إسلام ويب

النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الخطأ والسهو والنسيان في تبليغه ما أنزل الله من ربه، فقصة الغرانيق بعيدة وضعيفة سنداً ومتناً، والكفار لا يزالون يشكون ويشككون فيما أنزل الله حتى يروا الساعة بغتة فيؤمنوا يوم لا ينفع نفس إيمانها، وقد أعد الله لهم بسبب شكهم وجحودهم عذاباً مهيناً، كما أعد للمؤمنين نعيماً مقيماً في جنات نعيم.

تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته...)

قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الحج:52-54].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والله أعلم ].

نعم قصة الغرانيق هذه مشهورة، وملخصها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى [النجم:19-20]، وهذه هي الأصنام الثلاثة المشهورة عند العرب، فاللات: صنم لأهل الطائف، والعزى: شجرة يعبدها قريش، ومناة: بالمشلل لأهل المدينة، فألقى الشيطان على لسان النبي صلى الله عليه وسلم: تلك الغرانيق العلى، وإن شافعتهن لترتجى، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السورة سورة النجم سجد، وسجد معه المسلمون والمشركون، وشاع أن قريشاً أسلمت، فجاء المهاجرون من الحبشة ظناً منهم أن أهل مكة أسلموا، ثم بعد ذلك أحكم الله آياته، ونسخ ما ألقاه الشيطان، فعاد المشركون إلى أشد ما كانوا عليه من الإيذاء، ولكن سندها ضعيف، وطرقها كلها مرسلة. ولكن ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري: أن مجموع الروايات قد يشد بعضها بعضاً، والشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ذكر هذه القصة، وأخذ العبرة منها، وإن كان لا يلزمه إثباتها، فذكر هذه القصة، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم خاف من الله خوفاً عظيماً، لما ألقى الشيطان على لسانه في أمنيته، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو بهذه المثابة فكيف بغيره؟!

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة النجم، فلما بلغ هذا الموضع: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى [النجم:19-20]، قال: فألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى. وإن شفاعتهن ترتجى) ].

في لفظ: لترتجى.

قال: [ (قالوا: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، فسجد وسجدوا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحج:52]) ].

فقوله: إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أي: إذا تلا، أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52] أي: في تلاوته.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ورواه ابن جرير عن بندار عن غندر عن شعبة به بنحوه، وهو مرسل، وقد رواه البزار في مسنده، عن يوسف بن حماد عن أمية بن خالد عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما أحسب، الشك في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بمكة سورة النجم، حتى انتهى إلىأَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النجم:19]) ].

وذكر بقيته، ثم قال البزار : لا يروى متصلاً إلا بهذا الإسناد، تفرد بوصله أمية بن خالد ، وهو ثقة مشهور. وإنما يروى هذا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ].

ورواية الكلبي عن أبي صالح ضعيفة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية عن السدي مرسلاً، وكذا رواه ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس مرسلاً أيضاً، وقال قتادة : (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام إذ نعس فألقى الشيطان على لسانه وإن شفاعتها لترتجى. وإنها لمع الغرانيق العلى، فحفظها المشركون) وأجرى الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأها ]، يعني: أجرى على أسماعهم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فزلت بها ألسنتهم، فأنزل الله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى [الحج:52]، الآية. فدحر الله الشيطان.

ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: (أنزلت سورة النجم، وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه، ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم، وأحزنه ضلالهم، فكان يتمنى هداهم، فلما أنزل الله سورة النجم قال: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى [النجم:19-21]، ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت، فقال: وإنهن لهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى، وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة، وذلت بها ألسنتهم، وتباشروا بها، وقالوا: إن محمداً قد رجع إلى دينه الأول، ودين قومه. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر النجم، سجد وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك، غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلاً كبيراً، فرفع ملء كفه تراباً فسجد عليه) فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين، ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين، فاطمأنت أنفسهم لما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدثهم به الشيطان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأها في السورة، فسجدوا لتعظيم آلهتهم. ففشت تلك الكلمة في الناس، وأظهرها الشيطان، حتى بلغت أرض الحبشة، ومن بها من المسلمين عثمان بن مظعون وأصحابه، وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم، وصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه، وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة، فأقبلوا سراعاً، وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته، وحفظه من الفرية، وقال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [الحج:52-53].

فلما بين الله قضاءه وبرأه من سجع الشيطان، انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم المسلمين، واشتدوا عليهم. وهذا أيضًا مرسل.

وفي تفسير ابن جرير عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام نحوه، وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه (دلائل النبوة) فلم يجز به موسى بن عقبة ].

يعني: لم يتجاوز موسى بن عقبة.

المقصود أن قصة الغرانيق، كلها أسانيدها مرسلة، يعني: ليس فيها حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو موقوف عن الصحابة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وساقه من مغازيه بنحوه قال: وقد روينا عن أبي إسحاق هذه القصة. قلت: وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا، وكلها مرسلات ومنقطعات، والله أعلم.

وقد ساقها البغوي في تفسيره مجموعة من كلام ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما بنحو من ذلك، ثم سأل هاهنا سؤالاً: كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله تعالى لرسوله صلاة الله وسلامه عليه؟ ثم حكى أجوبة عن الناس، من ألطفها: أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك، فتوهموا أنه صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كذلك في نفس الأمر، بل إنما كان من صنيع الشيطان لا عن رسول الرحمن صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.

وهكذا تنوعت أجوبة المتكلمين عن هذا بتقدير صحته. وقد تعرض القاضي عياض رحمه الله في كتاب (الشفاء) لهذا، وأجاب بما حاصله: أنها كذلك لثبوتها ].

كلام القاضي عياض في قصة الغرانيق

وقد أورد المحقق كلام القاضي عياض مختصراً. قال رحمه الله: فاعلم أكمرك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما: في توهين أصله. والثاني: على تسليمه.

أما المأخذ الأول: فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أصل الصحة ولا رواة ثقة بسند سليم متصل.. وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم.

وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال: لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته، واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته، فقائل يقول: إنه في الصلاة، وآخر يقول: قالها في نادي قومه حين أنزلت عليه السورة، وآخر يقول: قالها وقد أصابته سنة، وآخر يقول: بل حدث نفسه فسها، وآخر يقول: إن الشيطان قالها على لسانه، وإن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرضها على جبريل قال: ما هكذا أقرأتك، وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: (والله ما هكذا أنزلت).

إلى غير ذلك من اختلاف الرواة.

ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين لم يسندها أحد منهم، ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية.

والمرفوع فيه حديث شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال -فيما أحسب الشك في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة) وذكر القصة.

قال أبو بكر البزار : هذا لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد ، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير ، وإنما يعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس .

فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرفه من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبه عليه، مع وقوع الشك فيه -كما ذكرناه- الذي لا يوثق به، ولا حقيقة معه.

أما حديث الكلبي فمما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره؛ لقوة ضعفه وكذبه، كما أشار إليه البزار رحمه الله.

والذي منه في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: وَالنَّجْمِ [النجم:1]، وهو بمكة، فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس). هذا توهينه من طريق النقل.

أما من جهة المعنى، فقد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم، ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة، إما من تمنيه أن ينزل الله عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله، وهو كفر، أو يتسور عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن، حتى يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أن من القرآن ما ليس منه، حتى ينبهه جبريل عليه السلام، وهذا كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم.

أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمداً وذلك كفر، أو سهو، وهو معصوم من هذا كله.

ووجه ثان: هو استحالة هذه القصة نظراً وعرفاً، وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روي لكان بعيد الالتئام، متناقض الأقسام، ممتزج المدح بالذم، متخاذل التأليف والنظم، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ممن يخفى عليهم ذلك.

وهذا لا يخفى على أدنى متأمل، فكيف بمن رجح حلمه، واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه؟!!

ووجه ثالث: أنه قد علم من عادة المنافقين ومعاندي المشركين وضعفة القلوب والجهلة من المسلمين نفورهم لأول وهلة، وتخليط العدو على النبي صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة، وتعيرهم المسلمين والشماتة بهم الفينة بعد الفينة، وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة، ولم يحك أحد في هذه القصة شيئاً سوى هذه الرواية الضعيفة.

ووجه رابع: ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [الإسراء:73]، الآيتين.

وهاتان الآيتان تردان الخبر الذي رووه؛ لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، وأنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم.

فمضمون هذا ومفهومه: أن الله تعالى عصمه من أن يفتري، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلاً، فكيف كثيراً؟! وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم، وأنه قال صلى الله عليه وسلم: (افتريت على الله، وقلت ما لم يقل)، وهذا ضد مفهوم الآية، وهي تضعف الحديث لو صح، فكيف ولا صحة له؟! وهذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ [النساء:113].

وأما المأخذ الثاني: فهو مبني على تسليم الحديث لو صح. وقد أعاذنا الله من صحته، ولكن على كل حال فقد أجاب عن ذلك أئمة المسلمين بأجوبة منها الغث والسمين.

ثم ذكر الأجوبة على ذلك، وممن أنكرها الإمام ابن خزيمة وقال: هذا من وضع الزنادقة، وهذا هو الصواب.

للاستزادة: انظر: (الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير) لـمحمد أبي شهبة ، (ونصب المجانيق لإبطال قصة الغرانيق) لـمحمد ناصر الدين الألباني ، والله أعلم.

وعلى كل حال فالقصة هذه معروف أن طرقها كلها مرسلة.

أقوال المفسرين في قوله تعالى: (إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: إلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52]، هذا فيه تسلية من الله لرسوله صلوات الله وسلامه عليه، أي: لا يهديك فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء ].

لا يهيدنك، يعني: لا يضعفك.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال البخاري قال ابن عباس: (فِي أُمْنِيَّتِهِ): إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه، فيبطل الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته.

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52]، يقول: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه.

وقال مجاهد : إِذَا تَمَنَّى [الحج:52]، يعني: إذا قال، ويقال: أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52]، قراءته، إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78]، يقرءون ولا يكتبون.

قال البغوي: وأكثر المفسرين قالوا: معنى قوله: تَمَنَّى [الحج:52]، أي: تلا وقرأ كتاب الله، أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52]، أي: في تلاوته، قال الشاعر في عثمان رضي الله عنه حين قتل:

تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر ].

يعني: عثمان رضي الله عنه قرأ القرآن في أول الليلة، وفي آخرها لاقاه الحمام، يعني: الموت، وذلك حين قتل رضي الله عنه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الضحاك : إِذَا تَمَنَّى [الحج:52]، إذا تلا، قال ابن جرير : هذا القول أشبه بتأويل الكلام.

وقوله: فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ [الحج:52]، حقيقة النسخ لغة: الإزالة والرفع.

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي: فيبطل الله سبحانه وتعالى ما ألقى الشيطان.

وقال الضحاك : نسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته.

وقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ [الحج:52]، أي: بما يكون من الأمور والحوادث، لا تخفى عليه خافية، حَكِيمٌ [الحج:52] أي: في تقديره وخلقه وأمره له الحكمة التامة والحجة البالغة؛ ولهذا قال: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الحج:53]، أي: شك وشرك وكفر ونفاق، كالمشركين حين فرحوا بذلك، واعتقدوا أنه صحيح من عند الله، وإنما كان من الشيطان.

قال ابن جريج : لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الحج:53]، هم: المنافقون، وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ [الحج:53]، هم المشركون.

وقال مقاتل بن حيان : هم اليهود، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [الحج:53]، أي: في ضلال ومخالفة وعناد بعيد، أي: من الحق والصواب ].

تفسير قوله تعالى: (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك ...)

قال الله تعالى: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ [الحج:54].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أي: وليعلم الذين أوتوا العلم النافع الذي يفرقون به بين الحق والباطل، والمؤمنون بالله ورسوله أن ما أوحيناه إليك هو الحق من ربك، الذي أنزله بعلمه وحفظه وحرسه أن يختلط به غيره، بل هو كتاب عزيز، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].

وقوله: فَيُؤْمِنُوا بِهِ [الحج:54]، أي: يصدقوه وينقادوا له، فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ [الحج:54]، أي: تخضع وتذل له قلوبهم، وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الحج:54]، أي: في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق واتباعه، ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه، وفي الآخرة يهديهم الصراط المستقيم الموصل إلى درجات الجنات، ويزحزحهم عن العذاب الأليم والدركات ].

تفسير قوله تعالى: (ولا يزال الذين كفروا في مرية منه...)

قال الله تعالى: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [الحج:55-57].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى مخبراً عن الكفار: إنهم لا يزالون في مرية، أي: في شك من هذا القرآن، قاله ابن جريج واختاره ابن جرير .

وقال سعيد بن جبير وابن زيد : مِنْهُ [هود:17]، أي: مما ألقى الشيطان.

حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً [الحج:55]، قال مجاهد : فجأة. وقال قتادة : بَغْتَةً [الحج:55]، بغت القوم أمر الله، وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون.

وقوله: أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [الحج:55]، قال مجاهد : قال أبي بن كعب : هو يوم بدر، وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة وغير واحد، واختاره ابن جرير .

قال عكرمة ومجاهد في رواية عنهما: هو يوم القيامة لا ليل له. وكذا قال الضحاك والحسن البصري .

وهذا القول هو الصحيح، وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به، لكن هذا هو المراد؛ ولهذا قال: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ [الحج:56]، كقوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، وقوله: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [الفرقان:26] ].

ففي هذه الآيات الكريمات بيان حكمة الله سبحانه، وأنه ما أرسل من رسول إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، فقال تعالى: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ [الحج:53].

وقال: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ [الحج:54]، وقال: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ [الحج:55]. وهذه من الحكم: أن الله تعالى يجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض، وهم المنافقون والقاسية قلوبهم، وهم الكفار من اليهود والمشركين، وأما المؤمنون فيثبتهم الله، فيعلمون أنه الحق، فتخضع له قلوبهم.

قوله تعالى: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ [الحج:55]، أي: من هذا القرآن، والمرية: الشك، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [الحج:55]، وهو يوم القيامة، ويوم القيامة يوم طويل، وليس فيه ليل، ولكن فيه الشمس حارة، تدنو من الرءوس، فتكون قدر ميل من الرءوس، فيحصل للناس من الكرب والشدة ما الله به عليم، فيموج الناس بعضهم في بعض، ويذهبون إلى الأنبياء يطلبون منهم أن يسألوا ربهم الشفاعة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [الفرقان:26].

فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الحج:50]، أي: آمنت قلوبهم، وصدقوا بالله ورسوله، وعملوا بمقتضى ما علموا، وتوافق قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم ].

قوله: (وتوافق) على حذف إحدى التائين، والتقدير: وتتوافق قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم. وقوله: فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الحج:50]، فيها جمع بين الإيمان والعمل الصالح، فالإيمان إذا أطلق دخل فيه العمل، ولكن عطف العمل عليه لأهميته، فيكون العمل ذكر مرتين: مرة يكون داخلاً في مسمى الإيمان، والمرة الثانية: في العطف، والإيمان يتحقق بالعمل الصالح وهو جزء من الإيمان. والعمل الصالح: هو أداء الواجبات وترك المحرمات.

فإن قيل: إن الواو للعطف، والعطف يقتضي المغايرة، قلنا: ليس كل عطف يقتضي المغايرة. وقد يقال: إنه إذا عطف العمل على الإيمان صار غير داخل فيه، وإذا لم يعطف عليه دخل فيه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [يونس:9]، أي: لهم النعيم المقيم، الذي لا يحول ولا يزول ولا يبيد.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [الحج:57]، أي: كفرت قلوبهم بالحق وجحدته وكذبوا به، وخالفوا الرسل واستكبروا عن اتباعهم، فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [الحج:57]، أي: مقابلة استكبارهم وإبائهم عن الحق، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]، أي: صاغرين ].

تفسير قوله تعالى: (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً ... )

قال الله تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ * ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [الحج:58-60].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عمن خرج مهاجراً في سبيل الله ابتغاء مرضاته وطلباً لما عنده، وترك الأوطان والأهلين والخلان، وفارق بلاده في الله ورسوله، ونصرة لدين الله، ثُمَّ قُتِلُوا [الحج:58]، أي: في الجهاد، أَوْ مَاتُوا [الحج:58]، أي: حتف أنفهم من غير قتال على فرشهم، فقد حصلوا على الأجر الجزيل، والثناء الجميل، كما قال تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:100]، وقوله: لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا [الحج:58]، أي: ليجرين عليهم من فضله ورزقه من الجنة ما تقر به أعينهم، وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ [الحج:58-59]، أي: الجنة، كما قال تعالى: فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ [الواقعة:88-89]، فأخبر أنه يحصل له الراحة والرزق وجنة النعيم، كما قال هاهنا: لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا [الحج:58]، ثم قال: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ [الحج:59]، أي: بمن يهاجر ويجاهد في سبيله، وبمن يستحق ذلك،حَلِيمٌ [الحج:59]، أي: يحلم ويصفح ويغفر لهم الذنوب ويكفرها عنهم بهجرتهم إليه وتوكلهم عليه، فأما من قتل في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر فإنه حي عند ربه يرزق، كما قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، والأحاديث في هذا كثيرة كما تقدم ].

وهذا فيه تنويه بالمهاجرين والمجاهدين وفضلهم، فالمهاجر في سبيل الله والمجاهد ثوابهما عظيم وأجرهما كبير، ولهذا نوه الله بفضل المجاهد في هذه الآية، قال تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ [الحج:58-59]، وهذا فيه وعد بالرزق الحسن، وما بالك برزق وصفه الله بأنه حسن؟! وإدخالهم مدخلاً يرضونه، فهم أحياء عند ربهم، وأرواحهم تتنعم بواسطة حواصل طير خضر تسرح في الجنة، ترد أنهارها وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح وهذا خاص بالشهداء.

وأما المؤمن غير الشهيد فإنه إذا مات فإن روحه تنقل إلى الجنة، وتتنعم وحدها، وتأخذ شكل طائر، كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (نسمة المؤمن على طائر علق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه)، يعني: أنه يأكل من شجر الجنة يتنعم وحده.

فالشهيد أفضل تنعماً، فإن روحه تتنعم بواسطة حواصل طير خضر؛ لأنهم بذلوا أجسادهم وأتلفوها في الله فعوضهم الله أجساداً أخرى تتنعم بواسطتها، وأما المؤمن غير الشهيد فإن روحه تتنعم وحدها؛ لأن المؤمن إذا مات تنقل روحه إلى الجنة، والكافر تنقل روحه إلى النار، والعياذ بالله، ولها صلة بالجسد؛ بأن تتنعم أو تعذب بواسطة الجسد، ولكن النعيم والعذاب في البرزخ على الروح أكمل، والأحكام على الروح أغلب.

وكذلك أيضاً الشهيد له فضل عظيم، ومن ذلك: أنه يأمن من الفتان في القبر، ولا يناله من الألم عند موته إلا كما يألم من قرصته عقرب، أي: إلا من جنس ألم القرصة، ويجري عليه رزقه كل يوم، وله فضل عظيم.

والهجرة من بلاد الكفار واجبة مع القدرة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما من توفي في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر فقد تضمنت هذه الآية الكريمة مع الأحاديث الصحيحة إجراء الرزق عليه، وعظيم إحسان الله إليه.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا المسيب بن واضح حدثنا ابن المبارك عن عبد الرحمن بن شريح ، عن ابن الحارث يعني: عبد الكريم عن ابن عقبة يعني: أبا عبيدة بن عقبة قال: قال شرحبيل بن السمط: طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم، فمر بي سلمان يعني: الفارسي رضي الله عنه، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من مات مرابطاً أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر، وأجرى عليه الرزق، وأمن من الفتانين، واقرءوا إن شئتم: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ [الحج:58-59]) ].

الفتانان هما منكر ونكير، وفيه أن من مات مرابطاً في سبيل الله أجرى الله عليه الرزق كل يوم، وأمن من الفتان، أي: فتان القبر، وهو السؤال، وجاء في الحديث الآخر: (قيل: يا رسول الله! هل يفتن الشهيد في قبره؟ قال: كفى ببارقة السيف على رأسه فتنة). وهذا من خصائص الشهيد: أنه لا يفتن، ولا يسأل. والله تعالى يقول: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:100]، فإذا مات في سبيل الله أو قتل فهو شهيد.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال أيضاً: حدثنا أبو زرعة حدثنا زيد بن بشر أخبرني همام أنه سمع أبا قبيل وربيعة بن سيف المعافري يقولان: كنا برودس، ومعنا فضالة بن عبيد الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر بجنازتين: إحداهما: قتيل، والأخرى متوفى، فمال الناس على القتيل، فقال فضالة : ما لي أرى الناس مالوا مع هذا، وتركوا هذا؟! فقالوا: هذا القتيل في سبيل الله، فقال: والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت، اسمعوا كتاب الله: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا [الحج:58]، حتى بلغ آخر الآية ].

يعني: أن الله تعالى سوى بين من قتل أو مات فحكم كل منهما أنه شهيد، فمن مات وهو في الطريق أو في وقت القتال أو في غير وقت القتال فحكمه حكم الشهيد. كما قال تعالى في الآية: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:100].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال أيضاً: حدثنا أبي حدثنا عبدة بن سليمان أنبأنا ابن المبارك أنبأنا ابن لهيعة حدثنا سلامان بن عامرالشيباني أن عبد الرحمن بن جحدم الخولاني حدثه: أنه حضر فضالة بن عبيد في البحر مع جنازتين، أحدهما أصيب بمنجنيق والآخر توفي، فجلس فضالة بن عبيد عند قبر المتوفى، فقيل له: تركت الشهيد فلم تجلس عنده؟ فقال: ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت، إن الله يقول: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا [الحج:58]، الآيتين.

فما تبتغي أيها العبد إذا أدخلت مدخلاً ترضاه، ورزقت رزقًا حسنًا والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت ].

وذلك لأن الله تعالى أخبر أن من قتل أو مات له هذان الرزقان: أن يرزقه الله رزقاً حسناً، ويدخله مدخلاً يرضاه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ورواه ابن جرير عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب أخبرني عبد الرحمن بن شريح عن سلامان بن عامر قال: كان فضالة برودس أميراً على الأرباع، فخرج بجنازتي رجلين: أحدهما: قتيل، والآخر: متوفى، فذكر نحو ما تقدم ].

بيان معنى قوله تعالى: (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به...)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ [الحج:60]، الآية.

ذكر مقاتل بن حيان وابن جرير : أنها نزلت في سرية من الصحابة لقوا جمعاً من المشركين في شهر محرم، فناشدهم المسلمون لئلا يقاتلوهم في الشهر الحرام، فأبى المشركون إلا قتالهم، وبغوا عليهم، فقاتلهم المسلمون، فنصرهم الله عليهم، إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [الحج:60] ].

فقوله تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ [الحج:60]، يعني: أن المسلمين قاتلوا دفاعاً ولم يبتدئوا بالقتال في الشهر الحرام، وإنما قاتلهم المشركون، فعاقبهم الله بنصر المسلمين عليهم.

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله يولج الليل في النهار... وأن الله هو العلي الكبير)

قال الله تعالى: [ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج:61-62] ].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى منبهاً على أنه الخالق المتصرف في خلقه بما يشاء، كما قال: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:26-27]، ومعنى إيلاجه الليل في النهار والنهار في الليل إدخاله من هذا في هذا، ومن هذا في هذا، فتارة يطول الليل ويقصر النهار، كما في الشتاء، وتارة يطول النهار ويقصر الليل، كما في الصيف ].

أي: من حكمة الله تعالى أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، بحيث: يدخل هذا في هذا، وهذا في هذا، ففي فصل الشتاء يولج الليل في النهار، فيطول الليل حتى ينتهي في الطول، في شدة البرد، والنهار ينتهي في القصر، ثم يولج النهار في الليل، فلا يزال النهار يأخذ من الليل حتى يتساوى الليل والنهار، في أول فصل الربيع، ثم لا يزال النهار يطول حتى ينتهي النهار في الطول في شدة الحر في شدة الصيف، وينتهي الليل في القصر، ثم يولج الليل في النهار، فيأخذ الليل من النهار، ولا يزال يأخذ حتى يتساوى الليل والنهار، في فصل الخريف، ثم لا يزال الليل يطول حتى ينتهي الطول في فصل الشتاء، وهكذا. ولله الحكمة البالغة. وبهذا تحصل الفصول الأربعة: الربيع، والخريف، والشتاء، والصيف، ويتساوى الليل والنهار في أول فصل الخريف، وفي أول فصل الربيع، مرتين، وينتهي الليل في الطول في الشتاء، وينتهي النهار في الطول في الصيف.

إثبات الأسماء والصفات لله تعالى

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج:61] أي: سميع بأقوال عباده، بصير بهم، لا يخفى عليه منهم خافية في أحوالهم وحركاتهم وسكناتهم ].

فالسميع والبصير اسمان من أسماء الله، وفيهما إثبات السمع والبصر لله، وأسماء الله مشتقة ومشتملة على المعاني والصفات، فاسم الله السميع فيه إثبات صفة السمع، فهو سميع بسمع، واسم الله البصير فيه إثبات البصر لله، فهو بصير ببصر، خلافاً للمعتزلة الذين يثبتون الأسماء بدون معان، وبدون صفات، ويقولون: سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وهذان الاسمان هما من الصفات الذاتية الملازمة لذات الرب التي لا تنفك عنه سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق ...)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولما تبين أنه المتصرف في الوجود، الحاكم الذي لا معقب لحكمه، قال: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ [الحج:6]، أي: الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له؛ لأنه ذو السلطان العظيم، الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وكل شيء فقير إليه، ذليل لديه، وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62]، أي: من الأصنام والأنداد والأوثان، وكل ما عبد من دونه تعالى فهو باطل؛ لأنه لا يملك ضراً ولا نفعاً].

إثبات صفة العلو والعظمة لله سبحانه

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج:62]، هذه الآية فيها إثبات صفة الألوهية لله عز وجل، وأنه الإله المعبود بحق وأن كل معبود سواه فهو معبود بباطل، كما قال: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255]، وقال: الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد:9]، فكل شيء تحت قهره وسلطانه وعظمته، لا إله إلا هو، ولا رب سواه؛ لأنه العظيم الذي لا أعظم منه، العلي الذي لا أعلى منه، الكبير الذي لا أكبر منه، تعالى وتقدس وتنزه عز وجل عما يقول الظالمون المعتدون علواً كبيراً ].

في هذه الآية إثبات اسمي العلي والكبير لله، فهو سبحانه وتعالى علي متصف بالعلو، فله علو الذات، فذاته علية فوق العرش وفوق السماوات، وله علو القدر والشأن والعظمة، وله علو القهر والسلطان، فالعلو أنواعه ثلاثة، وكلها ثابتة لله: علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات كما قال العلامة ابن القيم :

والفوق أنواع ثلاث كلها لله ثابتة بلا نكران

والكبير أيضاً من أسماء الله، فهو سبحانه وتعالى المعبود بالحق، وكل معبود سواه فهو معبود بباطل، فالشمس والقمر والنجوم والكواكب والأشخاص والأصنام والأوثان كلها عبدت بالباطل، والعبادة بحق هي عبادة الله: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج:62]، وقد ورد اسم الكبير أيضاً في قوله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد:9]، ففيهما إثبات اسم الكبير والمتعال الذي تفرد بالعبودية فيقال: عبد الكبير، عبد المتعال. وبعض الناس يسميه عبد العال، والعال ليس من أسماء الله، وإنما من أسمائه المتعال، كما في هذه الآية، فينبغي أن يقال: عبد المتعال، وكل اسم ثبت لله يعبد به، مثل: عبد العلي، عبد المتعال، عبد الجبار، عبد العليم، عبد السميع، عبد البصير.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الحج [52-62] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

https://audio.islamweb.net