إسلام ويب

يشرع للمسافر أن يصلي النافلة حيث توجهت به راحلته، كما يشرع لمن حضر القتال ودهمه العدو وقت المسايفة أن يصلي الفرض، ومن التبس عليه أمر القبلة فلم يدر إلى أين يتوجه فليتحر وليجتهد ثم ليصل، وإذا تبين خطؤه بعد ذلك فلا إعادة عليه، وهذا كله تيسيراً من الله لعباده ودفعاً للمشقة والحرج عنهم.

تفسير قوله تعالى: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ...)

قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:115].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ هذا -والله أعلم- فيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين أخرجوا من مكة وفارقوا مسجدهم ومصلاهم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه، فلما قدم المدينة وجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، ثم صرفه الله إلى الكعبة بعد؛ ولهذا يقول تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه [البقرة:115] قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الناسخ والمنسوخ: أخبرنا حجاج بن محمد ، أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال: أول ما نسخ لنا من القرآن فيما ذكر لنا -والله أعلم- شأن القبلة، قال الله تعالى: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق ثم صرفه إلى بيته العتيق ونسخها فقال: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:150].

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أهلها اليهود أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم، وكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء [البقرة:144] إلى قوله: (فولوا وجوهكم شطره) فارتاب من ذلك اليهود وقالوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142] فأنزل الله: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِب [البقرة:142] وقال: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه [البقرة:115] وقال عكرمة عن ابن عباس : فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه قال: قبلة الله أينما توجهت شرقاً أو غرباً ].

هذه الآية الكريمة وهي قول الله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115] ذكر فيها الحافظ أقوالاً للعلماء وهي ما يأتي: القول الأول: إنها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حينما فاته التوجه إلى الكعبة، فقد كان في مكة قبل الهجرة، يستقبل بيت المقدس، والكعبة بين يديه، يستقبلهما جميعاً، فلما هاجر إلى المدينة فاته ذلك فكأنه حصل في نفسه بعض الشيء فأنزل الله هذه الآية تسلية له ولأصحابه، والمعنى: أينما تتوجهوا فالله تعالى هو الذي أمركم، وهذه طاعته.

والقول الثاني: أن هذه الآية نزلت قبل أن يوجه إلى الكعبة، فحينما هاجر إلى المدينة عليه الصلاة والسلام كان يتوجه إلى أي جهة كانت، فبين الله تعالى أن الجهات كلها له وهي ملك لله عز وجل، وأن أي جهة توجه إليها بإذن الله وبأمره فذاك طاعة الله؛ ولهذا أنزل الله: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه [البقرة:115] -وهذه الآية فيما إثبات صفة الوجه لله عز وجل على ما يليق بجلاله وعظمته- فأنتم حينما تتوجهون إلى أي جهة بإذن الله وطاعته فذاك امتثال لأمر الله، ثم وجه عليه الصلاة والسلام بعد ذلك إلى الكعبة.

والقول الثالث: أن هذه الآية أنزلت في صلاة النافلة، وأن المسلم إذا كان يصلي على راحلته في السفر فإنه يتوجه إلى أي جهة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته وهو مسافر إلى جهة سيره، إلى الشرق، أو إلى الغرب، أو إلى الشمال، أو إلى الجنوب؛ ولهذا قال سبحانه: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه ومعنى فثم وجه الله، أي: فثم جهة الله.

فإذا صليتم على الرواحل أو على المركوب إلى أي جهة وأنتم مسافرون، فذاك وجه الله وقبلته.

القول الرابع: أن هذه الآية نزلت في قوم في الصحراء عميت عليهم القبلة فصلوا إلى أنحاء مختلفة، منهم من صلى إلى الشرق اجتهاداً، ومنهم من صلى إلى الجهة الأخرى، فلما أصبحوا وجدوا أنهم صلوا إلى غير القبلة فأنزل الله هذه الآية: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه .

فالإنسان إذا كان في الصحراء وشك في القبلة فيجب عليه أن يجتهد لها عن طريق العلامات التي يعرفها ويصلي على حسب اجتهاده، فإن تبين بعد ذلك أنه صلى إلى غير القبلة فصلاته صحيحة.

القول الخامس: أن هذه الآية نزلت في النجاشي رحمه الله؛ وذلك أنه لما أسلم كان يتجه إلى بيت المقدس، ثم نسخ الله التوجه إلى الكعبة، وهو لم يعلم، واستمر على توجهه إلى بيت المقدس فأنزل الله هذه الآية: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه [البقرة:115].

القول السادس: أن هذه الآية نزلت في الدعاء، وأن المسلم إذا دعا ربه ورفع يديه إلى أي جهة فثم وجه الله.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال مجاهد : (فأينما تولوا فثم وجه الله): حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها: الكعبة.

وقال ابن أبي حاتم بعد رواية الأثر المتقدم عن ابن عباس في نسخ القبلة عن عطاء عنه، وروي عن أبي العالية والحسن وعطاء الخراساني وعكرمة وقتادة والسدي وزيد بن أسلم نحو ذلك.

وقال ابن جرير : وقال آخرون: بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة ].

وهذا هو القول الثاني.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإنما أنزلها ليعلم نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاؤوا من نواحي المشرق والمغرب؛ لأنهم لا يوجهون وجوههم وجهاً من ذلك وناحية إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية ].

لأن في ذلك طاعة الله وامتثال أمره، وقد كان الصحابة قبل أن يوجهوا إلى الكعبة يتوجهون إلى جهات متعددة، فإذا توجهوا إلى أي جهة وقد أذن الله له فذاك طاعة الله وامتثال أمره.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ لأن له تعالى المشارق والمغارب، وأنه لا يخلو منه مكان ].

في هذه الآية أن الله تعالى مالك الجهات كلها فهو مالك المشارق والمغارب.

قال بعض العلماء في هذه الآية: إنها من آيات الصفات التي فيها إثبات الوجه لله، ومن العلماء من قال: ليس فيها إثبات الصفة.

وعلى كل حال فمن قال: إن هذه الآية فيها إثبات الوجه لله، ضم إلى ذلك أدلة أخرى، أما وحدها بمفردها فقد لا تدل؛ ولهذا قال بعضهم في معنى قوله تعالى: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه [البقرة:115] فثم جهة الله وقبلته، فليست هذه الآية من آيات الصفات.

ومن قال: إنها من آيات الصفات ضم إليها غيرها من الأدلة فأثبت الوجه لله عز وجل.

والوجه ثابت لله في نصوص أخرى صريحة منها قوله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27].

ولا يلزم من قول الذين قالوا: جهة الله أنها بمعنى: إثبات صفة الوجه؛ لأن الآية ليست صريحة في إثبات الوجه.

والوجه ثابت لله تعالى في أدلة كثيرة صريحة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأنه لا يخلو منه مكان كما قال تعالى: وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7] قالوا: ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فرض عليهم التوجه إلى المسجد الحرام هكذا قال ].

هذا القول قاله ابن جرير .

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفي قوله: وأنه تعالى لا يخلو منه مكان إن أراد علمه تعالى فصحيح فإن علمه تعالى محيط بجميع المعلومات، وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شيء من خلقه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ].

هذا صحيح كما ذكر الحافظ ، فإن كلمة ابن جرير موهمة أنه تعالى في كل مكان، فإن أراد أن علمه في كل مكان فصحيح، أما ذاته سبحانه وتعالى فهو فوق العرش، ولكن ينبغي أن يحمل كلام ابن جرير على هذا؛ لأنه من أهل السنة والجماعة، ولا يمكن أن يحمل كلامه على أن ذاته تعالى في كل مكان، فإن هذا قول الحلولية وهو كفر، وابن جرير رحمه الله من أئمة أهل السنة والجماعة فلا يمكن أن يحمل كلامه إلا على معتقدات أهل السنة والجماعة التي دلت عليها النصوص.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال ابن جرير وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذناً من الله أن يصلي المتطوع حيث توجه من شرق أو غرب ].

وهذا هو القول الثالث.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حيث توجه من شرق أو غرب في مسيره في سفره، وفي حال المسايفة وشدة الخوف ].

والمسايفة تعني: القتال بالسيف، فإذا كان المؤمنون في حالة جهادهم يقاتلون العدو فإنهم يصلون إلى الجهة التي فيها العدو، فإذا كان العدو في جهة الشرق صلوا إلى جهة الشرق، وإذا كان العدو في جهة الشمال صلوا إلى جهة الشمال وبذلك يسقط استقبال القبلة، وكذلك في المسايفة: وهي القتال بالسيوف وقرب المسلمون من عدوهم، ففي هذه الحالة ما يمكن استقبال القبلة.

كما في البخاري في صلاة الخوف أنهم إذا اشتد الخوف صلوا رجالاً وركباناً إلى القبلة وإلى غير القبلة، وإذا اشتد الخوف قال ابن عباس : يكفي أيضاً ركعة واحدة؛ ولهذا جاء عن ابن عباس أنه قال: (فرضت صلاة الحضر أربع ركعات، وصلاة السفر ركعتان، وصلاة الخوف ركعة).

وذهب بعضهم: إلى أنه إذا اشتد الخوف في وقت المسيافة وفي وقت قطع الرقاب ولا يكون إلا أن يقطع عدوك رقبتك أو تقطع رقبته، فيكفي تكبيرة واحدة في هذه الحالة للضرورة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أبو كريب : أخبرنا ابن إدريس ،حدثنا عبد الملك هو ابن أبي سليمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر : أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ويتأول هذه الآية: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115] ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن عبد الملك بن أبي سليمان به وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر وعامر بن ربيعة من غير ذكر الآية.

وفي صحيح البخاري من حديث نافع ، عن ابن عمر أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها، ثم قال: فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالاً قياماً على أقدامهم وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها.

قال نافع : ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(مسألة): ولم يفرق الشافعي في المشهور عنه بين سفر المسافة وسفر العدوي، فالجميع عنه يجوز التطوع فيه على الراحلة وهو قول أبي حنيفة خلافاً لـمالك وجماعته. واختار أبو يوسف وأبو سعيد الإصطخري التطوع على الدابة في المصر وحكاه أبو يوسف عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

المصر يعني: في البلد ولو كان ماش في البلد يتجول في أثناء البلد له أن يصلي إن شاء.

قال المؤلف رحمه الله: [ واختار أبو يوسف وأبو سعيد الإصطخري التطوع على الدابة في المصر وحكاه أبو يوسف عن أنس بن مالك رضي الله عنه].

أبو يوسف الصاحب الأول لـأبي حنيفة ، والصاحب الثاني محمد بن الحسن الشيباني .

[ واختاره أبو جعفر الطبري حتى للماشي أيضاً ].

والسنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يصلي النافلة على راحلته في السفر، ولم يفعل هذا في الحضر أو في البلد، فكان يصلي على راحلته حيث توجهت به شرقاً، أو غرباً، أو شمالاً، أو جنوباً، وجاء في سنن أبي داود أنه يكبر تكبيرة الإحرام نحو القبلة في حديث: أنه يستقبل القبلة عند تكبيرة الإحرام ثم ينصرف إلى جهته فهذا مستحب، أما في البلد فلم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام أن صلى؛ لأنه يمكنه أن يقف ويصلي، فالمعروف عنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يصلي على راحلته في السفر صلاة الضحى وصلاة الليل، أما في البلد فلا.

أما من صلى واجتهد فإذا كان يمكنه أن يسأل يعيد إذا كان مقصراً، أما إذا لم يجد حيلة واجتهد وصلى فصلاته صحيحة ولا يعيد، أما إذا كان مفرطاً صلى واجتهد، ولكن إذا علم أن الطريق بقي لانتهائها نصف ساعة ووجد مسجداً فهذا يجب عليه أن يعيد الصلاة؛ لأنه مفرط.

فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على الراحلة النافلة فقط ولا يصلي الفريضة إلا في حالة الضرورة كما لو كان الأرض فيها دحض والمطر من فوقه فإنه يصلي على الراحلة: (يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع مرة، وكان البلل تحتهم والمطر من فوقهم فصف الرواحل وصلى عليها) هذا للضرورة لا بأس، أما إذا لم يكن هناك حاجة فعليه أن ينزل إلى الأرض.

وإذا كان يصلي في الطائرة أو في القطار فإذا لم يمكن أن يقف يتحرى، فإذا أمكن أن يجمع جمع تقديم قبل أن يركب، أو جمع تأخير بعد أن ينزل فلا بأس، وإن لم يمكن، فيصلي على الطائرة ويصلي في القطار لكن يتوجه إلى القبلة حيث توجهت؛ لأن العلماء نصوا على أن من صلى على المحمل أنه يدور مع القبلة، بخلاف الذي يصلي على الدابة على الحمار أو على البهيمة فلا يمكن أن يدور مع القبلة؛ لأنه في الطائرة يدور معها حيث دارت، وإن أمكن أن يصلي قبل أن يصعد أو بعد أن يهبط يجمع بين الصلاتين فهذا هو الذي ينبغي.

وإذا كان المطار داخل البلد فلا يجمع ويقصر في المطار.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال ابن جرير وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في قوم عميت عليهم القبلة فلم يعرفوا شطرها فصلوا على أنحاء مختلفة ].

وهذا القول الرابع.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فقال الله تعالى: لي المشارق والمغارب فأين وليتم وجوهكم فهناك وجهي وهي قبلتكم فيعلمكم بذلك أن صلاتكم ماضية ].

هذا إذا اجتهد وصلى وتبين أنه إلى غير القبلة فصلاته صحيحة، لكن الآن الحمد لله فالوسائل متعددة، كالسيارات السريعة والخطوط السريعة، والمساجد في الطرقات، والبوصلة موجودة في السيارة ويستطيع أن يسأل.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن إسحاق الأهوازي : أخبرنا أبو أحمد الزبيري أخبرنا أبو الربيع السمان ، عن عاصم بن عبيد الله ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة ، عن أبيه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا منزلاً فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجداً يصلي فيه، فلما أن أصبحنا إذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة، فقلنا: يا رسول الله! لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة فأنزل الله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه [البقرة:115]) الآية .

ثم رواه عن سفيان بن وكيع ، عن أبيه ، عن أبي الربيع السمان بنحوه، ورواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن وكيع وابن ماجة عن يحيى بن حكيم عن أبي داود عن أبي الربيع السمان .

ورواه ابن أبي حاتم ، عن الحسن بن محمد بن الصباح ، عن سعيد بن سليمان ، عن أبي ربيع السمان واسمه أشعث بن سعيد البصري وهو ضعيف الحديث، وقال الترمذي : هذا حديث حسن وليس إسناده بذاك ولا نعرفه إلا من حديث الأشعث السمان وأشعث يضعف في الحديث.

قلت: وشيخه عاصم أيضاً ضعيف، قال البخاري : منكر الحديث، وقال ابن معين : ضعيف لا يحتج به، وقال ابن حبان : متروك، والله أعلم.

وقد روى من طريق آخر عن جابر فقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية: أخبرنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل ، أخبرنا الحسن بن علي بن شبيب ، حدثني أحمد بن عبد الله بن الحسن قال: وجدت في كتاب أبي أخبرنا عبد الملك العرزمي ، عن عطاء ، عن جابر قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية كنت فيها فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة، فقالت طائفة منا: قد عرفنا القبلة هي ههنا قبل الشمال فصلوا وخطوا خطوطاً فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة، فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبي صلى الله عليه وسلم فسكت وأنزل الله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه [البقرة:115]).

ثم رواه من حديث محمد بن عبيد الله العرزمي ، عن عطاء ، عن جابر به.

وقال الدارقطني : قرئ على عبد الله بن عبد العزيز وأنا أسمع: حدثكم داود بن عمرو ، أخبرنا محمد بن يزيد الواسطي ، عن محمد بن سالم ، عن عطاء عن جابر قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فأصابنا غيم فتحيرنا، فاختلفنا في القبلة فصلى كل رجل منا على حدة، وجعل أحدنا يخط بين يديه لنعلم أمكنتنا فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمرنا بالإعادة، وقال: قد أجازت صلاتكم) ].

قوله: (أجازت) الصحيح: أجزأت.

الحديث فيه كلام، لكن المعنى صحيح أنه اتجه إلى القبلة، وهذا قرره أهل العلم أن الإنسان إذا اجتهد ولم يجد وسيلة وصلى إلى غير القبلة فصلاته صحيحة، بصرف النظر عن الحديث، فالحديث فيه كلام، لاحظ الأول فيه ضعيف، وهذا فيه اختلاط.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم قال الدارقطني : كذا قال عن محمد بن سالم وقال غيره عن محمد بن عبيد الله العرزمي عن عطاء وهما ضعيفان، ورواه ابن مردويه أيضاً من حديث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأخذتهم ضبابة فلم يهتدوا إلى القبلة فصلوا لغير القبلة، ثم استبان لهم بعدما طلعت الشمس أنهم صلوا لغير القبلة، فلما جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثوه فأنزل الله تعالى هذه الآية: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه [البقرة:115]) وهذه الأسانيد فيها ضعف ولعله يشد بعضها بعضاً ].

صدق رحمه الله، كلها فيها ضعف، الأول فيه عاصم وهو تلميذ السمان ، والثاني فيه محمد بن عبيد الله العرزمي عن عطاء وهما ضعيفان، لكن يشد بعضها بعضاً، والطرق المتعددة تدل على أن لهذا أصل، والعلماء بينوا هذا نعم: أنه إذا صلى إلى غير القبلة لاجتهاد ولم يجد حيلة وتبين أنه على غير القبلة فصلاته صحيحة، والأصل في هذا قول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما إعادة الصلاة لمن تبين له خطؤه ففيها قولان للعلماء وهذه دلائل على عدم القضاء، والله أعلم ].

هذه الأسانيد يشد بعضها بعضاً تدل على عدم القضاء وهو الأرجح: أنه لا يقضي إذا اجتهد وصلى إلى اتجاه.

فإذا أخطأ مع الاجتهاد فصلاته صحيحة، أما عن تفريط، أو بدون اجتهاد يجب أن يعيد.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال ابن جرير وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في سبب النجاشي كما حدثنا محمد بن بشار أخبرنا معاذ بن هشام ].

وهذا هو القول الخامس: أنها نزلت في النجاشي .

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثني أبي عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخاً لكم قد مات فصلوا عليه، قالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم؟! قال: فنزلت: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّه [آل عمران:199]).

قال قتادة : (فقالوا: إنه كان لا يصلي إلى القبلة فأنزل الله: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه [البقرة:115]) وهذا غريب، والله أعلم.

وقد قيل: إنه كان يصلي إلى بيت المقدس قبل أن يبلغه الناسخ إلى الكعبة كما حكاه القرطبي عن قتادة وذكر القرطبي أنه لما مات صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بذلك من ذهب إلى الصلاة على الغائب، قال: وهذا خاص عند أصحابنا من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه عليه السلام شاهده حين سوى عليه طويت له الأرض، الثاني: أنه لما لم يكن عنده من يصلي عليه صلى عليه، واختاره ابن العربي ، قال القرطبي : ويبعد أن يكون ملك مسلم ليس عنده أحد من قومه على دينه، وقد أجاب ابن العربي عن هذا: لعلهم لم يكن عندهم شرعية الصلاة على الميت، وهذا جواب جيد، الثالث أنه عليه الصلاة والسلام إنما صلى عليه ليكون ذلك كالتأليف لبقية الملوك، والله أعلم ].

وحاصل هذه الأقوال في صلاة النبي على النجاشي : قيل: بأن الأرض طويت وكشفت له فصار كأنه أمامه، أو أنه صلى عليه لعدم وجود من يصلي عليه وهذا بعيد، والثالث: أنه صلى عليه لتأليف القوم، وهذا قول ضعيف كما قال القرطبي من جهة أنه من غير المعقول أن يسلم الملك ثم لا يتبعه أحد من خدمه أو حاشيته وخواصه ولهذا يقول سماحة الشيخ عبد العزبز بن باز رحمة الله: إن هذه الأقوال كلها ضعيفة، والصواب أن قصة النجاشي صحيحة، وفيها جواز الصلاة على كل من كان له شأن أو قدم في الإسلام، كالأمير أو الملك العادل، أو العالم الكبير أو الداعية ، ومع هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على كل أحد، فقد مات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم جمع غفير في مكة وفي أنحاء كثيرة ولم يصل عليهم، وما صلى إلا على النجاشي ، وقد قال كثير من العلماء: إن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذهب الجمهور إلى جواز الصلاة على كل غائب مطلقاً، وقال آخرون: إنه خاص هنا بـالنجاشي مثلما نقل القرطبي وغيره، واستدلوا على ذلك بقولهم: لأنه لم يصل عليه في بلده، ولكن هذا الجواب بعيد كبعد سابقيه، واستدلوا على هذه الخصوصية بطي الأرض له صلى الله عليه وسلم فكأنه أمامه يصلي عليه وهذا لا دليل عليه، وقالت الحنابلة: إن هذا دليل على مشروعية الصلاة على الغائب مطلقاً، ويبعد أن النجاشي كان يخفي إسلامه وعبادته؛ لأنه لو كان كذلك لعلم به خدمه وخواصه على الأقل.

فإن قيل: فهل يعد النجاشي في الصحابة؟

فالجواب: لا؛ لأنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم، ومن شرط الصحبة: الالتقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم ولو لحظة ويدخل فيه الرؤية، حتى إن عبد الله بن محصن يدخل في الصحابة مع أنه لا يرى، أما النجاشي فيكون مثل المخضرمين الذين أسلموا في زمن النبي أو بعد وفاته، فلا بد للصحابي أن يلقى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، أما من أسلم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ولو لقيه فلا يعتبر صحابياً بل يسمى مخضرماً فوق التابعي ودون الصحابي.

بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين المشرق والمغرب قبلة)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث أبي معشر عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المدينة وأهل الشام وأهل العراق) ].

فقوله: (ما بين المشرق والمغرب قبلة)، لأن قبلة المدينة جنوب، فإذا كانت قبلة المدينة جنوباً فستكون القبلة ما بين المشرق والمغرب، أما في نجد فالقبلة ما بين الشمال والجنوب، والقبلة في اليمن جهة الشمال وهكذا؛ ولهذا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تستقبلوا القبلة بالبول أو الغائط ولكن شرقوا أو غربوا).

ونحن الآن لا نغرب في نجد ولكنا نجنب أو نشرق لقضاء الحاجة؛ لأنا إذا غربنا استقبلنا القبلة؛ ولهذا تجد بعض الناس يشددون بالبوصلة أو بالرقم أو كذا، فالانحراف اليسير لا يقبل ما دام أنه في الجهة المخالفة إلا إذا استقبل القبلة إلى جهة أخرى غير هذه الجهة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وله مناسبة ها هنا، وقد أخرجه الترمذي وابن ماجة من حديث أبي معشر واسمه نجيح بن عبد الرحمن السندي المدني به (ما بين المشرق والمغرب قبلة)، وقال الترمذي : وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة ، وتكلم بعض أهل العلم في أبي معشر من قبل حفظه، ثم قال الترمذي حدثني الحسن بن بكر المروزي أخبرنا المعلى بن منصور أخبرنا عبد الله بن جعفر المخرمي عن عثمان بن محمد بن المغيرة الأخنس عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين المشرق والمغرب قبلة)، ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح، وحكي عن البخاري أنه قال: هذا أقوى من حديث أبي معشر وأصح ].

و عبد الله بن جعفر هو المخرمي والمخزومي كما قال في التقريب.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال الترمذي : وقد روي عن غير واحد من الصحابة (ما بين المشرق والمغرب قبلة)، منهم عمر بن الخطاب وعلي وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين وقال ابن عمر : إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة إذا استقبلت القبلة ].

يعني: إذا كنت في المدينة فجعلت المشرق عن يسارك والمغرب عن يمينك صارت القبلة أمامك.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم قال ابن مردويه : حدثنا علي بن أحمد بن عبد الرحمن أخبرنا يعقوب بن يوسف مولى بني هاشم أخبرنا شعيب بن أيوب أخبرنا ابن نمير عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين المشرق والمغرب قبلة)، وقد رواه الدارقطني والبيهقي : وقال: المشهور عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما قوله ].

أي: موقوف على عمر رضي الله عنه، وعبد الله بن عمر بالتكبير ضعيف، أما عبيد الله بن عمر فهو ثقة، وكلاهما يروي عن نافع .

بيان معنى قوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال ابن جرير : ويحتمل: فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم لي فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم ].

أي: أن هذه الآية نزلت في الدعاء وهي محتملة كما قال ابن جرير .

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ كما حدثنا القاسم أخبرنا الحسين حدثني حجاج قال: قال ابن جريج قال مجاهد لما نزلت ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].

قالوا إلى أين؟ فنزلت: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، قال ابن جرير : ومعنى قوله: إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:115]، يسع خلقه كلهم بالكفاية والجود والإفضال، وأما قوله عَلِيمٌ [البقرة:115]، فإنه يعني: عليم بأعمالهم ما يغيب عنه منها شيء ولا يعزب عن علمه بل هو بجميعها عليم ].

والصواب: أن هذه الأقوال كلها محتملة، فقد تكون نزلت في النافلة أو أنها نزلت في المؤمنين لما توجهوا إلى بيت المقدس، أو أنها نزلت في الدعاء، فقد تكون لها عدة أسباب والله أعلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة البقرة الآية [115] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

https://audio.islamweb.net