكم وأقتلكم يوماً من الأيام.

وعد الله بأن يرينا آياته

قوله تعالى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا [النمل:93]، هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: أن احمد ربك سبحانه على كل حال، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءته النعمة قال: الحمد لله رب العالمين، وإذا أصابته مصيبة قال: الحمد لله على كل حال، فكان يحمد ربه كما أمره الله سبحانه: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ [النمل:93]، وفي الآية وعد من الله أن يري الناس الآيات، كما قال في السورة الأخرى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت:53]، فالله يري عباده الآيات، ويريهم نتائج ما صنعوا في هذه الدنيا، فمن كفر بعد أن رأى الآيات أذاقه العذاب في الدنيا وهزمه فيها، ثم مآله ومرده إلى عذاب يوم القيامة.

قوله: سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا [النمل:93] أي: أن الله قد أراكم هذا القرآن وما فيه من الآيات العظيمة، وهذا من نعم الله عز وجل عليكم لتعرفون الآيات، وقد أراكم كيف صنع بالأقوام السابقين، وكيف سيصنع بكم يوم القيامة، وبين كيف سيكون فيه أمركم، وذلك حتى تتدبروا.

ثم تهددكم وتوعدكم فجاء الوعيد على ما قاله سبحانه وتعالى؛ ولذلك قام النبي صلى الله عليه وسلم على أهل بدر من الكفار وقال: فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا [الأعراف:44]، فكان ما حدث لهم في بدر آية من الآيات التي وعدهم الله سبحانه وتعالى أن يريهم إياها، وقد حذرهم الله سبحانه وتعالى من عذاب رب العالمين، وتوعدهم أنه سيبطش بهم في الدنيا، قال سبحانه: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ [السجدة:21]، وبذلك عرفوا أنه سيأتيهم عذاب أدنى دون العذاب الأكبر، وبرغم هذا التوعد فقد كذبوا بكلام النبي صلى الله عليه وسلم فجاءهم العذاب في يوم بدر، وقام النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر يقول: فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا [الأعراف:44].

وقد حدث أن أبا سفيان ذهب إلى هرقل عظيم الروم فسأله هرقل عن أشياء، وكان أبو سفيان حينها كافراً، وكان هرقل رجلاً نصرانياً، وكان ينظر في النجوم، وبدأ هرقل يسأل الرجل أسئلة تدل على ذكائه.

فسأله عن هذا النبي وعن علاماته، وهل كان يدعي هذه النبوة قبله أحد؟ وهل كان أبوه ملكاً في يوم من الأيام؟ فسأله عشرة أسئلة أو نحوها، وبعد أن سمع بالإجابة من أبي سفيان جزم بأن هذا نبي رب العالمين سبحانه وتعالى، فصلوات الله وسلامه على رسوله الأمين.

فكانت تلك آية لـأبي سفيان جعلته يتفكر وهو كافر، ثم رجع وهو يقول: لقد أَمِر أَمْر ابن أبي كبشة ، وأبو كبشة قيل: جد من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هذا اسمه، وقيل: كان أبو كبشة زوج مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم فنسب إليه، ومعنى قوله: لقد أمر أمره، يعني: زاد وانتشر وقوي، وما حدث مع أبي سفيان في مرحلة كان فيها النبي صلى الله عليه وسلم ليس بالقوي ولا المؤمنون أقوياء.

لكنه بعد أن سأله هرقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما أخبره علم أن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام سيحكم مكة وغيرها ويمكنه الله سبحانه وتعالى.

فقال في نفسه يوماً من الأيام: لقد أمر أمره. أي: زاد أمره وقوي أمره، حتى عرفه ملك الروم، ثم قال: فلم يزل أمر الإسلام منتشراً منتصراً بعد ذلك، ومع أن أبا سفيان رأى الآية وهو كافر إلا أنه لم يزل على كفره حتى أسلم في فتح مكة، وبعد أن أسلم أبو سفيان أراه الله عز وجل الآيات على لسان هذا الرجل الكافر، فكان خيراً له لو أنه أسلم حينئذ.

وإذا كان أبو سفيان لم ينتفع في هذا الحين، فقد انتفع غيره، فانتفع تميم الداري حين رأى آية من الآيات، فبينما كان هو ومجموعة معه من النصارى في البحر، ووصلوا إلى جزيرة من الجزر لعبت بهم الأمواج، فرسوا على هذه الجزيرة ونزلوا، فرأوا الجساسة، ثم دلتهم على المسيح الدجال، فحدثهم وأخبرهم عن نبي العرب صلوات الله وسلامه عليه، وأنه خير للناس أن يتبعوه، فإذا بـتميم الداري رضي الله عنه ينتفع بالنصيحة ويذهب للنبي صلى الله عليه وسلم ويؤمن به ويحدثه بهذا الحديث الذي يعد آية من الآيات، فلما قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم جمع النبي صلى الله عليه وسلم الناس وقال: (أما إني لم أجمعكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن تميماً حدثني حديثاً قد أعجبني ووافق ما حدثتكم به قبل ذلك)، ثم حدثهم النبي صلى الله عليه وسلم بما قاله تميم الداري، وصدق الله سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا [فصلت:53]، فالله عز وجل يري الآيات فينتفع بها من يؤمن، ولا ينتفع بها من يصر على كفره: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [النمل:93].

والله سبحانه وتعالى ليس غافلاً عما يعمل هؤلاء، ولكن الله حليم سبحانه، يصبر ويحلم عنهم لعلهم يؤمنون، فإذا لم يؤمنوا أخذهم أخذ عزيز مقتدر.

وقوله: وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [النمل:93]، قرئت بالتاء، وهي قراءة نافع وابن عامر وحفص عن عاصم وأبي جعفر ويعقوب ، والباقون يقرءونها بالياء: وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [النمل:93].



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة النمل [91 - 93] للشيخ : أحمد حطيبة

https://audio.islamweb.net