إسلام ويب

يذكر الله تعالى قصص الأولين عبرة لأولي الألباب، وتذكرة لذوي الأبصار، وفي قصة موسى والخضر عليهما السلام عظات وعبر، ففيها بيان تواضع موسى عليه السلام، وفضيلة العلم، والتلطف في سؤال أهل العلم، وضحالة علم المخلوقين أمام علم الله الذي وسع كل شيء علماً.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين ...)

رواية ابن إسحاق لقصة موسى والخضر عليهما السلام

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال محمد بن إسحاق عن الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة عن سعيد بن جبير قال: جلست عند ابن عباس وعنده نفر من أهل الكتاب، فقال بعضهم: يا أبا العباس ! إن نوفاً ابن امرأة كعب يزعم عن كعب أن موسى النبي الذي طلب العالم إنما هو موسى بن ميشا. قال سعيد : فقال ابن عباس : أ نوف يقول هذا يا سعيد؟! قلت له: نعم، أنا سمعت نوفاً يقول ذلك، قال: أنت سمعته يا سعيد؟! قال: قلت: نعم، قال: كذب نوف ، ثم قال ابن عباس : حدثني أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن موسى بني إسرائيل سأل ربه فقال: أي رب! إن كان في عبادك أحد هو أعلم مني فدلني عليه، فقال له: نعم، في عبادي من هو أعلم منك، ثم نعت له مكانه، وأذن له في لقيه، فخرج موسى ومعه فتاه ومعه حوت مليح، قد قيل له: إذا حيي هذا الحوت في مكان فصاحبك هنالك، وقد أدركت حاجتك، فخرج موسى ومعه فتاه، ومعه ذلك الحوت يحملانه، فسار حتى جهده السير، وانتهى إلى الصخرة وإلى ذلك الماء، وذلك الماء ماء الحياة، من شرب منه خلد، ولا يقاربه شيء ميت إلا حيي) ].

قوله: (خلد) أي: خلد تخليداً مؤقتاً، وليس المراد التخليد المؤبد؛ لأن الخلود خلودان: خلود مؤبد لا نهاية له، وهذا كخلود الكفرة في النار، وخلود مؤمد، كخلود العصاة في النار، ولهذا قال الله تعالى في القاتل العمد: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [النساء:93]، فخلوده خلود مؤمد، إلا إذا استحله؛ لأنها دون الشرك، والله تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، كما أن الله حرم الجنة على الكفار، وهذا ليس بكافر، إلا إذا استحل فإنه حينها يكفر، والفرق بين من يستحل وبين الذي يفعل المعصية أن من قتل شخصاً متعمداً طاعة للهوى والشيطان فقد ارتكب كبيرة من الكبائر وجريمة، وهو متوعد بوعيد شديد، لكن لا يكفر، وكذلك من زنى أو سرق أو شرب الخمر أو تعامل بالربا أو أكل مال اليتيم أو عق والديه، كل هؤلاء عصاة، لكن من قال: الزنا حلال، أو الخمر حلال، أو الربا حلال، أو عقوق الوالدين حلال، أو القتل حلال؛ فهو كافر؛ لأنه أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، وكذلك من أنكر وجوب الصلاة، وقال: الصلاة ليس بواجبة، أو الزكاة ليس بواجبة، أو الصوم ليس بواجب، أو الحج ليس واجباً، فهذا يكفر بلا خلاف.

أما من أنكر شيئاً مختلفاً فيه فلا يكفر، فلو قال مثلاً: الدخان ليس بحرام لا يكفر؛ لأن المسألة فيها شبهة، كما أن بعض الناس يفتي بأنه ليس بحرام فله شبهة.

وكذلك أيضاً من أنكر الوضوء من لحم الجزور؛ لأن المسألة مختلف فيها، فلا يكفر.

إذاً: القتل حرام بإجماع المسلمين، فإذا استحله المرء كفر، أما إذا قتل طاعة للهوى والشيطان، وهو يعلم أنه محرم ويعلم أنه عاص فلا يكفر، كما لو تعامل بالربا، بأن غلبه حب المال والجشع، وهو يعلم أن الربا حرام، فلا يكفر، ولو فعل الزنا، بأن غلبته الشهوة وهو يعلم أن الزنا حرام ولم يستحله لا يكفر.

فالصواب أن القاتل عمداً لا يخلد في النار خلود الكفار، وإنما يخلد خلود العصاة.

والقتل العمد العدوان يتعلق به ثلاثة حقوق لا بد من أدائها:

الحق الأول: حق أولياء القتيل، فلابد من أن يسلم نفسه إليهم، فإذا سلم نفسه إلى أولياء القتيل فهم مخيرون بين قتله، أو أخذ الدية، أو العفو عنه، فإذا قتلوه، أو أخذوا الدية منه، أو عفوا عنه سقط حقهم.

الحق الثاني: حق الله، فإذا تاب توبة نصوحاً بشروطها، بأن يندم على ما مضى، ويقلع عن المعصية، ويعزم عزماً جازماً على ألا يعود إليها، سقط حق الله.

الحق الثالث: حق القتيل، وهذا يطالب به يوم القيامة، فإذا أدى حق أولياء القتيل وأدى حق الله وتاب؛ فالله تعالى يرضي عنه القتيل ويعطيه من الثواب والأجر الجزيل ما يسمح به عن أخيه، فيسقط حقه.

فلابد من هذه الحقوق الثلاثة كلها.

وقد روي عن ابن عباس أنه قال: إن القاتل لا توبة له، وروي عنه أنه قال: إن له توبة، والصواب أن له توبة؛ لأن القتل دون الشرك، والله تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فهو تحت المشيئة فيما دون الشرك، ويقول الله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]، وأجمع العلماء على أن هذه الآية نزلت في التائبين، فمن تاب من أي ذنب تاب الله عليه.

ومعنى قول ابن عباس : (لا توبة له) أي: لابد من أن يعذب بالنار، ثم يخرج منها إلى الجنة، وليس معنى ذلك أنه يخلد في النار، هذا معنى قوله: (لا توبة له)، أما من قال: (إن له توبة)، فيعني أنه إذا تاب تاب الله عليه ومحي عنه الذنب.

والصواب أن له توبة، وليس هناك ذنب ليس له توبة، فكل من تاب قبل الموت تاب الله عليه، حتى الشرك الذي هو أعظم الذنوب من تاب منه تاب الله عليه.

وكذلك قاتل نفسه مثل قاتل غيره، فهو مرتكب لكبيرة ومتوعد بالوعيد الشديد، لكن لا يكفر إلا إذا استحله، فإذا استحله كفر.

فلما نزلا ومس الحوت الماء حيي، فاتخذ سبيله في البحر سرباً، فانطلقا، فلما جاوزا المنقلة وهي المرحلة من السفر يقطعها المسافر في نحو يوم قال موسى لفتاه: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف:62].

قال الفتى وذكر: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا [الكهف:63]) ].

قال ابن عباس : (فظهر موسى على الصخرة، حتى إذا انتهيا إليها فإذا رجل متلفف في كساء له، فسلم موسى فرد عليه العالم السلام، ثم قال له: ما جاء بك؟! إن كان لك في قومك لشغل قال له موسى: جئتك لتعلمني مما علمت رشداً) ].

فهذا موسى عليه السلام -وهو نبي الله وكليم الله، وهو الذي آتاه الله التوراة، وهو في الفضل بعد إبراهيم ومحمد عليه الصلاة والسلام- يأتي إلى الخضر ويتواضع ويقول: جئتك لتعلمني، والله تعالى قال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، وهذا يدل على فضل العلم وشرف العلم، وأن الإنسان لا يزال يطلب العلم مهما بلغ، ولهذا قال بعض العلماء: من المحبرة إلى المقبرة. يعني: لا يزال الإنسان يستفيد من العلم مهما بلغ فيه، وقد كان سماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه كثيراً ما تمر عليه في الدرس بعض الأشياء ويقول: هذه أول مرة أسمعها، وهذه أول مرة تمر علي.

وهو -رحمة الله عليه- معروف باستغلاله الوقت وإمضائه الأوقات الطويلة في التعلم والتعليم، ومع ذلك يقول هذا.

وهذا موسى كليم الله آتاه الله التوراة، ومع ذلك يقول للخضر: جئتك لتعلمني مما علمت رشداً. يريد أن يتعلم ويستفيد ويجلس مجلس المتعلم، وقد قال العلماء: إن الإنسان لا ينبل حتى يأخذ ممن فوقه وممن دونه وممن هو مماثل له؛ فقد يكون عند الطالب ما ليس عند المدرس في بعض الجزئيات، فيستفيد، ولا يزال المرء يستفيد، ولا يستنكف طالب العلم من الفائدة التي يحصل عليها، سواء أكانت ممن هو دونه، أم ممن هو فوقه، أم ممن هو مماثل له.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، وكان رجلاً يعلم علم الغيب قد علم ذلك، فقال موسى: بلى، قال: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا) أي: إنما تعرف ظاهر ما ترى من العدل، ولم تحط من علم الغيب بما أعلم ].

هذا مما يؤيد أن الخضر نبي يوحى إليه، فقد كان يعلم علم الغيب مما علمه الله، ويرى أكثر العلماء أن الخضر عبد صالح وليس نبياً، والقول الثاني لأهل العلم بأنه نبي هو الصواب، وإن كان خلافاً لقول الأكثرين، وهذا المذكور مما يؤيد القول الثاني، كما يؤيده تلك الأمور العظيمة التي فعلها الخضر، ولا يمكن أن تصدر إلا بوحي، أي: كونه يخرق السفينة ويقتل غلاماً -وهو أشدها- وغير ذلك.

أما من قالوا: إنه رجل صالح فقالوا: هذه الأمور كانت بإلهام. وهذا القول فيه فتح باب للصوفية الذين يفعلون الفواحش ويقولون: هذا بإلهام. والصواب أن الخضر نبي يوحى إليه، ويؤيد هذا أنه قال في آخر القصة: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)، أي: لم أفعل إلا عن أمر الله.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:69]، وإن رأيت ما يخالفني قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ [الكهف:70]، وإن أنكرته حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:70]، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر يتعرضان الناس، يلتمسان من يحملهما، حتى مرت بهما سفينة جديدة وثيقة لم يمر بهما من السفن أحسن ولا أجمل ولا أوثق منها، فسألا أهلها أن يحملوهما، فحملوهما، فلما أطمأنا فيها ولجت بهما مع أهلها أخرج منقاراً له ومطرقة، ثم عمد إلى ناحية منها فضرب فيها بالمنقار حتى خرقها، ثم أخذ لوحاً فطبقه عليها، ثم جلس عليها يرقعها، فقال له موسى ورأى أمراً أفظع به: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ [الكهف:71-73] أي: بما تركت من عهدك، وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا [الكهف:73].

ثم خرجا من السفينة، فانطلقا حتى أتيا أهل قرية فإذا غلمان يلعبون خلفها، فيهم غلام ليس في الغلمان غلام أظرف منه ولا أثرى ولا أوضأ منه ].

قوله: (أوضأ) يعني أنه جميل، وكان هذا الغلام من الوضاءة والجمال بمكان.

قال: [ فأخذ بيده وأخذ حجراً فضرب به رأسه حتى دمغه فقتله، قال: فرأى موسى أمراً فظيعاً لا صبر عليه، صبي صغير قتله لا ذنب له، قال: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً [الكهف:74] أي: صغيرة بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا [الكهف:74-76] أي: قد أعذرت في شأني، فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ [الكهف:77] فهدمه ثم قعد يبنيه، فضجر موسى مما يراه، يصنع من التكليف وما ليس له عليه صبر: فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا [الكهف:77] أي: قد استطعمناهم فلم يطعمونا، وضفناهم فلم يضيفونا، ثم قعدت تعمل من غير صنيعة، ولو شئت لأعطيت عليه أجراً في عمله: قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف:78-79]، وفي قراءة أبي بن كعب : (كل سفينة صالحة)، وإنما عبتها لأرده عنها، فسلمت حين رأى العيب الذي صنعت بها، وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:80-82] أي: ما فعلته عن نفسي: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:82].

فكان ابن عباس يقول: ما كان الكنز إلا علماً ].

رواية العوفي عن ابن عباس لقصة موسى والخضر

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال العوفي عن ابن عباس قال: لما ظهر موسى وقومه على مصر أنزل قومه مصر، فلما استقرت بهم الدار أنزل الله أن: ذكرهم بأيام الله، فخطب قومه، فذكر ما آتاهم الله من الخير والنعمة، وذكرهم إذ نجاهم الله من آل فرعون، وذكرهم هلاك عدوهم وما استخلفهم الله في الأرض، وقال: كلم الله نبيكم تكليماً، واصطفاني لنفسه، وأنزل علي محبة منه، وآتاكم الله من كل ما سألتموه، فنبيكم أفضل أهل الأرض، وأنتم تقرءون التوراة، فلم يترك نعمة أنعم الله عليهم إلا وعرفهم إياها، فقال له رجل من بني إسرائيل: هم كذلك يا نبي الله، قد عرفنا الذي تقول، فهل على الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله؟ قال: لا، فبعث الله جبرائيل إلى موسى عليه السلام فقال: إن الله عز وجل يقول: وما يدريك أين أضع علمي؟! بلى إن على شط البحر رجلاً هو أعلم منك.

قال ابن عباس : هو الخضر، فسأل موسى ربه أن يريه إياه، فأوحى إليه أن ائت البحر، فإنك تجد على شط البحر حوتاً، فخذه فادفعه إلى فتاك، ثم الزم شاطئ البحر، فإذا نسيت الحوت وهلك منك فثم تجد العبد الصالح الذي تطلب، فلما طال سفر موسى نبي الله ونصب فيه سأل فتاه عن الحوت، فقال له فتاه وهو غلامه: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف:63] لك، قال الفتى: لقد رأيت الحوت حين اتخذ سبيله في البحر سرباً، فأعجب ذلك موسى، فرجع حتى أتى الصخرة فوجد الحوت، فجعل الحوت يضرب في البحر ويتبعه موسى، وجعل موسى يقدم عصاه يفرج بها عنه الماء يتبع الحوت، وجعل الحوت لا يمس شيئاً من البحر إلا يبس عنه الماء، حتى يكون صخرة، فجعل نبي الله يعجب من ذلك، حتى انتهى به الحوت إلى جزيرة من جزائر البحر، فلقي الخضر فسلم عليه، فقال الخضر: وعليك السلام، وأنى يكون السلام بهذه الأرض؟! ومن أنت؟ قال: أنا موسى، فقال الخضر: صاحب بني إسرائيل؟ قال: نعم، فرحب به وقال: ما جاء بك؟ قال: جئتك عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:66-67]، يقول: لا تطيق ذلك، قال موسى: قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:69]، قال: فانطلق به، وقال له: لا تسألني عن شيء أصنعه حتى أبين لك شأنه، فذلك قوله: حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:70] ].

رواية الزهري لقصة موسى والخضر

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى، فقال ابن عباس : هو الخضر، فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس، فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه، فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال: هل تعلم مكان رجل أعلم منك؟ قال: لا، فأوحى الله إلى موسى: بلى، عبدنا خضر، فسأل موسى السبيل إلى لقيه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت الحوت فهو ثم، فارجع فإنك ستلقاه، فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر، فقال فتى موسى لموسى: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ [الكهف:63]، قال موسى: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64]، فوجدا عبدنا خضراً فكان من شأنهما ما قص الله في كتابه) ].

معاتبة الله تعالى لأنبيائه ورسله

في قصة موسى والخضر دليل على أن الأنبياء -وإن كانوا أنبياء- قد يعتب الله عليهم، كما عتب الله على موسى لما سأله رجل: هل هناك أحد أعلم منك؟ فقال: لا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأخبره الله أن هناك عبداً أعلم منه في مجمع البحرين، وقيل: إن الأنبياء قد يفعل أحدهم خلاف الأولى.

وكذلك عاتب الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى [عبس:1-4]، وذلك لما جاء عبد الله بن أم مكتوم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مشغولاً بصناديد قريش يرجو إسلامهم.

لكن الأنبياء معصومون عن الشرك، وعن الكبائر، وعن الخطأ فيما يبلغون به عن الله، وقد يفعلون خلاف الأولى فيعتب الله عليهم، وإن كانت منزلتهم عالية، فهذا نبينا -وهو أفضل الخلق- قال الله له: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى [عبس:1-2].

وكذلك في قصة زينب وزوجها زيد قبل أن يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم قال الله له: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37].

وقد أخبر الله أنه غفر للأنبياء وهذا يعني أن لهم ذنوباً، فقال تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ [الفتح:2]، وقال سبحانه: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19]، وقال حكاية عن موسى: قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص:16]، وعن داود .. وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص:24] وعن سليمان فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ [ص:25]، وقال حكاية عن ذي النون: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87].

تفسير قوله تعالى: (قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشداً ...)

قال الله تعالى: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:66-70] ].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يخبر تعالى عن قيل موسى عليه السلام لذلك الرجل العالم، وهو الخضر الذي خصه الله بعلم لم يطلع عليه موسى ].

لا شك في أن موسى أفضل من الخضر؛ لأن موسى هو من أولي العزم الخمسة، وهو في المرتبة الثالثة في الفضل بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم، وأما الخضر فهو مختلف في نبوته.

وفي هذه القصة من الفوائد أن المفضول قد يكون عنده من العلم ما ليس عند الفاضل، فالخضر كان عنده علم لم يعلمه موسى مع أن موسى أفضل منه.

وفيها دليل على أن الفضيلة الخاصة لا تقضي على الفضائل العامة، فهذه الفضيلة والمنقبة للخضر فضيلة خاصة، لكن موسى له فضائل كثيرة، ومن ذلك ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور)، فهذه منقبة لموسى، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما يفيق من الصعقة يوم القيامة يجد موسى آخذاً بقائمة من قوائم العرش، فلا يدري هل هو أفاق قبله، أو أنه لم يصعق، وهذه الصعقة حين يأتي الله لفصل القضاء في موقف القيامة، وسببها تجلي الله للخلائق، فيحتمل أن موسى لم يصعق؛ لأنه صعق يوم الطور، ويحتمل أنه صعق وأفاق قبل النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذه فضيلة خاصة.

وكذلك ما ورد من أن الناس يحشرون يوم القيامة عراة ليس عليهم ثياب كما ولدتهم أمهاتهم حفاة غرلاً غير مختونين، وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فهذه منقبة خاصة له عليه السلام.

وستكون في الدنيا نفختان: الأولى: نفخة الصعق، وهي نفخة إسرافيل، فأولها فزع وآخرها صعق، أي: غشي وموت، وهذا هو الصواب، قال تعالى: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ [النمل:87] في آية النمل، وفي الزمر: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ [الزمر:68]، فهذه نفخة واحدة يطولها إسرافيل، فيبدأ الصوت خافتاً فلا يزال يقوى حتى يموت الناس، هذه هي النفخة الأولى.

النفخة الثانية: نفخة البعث، قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى [الزمر:68]، وهي نفخة البعث، وبينهما أربعون، فينزل الله مطراً تنبت منه أجساد الناس، وينشأ الناس تنشئة غير التنشئة التي في الدنيا، فإذا كمل خلقهم أذن الله لإسرافيل فنفخ في الصور فتطايرت الأرواح وعادت إلى أجسادها، فقام الناس من طورهم.

وهناك نفخة ثالثة، وهذه تكون يوم القيامة، وتكون إذا تجلى الله لفصل القضاء والناس واقفون في موقف القيامة، فيصعقون صعقة غشي لا موت، كما في الصحيحين (إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق) أي: إفاقة من الغشي.

وجاء في الحديث الآخر: (نفخات ثلاث) لكن الحديث من رواية إسماعيل بن رافع وهو ضعيف، والصواب أنها نفختان، والنفخة الأولى أولها فزع وآخرها موت.

وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68] قال العلماء: من شاء الله ألا يموت، مثل الأرواح؛ فإنها تظل باقية، وكذا الولدان والحور في الجنة لا يموتون؛ لأن الله استثناهم.

التلطف للمشايخ والعلماء عند طلب العلم

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ كما أنه أعطى موسى من العلم ما لم يعطه الخضر قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ [الكهف:66]، سؤال بتلطف لا على وجه الإلزام والإجبار، وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم ].

أي: ينبغي أن يكون السؤال للعلماء بتلطف، وهذا فيه أدب المتعلم مع المعلم، كما قال تعالى:قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66]، كما أن السؤال إذا جاء على وجه الاستفسار والاستفهام ينشط له المعلم، وينشرح صدره، ويعطي من العلم ما عنده، لكن إذا كان السؤال على وجه إعجازه أو إيقاعه في العنت، أو على وجه الكبر والرياء، فهذا ممنوع، وهو داخل في السؤال المذموم، وقد يفوت السائل على نفسه الفائدة، وكذلك سؤال المال ممن لا يستحق فهو مذموم أيضاً.

قال المؤلف: [ وقوله: (أَتَّبِعُكَ) أي: أصحبك وأرافقك، (عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) أي: مما علمك الله شيئاً أسترشد به في أمري، من علم نافع وعمل صالح ].

وإذا كان هذا موسى عليه الصلاة والسلام يسترشد ويسأل الخضر لعله يفيده علماً فيعمل به عملاً صالحاً، وموسى له هذه المكانة، وعنده التوراة، فكيف بغيره ممن هو دونه؟!

عموم شريعة محمد صلى الله عليه وسلم

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فعندها قال الخضر لموسى: (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) أي: إنك لا تقدر على مصاحبتي؛ لما ترى مني من الأفعال التي تخالف شريعتك؛ لأني على علم من علم الله ما علمكه الله، وأنت على علم من علم الله ما علمنيه الله ].

وهذا دليل على أن الخضر له شريعة غير شريعة موسى، وأن الخضر ليس مأموراً باتباع موسى؛ لأن له شريعة مستقلة، وموسى لم يرسل إلى أهل الأرض كافة، وإنما أرسل إلى بني إسرائيل، وإنما الشريعة العامة شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهي شريعة للثقلين: الجن والإنس، أما شريعة موسى فهي خاصة ببني إسرائيل.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فكل منا مكلف بأمور من الله دون صاحبه، وأنت لا تقدر على صحبتي، (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا) وأنا أعرف أنك ستنكر علي ما أنت معذور فيه، ولكن ما اطلعت على حكمته ومصلحته الباطنة التي اطلعت أنا عليها دونك، قال له موسى: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا) أي: على ما أرى من أمورك، (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا).

أي: ولا أخالفك في شيء، فعند ذلك شارطه الخضر عليه السلام، (قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ) أي: ابتداءً (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا) أي: حتى أبدأك أنا به قبل أن تسألني ].

قوله: [ شارطه ] يعني: اشترط عليه شرطاً، فقال: (قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي)، و(إن) حرف شرط فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:70] أي: إذا كنت عازماً على أن تتبعني، فإني أشترط عليك شرطاً فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك من أمره خبراً.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال ابن جرير : حدثنا حميد بن جبير حدثنا يعقوب عن هارون عن عبيدة ، عن أبيه عن ابن عباس قال: سأل موسى ربه عز وجل فقال: أي رب! أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني، قال: فأي عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى، قال أي رب! أي عبادك أعلم؟ قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه، عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى، أو ترده عن ردى، قال: أي رب! فهل في أرضك أحد أعلم مني؟ قال: نعم، قال: فمن هو؟ قال: الخضر، قال: وأين أطلبه؟ قال على الساحل عند الصخرة التي ينفلت عندها الحوت، قال: فخرج موسى يطلبه، حتى كان ما ذكر الله، وانتهى موسى إليه عند الصخرة فسلم كل واحد منهما على صاحبه، فقال له موسى: إني أحب أن أصحبك، قال: إنك لن تطيق صحبتي، قال: بلى، قال: فإن صحبتني (فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا) قال: فسار به في البحر حتى انتهى إلى مجمع البحور، وليس في الأرض مكان أكثر ماء منه، قال: وبعث الله الخطاف، فجعل يستقي منه بمنقاره، فقال لموسى: كم ترى هذا الخطاف رزأ من هذا الماء؟ ]. يعني: نقص، وفي الأحاديث الأخرى أنه عصفور [ قال: ما أقل ما رزأ، قال: يا موسى! فإن علمي وعلمك في علم الله كقدر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء ].

قال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: هذا أوسع ما سمعناه في علم الله. يعني: علم موسى وعلم الخضر وعلم السلف كلهم في جنب علم الله كنسبة ما يأخذه هذا العصفور بمنقاره من هذا البحر المتلاطم الذي هو أربعة أخماس العالم، فإذا أخذ العصفور بمنقاره فكم سيأخذ؟! وهكذا نسبة علم الخلائق إلى علم الله، ولهذا خلق الله سبحانه وتعالى الخلق لعبادته وتوحيده، ولأجل أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، وليعلموا أنه على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علماً، قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12].

قال رحمه الله تعالى: [ وكان موسى قد حدث نفسه أن ليس أحد أعلم منه أو تكلم به، فمن ثم أمر أن يأتي الخضر ، وذكر تمام الحديث في خرق السفينة، وقتل الغلام، وإصلاح الجدار، وتفسيره له لذلك ].

حديث أبي أمامة في قصة مؤاجرة الخضر نفسه

قال الطحاوي : حدثنا أبو أمية حدثنا سليمان بن عبيد الله الأنصاري الرقي حدثنا بقية بن الوليد حدثنا محمد بن زياد الألهاني عن أبي أمامة الباهلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم لأصحابه: (ألا أحدثكم عن الخضر قالوا: بلى يا رسول الله، قال: بينا هو ذات يوم يمشي في سوق بني إسرائيل أبصره رجل مكاتب، فقال: تصدق علي بارك الله فيك، فقال الخضر: آمنت بالله ما يريد الله من أمر يكون، ما عندي شيء أعطيكه، فقال المسكين: أسألك بوجه الله لما تصدقت علي إني نظرت إلى سيماء الخير في وجهك ورجوت البركة عندك، فقال الخضر: آمنت بالله ما عندي شيء أعطيكه إلا أن تأخذني فتبيعني، فقال المسكين: هل يستقيم هذا؟ قال: نعم، الحق أقول لك: لقد سألتني بأمر عظيم، ما لي لا أجيبك لوجه ربي؟ فبعني، فقدمه إلى السوق فباعه بأربعمائة درهم، فمكث عند المشتري زماناً لا يستعمله في شيء، فقال الخضر: إنك إنما ابتعتني التماس خيري فأوصني بعمل، قال: أكره أن أشق عليك وأنت شيخ كبير، قال: ليس يشق علي، فقال: قم فانقل هذه الحجارة وكان لا ينقلها دون ستة نفر في يوم فخرج الرجل ليقضي حاجته ثم انصرف وقد نقل الحجارة في ساعة، فقال له أحسنت وأحكمت وأطقت مالم أرك تطيقه، ثم عرض للرجل سفر فقال: إني أحسبك أميناً فاخلفني في أهلي خلافةً حسنة، قال: أوصني بعمل، قال: إني أكره أن أشق عليك ومضى الرجل لسفرة فرجع وقد شد بناءه، فقال الرجل: أسألك بوجه الله عز وجل ما حسبك وما أمرك؟ فقال: سألتني بوجه الله عز وجل ووجه الله أوقعني في العبودية، قال: سأخبرك من أنا، أنا الخضر الذي سمعت به، سألني رجل مسكين صدقة فلم يكن عندي شيء أعطيه، ثم سألني بوجه الله عز وجل فأمكنته من رقبتي فباعني، وأخبرك أنه من سئل بوجه الله فرد سائله وهو يقدر وقف يوم القيامة وليس بوجهه جلد ولا لحم ولا دم ولا عظم يتقعقع، قال: آمنت بذلك شققت عليك يا رسول الله، احكم في أهلي ومالي بما أراك الله عز وجل، أو أخيرك فأخلي سبيلك قال: أحب أن تخلي سبيلي يا عبد الله، فخلى سبيله، فقال الخضر: الحمد الله الذي أوقعني في العبودية وأخرجني منها)، أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار.

وإسناده حسن، فـأبو أمية شيخ الطحاوي وهو - محمد بن القاسم - المعروف بـسحيم الحراني قال فيه أبو حاتم في الجرح والتعديل: صدوق، وتابعه غيره كما عند النقاش في فنون العجائب، والطبراني في المعجم الكبير، وابن عساكر في تاريخ دمشق وسليمان بن عبيد الله الأنصاري الرقي صدوق أيضاً كما في التقريب، وبقية مدلس وقد صرح بالتحديث ومحمد بن زياد الألهاني أخرج له البخاري والأربعة وهو ثقة، ونقل النقاش عن أبي بكر بن أبي عاصم قوله: هذا خبر ثابت من جهة النقل وفيه فوائد.

وهذا الخبر إن صح فهو محمول على أن هذا جائز في شريعة الخضر، أما في شريعة الإسلام لا يجوز للإنسان أن يبيع نفسه، لأن حر، جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله وذكر منهم: من باع حراً فأكل ثمنه).

وفي هذا دليل على أنه نبي.

وهذا تخريج مشهور حسن سلمان وخرجه شعيب الأرناءوط في مشكل الآثار.

وهذا الحديث فيه سليمان بن عبيد الله الرقي وإن كان فيه كلام لكنه قد توبع، وبقية بن الوليد نقموا عليه بكثرة تدليسه عن الضعفاء فلا يحتج به إذا انفرد بشيء فيكون الحديث ضعيفاً.

ورواه الطبراني عن حسن بن علي المعمري ، وأبو نعيم في أخبار أصفهان من طريق أحمد بن عمرو بن أبي عاصم فيه كلاهما عن محمد بن علي بن ميمون الرقي وعن سليمان بن عبيد الله الخطاب الأنصاري بهذا الإسناد، ورواه الطبراني أيضاً عن عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الحمصي عن محمد بن الفضل بن عمران الكندي عن بقية به، وقال الهيثمي في المجمع بعد أن نسبه إلى الطبراني : رجاله موثقون إلا أن بقية مدلس، لكنه ثقة.

وقال الحافظ ابن كثير في قصص الأنبياء بعد أن أورده عن أبي نعيم عن الطبراني بالطريق الثاني: وهذا الحديث رفعه خطأ والأشبه أن يكون موقوفاً وفي رجاله من لا يعرف والله أعلم.

وقد رواه ابن الجوزي في كتابه (عجالة المنتظر في شرح حالة الخضر) من طريق عبد الوهاب بن الضحاك وهو متروك عن بقية ، وعلى هذا يكون الحديث ضعيفاً.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الكهف [60-70] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

https://audio.islamweb.net