إسلام ويب

من الفرق التي انحرفت في فهم أسماء الله تعالى وصفاته فرقة الأشاعرة، حيث اعتمدت دليل العقل وقدمته على دليل الشرع، فأثبت أتباعها سبع صفات الله تعالى دل عليها دليل العقل القطعي الذي وافقه دليل الشرع، وما عدا ذلك فقد فوض بعضهم معناه وكيفيته، وأوله آخرون لظنية دليل الشرع الذي أثبته، كما أنهم والفرق المنحرفة الأخرى يعتقدون أن الإثبات تجسيم لله تعالى وتشبيه له بالمخلوقين.

بيان مذهب الأشاعرة في الصفات

عرفنا مما سبق أن العلماء قسموا التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية، وعرفنا الفرق التي انحرفت وأنكرت توحيد الربوبية، وشذت بذلك عن البشرية، وعرفنا الفرق التي انحرفت في باب الأسماء والصفات، وهي فرق التعطيل: الجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، وأشدها انحرافاً الجهمية، ثم المعتزلة، ثم الأشاعرة.

وسبق الكلام عن الجهمية والمعتزلة، والحديث هنا سيكون عن الفرقة الثالثة إن شاء الله، وهي فرقة الأشاعرة.

والأشاعرة هم الذين ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري رحمه الله، فإن أبا الحسن الأشعري كان على مذهب المعتزلة أربعين سنة، ثم تحول إلى مذهب وسط، ثم بعد ذلك هداه الله، فاعتقد معتقد أهل السنة والجماعة، وقرر ذلك في كتبه، لكن بقيت أشياء يسيرة مأخوذة عليه ذكرها العلماء.

ومن العجيب أن الأشاعرة ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري مع أنه قد رجع عن معتقده السابق، واستمر هؤلاء على ما كان عليه سابقاً، وأما هو فقد رجع عنه وقرر معتقد أهل السنة والجماعة.

ومذهب الأشاعرة مذهب واسع الانتشار في الأرض، فقد عم كثيراً من أرجائها، وقد اعتنق هذا المذهب كثير من أهل الكلام، ومن أهل التصوف، ومن المحدثين، ومن الفقهاء من فقهاء الحنابلة والشافعية والمالكية والأحناف، حتى وقع في هذا المذهب بعض المحدثين الكبار، كالحافظين ابن حجر والنووي رحمة الله عليهما على جلالة قدرهما ومنزلتهما العظيمة في علم الحديث، فقد سلكا في الصفات مسلك الأشاعرة، وذلك بسبب أنهما نشأا منذ الصغر على هذا المذهب، وظنا أنه هو الحق، وأن هذا هو التنزيه، والإنسان إذا لم يوفق من أول أمره في المسير على معتقد أهل السنة والجماعة فإنه ينشأ على ما نُشِّئ عليه.

وقد نجد في بعض الأوقات أن هذا المذهب انتشر فيها انتشاراً كثيراً، وفي مقابل ذلك ينحصر مذهب أهل السنة والجماعة، فيحصل اللبس، ويظن بعض الناس أن مذهب الأشاعرة هو مذهب أهل السنة، حتى إن الأشاعرة أنفسهم يسمون أنفسهم أهل السنة، ومن هنا حصل اللبس، حتى قال السفاريني رحمه الله في عقيدته: إن أهل السنة ثلاث طوائف: الأشاعرة والماتريدية وأهل الحديث، فجعل الجميع من أهل السنة.

وإن للأشاعرة شبهاً قوية قد يتأثر بها طالب العلم إذا كان في ابتداء الطلب ولم يكن عنده بصيرة، وقد تجرد الأئمة والعلماء للرد عليهم، كشيخ الإسلام ابن تيمية ، والعلامة ابن القيم في كثير من كتبهما، وأبانا المعتقد الحق، وهو معتقد أهل السنة والجماعة الذي تقرره النصوص الشرعية، وتشهد له العقول الصحيحة، والفطر المستقيمة.

ما يثبته الأشاعرة من صفات الله تعالى

والمعروف المشهور عن الأشاعرة في الصفات أنهم يثبتون سبع صفات لله عز وجل، وهي: الحياة، والعلم، والإرادة، والسمع، والبصر، والقدرة، والكلام، وقد نظمها بعضهم فقال:

له الحياة والكلام والبصر سمع إرادة وعلم واقتدر

ومنهم من يثبت عشرين صفة، ومنهم من يثبت أربعين، لكن المشهور عنهم إثبات هذه الصفات السبع فقط، وأما ما عداها من الصفات فإنهم ينفونها ولا يثبتونها.

وهم في نفيها يسلكون أحد مسلكين: المسلك الأول: أن يرجعوها إلى معنى الصفات السبع، المحبة في قوله تعالى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] يقولون عنها: يريد أن يحبهم، فيرجعونها إلى معنى الإرادة، وهي من الصفات السبع التي يثبتونها.

والمسلك الثاني: أنهم يفسرونها ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات التي هي أثر من آثار الصفات، ولا يفسرونها بالصفات، فيفسرون اليد -مثلاً- بالنعمة، وأحياناً يفسرونها بالقدرة؛ لأن القدرة من الصفات التي يثبتونها، ويفسرون الغضب بالانتقام، والانتقام أثر من آثار الغضب وليس هو الغضب، ويفسرون الرضا بالثواب، والثواب أثر من آثار الرضا، ويفسرون الرحمة بالإنعام.

فقيل لهم: لماذا نفيتم هذه الصفات وأثبتم الصفات السبع، ولم يكن مسلككم في الصفات واحداً كما فعل أهل السنة، فإن الباب واحد، والقول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، فكيف تفرقون بين الصفات فتنفون بعضها وتثبتون بعضها؟!

وهذه القاعدة من الأصول التي رد بها أهل السنة على الأشاعرة، وهي أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، فباب الصفات باب واحد.

فيجب إثبات الصفات لله جميعاً كما يجب إثبات الأسماء، ولا يجوز للإنسان أن يفرق بين الصفات فيثبت بعضها وينفي البعض الآخر.

فقالوا: إن إثبات غير الصفات السبع يلزم منه التشبيه والتمثيل؛ لأننا لا نشاهد في الخارج متصفاً بغير الصفات السبع إلا ما هو جسم، والأجسام تتشابه، فلذلك نفينا هذه الصفات عن الله، فالله ليس له مثيل ولا يشبهه شيء من مخلوقاته، قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]. فقصدنا من نفي بقية الصفات غير الصفات السبع تنزيه الله عز وجل عن مشابهة المخلوقات والأجسام، فلا نرى من يغضب ويرضى ويرحم إلا المخلوق، فإذا قلنا إن الله يغضب ويرضى ويرحم ويكره فقد شبهناه بالمخلوق، والله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11].

فقال لهم أهل السنة: إذا كنتم نفيتم بقية الصفات خوفاً من التشبيه والتمثيل؛ لأنكم لا تشاهدون متصفاً بهذه الصفات إلا ما هو جسم، فيلزمكم -أيضاً- أن تنفوا الصفات السبع؛ لأنكم لا تشاهدون متصفاً بالصفات السبع إلا ما هو جسم، فالمخلوق يتصف بالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، فكيف تثبتون سبع صفات مع أن هذه الصفات السبع موجودة في المخلوقات؟! فقالوا: إن هذه الصفات السبع نثبتها على وجه لا يماثل فيه الخالق المخلوق ولا يشابهه، فلا يلزم من إثباتها التمثيل.

فقال لهم أهل السنة والجماعة: وكذلك بقية الصفات يجب عليكم أن تثبتوها لله على وجه لا يماثل فيها الخالق صفات المخلوقين، فاسلكوا فيها ما سلكتم في الصفات السبع، فإذا كنتم تثبتون الصفات السبع على وجه لا يماثل الرب فيها صفات المخلوقين، فكذلك اثبتوا بقية الصفات على وجه لا يماثل فيها الرب صفات المخلوقين.

فقالوا: إن هناك فرقاً بين الصفات السبع وبين غيرها، وهذا الفرق هو الذي حملنا على أن نفرق بينها فنثبت الصفات السبع ولا نثبت بقية الصفات، وهو أن الصفات السبع دل عليها العقل مع الشرع، فأثبتناها، وأما بقية الصفات فإنه لم يدل عليها العقل وإنما دل عليها الشرع، ودلالة الشرع ظنية محتملة وليست صريحة.

وهذا الاستدلال مبني على قاعدتهم الفاسدة، وهي قاعدة لأهل البدع عموماً، وهي: أن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، وأدلة القرآن والسنة دلالتها لفظية لا تفيد اليقين، والذي يفيد اليقين هو دليل العقل، ويسمون الأدلة العقلية قواطع عقلية، وبراهين يقينية، وأما دلالة النصوص فهي دلالة لفظية محتملة لا تفيد اليقين ولا القطع.

وهذا من البلاء والمصائب، أعني اعتقاد أن دلالة النصوص ظنية لا تفيد اليقين، وقد جعله ابن القيم رحمه الله طاغوتاً، وحكم عليه بالكفر؛ لأنه منعهم من العمل بالنصوص والأخذ بها واعتقاد أنها تفيد اليقين، وهذا من أبطل الباطل، ويلزم بهذا لوازم فاسدة، منها أنه لا يوثق بالكلام ولا بالعقود، فإذا عقد الإنسان مع آخر عقد بيع فهذا لفظ يمكن ألا يتم به البيع، فله الفسخ، وإذا عقد عقداً للنكاح فإنه يقول: هذا عقد لفظي يمكن ألا يتم به النكاح، وهكذا.

ويلزم منه فساد المعاملة، وفساد الدنيا والآخرة، ويلزم منه أن كلام الله وكلام الرسول لا يوثق بهما ولا يعمل بهما، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم رحمهما الله تعالى.

وهذا الطاغوت يجب كسره، وقد كسره ابن القيم رحمه الله تعالى.

فالمقصود أن هذه الشبهة أو هذا الطاغوت يتعلق به جميع أهل البدع، فالأشاعرة يقولون: إننا أثبتنا الصفات السبع لأنها دل عليها العقل مع الشرع، والعقل دليل قطعي، بخلاف بقية الصفات، فإنها لم يدل عليها العقل، وإنما دل عليها الشرع، ودلالة الشرع ظنية محتملة، فلذلك لم نثبتها.

فمثلاً: الفعل الحادث المتجدد يدل على القدرة، فهذا يخلق، وهذا يولد، وهذا يموت، وهذا نبات ينبت، وهذا يزول، وهذا غني، وهذا فقير، وهذا عزيز، وهذا ذليل، وهذه دولة تزول، وهذه دولة تنشأ، وهكذا، فهذا الفعل الحادث يدل على القدرة وأن الله قادر، فلذلك أثبتنا القدرة.

قالوا: وتخصيص بعض المخلوقات بخواص دون الأخرى يدل على الإرادة، فمثلاً: تخصيص هذا بالعلم، وهذا بالعقل، وهذا بالغنى، وهذا بالفقر، وهذا بالملك، وهذا بكونه مملوكاً، وهذا بالإمارة، وهذا بالوزارة، وهذا بالصعلكة، وهذا بكونه بطيء الغضب، وهذا بكونه سريع الغضب، هذا التخصيص يدل على أن الله مريده.

وكون الأحكام في غاية السداد والملاءمة في الأحوال يُدل على العلم، فهذا لا يصدر إلا عن علم، فأحكام الله الشرعية، وأحكام الله الجزائية، وأحكام الله القدرية في غاية السداد والملاءمة للأحوال، وهي تدل على العلم.

قالوا: فثبت لنا صفات القدرة والإرادة والعلم، وهذه الصفات الثلاث تستدعي الحياة، فلا تصدر إلا عن حي، فثبتت بذلك صفة الحياة، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضد ذلك، والله له الكمال، فيتصف -إذاً- بالسمع والبصر والكلام.

قالوا: فثبتت لنا الصفات السبع بالعقل مع الشرع، والدليل العقل دليل قطعي، فالعمدة عليه، والشرع جاء موافقاً له، فاعتمدنا إثبات الصفات السبع، وأما بقية الصفات السبع فإنها لم يدل عليها العقل، ودلالة النصوص عليها دلالة ظنية محتملة لا تفيد اليقين، ولذلك لا نجزم بأن هذه الصفات ثابتة لله.

رد أهل السنة على الأشاعرة في طريقة الاستدلال

فقال لهم أهل السنة والجماعة: لنا جوابان عن هذا:

الجواب الأول: جواب بالمنع، والجواب الثاني: جواب بالتسليم.

فالجواب الأول -جواب المنع- نقول: نمنع أن يكون العقل قد دل على الصفات السبع ولم يدل على ما سواها، بل إن العقل يدل على الصفات السبع ويدل على بقية الصفات أيضاً، ونحن نثبت لكم أن العقل يدل على بقية الصفات كما دل على الصفات السبع، فمثلاً: نفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة، فإذا كان الله تعالى ينفع عباده، ويحسن إليهم، فهذا يدل على الرحمة، فثبتت بذلك صفة الرحمة، وإكرام الله للطائعين ونصره لهم في الدنيا على أعدائهم يدل على المحبة، فثبتت لنا المحبة، وعقاب الله للكافرين وتسليطه المؤمنين عليهم يدل على البغض، وعقوبته لهم في الدنيا والآخرة يدل على البغض، فثبتت بذلك صفة البغض، والغايات المحمودة في مفعولات الله ومأموراته تدل على الحكمة البالغة، فحينما أوجب القصاص، وقطع يد السارق، وجلد الزاني، فهذه أراء محمودة تؤدي إلى الزجر عن المعاصي، فالغايات المحمودة في مأمورات الله الشرعية وفي مفعولاته تدل على حكمته البالغة، فثبتت الحكمة بالأصل، إذاًً فثبتت الرحمة والمحبة والحكمة بالعقل.

فنقول لهم: فلماذا لم تثبتوها -مع أن العقل قد أثبتها- كما أثبتم الصفات السبع؟! فهذا منكم تفريق بين متماثلين، وهو مكابرة منكم.

والجواب الثاني -وهو الجواب بالتسليم- أن يقال لهم: سلمنا تنازلاً مع الخصم أن العقل يدل على الصفات السبع ولا يدل على ما عداها، لكنه لا ينفي ذلك، وكون العقل لا ينفيها لا يدل على أنها ليست ثابتة في نفس الوقت، بل أثبت سبعاً وسكت عن الباقي، وإذا سكت عنها فليس معناه أنه ينفيها، بل قد دل دليل آخر عليها بأنها ثابتة، فالأدلة متعددة وليست محصورة في العقل، فإذا كان العقل لا يثبتها فهو لا ينفيها، وكونه لا ينفيها لا يدل على أنها ليست ثابتة في نفس الأمر؛ لجواز أن تكون ثابتة بدليل آخر، وهو الواقع هنا، فالعقل لم يثبتها لكن أثبتها الشرع، والشرع دليل مستقل بنفسه، كما أن العقل دليل مستقل، والطمأنينة إلى الشرع في باب الاعتقاد أقوى من الطمأنينة إلى العقل، فإذا كان الدليل العقلي يثبت الصفات السبع والدليل الشرعي يثبت بعض الصفات، وهذا دليل وهذا دليل، وكلاهما دليل معترف به، والطمأنينة إلى الدليل الشرعي في باب الاعتقاد أقوى من الطمأنينة إلى العقل؛ فما الذي سوغ لكم نفي مدلول الدليل الشرعي مع أنه دليل ومعترف به؟! فإثباتكم للصفات السبع بالعقل ونفيكم لما عداها -مع أن بقية الصفات قد دل عليها دليل آخر مماثل للعقل- مكابرة منكم.

وبهذا يبطل ما ذهب إليه الأشاعرة من التفريق بين الصفات من إثبات بعضها ونفي بعضها، ويتبين من هذا أن الأشاعرة متناقضون، فهم يفرقون بين الصفات مع أن الباب واحد، والقول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر.

ولهذا تسلط عليهم المعتزلة، فقالوا لهم: مذهبكم هذا غير معقول وغير متصور، بل أنتم مذبذبون، فكيف تثبتون بعض الصفات وتنفون البعض؟! فإما أن تثبتوا الجميع فتكونوا أعداء لنا كأهل السنة، أو تنفوا الجميع فتكونوا إخواناً لنا من جميع الوجوه.

فليس لكم إلا واحد من أمرين: أن تنفوا السبع الصفات فتكونوا معتزلة مثلنا، أو تثبتوا بقية الصفات فتكونوا مشبهة مجسمة -لأنهم يسمون أهل السنة مشبهة ومجسمة- أما أن تبقوا مذبذبين فهذا لا يصح؛ لأنه تناقض.

دحض شبهة أهل التعطيل

فالشبهة التي يعتمد عليها جميع فرق أهل التعطيل من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة هي أنهم يقولون: يلزم من إثبات الصفات التشبيه والتجسيم، والأجسام تتشابه، والله ليس له شبيه ولا مثيل، والأشاعرة يقولون: يلزم من إثبات الصفات -عدا الصفات السبع- التشبيه والتجسيم، والمعتزلة يقولون: يلزم من إثبات الصفات التشبيه والتجسيم، بخلاف الأسماء، فإنه لا يلزم منه التشبيه أو التجسيم عندهم.

والجهمية يقولون: يلزم من إثبات الأسماء والصفات جميعاً التشبيه والتجسيم؛ لأننا لا نرى متصفاً بهذه الصفات أو مسمى بهذه الأسماء إلا وهو جسم، والله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، لكنهم عموا عن آخر الآية: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وهذه طريقة أهل البدع، فإنهم يقولون ببعض النصوص ويتركون البعض الآخر، فأخذوا بقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] وعموا عن قوله: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

ولما أصلوا هذه الشبهة واعتمدوا عليها، ثم جاءت النصوص في إثبات الصفات صاروا مترددين بين أحد أمرين: إما أن يسلكوا مسلك التفويض، وإما أن يسلكوا مسلك التحريف، وهذا يسمونه تأويلاً، والتفويض معناه: أن يسكتوا عن تفسير معناها ويعتقدوا أنها ليس لها معنى، ويفوضون المعنى إلى الله، فيقولون: لا نعلم معناها، فالعلم والقدرة والاستواء لا نعلم معناها، وطريقة التفويض هذه نسبوها إلى السلف زوراً وبهتاناً، والصحيح أنها ليست طريقة السلف، فالسلف يعرفون المعنى، وهؤلاء يفوضون ويقولون: لا نعلم معناها، فلفظ (استوى) والعلم والقدرة والسمع مثل الحروف الأعجمية، فكما أن العربي لا يفهم معنى الحروف الأعجمية فكذلك لا يفهم معنى (استوى) والقدرة والعلم والسمع والبصر... إلى آخر الصفات.

وهذه الطريقة يسمونها طريقة التفويض، وهي باطلة؛ لأنها ليست طريقة السلف، وطريقة السلف هي إثبات المعنى وتفويض الكيفية، ولهذا لما سئل الإمام مالك رحمه الله عن الاستواء قال: الاستواء معلوم -أي: معلوم معناه في اللغة العربية- والكيف مجهول، يعني أن الكيفية مجهولة، فلا نعلم كيف اتصف بهذه الصفة، فهذا هو الذي نفوضه إلى الله.

ولهذا فسر العلماء الاستواء بالاستقرار والصعود والعلو والارتفاع، لكن كيفية استواء الرب أمر مجهول، وهو الذي نفوضه؛ لأنه لا يعلم كيفية الاستواء إلا هو، ولا يعلم كيفية النزول إلا هو، ولا يعلم كيفية العلم إلا هو، ولا يعلم كيفية القدرة إلا هو، وهكذا يقال في جميع الصفات، فالصفة معلومة، والكيف مجهول، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة، لكن هؤلاء سلكوا مسلك التفويض، فهم يفوضون المعنى لا الكيفية، وهذا غلط.

الطريق الثاني: طريق التحريف، وهم يسمونه تأويلاً، وهو أن يخترعوا للصفات معاني يبتدعونها من عند أنفسهم، فمثلاً صفة اليد قالوا: معناها القدرة، والرحمة معناها: النعمة، والرضا معناه: الثواب أو الإنعام، والغضب معناه: العقاب، وهكذا، فهذه طريقة التحريف الذي يسمونه تأويلاً.

ويقولون: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وقصدهم بطريقة السلف طريقة التفويض، وهذا من أبطل الباطل، فليست هذه ولا تلك طريقة السلف، بل طريقة السلف هي إثبات معاني الصفات، فهم يثبتونها، وإثباتهم لها على ما يليق بجلاله وعظمته، ويقولون: كيفية الصفات لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فكما أن ذاته لا تشبه الذوات فكذلك صفاته لا تشبه الصفات، فنحن نقطع ونجزم بأن لله صفات لكنها صفات لا تشبه صفات المخلوقين، فنحن نثبتها لله ونعلم معناها، لكن لا نعلم الكيفية هذه هي الشبهة التي يعتمد عليها أهل البدع، وقد رددنا عليها تفصيلاً، فقد رددنا على الجهمية، ثم على المعتزلة، ثم على الأشاعرة.

وهناك جواب إجمالي -وهو نافع ومفيد- على هذه الشبهة التي يعتمد عليها جميع فرق المعطلة، وهو أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى أثبت لنفسه الصفات، وأثبت لنفسه الأسماء، وكذلك أثبتها له رسوله، وفي المقابل نفى عن نفسه المشابهة والمثل فقال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] وقال: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ [النحل:74] وقال: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65].

فالله تعالى نفى عن نفسه المشابهة والمماثلة، فلو كان يلزم من إثبات الصفات التشبيه والتمثيل لما أثبتها تعالى لنفسه، فالقرآن والسنة أثبتا الصفات، ونفيا التمثيل والتشبيه.

ومع نفيه سبحانه عن نفسه المشابهة أثبت لنفسه الصفات في نص واحد، فقال سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] فهنا نفى عن نفسه المماثلة، ثم أثبت لنفسه الصفات فقال: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وقال: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ [النحل:74] فنهى عن ضرب الأمثال له، ثم قال: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:74]، فأثبت لنفسه العلم.

فلو كان نفي المماثلة يستلزم نفي الصفة لما أثبت الله الصفة لنفسه، وللزم من ذلك التناقض في كلام الله وكلام رسوله، وحاشا أن يكون في كلام الله تناقض، فالله ينفي عن نفسه المماثلة ويثبت لنفسه الصفات في نص واحد، فلو كان إثبات الصفة تمثيلاً للزم التناقض في كلام الله؛ لأنه القائل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] فهذا نفي المماثلة، وقال: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] ومن المعلوم أنه ليس هناك شيئان في الوجود إلا وهناك قدر مشترك بينهما، فيشتركان في مسمى الشيء، ووجوده في الذهن، فكل شيئين في الدنيا بينهما اشتراك في الذهن يشتركان فيه، لكن متى يكون هذا الاشتراك؟! يكون عند القطع عن الإضافة والتخصيص، وهذا لا يلزم منه المشابهة والمماثلة في الخالق، فليس هناك شيئان إلا وبينهما قدر مشترك يشتركان فيه في الذهن، فهناك تشابه لا بد منه في الذهن، ومن نفى التشابه فقد نفى وجود الله، ونفى صفاته، كما قرر ذلك الإمام أحمد رحمه الله في رسالته: (الرد على الزنادقة)، وكما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية ، فمن قال: إن الله لا يشبه المخلوقات بوجه من الوجوه فقد أنكر وجود الله، بل هناك وجه تحتمله المشابهة، وهو القطع عن الإضافة والتخصيص في الذهن لا في الخارج، وهو مسمى الشيء والوجود.

فكلمة (شيء) وكلمة (موجود) تشملان الخالق والمخلوق، فالله شيء، قال تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام:19] والله موجود، والمخلوق شيء، وهو موجود، فهذا اشتراك في الذهن وليس في الخارج، ويزول هذا الاشتراك عند الإضافة والتخصيص، فنقول: وجود الله، ووجود المخلوق، فينتهي الاشتراك، فوجود الله أكمل من وجود كل موجود، ووجود المخلوق ناقص مسبوق بالعدم، وأيضاً يلحقه النقص من النوم والموت، بخلاف وجود الخالق سبحانه.

إذاً: فليس هناك شيئان إلا وهما يشتركان في مسمى الشيء ووجوده، فلفظ (موجود) لا يلزم منه الاشتباه في مسمى الأمر ووجوده الذي هو أمر ذهني، ولا ينسحب هذا الاشتباه إلى الاشتباه عند وجوده في الخارج، وهذا هو أصل بلاء المعطلة الذين ظنوا أن الاشتباه الذي يكون في الذهن في مسمى الشيء والوجود ينسحب إلى المماثلة في الخالق، وهذا باطل.

فالعرش والبعوضة والفيل تشترك في مسمى الشيء ووجوده، فالبعوضة شيء، والعرش شيء، والفيل شيء، فهل يقول عاقل: إن اشتراك البعوضة والفيل أو العرش في مسمى الشيء والوجود يلزم منه الاشتراك في الصفات؟ لا يقول بذلك أحد، وهذا عند القطع عن الإضافة والتخصيص، لكن إذا قلت: وجود الفيل، ووجود البعوضة، ووجود العرش، فلا اشتراك حينئذ؛ لأنك أضفت وخصصت، وإنما يوجد الاشتراك عند القطع عن الإضافة والتخصيص، وهو يكون في الذهن.

وكذلك أسماء المخلوقين وصفات المخلوقين تشارك أسماء الله وصفاته عند القطع عن الإضافة والتخصيص، وهذا يكون في الذهن، فإذا قيل: هل لفظ العلم، ولفظ القدرة، ولفظ السمع، ولفظ البصر، فيها اشتراك؟ قلنا: نعم؛ لأن السمع يشمل سمع الخالق وسمع المخلوق، والبصر يشمل بصر الخالق وبصر المخلوق، والعلم يشمل علم الخالق وعلم المخلوق، والقدرة تشمل قدرة الخالق وقدرة المخلوق، ويزول الاشتباه عند الإضافة والتخصيص، فتقول: علم الخالق، وعلم المخلوق، وقدرة الخالق وقدرة المخلوق، وهكذا بقية الصفات.

وكذلك لفظ (الإنسانية) في الذهن يشترك فيه عمر وخالد وبكر، وعمر وخالد لا يشتبهان في الخارج، لكنهما يشتبهان في مسمى الإنسانية، فكل منهما إنسان.

ومثله مسمى الحيوانية، ففيه اشتراك، فيدخل فيه الأسد والنمر والخيل والحمار والكلب والقرد، لكن إذا جئت إلى أوصاف هذه الحيوانات فلن تجد اشتباهاً بين القرد والفرس في الخارج.

ضلال أهل الكلام والفلسفة في إثبات توحيد الربوبية

إن توحيد الأسماء والصفات أثبته الله لنفسه في كتابه، وأثبته له رسوله عليه الصلاة والسلام في سنته، فالأسماء والصفات كلها ثابتة لله، وهذه الطوائف انحرفت في هذا التوحيد مع أنه فطري، كما أن توحيد الربوبية أمر فطري أيضاً، ومع ذلك انحرفت فيه هذه الطوائف، وأقر بهما المشركون ولم ينكروهما، وقد عرف الله تعالى العباد بنفسه وبصفاته وأفعاله، وعرفهم بعظيم حقه حتى يعبدوه، ولهذا فتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وسيلة إلى توحيد الألوهية والعبادة، فالغاية هي توحيد الألوهية والعبادة، فقد خلق الله الخلق ليعبدوه ويوحدوه، ويخلصوا له العبادة.

ولهذا نجد القرآن الكريم يحتج على المشركين في إلزامهم بتوحيد الألوهية بتقريرهم بتوحيد الربوبية، فكما أنكم تقرون بتوحيد الربوبية فأقروا بتوحيد الألوهية، واعبدوا الله وأخلصوا له الدين، فهو يلزمهم بشيء يعتقدونه ويثبتونه.

فتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات أمران فطريان فطر الله عليهما جميع الخلق، إلا من شذ، وقد أثبتهما المشركون في أزمنة متعددة من الأزمنة الغابرة.

مع ذلك فكثير من أهل الكلام، وكثير من أهل النظر، وكثير من أهل الفلسفة، وكثير من أهل التصوف قد تعبوا في إثبات توحيد الربوبية، حتى قال بعضهم: إنه لا يمكن إثباته بالعقل، مع أنه أمر فطري أقر به المشركون، وأقر به قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وأقر به مشركوا العرب، كما في القرآن، قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، وقال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، وقال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [العنكبوت:61]، وقال: قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون:84-88]، وقال: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ [يونس:31].

إذاً: فهؤلاء لم ينكروا توحيد الربوبية، ولم تنكره الأمم السابقة، ومع ذلك جاء أهل الكلام والنظر والفلسفة والتصوف فقالوا: لا نستطيع إثبات توحيد الربوبية بالعقل، وقالوا: إنما يتلقى بالسمع لا بالعقل.

فالفلاسفة وفرق المتصوفة تعبوا وهم يقررون النظريات والمناهج الفلسفية ويؤلفون الكتب في إثبات توحيد الربوبية، فقد سئموا وتعبوا كثيراً حتى وصلوا إلى توحيد الربوبية، وظنوا أنهم بوصولهم إلى توحيد الربوبية قد وصلوا إلى الغاية والنهاية، فهم مع تعبهم العظيم وإضاعتهم للأوقات، وتفنيدهم للكتب والأوراق يصلون في النهاية إلى شيء قد سبقهم إليه عباد الأصنام والأوثان، فعباد الأصنام والأوثان أقروا بتوحيد الربوبية بكل يسر وسهولة، وليس عندهم فيه إشكال، وأهل الكلام والتصوف صعب عليهم توحيد الربوبية.

وقال كثير من أهل الكلام: إن الدليل على وجود الرب هو دليل التمانع، وهو أمر فطري، قال تعالى: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ [إبراهيم:10] ففطر الله جميع الخلق على إثبات وجوده، وهؤلاء يقولون: الدليل على إثبات توحيد الربوبية دليل التمانع.

ودليل التمانع عندهم هو دليل بطريقة السبر والتقسيم، فيقولون: لو كان للعالم خالقان وربان، فعند اختلافهما -كأن يريد أحدهما تحريك جسم والآخر يريد تسكينه، أو يريد أحدهما إحياء شيء والآخر يريد إماتته- لا يخلو الأمر من أن يحصل مرادهما، أو يحصل مراد واحد منهما، أو لا يحصل مرادهما جميعاً، والعقل لا يتصور أكثر من هذا التقسيم، فأما الأول فباطل تماماً، وهو أن يحصل مرادهما جميعاً؛ لأنه يلزم منه الجمع بين المتناقضين، فيكون الشيء متحركاً ساكناً في نفس الوقت، أو يكون حياً ميتاً في نفس الوقت، وهذا مستحيل وممتنع، فبطل الأمر الأول.

والثالث -أيضاً- مستحيل، وهو أنه لا يحصل مراد واحد منهما؛ لأنه يلزم منه رفع النقيضين معاً، فيكون الشيء غير متحرك ولا ساكن، ولا حي ولا ميت، وهذا مستحيل، فرفع النقيضين كالجميع بينهما، ويلزم منه عجز كل منهما، والعاجز لا يصلح أن يكون إلهاً.

ولم يبق إلا الأمر الثاني، وهو أن يحصل مراد أحدهما ولا يحصل مراد الآخر، فالذي يحصل مراده هو الإله القادر، والذي لا يحصل مراده عاجز لا يصلح للألوهية ولا للربوبية.

قالوا: فهذا هو الدليل على إثبات الرب، فنقول لهم: لا حاجة إلى هذا؛ لأن إثبات الرب أمر فطري فطر الله عليه الخلق، وهو أمر ضروري لا يستطيع الإنسان أن ينكره.

وبعضهم يظن أن هذا الدليل هو معنى قول الله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]؛ لاعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الألوهية، وهذا باطل، فإن الآية ليست في دليل التمانع في الخالق، وإنما هي تمانع في الألوهية؛ لأن الله قال: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ [الأنبياء:22].

وهذا أيضاً إنما يكون بعد وجودهما؛ لأنه قال: لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]، فهذا فساد بعد الوجود، فبين سبحانه وتعالى أنه لو كان فيهما معبودان لفسد نظام السموات والأرض، وأن الفساد يلزم من وجود إلهين، وأنه لا صلاح للسموات والأرض إلا بأن يكون فيهما معبود واحد، وأن يكون هذا المعبود هو الله وحده؛ لأن السموات والأرض إنما قامتا بالعدل، وأعدل العدل هو توحيد الله عز وجل، وأظلم الظلم هو الشرك.

فأهل البدع يظنون أن هذه الآية تدل على توحيد الربوبية، وهذا خطأ، وإنما تدل على توحيد الألوهية الذي يتضمن توحيد الربوبية.

أهمية العلم بالفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد العبادة

إن كثيراً من الناس لا يفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ويظنون أن الموحد هو الذي يثبت الرب ويثبت أسمائه وصفاته وأفعاله فقط، ولو لم يعبده، وهذا باطل.

فالتوحيد الذي أثبته القرآن، والذي خلق الله الخلق من أجله، وأرسل به الرسل، وأنزل به الكتب، هو توحيد العبادة والألوهية الذي يتضمن توحيد الربوبية، فالمعبود هو الخالق، والعاجز لا يصلح للعبادة، فالله تعالى معبود لكماله؛ لما اتصف به من الصفات العظيمة، فهو له الكمال المطلق؛ لأنه متصف بالأسماء الحسنى، ولأنه خلق الخلق وأوجدهم من العدم، ولأن هذا الكون قام به سبحانه، وهو الحي القيوم.

إذاً: فالتوحيد الذي قرره القرآن هو توحيد العبادة، وهو الذي أنكره المشركون، لكن كثيراً من أهل الكلام وأهل النظر وأهل الفلسفة وأهل التصوف لا يعرفون توحيد العبادة، ويظنون أن توحيد الربوبية هو توحيد العبادة، وأنه لا فرق بينهما، وأن من أثبت الربوبية فقد عبد الله، وهذا من أبطل الباطل، والأدلة على هذا كثيرة، وقد أخبر الله سبحانه عن الأمم السابقة أنهم كانوا يقرون بالربوبية، وإنما حصل شركهم في العبادة، قال سبحانه وتعالى عن قوم نوح: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]، وقد ثبت في صحيح البخاري وفي كتب التفسير وقصص الأنبياء أن هذه الأسماء -وهي: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر- أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا وغلا فيهم من بعدهم لصلاحهم، وعكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.

إذاً فشرك قوم نوح كان في العبادة، فأرسل الله سبحانه وتعالى إليهم نوحاً عليه السلام ليدعوهم إلى الله، ويدعوهم إلى توحيد وإخلاص العبادة له، فمكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى التوحيد.

فالمطلوب هو توحيد العبادة، ولا يكفي توحيد الربوبية، وتوحيد الربوبية وسيلة إلى توحيد العبادة.

وكذلك قوم صالح عليه السلام، فقد كانوا كفاراً، ومع ذلك كانوا يقرون بوجود الله، وكان كفرهم هو عدم توحيد الله، وعدم الاعتراف والإقرار والإيمان بنبوة صالح عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [النمل:48-49]، فهؤلاء التسعة الرهط من قوم صالح كانوا كفاراً، ومع ذلك أقسموا بالله على قتل نبيهم صالح عليه السلام وأهله، فهم مقرون بتوحيد الربوبية، قال تعالى: تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ [النمل:49]، وكان شركهم في العبادة، وقد دعاهم صالح عليه الصلاة والسلام إلى عبادة الله ولم يدعهم إلى توحيد الربوبية؛ لأنهم مقرون بتوحيد الربوبية.

وكذلك المشركون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وسائر الأمم السابقة، كأمة الهند والترك والبربر، كل شركها كان في العبادة، بدليل أن هذه الأصنام التي وجدت في قوم نوح انتقلت إلى العرب، كما ثبت ذلك عن ابن عباس، وقد أخبر الله تعالى عن المشركين أنهم كانوا يقرون بالربوبية، وأن شركهم إنما هو في عبادة هذه الأصنام، قال الله تعالى عنهم وهم يطلبون شفاعتهم وتقريبهم إلى الله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ [الزمر:3] أي: قائلين: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، فهم أشركوا في العبادة، فهم يطلبون القربى من الله بهذه الأصنام والأوثان، وقال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18].

وثبت في الصحيحين أن أم سلمة وأم حبيبة كانتا قد هاجرتا إلى الحبشة، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله).

وقال عليه الصلاة والسلام: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك) لأن ذلك ذريعة إلى الشرك.

وقال عليه الصلاة والسلام قبل أن يموت بخمس ليال: (لا تتخذوا القبور مساجد)، وقال: (لا تتخذوا قبري عيداً)، قالت عائشة : لولا ذلك لأبرز قبره عليه الصلاة والسلام.

إذاً: فالتوحيد مطلوب من الأمم، وهو خلاصة دعوة الرسل وزبدتها، وأما أهل الكلام وأهل النظر وأهل الفلسفة وأهل التصوف؛ فلا يفرقون بين توحيد الربوبية وبين توحيد الألوهية، وهذا من البلاء، فلا بد من أن يكون طالب العلم على بصيرة من هذا الأمر، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (كل مولود يولد على الفطرة -وفي رواية: على الملة- فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، ولم يقل: أو يمسلمانه، فدل هذا على أنه مفطور على الإسلام.

وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم وأحمد -وهو حديث قدسي- يقول الرب عز وجل: (إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشيطان عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم).

وأما توحيد الربوبية فهو أمر فطر الله عليه جميع الخلق، قال الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ * وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الروم:30-37].

ففي هذه الآيات مناقشة ومحاجة ومجادلة للمشركين، وإثبات لتوحيد الألوهية والربوبية، فلابد من معرفة هذا الأمر.

وهؤلاء -أعني الفلاسفة وأهل التصوف وأهل النظر وأهل الكلام الذين غايتهم ونهايتهم توحيد الربوبية- إن لم يوحدوا الله في ألوهيته فهم مشركون من جنس أمثالهم من المشركين والوثنيين، فإذا ماتوا على ذلك فهم من أهل النار؛ لأن من مات وهو مثبت لتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات ولا يعبد الله ولا يوحده؛ فهو من أهل النار، ولا ينفعه هذا التوحيد؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كفر المشركين، واستحل دماءهم وأموالهم مع أنهم كانهوا يقرون بتوحيد الربوبية.

إن كثيراً من أهل الكلام -ومنهم بعض الأشاعرة- لا يفرقون بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، ويفسرون (لا إله إلا الله) بتوحيد الربوبية، ويقولون معناها: لا خالق إلا الله. وهذا غير صحيح؛ لأنه لو كان معناها (لا خالق إلا الله) لما امتنع المشركون من اعتقادها، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكفار قريش: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) امتنعوا وقالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ [ص:5-6] أي: اصبروا على عبادة الأصنام والأوثان، إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص:6-7] أي: ما سمعنا بهذا الكلام في الأمم السابقة، فبعض الأشاعرة يقول: المعنى: لا خالق إلا الله. فيفسرون الإله بالخالق، وبعضهم يقول: لا قادر على الاختراع إلا الله، وهذا تفسير باطل، فمعنى (لا إله)ك لا معبود بحق (إلا الله)، وهذه هي كلمة التوحيد، وهي كلمة عظيمة لأجلها خلق الله الخلق، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وحقت الحاقة، ووقعت الواقعة، وقامت القيامة، وانقسم الناس إلى فريقين: شقي وسعيد، فكيف يكون معناها: لا قادر إلا الله؟!

إن عظمة هذه الكلمة لا تتبين، ولا يظهر منها أنها تنفي الألهية عن جميع المعبودات إلا إذا فسر الإله بالمعبود، فيكون معنى (لا إله)، أي: لا معبود، فـ(لا) نافية للجنس تعمل عمل (إن)، فتنصب الاسم وترفع الخبر، و(إله): اسمها، والخبر محذوف والتقدير: لا إله حق إلا الله، والمعنى: لا معبود بحق إلا الله، وهذا هو الذي دلت عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله.

وأما تفسير بعض الأشاعرة وبعض أهل الكلام للإله بأنه القادر أو الخالق؛ فهو تفسير باطل؛ لأن معناه تفسير كلمة التوحيد بتوحيد الربوبية، وهذا باطل، فلو كان المعنى: (لا خالق إلا الله)، فهل يمتنع المشركون من أن يقولوا: لا خالق إلا الله وقد قال تعالى عنهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]؟!

إن كثيراً من الصوفية لا يفرقون بين توحيد الربوبية وبين توحيد الألوهية، وإن كثيراً من أهل الكلام لا يفرقون بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وإن كثيراً من الفلاسفة لا يفرقون بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، فهم لا يعرفون إلا توحيد الربوبية، ويظنون أن من أثبت أن الله هو الخالق فقد عبد الله.

وهناك بعض المحدثين الكبار لا يفرقون بين التوحيدين، وكذلك كثير من الفقهاء.

وقد كان الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يناقش الناس ويبين لهم ويقول لهم: أطلب منكم أن تدرسوا التوحيد وتتعلموه كما تتعلمون الفقه وغيره من العلوم، وقال: كثير من الناس لا يفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، مع أن مشركي مكة -كـأبي جهل- كانوا يعرفون الفرق بينهما، ولهذا كان الواحد منهم يثبت الخالق ويمتنع عن إخلاص العبادة لله.

وقال الشيخ الإمام: لا خير في رجل كفار قريش أعرف منه بمعنى (لا إله إلا الله). ولهذا تجد بعض المؤلفات للعلماء الكبار في الفقه، والتفسير، والحديث لا يفرقون فيها بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، بسبب أنهم لم يعتنوا بهذا الجانب، فتجد الواحد منهم منذ أن نشأ وهو يقرأ الحديث والفقه والتفسير، ولا يعرف إلا أحكام الطهارة، وأحكام الحيض، وأحكام النفاس والصلاة، ولا يفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية.

بينما تجد المتقدمين من العلماء -كـالبخاري ومسلم وغيرهما-يبدءون كتبهم بالإيمان والتوحيد والعقيدة، فجاء المتأخرون فقالوا: نبدأ بالطهارة، فتجد كتب الفقه مبدوءه بالطهارة، وفصلوا ما يتعلق بأصول الدين، وجعلوا لها مؤلفات خاصة، فلما فصلوها أهملها بعض الناس، وصاروا يبدءون بالطهارة والصلاة ولا يعرفون علم أصول الدين.

ولهذا كان الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب يقول لهم: أطلب منكم أن تدرسوا علم أصول الدين، كما تدرسون علم الفروع، أي: كما تدرسون كتاب الطهارة والصلاة والصيام والحج، وخذوا علم أصول الدين واهتموا به، وفرقوا بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، واعرفوا التوحيد الذي خلق الله الخلق من أجله، وأرسل من أجله الرسل، وأنزل لأجله الكتب، وبه قامت السموات والأرض، وبه افترق الناس إلى شقي وسعيد، ومن أجله خلقت الجنة والنار، وحقت الحاقة، ووقعت الواقعة، وهو مفترق الطرق، فمن وحد الله فهو سعيد، ومن أشرك بالله شركاً أكبر فقد شقي شقاءً سرمدياً لا نهاية له.

وفق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع علماً نافعاً وعملاً صالحاً.

الأسئلة

اعتقاد الأشاعرة في ذات الله تعالى

السؤال: هل صحيح أن الأشاعرة يعتقدون أن الله في كل مكان؟

الجواب: المعروف عن المتقدمين من الأشاعرة أنهم لا يعتقدون هذا الاعتقاد، فـأبو الحسن الأشعري وغيره لا يثبتون العلو، وقد يفسرون الاستواء بالقدرة.

وأما متأخروا الأشاعرة -كـالرازي- فقالوا بنفي النقيضين عن الله، وهذا القول أشد من القول بالحلول.

والرازي أشعري، لكنه تحول بنفيه النقيضين عن الله إلى جهمي، فقرر في كتابه (أساس التقديس) وغيره أن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا مباين له ولا محايث له، ولا متصل به ولا منفصل عنه! وهذا أشد من القول بالحلول، والأشاعرة لا يقولون بالحلول، وإنما يقول بهذا الجهمية ومن تحول إليهم من الأشاعرة كـالرازي .

والجهمية -كما سبق- طائفتان: طائفة تقول بالحلول والاتحاد، وهم المتقدمون منهم، كعباد الصوفية، وطائفة تقول بنفي النقيضين عن الله، وهؤلاء أشد كفراً ممن يقول بالحلول والاتحاد؛ لأن هذا وصف لله بالممتنع، فمن كان لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا مباين له ولا محايث له، ولا متصل به ولا منفصل عنه، فكيف سيكون؟! سيكون معدوماً، بل أشد من المعدوم، فإنه يمتنع ويستحيل وجود من يتصف بهذه الأوصاف.

وأما الذين يقولون بالحلول والاتحاد فإنهم أثبتوا وجودين أحدهما حل في الآخر، وهذا كفر، ولكنه أقل كفراً من نفي النقيضين.

فالمقصود أن الأصل في الأشاعرة أنهم لا يقولون بهذا، لكن من قال منهم بالحلول أو الاتحاد، أو قال بنفي النقيضين فإنه يتحول من كونه أشعرياً إلى كونه حلولياً أو اتحادياً.

الأشاعرة والقول بخلق القرآن

السؤال: هل يقول الأشاعرة بخلق القرآن؟

الجواب: لا يقول الأشاعرة بذلك، والمعروف أن الذين قالوا بخلق القرآن هم الجهمية والمعتزلة، وأما الأشاعرة فيثبتون الكلام لله تعالى، لكن لا يثبتونه على الوجه الصحيح، فكلام الله عندهم معنىً قائم ليس بحرف ولا صوت؛ لأن الحرف والصوت عندهم مخلوقان، ويقولون: إن كلام الله تعالى في نفسه كالعلم، فلا يسمع، وإن جبريل عبر عن المعنى القائم في نفس الله بالقرآن، فالله تعالى اضطره حتى فهم المعنى الذي قام في نفسه، فعبر به.

ويقولون أحياناً: إن الذي عبر بالقرآن هو محمد صلى الله عليه وسلم، فالقرآن قول محمد وقول جبريل، فالمعنى من الله واللفظ من محمد وجبريل عليهما السلام، فجبريل فهمه من نفس الله، والله تعالى لا يتكلم بحرف ولا صوت؛ لأن الحرف والصوت حادثان، هكذا يقولون.

وقال بعضهم: إن الذي تكلم بالقرآن هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: هو جبريل، وقال بعضهم: إن جبريل أخذه من اللوح المحفوظ ولم يتكلم به الله، وعلى هذا فيكون القرآن الموجود بين أيدينا على مذهب الأشاعرة يسمى قرآناً مجازاً؛ لأن كلام الله تأدى بالقرآن، وكلام الله معنى تأدى بهذا النص؛ لأن الكلام معنى نفسي لا يسمع، لكن هذا القرآن تأدى به كلام الله، فيسمى كلام الله مجازاً.

وهم أحياناً يقولون عند خصومهم: القرآن كلام الله، وأما عند المناظرة فيقولون: إن مقصودنا بذلك أنه كلام الله مجازاً، وقلنا: كلام الله لأنه تأدى به كلام الله.

وعلى هذا المذهب تكون الحروف والأصوات مخلوقة، والمعنى غير مخلوق، فيكون مذهبهم نصف مذهب الجهمية والمعتزلة، فالمعتزلة يقولون: إن القرآن مخلوق حروفه ومعانيه، والأشاعرة يقولون: إن المعاني ليست مخلوقة، وأما الحروف والألفاظ فمخلوقة.

وصفة الكلام من الصفات السبع التي أثبتوها، لكنهم لم يثبتوها على وجهها، فالكلام عندهم معنىً قائم بالنفس لا يسمع، والحروف والأصوات دليل على ذلك المعنى، ويستدلون بقول الأخطل النصراني:

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا

فالكلام في القلب، واللسان يعبر عما في القلب ويترجم عنه ويدل عليه فقط، فهذا القرآن الموجود في المصاحف ليس كلام الله، بل هو عبارة عن كلام الله؛ لأنه تأدى به كلام الله تعالى، وهذا مذهب خطير.

ولهذا تجرد الإمام ابن القيم رحمه الله في كثير من كتبه، وكذلك شيخ الإسلام وغيرهم من علماء السنة للرد على هؤلاء؛ لأن أمرهم ملتبس أكثر من التباس مذهب الجهمية والمعتزلة، ولأنهم يسمون كتبهم كتب أهل السنة.

الفرق بين طريقة إثبات الأشاعرة للسبع الصفات وطريقة أهل السنة

السؤال: هل طريقة إثبات الأشاعرة للصفات السبع مثل طريقة أهل السنة؟

الجواب: ذكرنا أنهم يثبتون السبع الصفات بالعقل والشرع، ويقولون: إنه اجتمع فيها دليل العقل والشرع؛ فلذلك نثبتها، وأما بقية الصفات فيؤولونها، لأنها لم يدل عليها العقل وإن دل عليها الشرع.

وأما أهل الحق -وهم أهل السنة- فيثبتونها لأن النصوص أثبتتها، ولا ينظرون إلى العقل هل أثبتها أم لا، لكن لا شك في أن العقل الصريح يوافق النقل الصحيح، وهذه قاعدة عند أهل العلم، فالعقل الصريح السالم من الشبهة والشهوة، والسالم من الإرادة الباطلة والهوى يوافق النقل الصحيح، ولا يمكن أن يوجد اختلاف بينهما، وإن وجد اختلاف فذلك لأحد أمرين: إما لأن العقل غير صريح، بل فيه انحرف بسبب شبهة أو شهوة، أو أن النقل غير صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالنقل الصحيح -قرآناً كان أو سنة- لابد من أن يوافق العقل الصريح.

أقسام صفات الله تعالى

السؤال: هل يصح أن نقول: إن الصفات المأخوذة من أسماء الله صفات ذاتية لا تنقل عن الله تعالى؟

الجواب: الصفات عند أهل الحق على قسمين: صفات ذاتية لا تنفك عن الباري، كالعزة والقدرة والعظمة والكبرياء والعلم والسمع والبصر واليد والرجل والوجه.

وصفات اختيارية، وتسمى فعلية، وهي التي تتعلق بالإرادة والمشيئة والاختيار، كالغضب، فالله تعالى يغضب إذا شاء، والرضا، فهو يرضى إذا شاء، وكذلك الكلام، فيتكلم إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء سبحانه وتعالى، فالكلام من الصفات الذاتية الفعلية، فهو قديم النوع حادث الآحاد، فالرب سبحانه يتكلم متى شاء بما شاء، وهو يتكلم بقدرته ومشيئته سبحانه وتعالى.

القراءة في كتاب (نزهة المتقين في شرح رياض الصالحين)

السؤال: بعض أئمة المساجد يقرءون بعد العصر من كتاب (نزهة المتقين في شرح رياض الصالحين)، فهل تصلح القراءة في هذا الكتاب على العامة؟

الجواب: كتاب (رياض الصالحين) كتاب عظيم ومبارك نفع الله به، فإذا قرأ الأئمة منه فهذا أمر طيب، وإذا كان الإمام عنده بصيرة فعلق عليه فذلك جيد، وهناك شروحات كثيرة على هذا الكتاب، منها: (دليل الفالحين)، (ونزهة المتقين)، وهذا الأخير مختصر، وعليه تعليقات مختصرة، وكذلك (دليل الفالحين) كتاب جيد، وعليه بعض الملاحظات، وأنا لي كلمات في شرح (رياض الصالحين) ألقيتها في الإذاعة، ثم كتبت بعضها ولم أكمل ذلك.

وعلى كل حال فإن كتاب (نزهة المتقين) فيه تحليل وتفسير للألفاظ، ووقع فيه تأويل لبعض الصفات، وكذلك (دليل الفالحين) عليه بعض الملحوظات في الصفات، فيحذر من ذلك فيهما، والأصل المعروف الآن في المساجد هو قراءة كتاب (رياض الصالحين)، وهذا يكفي، وإذا كان الإمام طالب علم وعلق على بعض الأحاديث فهذا طيب، وهذا نور على نور.

تفسير المعية عند أهل السنة والجماعة

السؤال: لماذا أهل السنة لا يمرون قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] على القاعدة، وهي إثبات المعنى لفظاً وتفويض الكيفية، ويقولون: إنه فوق العرش وهو معنا بعلمه؟

الجواب: أهل السنة والجماعة مدينون للنصوص، ويجمعون بينها، فحينما يقول الله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] فإنهم يستدلون بنفس النص على المراد بذلك العلم؛ لأن ذكر العلم جاء في مثل هذا النص، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7]، فافتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم، فعلم أن معنى ذلك معية العلم.

ثم إن أدلة إثبات الفوقية أدلة ونصوص محكمة واضحة لا لبس فيها، وهي تزيد على ثلاثة آلاف دليل، مثل قوله تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16]، فليس فيه إشكال، وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، وقوله: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18]، وقوله: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم حين سأل الجارية -كما في صحيح مسلم- : (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: اعتقها فإنها مؤمنة)، فهم يجمعون بين النصوص ويضمون بعضها إلى بعض، فدل ذلك على أن المعية هنا ليس معناها الاختلاط بالمخلوقات، وإنما هي معية علم واطلاع وإحاطة ونصر وتأييد وحفظ للمؤمنين.

فالله تعالى فوق السموات وفوق العرش بذاته، وهو مع الخلق بعلمه واطلاعه وإحاطته وبصره ونفوذ قدرته ومشيئته وتصرفه في خلقه.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , دروس في العقيدة [5] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

https://audio.islamweb.net