إسلام ويب

ذكر الشيخ سدده الله في هذا الدرس آخر خطبة لعمر رضي الله عنه مستعرضاً ما فيها من فرائد الفوائد ومجلياً ما احتوت عليه من بيان فضيلة الصحابة وتواضعهم عامة وأبي بكر وعمر خاصة، وأهمية الشورى وما تجنيه من محاسن، وكيفية البيعة لأبي بكر، وأن الخلافة لم يرد في تحديدها نص شرعي، وختم الدرس بذكر بعض مناقب عمر رضي الله عنه، وقصة وفاته جمعه الله مع رفيقيه في عليين وجمعنا معهم.. آمين.

آخر خطبة لعمر بن الخطاب

اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، ومثل ما نقول، وفوق ما نقول، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت، اللهم صلِّ وسلم على رسولك ونبيك الذي بعثته رحمة للعالمين، صلِّ وسلم على من اجتمعنا على ميراثه وعلى مائدته.

نسينا في ودادك كل غال>>>>>فأنت اليوم أغلى ما لدينا

نلام على محبتكم ويكفي>>>>>لنا شرفاً نلام وما علينا

ولما نلقكم لكن شوقاً>>>>>يذكرنا فكيف إذا التقينا

تسلى الناس بالدنيا وإنا>>>>>لعمرو الله بعدك ما سلينا

اللهم بلغه منا الصلاة والسلام، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة.

اللهم صل عليه دائماً وأبداً؛ كلما بقي في الأرض مسلمون وإسلام، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أمَّا بَعْد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته

معنا لطائف من السيرة وتحف من أخبار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، نجوم الهداية، ورسل السلام إلى العالم، وكلهم نجوم، وكل واحد منهم نجم يهتدى به.

من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم >>>>>مثل النجوم التي يسري بها الساري

يقول الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، وفي كتاب المحاربين، وفي كتاب فضائل الصحابة، يقول رحمه الله: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا عبد الواحد، قال: حدثنا معمر، عن الزهري رحمه الله عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس حبر القرآن وترجمانه، رضي الله عنهما قال: [[كنت حججت في آخر حجة حجها عمر رضي الله عنه وأرضاه، قال: وكنت في خيمتي في منى أقرئ الصحابة -أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام من المهاجرين والأنصار- فدخل عليّ عبد الرحمن بن عوف، وكنت أقرئهُ القرآن -عبد الرحمن أحد العشرة المبشرين بالجنة يقرئه ابن عباس القرآن- قال: فلما دخل عليّ قال: يا بن عباس! أما تدري ماذا حدث اليوم؟ قلت: لا والله، قال: إن رجلاً أتى عمر أمير المؤمنين يزعم أنه سمع رجلاً يقول: إذا مات عمر أو قتل بايعت فلاناً بالخلافة، قال: فغضب عمر، وقال: سوف أقوم في أهل منى -الحجاج- وأتكلم فيهم عن هؤلاء الذين يغصبوهم أمورهم، قال عبد الرحمن بن عوف وهو يتكلم مع ابن عباس فقلت لـعمر: يا أمير المؤمنين! لا تقم في منى، فإن منى فيها الغوغاء وفيها رعاع الناس، وسوف يحملون كلامك على غير محمله، ويطيرون به في الآفاق، ولكن اصبر وتمكن، فإذا رجعت إلى المدينة المنورة، التي هي دار الهجرة، وفيها السنة وأهل الخير ووجوه الناس، فقل ما تشاء أن تقول، وأنت متمكن، قال عمر: إي والله، والله (إن شاء الله) لأقومن أول قدومي على المنبر في المدينة فأخبر الناس بهذا الأمر، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فلما رجعنا من تلك الحجة رأيت عمر عند الجمرات، وقد اضطجع على ظهره ورفع يديه -بعدما انتهى من الحج، وقد شاب رأسه، وطال عمره- وقال: [[اللهم إني قد رق عظمي ودنا أجلي، وكثرت رعيتي، اللهم فاقبضني إليك غير مفرط ولا مفتون، ثم قال: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك، وموتة في بلد رسولك]] فأخبروا ابنته حفصة رضي الله عنها وعن أبيها، فقالت: يا أبتاه! أتسأل الشهادة في المدينة؟ قال: إي والله يا بنية! قال: فعاد رضي الله عنه وأرضاه، فلما كان في آخر جمعة -آخر جمعة يصلي فيها عمر بالناس ويقوم فيهم خطيباً- قال ابن عباس: فبكرت بعد أن زاغت الشمس -هذا تبكير عند ابن عباس وهذه رواية البخاري - قال: فلما زاغت الشمس بكرت فأتيت المسجد بجوار سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحد العشرة المبشرين بالجنة، قال: فجلست بجانبه وركبتي تصتك في ركبته، فقلت له: ليقولن عمر اليوم كلاماً ما قاله قبل اليوم، فقال سعيد بن زيد: ماذا عساه أن يقول؟ وأنكر عليّ، قال: فرأيت عمر رضي الله عنه وأرضاه أقبل، فصعد المنبر وسلم على الناس، فلما انتهي المؤذن من أذانه، قام عمر آخر قومة قامها في المسلمين فقال: السلام عليكم ورحمة الله بعد أن حمد الله وأثنى عليه قال: أيها الناس! إنه كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الله حد الثيب المحصن إذا زنى فإنه يرجم، والذي نفسي بيده لقد قرأناها وأقرأناها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان فيما أنزل عليه في الكتاب -أي: في القرآن- (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) وإني أخشى إذا طال بكم الأمد أن ينكرها قوم فيضلوا، فوالله لقد أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي، ثم قال: أيها الناس! إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ولكن أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله رسوله).

قصة مبايعة أبي بكر رضي الله عنه

ثم قال: أيها الناس! إنني سمعت أن بعضكم يقول: لو مات عمر بايعت فلاناً، وفي صحيح مسلم (وإني قد علمت أن أقواماً يطعنون في هذا الأمر أنا ضربتهم بيدي هذه على الإسلام فإن فعلوا ذلك فأولئك أعداء الله الكفرة الضلال، وسمعت أنهم يقولون: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرها، وأبو بكر لا يشق له غبار، ولا تضرب أعناق الإبل لمثل أبي بكر، ثم بدأ يسوق القصة، قال: أتدرون ما خبرنا وخبر أبي بكر لما بويع بالخلافة؟ فسكت الناس، قال: لما توفي الرسول عليه الصلاة والسلام اجتمعنا حول مسجده صلى الله عليه وسلم وكثر اللغلط واللهج وارتفع البكاء، فظننت والله أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يموت في ذاك اليوم حتى يدبرنا، قال: فلما تيقنت الخبر، أتانا رجلان صالحان من الأنصار، وقد علما أن الرسول عليه الصلاة والسلام توفي، فقالا لنا -(الأنصاريان) قالا لـأبي بكر ولـعمر ولـأبي عبيدة-: أدركوا الأنصار فقد اجتمعوا في سقيفة بني ساعده، يريدون أن يؤمروا أميراً منهم بالخلافة، وهو سعد بن عبادة، فقلت لـأبي بكر: اذهب بنا، قال أبو بكر: لا تدخل بنا عليهم، قال عمر: والله لندخلن عليهم وما عسى أن يصنعوا، قال: فدخلنا عليهم جميعاً فلما جلسنا، قال عمر: كنت زورت في صدري كلاماً -أي: خطبة زورها وهيأها وجهزها في صدره- قال: وكنت أرى بعض الحدة -بعض الغضب- في أبي بكر وخشيت منه، وأوقره لمكانته في الإسلام، فأردت أن أتكلم فقال: اسكت، قال: ثم اندفع يتكلم على البديهة، والله ماترك كلمة كنت زورتها في صدري إلا أتى بأحسن منها.

قال الشافعي بسنده: حدثنا الثقة عن الشعبي أنه قال: لما اجتمع أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه بالأنصار، اندفع خطيباً فأثنى على الله عز وجل وحمده وصلى على الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: أمَّا بَعْد: فأنتم أحسنتم وكفيتم وآويتم ونصرتم، فجزاكم الله عن الإسلام خير الجزاء، والله يا معشر الأنصار! ما مثلنا ومثلكم إلا كما قال طفيل الغنوي:

جزى الله عنا جعفراً حيث أشرفت>>>>>بنا نعلنا في الشارفين فزلتِ

هم خلطونا بالنفوس وألجئوا>>>>>إلى غرفات أدفأت وأظلتِ

أبوا أن يملونا ولو أن أمنا>>>>>تلاقي الذي يلقون منا لملتِ

ثم قال: يا عمر! ابسط يدك لأبايعك، قلت: والله لا أبايع بالخلافة في قوم أنت منهم، ولأن أقدم فيضرب رأسي في غير محرم أحب إليَّ من أن أتقدم بقوم فيهم أبو بكر، فقال: يا أبا عبيدة! ابسط يدك أبايعك بالخلافة، قال: لا والله، قلنا: ابسط يدك يا أبا بكر! فبسطها فبايعناه فأخذ الأنصار يبايعون معنا، وسعد بن عبادة مريض مزمل في ثبابه، وهو من ساداتهم.

فيقول قائلهم وهو الحباب بن المنذر: أتيتكم برأي، قلنا: وما هو؟ قال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير، فرفضنا هذا الرأي وبايع الأنصار أبا بكر، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة وهو في ثيابه، قال عمر: قتله الله! فلما بايعوا أبا بكر، عاد إلى المسجد، فتكلم عمر قبله، وأثنى على أبا بكر، قال أنس: فرأيت عمر يجذب بكم أبي بكر ويزعجه إزعاجاً إلى أن قام وبايع الناس وهو يبكي ويده ترتعد رضي الله عنه وأرضاه من هول الموقف، وعمر يأخذ بيد أبي بكر وهو يبايع الناس، قال ابن عباس: ثم عاد عمر إلى حديثه في الخطبة قال: وإني رأيت البارحة فيما يرى النائم أن ديكاً ينقرني ثلاث نقرات، فسألت أسماء بنت عميس الخثعمية، فأخبرتني أنني سوف أقتل، فالله المستعان، وسوف أطعن ثم غلبه البكاء، فغلب الناس البكاء، فما هي إلا ليلة فقتل رضي الله عنه وأرضاه في المسجد في صلاة الفجر، فرزقه الله الشهادة وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي بلده، ورفعت روحه إلى الحي القيوم: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30].

فوائد من خطبة عمر بن الخطاب

أخذ العلم عن الصغير

الفائدة الأولى: في هذا الحديث هي: أخذ العلم عن أهله وإن صغروا في السن. هذا استنباط من ابن حجر العسقلاني في فتح الباري، لأن ابن عباس رضي الله عنهما علم عبد الرحمن بن عوف القرآن، وعبد الرحمن بن عوف خير منه، وهو من العشرة المبشرين بالجنة، فكان ابن عوف يتعلم القرآن على يد ابن عباس، وكم كان عمر ابن عباس آنذاك؟ كان دون الثلاثين، وكان يدخل مع أهل الشورى على عمر، ولا يدخل إلا من له سابقة في أهل الإسلام، إما من المبشرين بالجنة، أو من أهل بدر، أو من الذين لهم قدم صدق عند الله عز وجل، حتى الفتح من الشيوخ الكبار، ما كانوا يدخلون أبداً مع عمر، ولذلك قال بعض الصحابة: كيف يدخل عمر الغلام ولنا أبناء مثله، قال ابن عباس: فدعاني عمر فعلمت أنه ما دعاني إلا ليعلمهم (فهمي) في القرآن، فقال للأنصار والمهاجرين وهم مجتمعون: ما تقولون في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:1-3]. فأجاب كل بما يصلح ولم يصيبوا.

فقال: يـ ابن عباس! ما تقول فيها؟ قلت: أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي له، فقال عمر: والله ما أعلم منها إلا ما تعلم أنت، فرضي الصحابة بمجلس ابن عباس.

وكان عبد الرحمن بن عوف من السادات في الإسلام، بل صلى إماماً بالرسول صلى الله عليه وسلم كما في حديث المغيرة الصحيح، قال: {خرجنا في غزاة -أي: غزوة- قال: فقمنا لصلاة الفجر، فذهب صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته فتأخر علينا فأقمنا للصلاة، فقال الناس لـأبي بكر: تقدم فأبى، فقال الناس لـعمر: تقدم فأبى، فقالوا لـابن عوف: تقدم، فتقدم فصلى بهم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلوا ركعة، وبقيت ركعة فأكملها، فلما سلموا استحيوا كثيراً وخجلوا من هذا الموقف، أن كان رسول البشرية صلى الله عليه وسلم مأموماً وهم قد قدموا إماماً، فالتفت إليهم بعد أن سلم صلى الله عليه وسلم، وقال وهو يتبسم: أصبتم وأحسنتم}.

دل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم رضي بإمامة عبد الرحمن بن عوف وعبد الرحمن على جلالته في الإسلام، قدم ابن عباس وتعلم منه وتواضع له، وعمر ابن عوف آنذاك أكثر من خمسين سنة، وعمر ابن عباس ثمانية وعشرون سنة. ولذلك يقول ابن القيم في بدائع الفوائد: يا أيها المسلم! لا تأنف من طلب العلم ولا من أخذ الحكمة والفائدة عن أي أحد كان، فإن سليمان بن داود عليه السلام ما تكبر ولا استنكف على الهدهد حين أتى من أرض اليمن، فقال له سليمان: ماذا أخرك؟ قال: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ [النمل:22] ثم سرد عليه القصة، وبدأ ينكر في مجلس سليمان على أهل الشرك شركهم، ويقول: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [النمل:23-25]. فارتاح سليمان عليه السلام لهذا الكلام وتواضع له، وما أنكر عليه، وعلم أن هذا الهدهد موحد، وأن تلك المرأة مشركة بالله الحي والقيوم.

ثم ذكر ابن القيم أن الرسول عليه الصلاة والسلام قرأ القرآن على أبي بن كعب وأبي بن كعب سيد القراء إلى يوم القيامة، سنده موصول برب العالمين أخذ القرآن عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن عن جبريل، وأخذه جبريل عليه السلام عن رب العالمين تبارك وتعالى.

ولذلك في صحيح البخاري {لما أنزل الله عز وجل قوله لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة:1] قال جبريل: إن الله يأمرك أن تقرأ هذه السورة على أبي بن كعب، فذهب عليه الصلاة والسلام إلى أبي المنذر -وهو خزرجي من زعماء الأنصار- فقال: يا أبا المنذر! قال: لبيك وسعديك يا رسول الله! قال: إن الله أمرني أن أقرأ عليك هذه السورة، قال: أو سماني في السماء ربي؟ قال: إي والله، فبكى أبي رضي الله عنه وأرضاه وقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السورة}.

وفي صحيح مسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا أبا المنذر! -يعني: أبياً - أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]. فضرب النبي صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: ليهنك العلم أبا المنذر!}. وهذا من جلالته في الإسلام.

إذاً نستفيد من هذا الحديث: تواضع المسلم لأخيه إذا كان يلقي عليه فائدة، أو يتلقى منه حكمة، ولو كان أصغر منه سناً وأقل قدراً فإنه كما قال علي رضي الله عنه وأرضاه: [[الحكمة ضالة المؤمن]] وبعض أهل العلم يرفع هذا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يصح.

وكذلك كان موسى عليه السلام متواضعاً كما ورد في سيرته وترجمته ويكفي أن الله قص سيرته في القرآن، ويقول عن نفسه عليه السلام: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24]. ولذلك ذكروا أنه كان من أكثر الناس تواضعاً عليه السلام، حتى كان ابن عباس إذا قرأ في سورة القصص بكى وقال: رحم الله موسى، أتى أرض مدين في إزار من صوف ورداء من صوف، حتى اخضرت بطنه، من الخضار الذي ما وجد سواه أكلاً، ثم قال تحت الشجرة بعد أن سقى للجاريتين: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24].

وفي صحيح البخاري عندما قال رجل من بني إسرائيل: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال: لا، فأراد الله أن يخبره أن فوق كل ذي علم عليم، فأوحى الله إليه: بلى عبدنا الخضر أعلم منك -يقال: بأسرار أطلعه الله عليها- فقال موسى: لأرحلن إليه.

وهذه هي الرحلة في طلب الحديث وطلب العلم، وقد عقد البخاري باب: الرحلة في طلب العلم ثم أتى بهذا الحديث، فأعطى الله موسى عليه السلام علامة، وهو المكتل أن يأخذ فيه حوتاً وكان غلامه يوشع بن نون معه، فإذا فقد الحوت فليعلم أن الخضر هناك، قال تعالى: قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً [الكهف:62] فأخبره أنه فقده. قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً [الكهف:64] فوجد الخضر وهو جالس على ساحل البحر فسلم عليه.

فتعلم منه موسى، وتواضع له، وموسى أفضل منه، وأعلم بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى منه، عند أهل السنة والجماعة.

العلم لا يودع عند غير أهله

والفائدة الثانية: التنبيه على أن العلم لا يودع عند غير أهله، بل يعلم به أهله، لأن عمر رضي الله عنه وأرضاه أراد أن يتكلم في الحجاج، والحجاج فيهم الأعراب، وفيهم الرعاع وفيهم الذين لا يفقهون شيئاً، وفيهم المنافقون، فأرشده عبد الرحمن بن عوف وقال: هؤلاء يطيرون بكلامك كل مكان، ولكن إذا عدت إلى دار الهجرة في المدينة فتكلم إليهم فإنهم أعقل وأفهم، فمن هذا يؤخذ أنه لا يتكلم بالعلم إلا عند من يستحق، وإذا أعرض عنك الناس ولم يريدوا، فلا تقلدهم علمك ولا تذل نفسك.

ولذلك في مستدرك الحاكم بسند فيه كلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الشوكاني في أدب الطلب ومنتهى الأرب: {إن الذي يلقن الحكمة غير مستحقها، كالذي يقلد الدر الخنازير}.

التحدث بما يعقله السامعون

الفائدة الثالثة: لا يحدث إلا بما يعقل، أما ما لا يعقله الناس فلا يُحدث به. ولذلك يقول علي رضي الله عنه وأرضاه: [[حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله]] فإذا أتى الإنسان يحدث الناس بأمور لا تدركها عقولهم كانت عليهم فتنة، قال ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: [[ما أنت بمحدثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان لأكثرهم فتنة]] ولذلك أمرنا أن نحدث الناس بما يعرفون وما يفقهون، وأما من يأتي بالخزعبلات، والأحاديث الواهية والموضوعات، ثم يحدث بها الناس فإنها تكون عليهم فتنة.

وورد أن كثيراً من الوعاظ استخدموا هذا الأسلوب. وذكر أهل مصطلح الحديث، كـالذهبي في سير أعلام النبلاء، أن أحمد بن حنبل رحمه الله رحمة واسعة ويحيى بن معين رحمه الله -العالمان الكبيران المحدثان- ذهبا إلى مسجد في الرصافة يصليان المغرب أحمد بن حنبل إمام السنة، ويحيى بن معين جهبذ الحديث، وناقد الرجال، فصليا المغرب وصلى الناس، فقام واعظ بعد صلاة المغرب، والواعظ هذا لم يعرف الإمام أحمد ولا يحيى بن معين يسمع بهم في الدنيا، ولكن ما عرفهم، فقام الواعظ فقال: حدثنا أحمد بن حنبل وحدثنا يحيى بن معين -وهذا من كيسه فهما لم يحدثاه- قالا: حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من قال: لا إله إلا الله خلق الله له طائراً، أما جناحه فمن زبرجد، وأما رأسه فمن ياقوتة حمراء، له بكل شعرة قصر في الجنة} ثم سرد حديثاً طويلاً، فلما انتهى قال الإمام أحمد: تعال، فأقبل وهو لا يعرف الإمام أحمد، فقال الإمام أحمد: أنا أحمد بن حنبل وهذا يحيى بن معين فمن حدثك بهذا الحديث؟ قال: يا سبحان الله! ليس في الدنيا أحمد بن حنبل إلا أنت، ولا في الدنيا يحيى بن معين إلا هذا، والله لقد رويت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل وسبعة عشر يحيى بن معين، فضحك الإمام أحمد، وهذا الحديث لا تقره العقول، وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام تقبله القلوب ولا تنكره، وأما الأحاديث الموضوعة فإن قلبك يقول: هذا ليس بحديث.

وأحد هم حبس الناس بعد صلاة العصر في كتاب في الرقائق، قال: يقول عليه الصلاة والسلام: {من قال سبحان الله غرس الله له سبعين شجرة، ومعها سبعون قصراً في كل قصر سبعون حورية، على كل حورية سبعون وصيفة، على كل وصيفة سبعون لؤلؤة} ثم أخذ يعدد في السبعين، فلما طول على الناس وانتهى، قال: هذا حديث موضوع، فقال الناس: حبستنا على حديث موضوع حبسك الله!

المقصود: أن الأحاديث الموضوعة مما تنكرها القلوب ولا تقبلها، فإنها فتنة لكل مفتون، ولا يجوز روايتها إلا أن تذكر أنها موضوعة، فلا يجوز أن تروى على الناس، لا في الرقائق، ولا في الأحكام، ولا في السير، ولا في الفتن، ولا في الملاحم.

وشهد التاريخ أن الوضاعين هؤلاء ابتلي بهم العالم الإسلامي، وقد ألف ابن الجوزي فيهم كتاباً كبيراً اسمه الموضوعات، وألف الشوكاني كذلك والملَّا علي القاري وغيرهم من أهل العلم، وذكروا أن أسباب الوضع أمور:

منها: أن يكون أحدهم يريد أن يتصدر الناس برياء وسمعة فلا يجد حديثاً فيضع من رأسه ومن كيسه وينفق.

ومنها: أن تكون في يده سلعة لا تباع إلا بحديث، فبعضهم كان يبيع الباذنجان -كما ذكر عنه السباعي في كتاب السنة ومكانتها في التشريع - فما وجد مشترياً له، فقال: يقول صلى الله عليه وسلم: {من أكل الباذنجان لم تصبه عاهة قط} وهو حديث مكذوب.

ومنها: قوم يتزلفون إلى السلاطين فيضعون لهم الأحاديث. كما دخل رجل على المهدي الخليفة العباسي ابن أبي جعفر المنصور، فوجده يسابق بين الحمام -انظر إلى المهمة وإلى حفظ الوقت- يسابق بين الحمام من قصر إلى قصر، فلما رأى المهدي هذا العالم الواعظ، خجل منه واستحيا، فقال الواعظ: ما عليك، يقول صلى الله عليه وسلم: {لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر أو جناح} والجناح زادها وإلا فالحديث: {لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر} أما الجناح فليس في الحديث، فزاد هو الجناح حتى يبرر لهذا الرجل موقفه عندما رآه يسابق بين الحمام، فقال المهدي: "أشهد أن قفاه قفا كذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أمر بذبح الحمام".

حفظ القرآن من الزيادة

والفائدة الرابعة: فيه المحافظة على المصحف ألا يزاد فيه؛ لأن عمر يقول: [[والله لولا أن يقول الناس: إن عمر زاد في المصحف لكتبتها بيدي]] فالصحابة ما كانوا يكتبون غير القرآن في المصحف، فكانوا يحافظون عليه، وكانوا يشغلون أوقاتهم به، وقد قال عمر رضي الله عنه وأرضاه لرجل من الولاة: [[إنك سوف تأتي أهل الكوفة، وسوف تدخل عليهم في المسجد، وتسمع لهم دوياً كدوي النحل بالقرآن؛ فلا تشغلنهم بقصصك وحديثك]] أي: اتركهم يقرءون القرآن، هذا إذا كانت الأمة تقبل وتقرأ القرآن، وتدوي به كما يدوي النحل بصوته، أما إذا كان الناس لا يقرءون القرآن، ولا يسمعون القصص ولا الأخبار، فلا نقول للناس: سوف نشغل أوقاتهم، بل يقص الإنسان، لأن الوسائل تغيرت، والأساليب استجدت، فللإنسان أن يقص.

ودخل عمر رضي الله عنه وأرضاه وإذا برجل في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام يقص على الناس، قال: [[من هذا؟ قالوا: قاص يقص، قال: سبحان الله! ماذا يقص؟ قالوا: يقص علينا من أخبار الأولين، فشق عمر رضي الله عنه وأرضاه الصفوف والدرة بيده ثم ضرب هذا الواعظ، وقال: يقول الله عز وجل: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف:3]]] ففيه أن المصحف لا يزاد عليه، أي: أنه محفوظ، ولذلك قال عز من قائل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

والذين قالوا بنقص القرآن هم الرافضة، وألف الطبرسي أحد علمائهم الضلال، كتاباً يسمى: فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب، ويدعون أنه إجماع عند الإثني عشرية أن القرآن قد نقص، وأن سورة الولاية محذوفة منه، وأن الصحابة رضي الله عنهم قد حرفوا وعدلوا في القرآن، وأنهم حذفوا اسم علي من المصحف، واسم فاطمة واسم عائشة، وقد كذبوا على الله عز وجل وافتروا عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، بل ما زيد فيه حرف ولا نقص منه.

الحث على المشورة

الفائدة الخامسة: هي الحث على المشورة وقبولها من أهل العلم، والفهم والخبرة، فإنه (ما خاب من استخار الله عز وجل وما ندم من استشار المخلوقين) وكان أكثر الناس استشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في كبير الأمور وصغيرها، وفي دقيقها وجليلها، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159] فإذا أراد الإنسان أن تقبل عليه الأمة وترضى به القلوب فليشاور أهل الخبرة وأهل الخير والصلاح، فإنهم لا يشيرون عليه إلا بالخير والصلاح إن شاء الله، ومن أمانة المؤمن لأخيه أنه إذا استنصحه أن ينصح له، وألا ينصحه إلا بما فيه الخير، وقال عز من قائل: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38] استشار عليه الصلاة والسلام الناس يوم بدر كما تعرفون، وعدل عن رأيه صلى الله عليه وسلم، وهو صاحبنا في هذه الليلة وسوف يمر معنا لأنه هو الذي يقول: [[أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب]] وهو الذي يقول: [[منا أمير ومنكم أمير]] وهو من سادات الأنصار، قال الحباب: {يا رسول الله! هذا المنزل منزل أنزلك الله إياه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله! هذا ليس برأي، اجعل الماء وراء ظهرك كله، فنشرب ولا يشربون} فدعا له صلى الله عليه وسلم بالخير، فنزل في ذاك المنزل.

واستشار عليه الصلاة والسلام أقاربه لما اتهمت عائشة رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، الطاهرة بنت الطاهر المبرأة من فوق سبع سموات لما اتهمت في عرضها، استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد، واستشار الجارية، فأما الجارية فقالت: والله ما علمت إلا خيراً، كانت تغفل عن الداجن فتأكل العجين، يعني من غفلة عائشة ومن نقاوة قلبها، وطهارتها تغفل حتى عن عجينها، واستشار أسامة فقال: [[ما علمت إلا خيراً أحمي سمعي وبصري]] واستشار علي بن أبي طالب -وكان من عصابته ومن لحمته- فقال: النساء غيرها كثير.

قد قيل ما قيل إن صدقاً وإن كذباً>>>>>فما اعتذارك من قول إذا قيلا

فبقي هذا الكلام في نفس عائشة إلى بعد حين، وينزع الله ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين، وكان يستشير صلى الله عليه وسلم حتى تقول عائشة: [[ما رأيت رجلاً سهلاً كرسول الله صلى الله عليه وسلم]].

جواز الحلف بغير استحلاف

الفائدة السادسة: جواز الحلف بغير استحلاف، وقد مر معنا في مناسبة؛ لأن عمر قال: [[والله لأقومن إذا رجعت إلى المدينة]] وهو لم يستحلف رضي الله عنه وأرضاه. والرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول: {إي والذي نفسي بيده} وهو لم يستحلف، والله أمره في القرآن حيث يقول: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن:7] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يونس:53] فهذا دليل جواز الحلف بلا استحلاف، ليطمئن المحلوف له، ومن حلف له بالله فلم يرض فلا أرضاه الله، ومن لم يكتف بكفاية الله فلا كفاه الله ولا شفاه، والمسلم إذا حلف له صَدَّق، وإذا حلف هو صُدِّق، وهذه شيم أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، يقول علي رضي الله عنه وأرضاه، وهذا الحديث في مسند أحمد وفي سنن أبي داود وعند الترمذي بسند صحيح قال: كان الرجل من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام إذا قال لي قولاً، استحلفته، فإن حلف صدقته، فنفعني الله عز وجل بالحديث منه صلى الله عليه وسلم ما شاء، وإنه حدثني أبو بكر الصديق وصدق أبو بكر -يعني: ما استحلف أبا بكر - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {والذي نفسي بيده ما من عبد يذنب ذنباً فيتوضأ ويصلي ركعتين ثم يستغفر الله عز وجل إلا غفر الله له ذاك الذنب، ثم تلا صلى الله عليه وسلم قوله تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:135-136]}.

وقت حضور الجمعة عند بعض السلف

الفائدة السابعة: أن كثيراً من السلف كانوا يذهبون إلى الجمعة إذا زاغت الشمس، وهذا كلام ابن عباس يقول: لما زاغت الشمس ذهبت للصلاة، وهذا رأي الإمام مالك بن أنس قال: [[أدركت أهل المدينة وهم لا يذهبون إلى صلاة الجمعة إلا بعد أن تزوغ الشمس]] أي: قبل الظهر بقليل، وهذا رأي. لكن الأفضل والأولى بحق المسلم أن يذهب، وأن يبادر الأجر للحديث المتفق عليه: {من ذهب في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة} قالوا: تبدأ الساعة الأولى من بعد طلوع الشمس وارتفاعها، على خلاف ليس هذا مجال بسطه وقد سبق.

جواز الكلام للمأمومين قبل خطبة الجمعة

الفائدة الثامنة: جواز التحدث للمأمومين قبل دخول الإمام، فإن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه كلم سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قبل دخول عمر، فيجوز لك أن تتحدث مع إخوانك المسلمين في فوائد ومنافع قبل دخول الخطيب وقبل دخول الإمام، وليس هناك شيء يحرم، ولا يوجد مانع.

يقول عقبة بن عامر الجهني: كان لي إبل أرعاها وأروحها وقت الليل، وكنت أتناوب أنا وشباب من جهينة -جهينة: قبيلة من قبائل العرب تسكن على البحر الأحمر- لما سمعت الأعراب بدعوة الرسول عليه الصلاة والسلام تركوا منازلهم وأتوا؛ لأن الله ذم الأعراب في كتابه وقال: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [التوبة:97] وفي كتاب الأدب المفرد للبخاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـثوبان: {يا ثوبان! لا تسكن الكفور، فإن ساكن الكفور كساكن القبور} قال الإمام أحمد: "ساكنو الكفور هم أهل البادية، فليس عندهم ما يفقهون به هذا الدين".

فلما سمع عقبة بن عامر الجهني قال: فأتيت بإبلي فنزلت قريباً المدينة؛ لأتعلم منه صلى الله عليه وسلم، فكنت أرعى الإبل أنا وشباب معي، فأتيت في نوبتي وقد ابهار الليل، والرسول عليه الصلاة والسلام يحدث الناس في مسجده، فدخلت فجلست بجانب عمر بن الخطاب، قال: فسمعت الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يقول: {ما من مسلم يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبلاً عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة} قال: قلت: ما أحسن هذه! قال عمر رضي عنه: التي قبلها أحسن منها، فلما انتهى الحديث قلت: يا أبا حفص! ما التي قبلها؟ قال: أما سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام؟ قلت: لا، قال: أين كنت؟ قلت: ما أتيت إلا متأخراً، قال: يقول لنا صلى الله عليه وسلم: {ما منكم من أحدٍ فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء} وفي الترمذي: {اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين} وهي زيادة على رواية مسلم.

فكانوا يتحدثون عن أخباره صلى الله عليه وسلم إذا خطب، وربما تحدثوا وهو جالس، وهذا في غير خطبة الجمعة، أما خطبة الجمعة فإذا دخل انتهى الكلام، لكن يجوز للإمام كما سبق أن يتكلم مع المأموم، ويجوز للمأموم أن يتكلم مع الإمام، أما المأموم مع المأموم فحرام، ومن فعل ذلك فقد لغت جمعته، وبطلت.

ولذلك يقول أبو ذر: {كنت في مسجده صلى الله عليه وسلم فقام فينا خطيباً قال: سوف يقدم عليكم رجل من أهل اليمن عليه مسحة ملك، قال: فانتظرنا فقدم علينا جرير ين عبد الله البجلي}.

جواز التكلم في خطبة الجمعة بالشئون العامة

الفائدة التاسعة: جواز التكلم في خطبة الجمعة بالشئون العامة، وأن خطبة الجمعة ليس لها مراسيم تحددها، وأن هناك قضايا اجتماعية ينبغي على الخطيب أن يطرقها يوم الجمعة، ويتحدث للناس بها، وأنه لا شائبة عليه ولا لائمة، فالرسول عليه الصلاة والسلام تحدث للناس في خطبة الجمعة بشئونهم، وتحدث أبو بكر وعمر في هذه الخطبة عن الخلافة، وهو شأن عام وقضية اجتماعية، فتحدث عنها، فيجوز أن يتحدث الخطيب، بل هو الذي ينبغي، وأن يطرق الخطب التي تناسب العصر، وألا يتقيد بخطبة سلفت، فـعمر تحدث في موضوع جديد، طارئ على الأمة، فللمسلم أن يتحدث بقضايا العامة، وكان صلى الله عليه وسلم ربما يتحدث في بعض القضايا حتى الأسرية التي بينه وبين أهله وأرحامه.

ففي صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم وقف على المنبر وقال: {يا أيها الناس! ابن أبي طالب -يعني: علياً - قد تزوج بنتي وإن فاطمة بضعة مني، يرضيها ما يرضيني، ويريبها ما يريبني، وإني سمعت أنه يريد الزواج من بنت أبي جهل} يعني أخت عكرمة، وهي مسلمة وأبوها كافر تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ [آل عمران:27].

{وإن فاطمة يريبها ما يريبني ويرضيها ما يرضيني، فلا أرضى ثم لا أرضى ثم لا أرضى، والذي نفسي بيده لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله تحت سقف واحد، فإما أن يستبقي ابنتي عنده وإما أن يفارقها ويتزوج بنت أبي جهل، فتأثر الناس كثيراً وترك علي رضي الله عنه الخطبة} ثم لم يتزوج عليها كرامة للرسول عليه الصلاة والسلام، ومن أجل عين تكرم ألف عين، ولم يتزوج عليها حتى بعد وفاتها بستة أشهر وكان يزورها دائماً في المدينة، ويترضى عنها، رضي الله عنها وأكرم مثواها، فهي سيدة نساء العالمين عند الله تبارك وتعالى.

الحث على تبليغ العلم

الفائدة العاشرة: الحث على تبليغ العلم للرعية؛ فإن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: لا أستحل أن يأخذ هذا الكلام آخذٌ دون أن يفقهه، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {بلغوا عني ولو آية؛ فرب مبلغ أوعى من سامع} فالواجب على المسلم أن يبلغ ولو آية أو حديثاً، أو موعظة، أو قصة للناس يعطر المجالس بها. قال ابن القيم في الوابل الصيب في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن عيسى بن مريم: وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ [مريم:31] قال: "المبارك أينما كان هو الذي يسعد به جليسه وأنيسه وأهله"، وذلك لأنه يتحدث فيما يقربهم إلى الله عز وجل، فالمبارك أينما كان هو الذي مجلسه في كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم وفي كلام الله تبارك وتعالى، وفيما يقربه إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، والذي ينبغي على المسلم أن يبلغ ولا يستصغر نفسه، ولا يحتقرها، ولذلك قال عمر لـابن عباس: [[يا بن أخي! تكلم ولا تحتقر نفسك]] وقال الحسن البصري لأحد الناس الجالسين عنده: [[عظنا بارك الله فيك، فقال الرجل: أومثلي يعظ الناس؟ قال الحسن البصري: ود الشيطان أن يظفر بهذه الكلمة، والله لو ظفر بها لما وعظ أحد من الناس]].

وقال ابن القيم في مدراج السالكين: "إذا أتاك الشيطان وقال لك: لا تتكلم؛ لأنك إذا تكلمت راءيت الناس، وتظاهرت بالرياء والسمعة، فلا تطاوعه واعصه، وتكلم واستعن بالله، وأخلص نيتك ولتنبعث نيتك بالإخلاص وطلب ما عند الله عز وجل، فإن الشيطان يريد أن يسكت كل إنسان فلا يتحدث، ولا يتكلم، ولا يعظ، وهذا هدم للإسلام من أسسه.

جواز نسخ التلاوة وبقاء الحكم

الفائدة الحادية عشرة: جواز نسخ التلاوة وبقاء الحكم في القرآن على صور:

منها: أن ينسخ الحكم والتلاوة، وهذا كثير في القرآن الكريم.

ومنها: أن ينسخ الحكم وتبقى التلاوة، وهو في القرآن الكريم.

ومنها: أن تنسخ التلاوة ويبقى الحكم وهو شاهدنا، فإنه كان في كتاب الله عز وجل، حد الثيب إذا زنى، فنسخ هذا وبقي حكمه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكتاب الله محفوظ حفظه الله من فوق سبع سموات، فلا يمكن أن يتغير أبداً.

ولذلك ذكر كما تعرفون في بعض النشرات، أن في يوغندا في كمبالا رجلاً يهودياً زاد حرفاً في كتاب الله عز وجل في قوله سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85] قال: فإنه يقبل منه، وما أمسى في اليوم الثاني إلا وقد وصل الخبر إلى أندونيسيا (جاكرتا) لأن الله يحفظ كتابه، وأعلن هذا الخبر وطويت تلك المصاحف، ولذلك لو زيد فيه حرف أو كلمة أو شكلة من الشكلات، أو إعجام، لعم الخبر في الناس جميعاً ولأخذوا حيطتهم؛ لأن الله حفظ هذا الكتاب.

رجم المحصن

الفائدة الثانية عشرة: رجم المحصن، وقد تعرض لها عمر رضي الله عنه وأرضاه -ونسأل الله العافية والستر في الحياة الدنيا والآخرة- وقضاء الله إذا وقع وقع، ولذلك قال عمر: ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا، فإن عمر بيده الكريمة رجم، ورجم قبله من هو أكرم منه عليه الصلاة والسلام كالمرأة الصالحة التي وقع قضاء الله عليها لما ارتكبت تلك الفعلة، رجمها عمر، وقال لما رجم ماعزاً: ليته استتر وفي لفظ أنه قال: {أخزاه الله ليته استتر بستر الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: {مهلاً يا عمر! والذي نفسي بيده إني أراه الآن ينغمس في أنهار الجنة} ولما تكلم خالد على المرأة التي رجمت قال صلى الله عليه وسلم: {مهلاً يا خالد! والذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو وزعت على أهل المدينة لوسعتهم} وفي رواية: {على سبعين من أهل المدينة} وفي رواية: {لو تابها صاحب مكس لتاب الله عليه}.

النهي عن إطراء الرسول صلى الله عليه وسلم

الفائدة الثالثة عشرة: وفيه النهي عن إطرائه صلى الله عليه وسلم، فلا يرفع عن مرتبته، ولا ينزل عنها، فهو عبد الله ورسوله، ناداه الله بالعبودية، وشرفه بالرسالة، وجعله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في هذه المنزلة، فهو لا يريد فوقها، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد الله ورسوله فقولوا عبد الله ورسوله}.

ولذلك في سنن أبي داود: {أن وفد عامر بن صعصعة أتوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقالوا: أنت سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، وعظيمنا وابن عظيمنا، فغضب صلى الله عليه وسلم وتغير وجهه وقال: يا أيها الناس! قولوا بقولكم أو ببعض قولكم ولا يستهوينكم الشيطان -وفي لفظ: لا يستحرينكم الشيطان}.

وفي السنن: {أن أعرابياً أتى إليه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! قحطت الأرض، وجاع العيال، وهلك المال، فادع الله لنا أن يغيثنا، فإنا نستشفع بك إلى الله ونستشفع بالله إليك، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: سبحان الله! سبحان الله! سبحان الله! أتدري ما شأن الله؟ إن شأن الله أعظم من أن يستشفع به على أحد من خلقه}.

وجاء رجل فقال للرسول عليه الصلاة والسلام: {ما شاء الله وشئت، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: أجعلتني لله نداً؟! قل: ما شاء الله وحده} فالرسول صلى الله عليه وسلم عبد لا يملك ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، وهو في قبره لا يملك قضاء طلب للناس، ولا تلبية حاجة، بل هو في قبره حي حياة برزخية، الله أعلم بها، لا يأكل جسمه التراب، لكنه عليه الصلاة والسلام لا يرفع حاجات، ولا يلبي مطالب في قبره عليه الصلاة والسلام، فإنما الوسيلة إلى الله الحي القيوم، والرسول عليه الصلاة والسلام إنما هو واسطة في التبليغ لا واسطة في رفع الحاجات، لأن من جعل بينه وبين الله أناساً في رفع الحوائج فقد أشرك مع الله، خاصة الأموات، فإن المشركين يقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، فالله عز وجل لامهم، وعدهم من المشركين، بل هذا الفعل من أعظم الإشراك.

فضل أبي بكر

الفائدة الرابعة عشرة: وفي الحديث أفضلية أبي بكر الصديق وأنه خيرة الصحابة بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأنه شيخ المسلمين والمجاهد بنفسه والصادق، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم لما سمع بعض الكلام عن أبي بكر: {ما أنتم بتاركي لي صاحبي؟! قال الناس: كذبت، وقال لي أبو بكر: صدقت، واساني بأهله ونفسه وماله، ثم قال صلى الله عليه وسلم: يا حسان! -شاعر الإسلام-: أما قلت شيئاً في أبي بكر؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: ماذا قلت؟ قال: قلت:

إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة >>>>>فاذكر أخاك أبا بكر

بما فعلا

التالي الثاني المحمود شيمته >>>>>وأول الخلق طراً صدق الرسلا }

قال ابن تيمية في المجلد الرابع من فتاويه: " أبو بكر أعلم الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصدقهم وأخلصهم وهو من الذين لهم قدم صدق عند الله عز وجل ".

وورد حديث فيه ضعف عند ابن ماجة: { إن الحي القيوم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى سوف يصافح أبا بكر في الجنة} أورد هذا الحديث ابن القيم في المنظومة، وتعرض لسنده ونحن نقوله من باب الإيراد لأنه في سنن ابن ماجة، وفي سنده كلام، وإن ثبت هذا، فهذا أمر يليق به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بدون كيف، ولكن نلحقه بالأسماء والصفات التي لا ندري بها، ونثبتها كما أثبتها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لنفسه، وأثبتها رسوله صلى الله عليه وسلم له.

لم يوص النبي صلى الله عليه وسلم بالخلافة لأحد

الفائدة الخامسة عشرة: وفيه أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يوص بالخلافة، خلافاً لمن زعم من الرافضة أنه أوصى بها لـعلي بن أبي طالب، وقد كذبوا على الله، فما أوصى بها أحداً من الناس، لكنه لمح ولم يصرح، وأشار إلى أبي بكر فولاه أمر الصلاة وجعله إماماً بعده، وفي مرض موته، فكأنه يشير إليه، أما أنه نص عليه نصاً، أو كتب له كتاباً أو أوصى وصية، فهذا لم يحدث أبداً، ولم يقع، والرسول عليه الصلاة والسلام لم ينص على إنسان بعينه ولم يستخلف عليه الصلاة والسلام، وإنما ترك الأمر للناس، ولكنه أشار بأفضلية أبي بكر قبل موته صلى الله عليه وسلم بثلاث ليال وقال: {لو كنت متخذاً خليلاً من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر، ولكن صاحبكم خليل الرحمن سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر} فكأنه يشير إليه عليه الصلاة والسلام.

فلم يوص بالخلافة لـعلي، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: [[لقي العباس علي بن أبي طالب في مرض موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان العباس رجلاً داهية من دواهي الرجال، فقال: يا علي! قال: نعم، قال: اذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرنا أين هذا الأمر بعد وفاته، فإن كان لنا عرفنا ذلك، وإن لم يعطنا الخلافة، فليوص بنا خيراً من يتولى الخلافة، فقال علي وكان رشيداً وناصحاً صادقاً: والله لا أكلم الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الأمر، والله إن منعنا الخلافة لا يعطينا الناس]] فبقوا على هذا الحال حتى توفي عليه الصلاة والسلام، فتولى أبو بكر وكان سديداً، مدحه عمر وعثمان وعلي وجل الصحابة، وما زال لسان المدح له ولسان صدق في الآخرين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

تهيئة الخطب قبل الكلام

الفائدة السادسة عشرة: تهيئة الخطب قبل الكلام، فإن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: [[زورت كلاماً في صدري]] قبل أن يتكلم به في سقيفة بني ساعدة، فلما أتت أراد أن يتكلم، فما تركه أبو بكر يتكلم، بل تكلم أبو بكر فأتى على البديهة وعلى السرعة والعجلة أحسن من كلام عمر، فالمسلم إذا أراد أن يتحدث في مجمع أو يوصي بوصية، فعليه أن يحبرها في صدره قبل أن يتكلم بها، وأن يتهيأ بها، وهذا من أدب الدعوة والخطابة.

فضل الأنصار

الفائدة السابعة عشرة: فضل الأنصار وما لهم من سبق وأن الله قد رضي عنهم من فوق سبع سموات، وفي صحيح البخاري عن أنس قال: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار، الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق} فمن أحب الأنصار أحبه الله عز وجل ومن أبغضهم أبغضه الله.

ولذلك تعرض بعض الناس لبغضهم فمحقه الله عز وجل؛ لأنهم أنصار دعوة المصطفى عليه الصلاة والسلام وهم أهل الدار، وأهل الإيمان.

ومن فوائد الحديث: أن الرافضة والمعتزلة يردون هذا الحديث، وينكرون الرجم وقالوا: ليس في كتاب الله.. إذن فليس من السنة، فيرد عليهم بهذا الحديث الذي تنوقل حتى أصبح قريباً من درجة التواتر بين أهل العلم، وأن هذا ثابت.

حدة أبي بكر رضي الله عنه

القائدة الثامنة عشرة: حدة أبي بكر

رضي الله عنه، وأنها لا تنقص من مقامه لكثرة محاسنه عند الله عز وجل فهو صادق ومخلص، ولكنه رجل فيه حدة، يقول عمر

: [[كان فيه بعض الحدة]] أي: سرعة غضب، وأبو بكر

لما تولى الخلافة قال على المنبر: [[يا أيها الناس! إن لي شيطاناً يعتريني -أي: يأتيني من الغضب- فالله الله، لا أمسن أبشاركم وأشعاركم]] يعني: لا تحوجوني إلى الغضب فأضرب فيكم، وفي كنز العمال أن عمر

رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى أبو بكر

دخلت معه في حظيرة فيها إبل الصدقة، فقال أبو بكر

للناس: يا أيها الناس! لا يدخل معي ومع عمر

أحد منكم، قال: فدخلنا فلما دخلنا إذا بأعرابي دخل، قال أبو بكر

: أما قلت لكم لا تدخلوا، ثم أخذ أبو بكر

خطام الناقة، وضرب به الأعرابي، فلما ضربه به عاد: ((إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)) [الأعراف:201] فقال: أستغفر الله تعالى خذ الخطام واقتد مني واقتص -أي: اضربني كما ضربتك- قال: عمر

والله لا يفعل، قال: ولم؟ قال: لا تجعلها سنة للناس بعدك كلما أدبنا الناس، قالوا: نقتص منكم، ولكن أعطه ناقة من هذه، فأعطاه ناقة ودعا لـعمر

، ولذلك قال الأعراب لـعمر

: أنت الخليفة أو أبو بكر

؟ قال: أنا هو، غير أنه إياي -يعني: أنا وإياه شيء واحد.أتى عيينة بن حصن

سيد فزارة من غطفان بعد أن توفي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر

هو والأقرع بن حابس

فقالا: يا خليفة رسول الله! إن عندنا أرضاً سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تقطعناها لعلنا نحرثها أو نزرعها، لعل الله أن ينفع بها بعد اليوم، فقال أبو بكر

تواضع أبي بكر

الفائدة التاسعة عشرة: تواضع أبي بكر لـعمر وأبي عبيدة، وإن من أسمى سماتهم التواضع لبعضهم، فإن أبا بكر يعرف أنه أول مسلم من الرجال، ويعرف أنه ذو سابقة، ولكن قال لـعمر: [[يا عمر!ابسط يدك لأبايعك]] وهل تظنون أن عمر لو بسط يده سوف يقول أبو بكر: لا، أردت فقط أن أختبرك، لا والله، ليبايعنه وليجلسن معه وليذهبن، وليجعلنه خليفة، لأن الله عز وجل جعلهم هكذا خير أمة أخرجت للناس، ولذلك ولَّى الرسول عليه الصلاة والسلام على أبي بكر وعمر عمرو بن العاص وهما خير منه، وولى عليهم بعض الولاة، ورضوا به رضوان الله عليهم.

وفي الصحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما حضرته سكرات الموت قال: {أنفذوا جيش أسامة} وأسامة بن زيد كان عمره يوم أنفذه صلى الله عليه وسلم سبع عشرة سنة، وكان مولى من الموالي، وكان في جيشه عمر بن الخطاب وعثمان وعلي فلما توفي عليه الصلاة والسلام قال عمر لـأبي بكر: أرى ألا ترسل جيش أسامة، قال: ولم؟ قال: إن العرب قد تكالبت علينا، وقد ارتد الكثير منهم عن الإسلام، وأخشى أن يدخلوا المدينة وليس لنا جيش، قال أبو بكر: والله لو أخذت الكلاب بعراقيبنا، فلا بد أن أمضي جيش أسامة، فودع أسامة وأخذ بلجام فرسه وأبو بكر يمشي على قدمه في الأرض وهو يكلم أسامة، فيقول أسامة: يا خليفة رسول الله! أنزل أو تركب؟ قال: لا والله لا تنزل ولا أركب، وما علي أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله -وكأن أبا بكر ما غبر قدمه إلا تلك الساعة، وهو منذ أن عرف لا إله إلا الله مغبر قدمه ورأسه وجسمه في سبيل الله عز وجل، فرضي الله عنه وأرضاه، ثم قال: يا أسامة! أتأذن لي بـعمر لأستعين به؟ قال: نعم، فأذن له فعاد من الجيش.

إذاً: فتواضع أبي بكر لـعمر ولـأبي عبيدة تواضع جم، يقول الذهبي: كان من خيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأحسنهم خلقاً أبو عبيدة عامر بن الجراح، ولذلك لما حضرته الوفاة، قال له أصحابه: -وقد طعن بالطاعون- ما هي خير ليلة مرت بك في حياتك؟ قال: ليلة ما أنساها من ليالي اليرموك -المعركة التي وقعت بين المسلمين وبين الروم وكان قائدها أبا عبيدة أمير الأمراء- قال: رأيت الجيش نام ذات ليلة في ليلة شاتية، كثير بردها، وكثير مطرها، فقمت فنظرت إليهم وقد ناموا جميعاً، فأيقظت امرأتي وقلت: هل لك بليلة تشترين بها الجنة؟ قالت: نعم، أطوف أنا وإياك على هذا الجيش نحرسه في هذه الليلة -وهو الأمير- فكان يطوف رضي الله عنه وأرضاه، فإذا وجد رجلاً لحافه ليس مغطىً عليه رد عليه لحافه، حتى أصبح الصباح، ثم صلى بالناس الفجر، فهي من خيرة الليالي عنده، ولذلك يقول عمر للصحابة في المدينة تمنوا، فتمنوا أمنيات، فقال: أما أنا فوددت أن لي ملء هذا البيت رجالاً مثل أبي عبيدة، وسافر عمر رضي الله عنه وأرضاه إلى الشام، فأتى الأمراء وهم أربعة، شرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص ويزيد بن أبي سفيان، وأميرهم جميعاً أبو عبيدة، فـأبو عبيدة كان في مرحلة وراء هذه المرحلة، فلما أصبح على مشارف الشام لقيه الأربعة الأمراء بجيوشهم، فلما رأى عمر رضي الله عنه الخيول وعليها الأبطال والسيوف، وأهبة هائلة ما سمع الناس بمثلها، فصد رضي الله عنه وأرضاه الطريق، ومعه خادمه، فلقيه عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين! تهيأنا لك، ونريد أن ترهب الأعداء، وقد صففنا نحن الأربعة الأمراء بجيوشنا، ثم صددت عنا، قال: اسكت يا عمرو! نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله، ثم قال: ادع لي أخي أبا عبيدة فأتى أبو عبيدة، وهو على ناقة -وهذا من تواضعه رضي الله عنه وتقشفه وزهده قال ابن كثير: حزامها ليف- فأتى وليس عليها سرج حتى اقترب من عمر فتعانقا وهما يبكيان؛ لأنهما من زمن طويل لم ير أحدهما الآخر، ثم قال عمر: تعال يا أبا عبيدة! مل بنا نتذكر أيامنا التي قضيناها، مع رسول الله صلى عليه وسلم، وهذه هي المحاسبة والمرابطة للنفس فمالا عن الطريق وهما يبكيان، فلما أتى المساء قالوا لـعمر: أين تنزل يا أمير المؤمنين الليلة؟ -أي: أين تنام- قال: أنزل عند أخي أبي عبيدة، فقال أبو عبيدة: لا، انزل عند بعض هؤلاء الأمراء لا تعصر عندي عينيك، يعني: تبكي عندي، قال: لأنزلن عندك، فاستضافة في تلك الليلة فقدم له أقراصاً من شعير، فقال له عمر: أما عندكم شيء من متاع، قال: لا، صرفنا ما أعطيتمونا، أي: من العطاء ومن المال في مصارفه، وهذا زادنا وطعامنا، فأكل عمر وهو يبكي. ويقول: غرتنا الدنيا كلنا يا أبا عبيدة! إلا أنت، فلما أتى النوم، قدم له شملة، قال: هذا فراشنا، فالتحف عمر نصفها وافترش نصفها، وأخذ يبكي، فأتى أبو عبيدة، ووقف عند رأسه وقال له: أما قلت لك في النهار: إنك سوف تعصر عينيك عندي! رضي الله عنهما وأرضاهما.

طلب الصدق ثوابه الصدق من الله

الفائدة العشرون: طلب الصدق ثوابه الصدق من الله عز وجل، قال تعالى: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ [محمد:21] فإن عمر رضي الله عنه سأل الله الشهادة بصدق فبلغه الله الشهادة، وأعطاه ما تمنى، وسأل الله عز وجل عند الجمرات أن يرزقه الشهادة، فرزقه الله الشهادة.

ولذلك في صحيح مسلم: {من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء ولو مات على فراشه} فإنه سأل الله الشهادة فرزقه الله عز وجل الشهادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول أنس: ظننت أن القيامة قامت يوم قتل عمر، قتل في الركعة الأولى وأكمل ابن عوف الصلاة بالمسلمين رضي الله عنهم جميعاً وحمل، فيقول بعض الناس: لا ضير عليه، ليس عليه بأس، فلما وضع في بيته، قال: إيتوني بلبن، يريد عمر رضي الله عنه أن يختبر جرحه، لأنه طعن بخنجر ثلاث مرات، والخنجر له حدان أي ست طعنات، فلما شرب اللبن، خرج اللبن من الجرح، فقال: الله المستعان -يعني أنه مقتول- قال: من قتلني؟ قالوا: أبو لؤلؤة المجوسي، قال: الحمد لله الذي جعل شهادتي على يد رجل ما سجد لله سجدة، ثم قال: ضعوا خدي على التراب، فوضعوه على التراب، وأراد ابنه عبد الله أن يرفع رأسه بمخدة فقال: ضع خدي على التراب لا أم لك! عل الله أن يرحمني، ثم سأل الله عز وجل وقال: اللهم إني أصبحت منقطعاً عن الدنيا مقبلاً عليك اللهم فارحمني.

ثم دخل عليه الصحابة، قال ابن عباس: وكنت أقرب الناس إليه، قال: وبينما أنا واقف عند رأسه، وإذا هو ينصت طويلاً رضي الله عنه وأرضاه، ويكفكف دموعه، يتذكر أعماله وقدومه على الله عز وجل، قال: فإذا برجل قد قرب منا فوضع يده على كتفي فالتفت، فإذا هو علي بن أبي طالب، قال: فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين! فالتفت إليه عمر وقال: لا تقل: يا أمير المؤمنين! فإني لست اليوم للمؤمنين بأمير، قال: السلام عليك يا أبا حفص! أمَّا بَعْد: {فوالله لطالما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر فأرجو الله أن يجعلك مع صاحبيك} قال: ابن عباس: فقلت أنا: يا أمير المؤمنين! هنيئاً لك وطوبى لك، أسلمت فكان إسلامك نصراً، وهاجرت فكانت هجرتك فتحاً، وتوليت فكانت ولايتك رحمة، فسالت عيناه من الدموع ثم قال: [[يا ليتني نجوت كفافاً لا لي ولا علي]] ثم استدعى ابنه عبد الله وقال: لا تتول أمر هذه الأمة، يكفي من آل عمر رجل واحد يعذب، ثم أسلم روحه إلى الحي القيوم، فنسأل الله أن يجمعنا به وبكل صادق يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار، نسأل الله أن يقر أعيننا برؤيته تبارك وتعالى وبرؤية رسوله صلى الله عليه وسلم، اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما كانت الوفاة خيراً لنا.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , من كنوز السيرة للشيخ : عائض القرني

https://audio.islamweb.net