إسلام ويب

إن الدين الإسلامي قام على أسس وقواعد تحفظ للمجتمع الأمن والاطمئنان والسعادة، ومن هذه الأسس: الأمر بالمعروف والنهي علن المنكر، والشرع قد جعل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضوابط وآداباً، واشترط لأهله مواصفات، وجعل لهم في نبيهم قدوة يقتدون به.

صور من حياة السلف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً، والصلاة السلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

سلام الله عليكم ورحمة وبركاته، وأسعدنا الله بكم وبكل مؤمن، وأسعدنا جميعاً في دار كرامته في مقعد صدق عند مليك مقتدر، يوم يتقبل الله منا أحسن ما عملنا ويتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.

معنا هذه الليلة محاضرة بعنوان: (ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ما هي الضوابط التي يقوم عليها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

وما هي آداب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر؟

تلكم القضايا نسمعها في هذا الدرس مستضيئين بنور الكتاب والسنة، متوكلين على الله الواحد الأحد، جاعلين محمداً صلى الله عليه وسلم إمامنا وقدوتنا.

إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا>>>>>كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا

فصلى الله على محمد ما ذكره الذاكرون، وغفل عنه الغافلون.

وقبل أن أبدأ بشيء من التفصيل في هذه المحاضرة أحب أن أستعرض معكم أهم القضايا التي نتدارسها في هذا الدرس:

أولاً: فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ثانياً: الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ثالثاً: الأسس التي يقوم عليها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

رابعاً: هديه صلى الله عليه وسلم في الأمر والنهي.

خامساً: أهل الحسبة في الإسلام من هم؟ وما هي مواصفاتهم وأهليتهم؟

سادساً: سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الأمر والنهي.

اعلموا -بارك الله فيكم- أن بعض علماء أهل السنة عدوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الركن السادس من أركان الإسلام، وأوجبوه وجوباً قطعياً.

وتحدث شيخ الإسلام في المجلد الثامن والعشرين من فتاويه عن هذا، وقال: من ميزات الأمة المحمدية أن فضَّلها الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأمم التي سبقت ما أمرت كلها بالمعروف في كل معروف، ولا نهت كلها عن المنكر في كل منكر، بل كان بعضها يأمر ببعض المعروف، وبعضها ينهى عن بعض المنكر، فلما أتى الله بالأمة المحمدية الرائدة الخالدة أمة الكتاب والسنة، الأمة التي نصبت جبهتها للشمس لترفع لا إله إلا الله، قال لها الله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] قرأ أبو حفص الفاروق قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] فقال: [[والذي نفسي بيده لا يتم أول الآية حتى يتم آخرها]] لا نكون خير أمة حتى نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونؤمن بالله، نأمر بالمعروف ولو كان السيف على الرأس، وننهى عن المنكر ولو كان الموت يتحشرج في الحناجر.

طاوس بن كيسان

وسوف أذكر قصتين لعالمين زاهدين عابدين من علماء الإسلام، أولهم طاوس بن كيسان، عابد ومولى من الموالي، ليس له أسرة عريقة من أسر العرب، ولكن رفعه الله بالتقوى والعلم، كان زاهداً من علماء اليمن من تلاميذ ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما، وطاوس بن كيسان راوية ثبت ثقة إمام، بل زاد بعضهم في صفته: ثبت ثبت، إمام حجة، لا يسأل عن مثله.

ذهب إلى اليمن فكان يقول الحق ولو كان مراً، دخل على محمد بن يوسف -أخي الحجاج بن يوسف الثقفي وكان ظالماً غاشماً مارداً سفاكاً للدماء- فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، فأعطاه مرة كساءً فأخذه من على رأسه، ووضعه تحت أرجله في الأرض، فقال: مالك؟

قال: ما أتيتك لتكسوني، وإنما أتيتك لآمرك بالمعروف وأنهاك عن المنكر.

قال له: وهل عندي منكر؟ قال: الظلم فاشٍ، أي: منتشر.

ذهب إلى بغداد -دار السلام - ليقابل أبا جعفر المنصور وأبو جعفر لا يسأل عن مثله، أدهى دهاة ملوك الأرض، حتى قال الإمام أحمد: من مثل ابن أبي ذئب كلَّم أبا جعفر، وأبو جعفر هو أبو جعفر؟

بينما يذكرنني أبصرنني>>>>>عند قيد الميل يسعى بي الأغر

قال تعرفن الفتى قلن نعم>>>>>قد عرفناه وهل يخفى القمر

دخل طاوس عليه، وكان على أنفه ذباب فأقلقه، ترك المواضع كلها، ترك السكر، والحلوى، ولا يقع الذباب بحفظ الله ورعايته إلا على أنف هذا السفاك، الذي يذبح الملوك مثل ما يذبح الدجاج، فيترك الذباب الأمراء والوزراء والعلماء ويأتي يقع على أنفه، فأخذ أبو جعفر يذب الذباب، فيطير ويقع على أنفه، قال: يا طاوس! عندي سؤال؟

قال: ما هو سؤالك؟

قال: لماذا خلق الله الذباب؟

قال طاوس: يا أمير المؤمنين! خلق الله الذباب ليذل به أنوف الطغاة!

وهذا أحسن جواب سمع في التاريخ

إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73] قال أهل العلم: لو أخذ الذباب شيئاً من الطعام ما استطاع أهل الأرض أن يتخلصوه منه.

الأوزاعي

الأوزاعي الإمام العظيم لما سئل عنه بعض أهل العلم قال: لا يسأل عن مثله، ريحانة أهل الشام.

قيل: رئي في المنام أن نجماً هوى من السماء، فقيل لبعض العلماء: ما تأويل ذلك؟ قال: إن صدقت رؤياك فقد مات الأوزاعي.

وسألوا أحد تابعي التابعين، قال: رأيت ريحانة قطعت من الأرض وارتفعت إلى السماء، قال: الأوزاعي يموت.

كان الأوزاعي يسكن في الأوزاع في حارة من حارات بيروت عاصمة لبنان وهي ما زالت إلى الآن تسمى بالأوزاعي.

أتى عبد الله بن علي عم السفاح وعم أبي جعفر ففتح دمشق وقتل من صلاة الفجر إلى صلاة الظهر اثنين وثلاثين ألف مسلم يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون الصلوات الخمس، سفك دماءهم حتى جرت السكك بالدماء، وأدخل بغاله وخيوله مسجد بني أمية ثم جلس في المسجد، وقال: من يعارضني؟ قال له وزراؤه لا يعارضك أحد، قال: هل تعلمون أحداً يمكن أن يقول لي: لا؟ قالوا: إن كان أحد يقول لك لا فـالأوزاعي قال: عليَّ بـالأوزاعي.

فلما ذهبوا إلى الأوزاعي قام عبد الله بن علي فدخل قصره، وقال لجنوده: صفوا صفين، واحملوا السيوف معكم حتى نرهب الأوزاعي المحدث العالم، علَّه أن يتخاذل في كلامه معنا.

ذهبوا إلى الأوزاعي فقالوا: يريدك عبد الله بن علي عم السفاح قال: الله المستعان! انتظروني قليلاً، فذهب فاغتسل، ولبس أكفانه من تحت الثياب، ما معنى لبس الأكفان؟

خطر ممنوع الاقتراب، معناه: أنه سيقول كل ما في رأسه، فليغضب من يغضب، وليرض من يرضى، لبس أكفانه وثيابه، وأتى معه عصا يتوكأ عليها وهو في الستين، بينه وبين القبر قاب قوسين أو أدنى! ماذا يريد بعد الستين؟ يقول سفيان الثوري: [[من بلغ منكم الستين فليأخذ كفناً له وليبع الدنيا بلا شيء]].

قال: فدخلت عليه وفي يد عبد الله بن علي خيزران، وقد غضب وعلى جبينه عرق من الغضب، قال: من أنت؟

قال: أنا الأوزاعي.

قال: ما رأيك في الدماء التي سفكناها؟

قال: لا يجوز لك ولا يحل لك، حدثني فلان -حتى السند يحفظه- عن فلان عن فلان. عن جدك ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة}.

فنكت بالخيزران في الأرض وحوله الوزراء، فرأيتهم يتقبضون ثيابهم خوفاً من دمي لا يرش ثيابهم، والأوزاعي أخذ يرفع عمامته يتهيأ لضربة السيف كي لا يتلكأ السيف في العمامة.

قال: فرفع طرفه، وقال: والأموال التي أكلناها.

قال: قلت له: إن كان حلالاً فحساب، وإن كانت حراماً فعقاب.

قال: خذ من أموالنا ما شئت.

قلت: لا أريد أموالك.

قال: فسلم لي بدرة -البدرة كالكيس فيه مال- قال: فوزعتها على الجنود وهو يراني، حتى بقي كيس النقود فرميت به عند أرجله، قال: فغضب غضباً ما غضب مثله أبداً، وانتظرت متى يضرب السيف.

ثم قال لي: اخرج، فخرج والناس عند الباب، فقالوا: كيف نجاك الله يا أوزاعي؟

قال: والله الذي لا إله إلا هو لما دخلت عليه تصورته على كرسيه كالذباب، والله ما تذكرت إلا الله بارزاً على كرسيه يوم العرض الأكبر.

سبحان الله! لأن من يقدر الله يهون عليه كل شيء.

دخل ابن تيمية الإسكندرية فاجتمع غلاة الصوفية والمبتدعة يريدون قتله، قال الناس: يـابن تيمية يريد هؤلاء أن يقتلوك؟ قال: كأنهم والله الذباب عندي.

ابن أبي ذئب المحدث الكبير، جلس يدرس في مسجد الرسول عليه الصلاة السلام، فدخل المهدي بن أبي جعفر المنصور وقد كان خليفة، فقام أهل المسجد جميعاً إلا ابن أبي ذئب لم يقم، قال: لماذا لا تقوم يـابن أبي ذئب؟

قال: والله لقد كدت أقوم لك لكني تذكرت قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6] فتركت القيام لذاك اليوم، قال: اجلس، والله ما بقيت شعرة في رأسي إلا قامت.

والشاهد من هذا: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة، ولكن ليس من يسمع الفريضة أن يبدأ بها كما قال الأول:

أوردها سعد وسعد مشتمل>>>>>ما هكذا يا سعد تورد الإبل

إنما له ضوابط وحدود وآداب، فلنستمع إلى ذلك.

فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

أما فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] وقوله: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114] فلا خير في كلام الناس إلا من أمر منهم بالمعروف أو نهى عن المنكر أو أصلح بين الناس أو أمر بصدقة.

قرية من قرى بني إسرائيل قص الله قصتها في القرآن، وأسلوب القرآن لا يحدثنا عن أسماء القرى لا يقول: اسمها أيلة أو يافا أو حيفا أو النقب لأن هذا ليس فيه مصلحة، يقول الله: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ [الأعراف:163] لم يسم لنا البحر أيضاً؛ لأنه ليس في ذلك مصلحة لنا أن يكون البحر الأبيض المتوسط أو البحر الأحمر أو المحيط الأطلنطي أو المحيط الهندي، إنما الشاهد: أنها قرية على ساحل البحر، أتت هذه القرية فحرم الله عليهم صيد السمك والحوت يوم السبت، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:163].

فأتى يوم السبت فحرم الله عليهم أن يصطادوا، فكانت السمك والحيتان تأتي على ساحل البحر حتى تكاد تقفز على الناس، فإذا انتهى يوم السبت وأتوا يصطادون يوم الأحد لا يجدون سمكة واحدة، ابتلاء من الله.

فقالوا: عجيب! يحرم الله علينا الصيد يوم السبت وفيه يأتي السمك، وبقية الأيام لا يأتي السمك لابد أن نحتال بحيلة، ندخل السمك يوم السبت في خنادق وأنهار ونغلقها، فإذا أتى يوم الأحد اصطدناها.

انظر إلى الخيانة وقلة الأمانة! يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142] حرَّم الله عليهم الشحوم فأذابوها وجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها، فخندقوا الخنادق، وفتحوا الأنهار، وأتت الحيتان ودخلت، فإذا دخلت أغلقوا عليها، فإذا أردت أن تعود إلى البحر لا تستطيع أن تعود، وفي يوم الأحد يصيدون.

انقسم أهل القرية إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: قسم فعلوا هذه الفعلة النكراء، الغشيمة الصلعاء، والداهية الدهياء، وعصوا رب الأرض والسماء.

والقسم الثاني: سكتوا كالشيطان الأخرس لم يتكلموا بشيء، كل يقول: نفسي نفسي!

والقسم ثالث: قالوا: هذا منكر؛ فخافوا الله، واتقوا الله، وقالوا لهؤلاء الفاسقين: لا نساكنكم في أرضكم، أنتم في جهة من القرية ونحن في جهة، وبنوا بينهم سوراً عظيماً وقالوا: لا تدخلون إلينا ولا نخرج إليكم، أنتم عصاة وأعداء لله، قد تعديتم حدود الله؛ والله لا نأتيكم ولا تأتونا أبداً، تركوا بينهم نوافذ فقط للتهوية أو للنظر بعضهم ينظر لبعض، وأتى عذاب الله.

وابن عباس رضي الله عنه وأرضاه متوقف يقول: ما أدري ما فعل بالثالثة التي سكتت وعكرمة يقول: أظن أن الله أنجاها وفي الصباح أتى أمر الله الذي لا يرد عن القوم الخاسرين، فقال الله لهم: كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة:65] كلمة كن إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] أمسوا رجالاً ونساء آدميين وناموا ولهم أعضاء وعيون، يتكلمون ويبصرون، وأصبحوا وهم قردة، وفي الصباح قام هؤلاء فلم يسمعوا صوتاً لأولئك ولا حركة، فنظروا إليهم من النوافذ فوجدوهم قردة.

فيقولون: أين فلان منكم؟ فيرفع القرد يده يقول: أنا، ينادون أين فلانة بنت فلان فترفع يدها.

سبحان الله! هؤلاء هم الممسوخون، وبقي هؤلاء نجاهم الله، أما الطائفة الثالثة فنتوقف فيها لا ندري ما فعل الله بها لكنها طائفة في الحقيقة لم تقدم خيراً لدينها وما غضبت لله.

وفي بعض الآثار أن عابداً من بني إسرائيل اعتزل في قرية، وكان يصلي ويصوم ويعبد الله، لكن المنكرات حوله، الزنا، الربا، شهادة الزور، التقاتل، التناحر، فأنزل الله جبريل، وجبريل عليه السلام متخصص في الإبادة والنسف والإحراق، ولذلك كان بنو إسرائيل لا يحبون جبريل.

يقولون كما في صحيح البخاري للرسول عليه الصلاة السلام من الذي يأتيك؟ قال: جبريل! قالوا: لو سميت لنا غير جبريل لكنا أسلمنا وأطعناك، قالوا: إن جبريل هو الذي كشف أسرارنا، وهتك أستارنا، فأنزل الله عز وجل: مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98] ويكفي أن الله عدو لهم لأنهم عادوا هذا، فنـزل عليه السلام أراد القرية فوجد العابد وعاد إلى الله والله أعلم قال: يارب! عبد في القرية يعبدك كيف ندمره معهم؟ قال: به فابدأ، لأنه لم يتمعر وجهه من أجلي.

فعلم من ذلك أن خطورة السكوت تعم، وأن الإنسان الذي يعيش سلبياً في المجتمع ليس بمسلم كامل الإسلام، نعم قد ينجو في الآخرة، لكنه أساء لدينه ولمستقبله ولأمته ولبلاده.

الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قال عليه الصلاة السلام كما في صحيح مسلم عن أبي سعيد: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) ولعلماء أهل السنة شرحان اثنان ومنهجان في هذا الحديث.

المنهج الأول: ينـزل معنى الحديث على أصناف الناس، من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، هذا لأهل السلطة التنفيذية، للقضاة والأمراء، لمن في يدهم سوط وسيف، فهذا القسم لهم ( فليغيره بيده).

( فإن لم يستطع فبلسانه) هذا للدعاة وللعلماء وطلبة العلم.

( فمن لم يستطع فبقلبه) هذا للذي لا يملكون حجة وبياناً ولا سيفاً ولا سناناً، فهم: ليسوا من العلماء والدعاة، ولا من الأمراء والقضاة، فعلى هؤلاء أن ينكروا بقلوبهم.

المنهج الثاني: وهو منهج تدريجي تطويري على جميع المسلمين، على المسلم أن ينهى أولاً بيده إن استطاع؛ كما ستأتي الشروط، فلا يجلب مفسدة أعظم، يقول لأحد الناس: لا تسبل إزارك ثم يضربه على وجهه مع الصباح كفاً حاراً، فيأتي هذا، فيقسم بالله لا يصلي في المسجد، كما فعل من فعل من بعض الناس وأخذته العزة بالإثم، فأصبح فاجراً مركباً بعد أن كان فاجراً بسيطاً.

( فإن لم يستطع فبلسانه) يتكلم، لكن إذا خشي الضرر فعليه أن ينكر بقلبه، وهذه درجات، وهما منهجان لا ثالث لهما في شرح الحديث.

وقف أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه -كما عند الترمذي وأحمد - على المنبر، فقال: ( يا أيها الناس! إنكم تقرءون هذا الآية وتحملونها على غير محملها، وهي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة:105] وإني سمعت الرسول عليه الصلاة السلام يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشكوا أن يعمهم الله بعقاب من عنده).

أي: أن كثيراً منكم لا يفهم معنى الآية، ويظهر لبعض الناس أن معنى قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [المائدة:105] أي: أقيموا أمر الله في نفوسكم، والتزموا أوامر الله ولا عليكم من الآخرين، وهذا خطأ، فإن معنى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [المائدة:105] أي: إذا أمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر، فلا يأتيكم ضرر إذا وقع العذاب لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] أي: بعد أن تأمروا وتنهوا.

واعلموا أن الرسول عليه الصلاة السلام قال في أكثر من مناسبة: (والذي نفسي بيده! لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه قصراً، أو ليخالفن الله بين قلوبكم، ثم يلعنكم كما لعن الذين من قبلكم) نعوذ بالله من لعنة الله، والحديث عند أبي داود وغيره.

والله يقول: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79].

وربما يتساءل متسائل فيقول: ما هي المنكرات التي يمكن أن نحولها؟

فنقول له: أما رأيت إلى المنكرات، وإلى رءوس الشياطين، وإلى الفتن صباحَ مساءَ، وإلى ما قذفتنا بها الثقافة والحضارة المادية من رجس ومعاصٍ والعياذ بالله، تدخل عند الخياط فتجد عشرات المنكرات، وكذلك عند المصور، والحلاق، والبائع، وغالب الناس، كل مكان لا يخلو من منكر يحب عليك إذا رأيته أن تغيره بحسب المستطاع.

لكن أما ترى عشرات الناس ومئات الناس من أهل الدعوة والاستقامة يمرون صباحَ مساءَ ولا يتكلمون بكلمة، هذا من الأمر السلبي الذي تعيشه الأمة الإسلامية في هذا الزمن، وله تفصيل سوف يأتي.

أسس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

أما أسس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي ستة، ومن لم يقم بها فقد نقص عليه شيء من مواصفات ومؤهلات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أسردها ثم أفصلها:

الأول: العلم بالمعروف والعلم بالمنكر، ولا يعلم المعروف والمنكر إلا بالكتاب والسنة.

الثاني: الحكمة في الأمر والحكمة في النهي.

الثالث: تحصيل المصلحة من الأمر والمصلحة من النهي، ولا تكون المصلحة أقل بل تكون أعظم.

الرابع: التدرج في المأمورات والمنهيات، كما فعل بعض الناس، رأى رجلاً أجنبياً يدخن، فأتى يتكلم معه في تحريم الدخان، سبحان الله! نصراني لا يعرف الله ولا اليوم الآخر ولا يعرف الجنة ولا النار، هو لم يسلم ولم يتوجه إلى الله عز وجل، ولن ينفعه إذا ترك الدخان وحرم الدخان، أو رأى زنديقاً أو بوذياً يسبل ثيابه أو يأكل باليسار، فيقول: لا تأكل باليسار لأنه ثبت في صحيح مسلم عن ابن عمر بسند رجاله ثقات أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه؛ فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله) هو لا يعرف البخاري ولا مسلماً ولا أبا هريرة ولا محمداً ولا الله ولا اليوم الآخر، فهذا لا يجدي فيه.

الخامس: الحلم والصفح والصبر.

السادس: عمل الآمر بالمأمور واجتنابه للمنهي، قال تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44].

العلم بالمعروف والمنكر

فلا يكون المعروف معروفاً إلا إذا دل عليه الكتاب والسنة، أنت لا تقول للناس: هذا معروف وهو ليس بمعروف، كيف نعرف أن هذا الأمر صحيح إلا بالكتاب والسنة، بقول الله وبقول الرسول عليه الصلاة السلام، أن نأتي إلى أشياء ونقول: هي المعروف وهي ليست بمعروف فليس بصحيح.

مثل: أن نتحكم في جلسات لم يأتِ بها الكتاب والسنةِ، ونقول للناس: اجلسوا هكذا، كلوا هكذا، تكلموا هكذا؛ فإن هذا ليس بصحيح.

ولا يعرف المنكر أنه منكر إلا إذا عرف من الكتاب والسنة أنه منكر، ولو قال بعض العلماء: إنه منكر ولكن ليس في كتاب الله أو في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه منكر فليس بمنكر، فهذا قاعدة عظيمة، وأحسن من شرحها فيما علمت الشاطبي في كتاب الاعتصام.

الحكمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

لابد من الحكمة في تغيير المنكر فيكون الآمر والناهي حكيماً، فليس كل إنسان يستطيع أن يأمر وينهى، فالجاهل والسفيه يفسد أكثر مما يصلح، مثل من يريد تغيير منكر فيجر على الأمة سفك الدماء، واختلاف الكلمة، وتشتيت الأطفال، وتشريد النساء، فهذا أساء وليس بحكيم، بل إبقاء المنكر كما هو أحسن من استحداث فتنة أعظم، لأنه المقصود من قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة:193] فمن قاتل لتكون فتنة لم يحسن بل أساء.

تحصيل المصلحة من الأمر والنهي

ذا علمت أن هؤلاء يعودون من الضلالة إلى الهدى، ويصلح حالهم فلك أن تأمرهم، أما إنسان يأمر بعض الناس، ويعلم أنه سوف يزداد شراً وخبثاً فالمصلحة ألا تأمر ولا تنهى، كأن تأتي إلى بعض الناس وهو جالس في مكانه فتدعوه إلى الله وتعلم أنه سوف يسب الله لو دعوته، فالمصلحة ألا تدعوه وألا تنهاه قال تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108] وقد وجد من بعض الناس أنه دعا بعض الناس إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فسب هذا المعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم.

التدرج في المأمورات والمنهيات

فمثلاً عند أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر تبدأ أولاً بالعقيدة، وبالفرائض، لا يصح أن نأتي إلى مجتمع لا يقيم الصلوات، فندعوه إلى تربية اللحى، لا ينفعنا أن يربي الناس لحاهم وليس لديهم إيمان، لا ينفعنا الشعر إذا لم يكن هناك شعور.

الرسول صلى الله عليه وسلم أتى والخمر يُشرب داخل الكعبة وداخل الحرم، فهل قال لهم: إن الخمر حرام، اتركوا الخمر؟ وهم أليسوا ملحدين، زنادقة، يسجدون للأصنام والأوثان، تركهم والخمر وقالوا: ماذا تريد؟ قال: قولوا كلمة تدين لكم بها العرب والعجم قال أبو جهل: وأبيك وعشراً، نعطيك ولو طلبت مئات الكلمات ما هي الكلمة؟ قال: قولوا: لا إله إلا الله، قال: أما هذه فلا، هذه تغير الدنيا، هذه معناها: الدخول في الدين أو النار.

فلذلك بدأ صلى الله عليه وسلم بالعقيدة عندما أرسل معاذاً إلى اليمن فقال: {ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة} ثم تدرج إلى الزكاة، والصوم، والحج، لكن أن يأتي الإنسان إلى قريب له لا يصلي، معرض فاجر فيبدأ معه في جزئيات، وهذا ليس بصحيح، قد يجاملك ويفعل ذلك لكنك لم تفعل شيئاً في الدعوة.

الصبر والحلم والصفح

وهذه الثلاث من ضرورات الداعية المسلم.

يقول لقمان عليه السلام لابنه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17] قال أهل العلم: إنما قال وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17] لأنه سوف يبتلى ويؤذى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2] ضربوا الرسول عليه الصلاة السلام، شجوه حتى سال الدم من وجهه، أتوا إلى بعض الأنبياء فكانوا يضربون النبي حتى يغمى عليه ثم يفيق ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، أتوا بالسيوف فنشروا بعض الأنبياء من بني إسرائيل بالمنشار حتى قسموه نصفين، طاردوا زكريا ففر، وأخذ يحيى فذبحوه، ثم قتلوا زكريا، وكلهم يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، ولذلك سوف نستمع إلى نماذج من حياته صلى الله عليه وسلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

التطبيق قبل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

أما عمل الآمر بالمعروف واجتنابه عن المنكر فهذا ضرورة، ولا يجعل الله تأثيراً ولا قبولاً لمن يخالف قوله فعله، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن شعيب: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88] قال: لا أريد أن أنهاكم عن شيء وأفعله أو آمركم بشيء ولا آتيه.

لكن ليعلم أن هذا يحتاج إلى شيء من التفصيل: وهي قضية أنه لا يلزمك أن تفعل النوافل التي تقولها، ويلزمك أن تفعل الفرائض التي تقولها للناس، فلا يلزم الداعية النوافل التي يقولها للناس أن يفعلها جميعاً لأنه قد لا يستطيع، مثل ماذا؟ مثل أن تأمر الناس بالصدقة قد لا يكون عندك عشاء ليلة، فمن أين تتصدق، حتى تتوقف إذاً عن دعوتهم إلى الصدقة، لا مرهم بالصدقة، قد تدعوهم إلى قيام الليل لكنك لا تستطيع في بعض الفترات أن تقوم الليل، فعليك أن تدعو وتواصل فالنوافل أمرها في سعة، أما الفرائض فلا، قال تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44].

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

أما ميزات هديه صلى الله عليه وسلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فكما يلي:

الأسلوب الأول: الدعوة إلى العقيدة أولاً

عندما أتى صلى الله عليه وسلم دعا إلى العقيدة، وقف على الصفا فجمع الناس وقال: يا أيها الناس! يا بني عبد مناف! يا بني هاشم يا بني كعب بن لؤي! يا بني تيم! فاجتمعوا جميعاً حتى ملئوا ما بين الصفا والمروة فقال: {يا أيها الناس لو أخبرتكم أن خيلاً ببطن هذا الوادي تريد أن تصبحكم أمصدقي أنتم؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، يا فاطمة بنت محمد! أنقذي نفسك، لا أملك لك من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب! أنقذ نفسك، يا بني هاشم!....} فلما انتهى قام أبو لهب (والأقارب عقارب).

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة>>>>>على النفس من وقع الحسام المهند

ليتها جاءت من البعيد! قام وقال: أدعوتنا؟ لهذا قال: نعم. قال: تباً لك سائر اليوم، فتولى الله الرد عليه من فوق سبع سماوات، فقال: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] فما زال يدعو ثلاث عشرة سنة إلى لا إله إلا الله.

الأسلوب الثاني: البدء بالأقارب

فأول ما ينطلق المسلم من بيته ومن أولاده ومن أطفاله، حتى يجعل بيته ثكنة إسلامية تشع بالأنوار والخير والهداية.

هل يليق أن يذهب إنسان فيروي الظمأى ويشبع الجوعى وأهله يموتون جوعاً وظمأ؟ ليس هذا بلائق، الأقربون أولى بالمعروف وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] فعلها صلى الله عليه وسلم، فعلى المسلم أن يبدأ ببيته ثم الجيران ثم القرابة.. وهكذا، فكان هديه صلى الله عليه وسلم أن يبدأ بالقرابة قبل الناس.

الأسلوب الثالث: اللطف واللين

فلا يوجد ألطف من محمد عليه الصلاة السلام، ولذلك قال عنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] وقال له: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].

يجلس في المسجد عليه الصلاة السلام ومعه أصحابه، ويأتي أعرابي وهو ذو الخويصرة اليماني فيبول في طرف المسجد، ويقوم الصحابة يريدون أن يبطحوه.

كل بطاح من الناس>>>>>له يومٌ بطوح

البطح أسلوب من التعزير، هو أن يوضع الرجل على بطنه فيضرب حتى لا يدري أين القبلة! هل هي هنا أم هناك؟ فإذا استفاق استفاق وهو يقول: أصبحنا وأصبح الملك لله، فقام الصحابة فقال عليه الصلاة السلام: {لا تُزرِمُوه} وفي رواية: {لا تقطعوا عليه بوله} أو كما قال صلى الله عليه وسلم فتركوه، فلما انتهى استدعاه صلى الله عليه وسلم ووضع يده على كتف الرجل، وهذه يد الأنس واللطافة والتحبيب وقال: {إن هذه المساجد لا تصلح لأذى ولا لقذر، وإنما هي للصلاة والذكر والتسبيح، عليَّ بذنوب من ماء} المسألة سهلة حلها محمد عليه الصلاة السلام.

يقول برناردشو لو كان محمد صلى الله عليه وسلم فينا لحَلَّ مشاكل العالم وهو يشرب فنجان القهوة.

والشاهد ليس في شرب القهوة؛ لكن في هدوئه صلى الله عليه وسلم، المشكلة سهلة لكن لو قام الصحابة وتركهم صلى الله عليه وسلم ضربوه وضربهم وهرب من المسجد وكفر بالله ثم تكونت شائعة مغرضة ضد الإسلام، ونفر الناس عن الرسول عليه الصلاة السلام، لا يزال يأتي ويقول: فروا وانجوا بأنفسكم، أتيت إلى رسول يضرب الناس ليس عنده إلا بطح على الأرض، الذي يريد البطح والفرش والضرب يأتي إلى المدينة فلا يسلم الناس، فاستدعاه الرسول صلى الله عليه وسلم وبين له.

وقام الرجل فتوضأ وأتى يصلي، وقال في التشهد الأخير: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، فالتفت الرسول صلى الله عليه وسلم من الصلاة، فقال: من الذي دعا آنفاً؟ هو يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الأعرابي هل يقولها أبو بكر أو عمر أو عثمان أو علي؟

لا. هؤلاء علماء وسادة ونجوم يعرفون، والواحد يوجه ملايين من الناس، قال: من قالها؟ -وأسلوب التورية سوف يأتي معنا هو العنصر الرابع في أسلوبه صلى الله عليه وسلم- قال الأعرابي: أنا وما أردت إلا الخير، قال: {لقد حجرت واسعاً} أي: ضيقت رحمة الله التي وسعت كل شيء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156] فعاد إلى قومه فأخبرهم بأخلاق الرسول عليه الصلاة السلام فدخلوا في دين الله أفواجاً.

أعرابي آخر وأصل الحديث في الصحيحين يمشي الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة متوجهاً إلى المسجد والأعرابي يأتي من ورائه صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فيسحبه سحباً عنيفاً، فيلتفت صلى الله عليه وسلم وهو يتبسم، وفي رواية مسلم يضحك، وقد كان بإمكانه أن يلتفت بدون تبسم أو ضحك، فهو يأسر القلوب، وفي كل بسمة أسر، وفي كل حركة هداية، وفي كل إشعاعة نور.

نسينا في ودادك كل غال>>>>>فأنت اليوم أغلى ما لدينا

نلام على محبتكم ويكفي>>>>>لنا شرفاً نلام وما علينا

ولما نلقكم لكن شوقاً>>>>>يذكرنا فكيف إذا التقينا

تسلى الناس بالدنيا وإنا>>>>>لعمر الله بعدك ما سلينا

التفت وهو يضحك، قال: ما تريد؟ قال: أعطني من مال الله الذي عندك لا من مال أبيك ولا من مال أمك.

كلمات ليس لها داعي، لكن العقول الفاسدة الجافة لا تعرف الأدب، نسأل الله أن نكون ممن منَّ عليه بالإسلام.

فأتى الصحابة ليؤدبوه فقال: دعوه، فأخذه وذهب به فأعطاه شيئاً من المال، فنـزل إلى الصحابة، فقال: يا أعرابي هل أحسنت إليك؟ قال: لا، ما أحسنت إلي، فأخذه صلى الله عليه وسلم مرة ثانية فزاده، قال: هل أحسنت إليك؟

قال: نعم!

جزاك الله من أهل وعشيرة خير الجزاء.

قال: عد إلى أصحابي، فإذا سألتك أمامهم، فقل هذا الكلام ليذهب ما يجدون في صدورهم، عاد فسأله، قال: نعم جزاك الله من أهلٍ وعشيرة خير الجزاء، ثم أسلم الرجل. هذا في رواية أنس أنه أسلم، وأنا أستغفر الله إن كنت وقفت منه موقف المعارضة.

ثم قال صلى الله عليه وسلم: {إنما مثلي ومثلكم ومثل الأعرابي كرجل كان له دابة فرت منه فذهب يطاردها، فأتى الناس يلاحقونها، فما زادت إلا فراراً، قال الرجل للناس: أيها الناس! دعوني ودابتي أنا أعلم بدابتي} هذه الرواية سندها جيد وليست إلا عند مسلم، لكني أقول: سياقها بهذا بالزيادة، {فأخذ -هذا الرجل- خشاشاً من خشاش الأرض وخضرة الأرض وأشار للدابة فأتت فأمسكها وقيدها، قال: ولو تركتكم والأعرابي لضربتموه ثم كفر ثم دخل النار} أو كما قال عليه الصلاة السلام، حلم وأناة ولطف ولين.

لين موسى وهارون مع فرعون

أرسل الله موسى وهارون إلى فرعون، فقال لهما: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] يقول ابن كثير قال ابن عباس: أي: منياه بالملك والشباب والصحة، قل يا موسى لفرعون إذا أسلمت متعك الله بشبابك وبملكك وبصحتك.

بالله نحن ونحن بسطاء، والواحد منا ليس له ذاك الأثر في المجتمع، لو أتانا رجل ولو كان أعلم أهل الدنيا وقال: يا فلان قاتلك الله لِمَ لا تستقيم على أمر الله؟! دمر الله مستقبلك لِمَ لا تتوب إلى الله؟! والله ليغضبن أحدنا وليخرجن إليه مقاتلاً.

لكن ما رأيك بملك من الناس أو زعيم من الزعماء يرى أن الدنيا يجب أن تصغي له وأن تسير في مساره، وأن تسجد له من دون الله، فأتى إليه موسى وقال قولاً ليناً.

قال أبو أيوب الأنصاري معنى قوله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] أي: نادياه بالكنية قولاً يا أبا مرة وكان اسمه أبو مرة مرر الله وجهه في النار، فكان يقول له والمترجم بينهما هارون: يا أبا مرة إذا أسلمت أبقى الله لك ملكك، يا أبا مرة يا أبا مرة والكنية فيها لطافة.

أكنيه حين أناديه لأكرمه>>>>>ولا ألقبه فالسوءة اللقب

كذاك أدبت حتى صار من خلقي>>>>>إني وجدت ملاك الشيمة الأدب

ولذلك قد يتهم بعض الناس بعض الدعاة بسبب التنازل في بعض الكلمات ولها مقاصد، وقدوتهم في ذلك موسى ومحمد على الأنبياء جميعاً صلاة الله وسلامه، والقلوب لا تنقاد إلا بالحب.

دخل رجل من الوَّعاظ على هارون الرشيد قال: يا هارون! قال: نعم، قال: استمع لي لأقولن لك اليوم كلاماً شديداً، قال: والله لا أسمع، قال: ولم؟ قال: أرسل الله من هو خير منك إلى من هو شر مني فقال: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] كيف يدخل إلى القلوب بكلمة قاسية؟ هذا لا يكون، كان أسلوبه صلى الله عليه وسلم الدخول إلى قلوب الناس باللين، نحن نتحدى وغيرنا يتحدى أن يوجد في كتب السنة أو كتب السيرة كلمة بذيئة قالها الرسول صلى الله عليه وسلم.

هل سمعتم أنه قال لكافر: يا حمار أو يا منتن أو يا قبيح أو كذا؟ لا، كان عفيفاً قريباً من القلوب حتى أسر الناس.

وفي السيرة لابن هشام بسند جيد أن أبا سفيان لما عفا عنهم صلى الله عليه وسلم في الحرم بكى أبو سفيان، وقال: لا إله إلا الله ما أرحمك، ولا إله إلا الله ما أبرك، ولا إله إلا الله ما أوصلك، ولا إله إلا الله ما أكرمك، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه ورد كما رد يوسف: قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:92] عفا عنهم ولذلك كسب قبائل العرب.

يقول الأستاذ علي الطنطاوي: نحن العرب مثل قرون الثوم إذا كشفت قرناً خرجت ثلاثة قرون!! وإذا كشفت القرن الثاني خرج ثلاثة، كلهم زعماء وكلهم أهل سيوف ما جمعهم قبل الإسلام ملك ولا زعيم ولا دولة ولا حضارة ولا ثقافة ولا فنون ولا هيئة، اليهود والنصارى واليونان والصين والرومان وفارس مجتمعون إلا العرب.

الواحد منهم أخوه من أبيه وأمه يذبحه عند مربط الشاة على عود من الحطب، الواحد منهم يجزر أخته بالسيف كما يجزر الدجاجة.

أمة همجية لولا أن الإسلام نظمها وقادها إلى الله، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63] يوم كانت هذه الأمة تعلن ولاءها واقفة لله عز وجل نصرها وجمع كلمتها، لكنها لما أعرضت عن منهج الله؛ هزمت وتقهقرت. كما يقول أحدهم متحدثاً عن العرب:

دمشق يا كنـز أحلامي ومروحتي>>>>>أشكو العروبة أم أشكو لك العرب

أبلت سياط حزيران ظهورهم>>>>>فقبلوها وباسوا كف من ضربا

وطالعوا كتب التاريخ واقتنعوا>>>>>متى البنادق كانت تسكن الكتبا

إلى أن يقول:

لكن أُبشِّر هذا الكون أجمعه>>>>>بصحوة لم تدع في صفنا جربا

بفتية طهر القرآن أنفسهم>>>>>كالأسد تزأر في غاباتها غضبا

إلى أن يقول فيها:

لا بائع الرخص في سوق النخاسة أو>>>>>من همه في الورى أن يكسب اللعبا

إنما هذه وقفة، وللحديث كلام آخر، وإنما أتكلم في موقفه صلى الله عليه وسلم يوم قاد هذه الأمة باللين والحكمة.

الأسلوب الرابع: التورية في الخطاب

الفضيحة ليست بنصيحة، الفضيحة علامة فشل، والداعية لا يفضح الناس ولا يصرح بالأسماء على رءوس الأشهاد، والرسول صلى الله عليه وسلم استخدم أسلوب التورية والإمام الشافعي يكتب لـأحمد رسالة يقول فيها:

أحب الصالحين ولست منهم>>>>>لعلي أن أنال بهم شفاعة

وأكره من تجارته المعاصي>>>>>ولو كنا سواء في البضاعة

تعمدني بنصحك:

تعمدني بنصحك في انفراد>>>>>وجنبني النصيحة في الجماعة

فإن النصح بين الناس نوع>>>>>من التوبيخ لا أرضى استماعه

فإن خالفتني وعصيت أمري>>>>>فلا تجزع إذا لم تعط طاعة

أتريد أن تفضحني على رءوس الأشهاد لكي تقودني إلى الجنة؟ قلبي لا يرضى أبداً، هذه طبيعة وضعها الله في الناس، ولذلك كان يقف صلى الله عليه وسلم فيقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا فيعرف صاحب الخطأ خطأه ولا يدري الناس أن صاحب الخطأ أخطأ.

صاحبنا نحن أزد شنوءة من قبائلنا نحن أهل الجنوب، ابن اللتَبِيَة أو اللتْبِيَة كما ضبط عند ابن حجر وغيره، أسلم فوضعه صلى الله عليه وسلم على الصدقات، قال تذهب تجمع الزكوات من الناس والأغنام والمواشي وتأتي بها قال: أبشر حباً وكرامة يا رسول الله.

فيذهب إلى أهل الغنم فيؤدون له هدية، والهدية للعمال غلول لا تجوز، ولولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم عينه ما أهدوا له هدية، أتى في المدينة يسوق الغنم، وإذا بسربين من الأغنام في الميمنة وفي الميسرة، قال صلى الله عليه وسلم ما هذه؟ قال: هذه لكم، وهذه أهديت إلي، الرسول صلى الله عليه وسلم غضب.

وقال صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة، الصلاة جامعة، الصلاة جامعة، دائماً الأخبار الخطيرة يبثها صلى الله عليه وسلم من على المنبر، لكن هل يقول على المنبر: ابن اللُّتْبِيَة؟ لا، قال: {ما بال أقوام أرسلهم لجمع الصدقات فيأتي أحدهم فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي، هلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه، والذي نفسي بيده لا يأخذون كثيراً ولا قليلاً إلا أدوه يوم القيامة} أو كما قال عليه الصلاة السلام.

فقام رجل أسمر من الأنصار من الأمراء فقال: خذ عملك يا رسول الله! قال: ولم؟ قال: سمعتك تقول ما قلت الآن وقام رجل آخر بخيطين اثنين من صوف قال: هذا أخذته من غنيمة كذا وكذا، ومن غزوة كذا وكذا، قال صلى الله عليه وسلم: {كيتان من النار}.

إذاً: الشاهد التورية فلم يكن صلى الله عليه وسلم يظهر الأسماء، ولا يفضح على رءوس الأشهاد، ومخاطبة الناس فن، ولذلك ينصح -وهذه من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم- من يأتي إلى قبيلة أو مجتمع ألا يجرح شعورهم بل يمدحهم بما فيهم من الخير الرسول صلى الله عليه وسلم قال: لبني عبد الله من بني شيبان: {يا بني عبد الله! إن الله قد أحسن اسمكم واسم أبيكم فاستقيموا أو أسلموا} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ليس الصحيح أن يأتي الإنسان إلى مجتمع فيسبه ويقدح فيه ثم يطلبهم إلى الهداية، القلب لا يتحمل، والشعور ينجرح، وماء الوجه يسكب، فحنانيك ترفق إنها القلوب.

أهل الحسبة في الإسلام

أهل الحسبة اختفوا إلا قليلاً في هذا العصر، تعريفهم كما قال أهل العلم: هم طائفة من المؤمنين جندوا أنفسهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير طلباً للأجر من الله تعالى وإصلاح العباد والبلاد.

هذه مواصفاتهم، ليس عندهم ألغاز ولا أحاجي ولا دنميت، عندهم إصلاح الناس، يأخذون الإنسان من الخمارة ومن البارة إلى طريق الجنة، يأخذون الإنسان التائه الضال العربيد المغني الراقص بدلاً من أن يضل المسلمين ويطيل ويرقص ويدقدق، يقولون: هذه طريق الجنة، وصلِّ الخمس، بدل أن يجلس على الشاطئ يغازل بنات المسلمين يقودونه إلى جنة عرضها السماوات والأرض، هؤلاء هم أهل الحسبة، ولا يلزم أن يكونوا موظفين وعندهم بطاقات، بل يلزم أن يكون عندهم شيء من الفهم والعقل والخوف من الله والإخلاص، هؤلاء هم أهل الحسبة.

وأعظم من اشتغل في الحسبة أصحاب الرسول عليه الصلاة السلام، ومن التابعين سعيد بن المسيب: كان ينـزل إلى أسواق المدينة وعروة بن الزبير وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة إلى أن وصل الحال إلى شيخ الإسلام فأعلن الحسبة بطائفة معه من الناس، فكان ينـزل إلى سوق دمشق ويأمر ويقيم الحدود؛ لأنه وجد في عهده من لا يقيم الحدود، فقام بنفسه وأقام الحدود، فكان خطيباً على المنبر وداعيةً وواعظاً ومفتياً ومجاهداً وزاهداً وعابداً.

هو البحر من أي النواحي أتيته>>>>>فلجته المعروف والجود ساحله

ينـزل إلى السوق مع مقصه إذا رأى طويل الشوارب تصدق وتبرع عليه وقصها، قال: هذا خلاف السنة، مر في السوق، فوجد نصرانياً يتكلم في الرسول صلى الله عليه وسلم فتقاتل هو وإياه وارتفعت القضية إلى السلطان فجلد ابن تيمية، لكنه جلد في سبيل الله.

إن كان سركم ما قال حاسدنا>>>>>فما لجرح إذا أرضاكم ألم

دخل التتار وهو في غرفته قرب سوق دمشق فخرج وشرب في اليوم السابع عشر من رمضان كأساً من الماء، وقال لأهل دمشق: اشربوا الماء، وأفطروا، فالعدو أقبل، يجب عليكم وجوباً أن تخرجوا للجهاد، خرج وأخذ السيف وسله وقاتل، حتى يقول بعض الناس: سمعت شظايا كسار سيف شيخ الإسلام في معركة شقحب من على رءوس الناس، أي عالم هذا العالم؟! أي إنسان هذا الإنسان؟! الحقيقة بالغنا فيه، لكن حبك الشيء يعمي ويصم.

يقولون لـابن الجوزي: أنت تحب أحمد أكثر من اللازم، يعنون أحمد بن حنبل فقال على المنبر:

أتوب إليك يا رحمان مما>>>>>جنت نفسي فقد كثرت ذنوب

وأما عن هوى ليلى وتركي>>>>>زيارتها فإني لا أتوب .

مواطن تواجد أهل الحسبة

ما هي المواطن التي يتواجد فيها أهل الحسبة؟

أهل الحسبة يجوبون النوادي وتجمعات الناس والأسواق، ودكاكين الباعة وأهل الخياطة، والمجالس العامة والحوانيت وأهل الصياغة، فيأمرون وينهون بالحكمة والموعظة الحسنة.

إذاً: أهل الحسبة ليس لهم حد، وقضية تحجيم الدعوة في المساجد ليس بصحيح، الداعية يدخل إلى نوادي الرياضة يأمر وينهى؛ لأن محمداً صلى الله عليه وسلم دخل سوق عكاظ، الذي كان فيه خمر وزناً ورباً فأتى بجمله يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدعو إلى لا إله إلا الله.

الداعية يدخل إلى المقاهي ينصحهم؛ لأن الذين أتكلم فيهم الآن في المسجد كلهم أولياء لله، سواء كان أحدهم ظالماً لنفسه أو مقتصداً أو سابقاً بالخيرات، لكن في المجمل هم أولياء لله، ولم يأتِ أحدهم إلا ليصلي، لكن قل لي: عشرات الناس الذين في المقاهي، والأندية، والشواطئ، من الذي يدعوهم إلى الله؟!

كل الذين أمامي أعرف أن باستطاعتهم أن يكونوا دعاة إلى الله، وأعرف أن منهم علماء ومشايخ أفضل من المتكلم وأعلم وأحرص على الدعوة.

في تجمع من التجمعات، عند عالم من العلماء، في إحدى المدن تجمع ستة آلاف شاب لحضور هذه المحاضرة، تكاثرهم الناس ورأوا أن العدد كثير -وهو كثير- فلما خرجوا من المحاضرة رأوا نادياً رياضياً، فوجدوا فيه ما يقارب ستين ألف شاب، اجتمعوا للتشجيع، ستة آلاف هنا وستون ألفاً هناك! لأن أهل الخير يوم يجتمعون في مكان يتكاثرون أنفسهم، لكن من يدعو هؤلاء الستين ويدخلهم المسجد، صحيح أن دعوة الناس الجاهزين سهلة، وأن الذين تهيئوا للهداية سهلة، ولكن من الذي يخرج الناس من الضلالة إلى الهدى إلا أولياء الله عز وجل، وهي مهمة الأنبياء والرسل، ولذلك الرجل كل الرجل من يأتي برجل من المقهى لا يعرف الله فيعرفه بالله، يأتي به إلى المسجد، أما من يتكلم في من هو متهيئ سني عابد فهذا أمره سهل، ولو أنه مأجور على كل حال.

وسائل أهل الحسبة

نحن نعيش في العصر الذي نعيش فيه، ولكن منهجنا يبقى الكتاب والسنة، لأن البعض كتب في بعض هذه الرسائل -وقد قرأت بعضها- يقول: لا تسرفوا في استخدام الوسائل وتخرجوا عن المنهج، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا إلى الله على حمار فنصره الله! هل نترك السيارة الأمريكية، نسافر إلى الطائف نلقي المحاضرات على حمير؟! ونقول: يحرم التكلم في مكبرات الصوت لأن الفرنسيين صنعوها، ونترك المراوح واللمبات والنظارات، والأقلام، ونقول: صنعها الكفار، فهذا ليس بصحيح، هذه الوسائل وجدت فنستخدمها؛ لأننا إن لم نستخدمها استخدمها أهل الباطل ودمرونا بها والله يقول: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60] أليس من القوة أن نأخذ هذه الوسائل؟ بلى. وسائل السلف كانت الخطابة، وما زالت هي الوسيلة المستخدمة إلى الآن، ولابد من سياط الوعظ في القلوب.

ولا يمكن استغناء الأمة عن الوعاظ ولا عن الفقهاء، الفقهاء مهمتهم أن يفتوا الناس عن الماء إذا خالطه الكافور، وعن بيع العينة، وعن أقسام المياه الثلاثة، ولابد من هذا الواعظ الذي يذكر باليوم الآخر، أما أن نتكلم دائماً عن الماء المشمس والماء إذا خالطه كافور، وعدة المطلقة فسوف تقسوا القلوب ولو أنها فقهت شيئاً من أمور الدين، ولا نبقى دائماً نقول للناس: تموتون وتبعثون وتحاسبون، فأين العلم؟ لابد من مدرسة الوعظ، ومدرسة العلم، وكذلك كان درس النبي صلى الله عليه وسلم، بل القرآن وعظ ترغيبي ترهيبي وعلم تنصيصي فقهي، كما قاله كثير من العلماء، فلا بد من المسارين الاثنين.

فشكر الله جهود العلماء الذي يفقهون ويفتون الناس، وشكر الله جهود الوعاظ الذين يعظون الناس، كلنا بحاجة إلى مدرسة الوعظ ومدرسة الفقه، أما الكلمة العابرة فطيبة.

وأخبركم بقصة رجل حدثت له عندما ذهب مع بعض الشباب إلى مكة لأداء العمرة في رمضان، وفي أثناء الطريق كان هناك محل غناء، فذهبوا فوجدوه يغني ويطبل فنسقوا له خطة لإدخاله في مصيدة الهداية، وليدلوه على الجنة فقط، فهم يريدون منه شيئاً قادياً، أرسلوا أحدهم قالوا: أنت تتكلم قبلنا كأنك لا تدري بنا ولا ندري بك، فذهب هذا الرجل فألقى عليه موعظة، وبعد أن عاد الأول ذهب الثاني، وكأنه لا يشعر بالأول، فألقى عليه موعظة، رجع الثاني وذهب الثالث فصب عليه موعظة.

الرجل انذهل قال: الناس حدث لهم شيء، كلهم يأتونني في وقت محدد، فأخرج لهم بنفسه كتيباً صغيراً عن تحريم الغناء، وأعطاهم موثقاً من الله أن يتوب وأن ينقل تسجيلاته إلى تسجيلات إسلامية.

تصوروا لو أن حلاقاً يحلق ذقون المؤمنين، يتبرع بحلق اللحى من الأذن إلى الأذن كل صباح، لو أنه يمر به عشرات الناس؛ في طريقك وأنت تأخذ خبزاً للأهل وتقول له: اتق الله، أنت على خطأ، وأخوك يمر به وابن عمك وجارك حتى يتوالى عليه عشرة أو عشرين في اليوم، ما هو شعور هذا الحلاق؟ هل يقر له قرار، ويبقى عنده فكر؟!

وهؤلاء الخياطون أصبحوا ثكنات الإفساد في الأرض، بعضهم أصبح يدمر ما لا تدمره مدارس الاستشراق، هندوك وبوذيون وسيخ، يحملون الفاحشة الكبرى، وتعرضوا لعباد الله، ولإماء الله بالفساد المفرق، فهؤلاء لو تعرضوا للكلمات، نحن لا نقول: قاتلوا الناس لكن كلمة اتقوا الله خافوا الله، كبائع المجلات الخليعة وصاحب الاستريو الغنائي وكثير من الباعة الغشاشين، فأين الكلمات العابرة التي كان يطلقها السلف، كانوا يطلقون الكلمات العابرة، ويرشدهم محمد صلى الله عليه وسلم، كان يمر على الأسواق ويتكلم مع الباعة، وأين تأليف القلوب بشيء من الدنيا؟

أحد الصالحين من الدعاة.. يعتمد على الدعوة الفردية ولا يذهب إلا إلى المجرمين وإلى رءوس الشياطين، الإنسان الملتحي لا يدعوه لأنه متوجه، لكن يبحث عن مجرم، وعن أحد رءوس الشياطين، فيذهب فينصبّ عليه، ويدعوه، وبعد شهر أو شهرين يأتي به يصيده صيداً، كما يقول أحد الدعاة: السوق مناهبة؛ الشيطان ينهب، وأنت تنهب فانهب مع الشيطان، فسئل عند طريقته في الدعوة فقال: أولاً: أدعو الشخص إلى زيارتي في البيت، فإذا قدم إلى بيتي قدمت له وجبة دسمة، ولا أتكلم له عن شيء، يتغدى ويشرب الشاي، ثم أرافقه إلى الباب، ولا ألقي عليه محاضرة.

والمرة الثانية: أهدي له هدية.

والمرة الثالثة: أقوم في الثلث الأخير فأدعو الواحد الأحد أن يهدي قلبه.

والله لقد سمعت هذا الكلام من رجل في الستين من عمره، وهذا الرجل مجرب لا يأتي إلا برءوس الشياطين يدخلهم في دين الله.

قال: فوسيلتي، هذه الوسائل، هدية، ووليمة، ودعاء في الثلث الأخير، والمرة الرابعة أذهب فأدعوه، وفي الأخير يستجيب، قال: وجربت عشرات الناس بل بلغوا المئات الآن، واستجابوا وأصبحوا من أولياء الله، وقد رأيت بعضهم يبكون إذا سمعوا الذكر، هذا هو الداعية، أما الذي يأتي إلى أناس جاهزين فيتكلم فيهم فهو محسن على كل حال، لكن ذاك نوع آخر.

وإن تفق الأنام وأنت منهم>>>>>فإن المسك بعض دم الغزال

وقال آخر:

لا يدرك المجد إلا سيد فطن>>>>>لما يشق على السادات فعال

لولا المشقة ساد الناس كلهم>>>>>الجود يفقر والإقدام قتال

هذا أسلوب من أساليب أهل الحسبة في الإسلام، وأولياء الله موجودون، فهم في القرى وفي المدن، قال تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر:31].

أما الأساليب التي جَدَّت وبإمكان الدعاة استخدامها الآن، فمنها: إهداء الكتاب أو الكتيب أو الشريط الإسلامي، وقد أثر الشريط الإسلامي في الناس تأثيراً بالغاً، فيهدي لهم ليسمعوه في البيوت أو في السيارات.

ومنها: المنشور والرسالة: أن تكتب رسالة لحبيبك وصديقك.

ومنها: الاتصال بالهاتف.

ومنها: الكتابة في الصحف، وغيرها من الوسائل التي ينبغي على الدعاة المشاركة فيها.

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

الأسئلة

منهج محمد الغزالي

السؤال: ما قولكم في إباحة محمد الغزالي المعاصر للغناء، وتضعيف الحديث الذي في صحيح البخاري الذي يحرم الغناء؟

الجواب: أولاً: الشيخ محمد الغزالي المفكر الإسلامي المعروف، والذي يدرس الآن في جامعة الجزائر رجل مشكور على كل حال وله حسنات، وهو من الدعاة الذين نحسبهم والله حسيبهم عنده صدق وإخلاص لهذا الدين، ولا نضعه في مواضع بعض المفكرين المغرضين الذين يحملون عداءً لهذا الدين، فهو صادق ويعرف منه هذا الأمر ويحارب الإلحاد والزندقة، لكن ظهر له في الأخير كتاب أثار بعض الريبة والاتهامات والنقد له، وهذا الكتاب اسمه السنة بين أهل الحديث وأهل الفقه، ورأيت هذا الكتاب وقد رد عليه كثير من أصحاب الفضيلة العلماء والمشايخ وطلبة العلم، ومن أحسن ما علمت أنه رد عليه الشيخ سلمان العودة من القصيم وكتابه موجود بعنوان حوار هادئ مع الغزالي، وتنشر المسلمون حلقات منه، وله أشرطة في السوق، ورد عليه الشيخ محمود الطحان وغيره لكن ردهم بسيط سهل.

وخلاصة الكلام: أن الغزالي يؤخذ عليه مآخذ وأمره إلى الله ونزنه بميزان سورة الأحقاف: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:16].

عرف بالاستقراء لكتبه أنه يقدم العقل كثيراً على النقل، وهذا المنهج منهج معتزلي، وهو منهج المناطقة والمتكلمين من الأشاعرة، وقد رد ابن تيمية على هؤلاء بكتاب درء تعارض العقل والنقل وضحَّى بـالرازي فيه فذبحه إلى الطريقة الإسلامية على القبلة، فيؤخذ ويراجع كتاب ابن تيمية ليتحقق المسألة في هذا الأمر، وأنه لا تعارض بين العقل والنقل، لكن الغزالي ينتبه له، حتى أن له منهجاً في الحديث، وقد نقله في كتبه مثل فن الدعاء للرسول عليه الصلاة والسلام وغيره من الكتب فهو يرى أن الحديث إذا كان معناه صحيحاً بالعقل قبلناه ولو كان ضعيف السند، وإذا كان معناه لا يقبله العقل رددناه ولو كان صحيح السند.

مثل ماذا يا غزالي؟ قال: مثل الحديث الذي في صحيح البخاري، يقول: إن موسى عليه السلام لما أتاه ملك الموت ضرب عينه ففقأها فذهب إلى الله فرد عليه عينه، قال: هذا لا يوافقه العقل فهو مردود، وهذه قاعدة يردها بالإجماع علماء السنة وأهل الحديث وأهل المصطلح ولا يقبلونها، وهي خطيرة كل الخطورة، وقد تعرض لها الألباني بالرد لكنه لم يسم المردود عليه، ولو أنه ناله في بعض الكتب ورد عليه.

المنهج الثاني: أن الشيخ الغزالي تساهل في حجاب المرأة المسلمة، وبيَّن أن الحجاب لا يشمل الوجه والكفين، وذكر أن هذا أتى من الحجاز ومن ناحية نجد، وأن أول من أتى بها أهل نجد ولم تكن معروفة في العالم الإسلامي، وقد أخطأ خطأين: أولاً: أساء الفهم، ثانياً: أساء إلى التاريخ.

فأما إساءته للفهم فإن أدلة الكتاب والسنة تدل على أن الوجه والكفين لابد من تحجيبهما، ولا بد من إدخال الحجاب في ذلك.

وأما التاريخ فلم يأتِ أولاً من نجد، فـنجد من بلاد الله عز وجل ومن بلاد المسلمين يشملها ما يشمل غيرها والرسول صلى الله عليه وسلم بعث للناس كافة بشيراً ونذيراً للعالمين.

المنهج الثالث: مزلق الغناء، وقد تبع في ذلك ابن حزم وابن الطاهر المقدسي، فأباحه وقال: لا شيء فيه، بل يردد هو وبعض المفكرين أسماء ليس لها داعي من المغنيات وعفا الله عنهم.

والصحيح أنه محرم لحديث أبي مالك الأشعري في البخاري والذي اعترض عليه الغزالي: {ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف} هذا الحديث تعرض له الدار قطني وابن حزم وقالوا: البخاري لم يدرك هشام بن عمار، لأنه قال: وقال هشام بن عمار: حدثنا فلان ثم ساق الحديث، والصحيح أن البخاري أدرك هشام بن عمار وروى عنه يقيناً.

المنهج الرابع: الغزالي يقول: للمرأة أن تتولى الأمر والحكم في الإسلام، ولها أن تشارك في البرلمان، وأن تدلي بصوتها، وأن تتولى الوزارة، وهذا رأي خاطئ لقوله عليه الصلاة السلام: {لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة} فالمرأة في الإسلام لها شئونها لكنها لا تشارك في البرلمان ولا تتولى، ولا يزال قوم تتولاهم النساء أمرهم في سفال وذلة وصغار، وليس عندنا في الإسلام هذا المبدأ، فليتنبه الغزالي ومن وراء الغزالي.

المنهج الخامس: غفر الله له وسامحه الله أنه تناقض في الصفات، فهو مرة أشعري ومرة ينتقد الأشاعرة، ومرة يأخذ في الصفات بمذهب أهل السنة فلا يُدرى حاله، والسبب في ذلك: أن منهجه وعظي عاطفي وليس بعلمي فقهي، إنما يعتمد العاطفة، مرة يمدح الأشاعرة ويقول: هم الذين نزهوا الله، فقد أخطأ في هذا كثيراً سامحه الله، بل منهج أهل السنة هو المنهج الصحيح، والأشاعرة أخطئوا في ذلك، ولم يكن منهجهم صائباً.

يأتي مرة ويقول: أنا لا أعرف رباً له قدم، سبحان الله! إذا أثبت رسول الله قدماً نثبتها لله بلا تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل كما قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].

سادساً: الغزالي في كتاب ظلام من الغرب يقول في كلام فيما معناه: إننا يمكن أن نتضامن مع نصارى العرب ونكون جبهة واحدة، نحن العرب مسلمين ونصارى ضد من ناوأنا، سبحان الله! النصراني يكون أخاً لنا ضد عدونا متى كان هذا؟! هذا معناه غبش في الولاء والبراء.

ويقول: إن العربي يحمل حب محمد عليه الصلاة السلام، كيف يكون العربي النصراني يحمل حب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يكذب الرسول صلى الله عليه وسلم؟!

فليتنبه لهذا الرجل ولا تغمط حسناته، فإنه قد أجاد في كثير من كتبه، ويستفاد منها مثل كتاب جدد حياتك وعلل وأدواء وهموم داعية فله حسنات على كل حال، لكن يتنبه لهذا الأمر، ويوقف عند حده في هذه المسائل.

وكما قال مالك: كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر عليه الصلاة السلام.

وإنني أعتب على بعض الإخوة من طلبة العلم على إهدار حسنات الناس، فإنك تجد لبعض الناس حسنات، فيهدرونها بخطأ واحد، ويضيعون جهده ويدعون عليه، وينسفون ما بناه من صروح في خدمة هذا الدين وجهد، فيمزقونها تماماً، وهذا إجحاف، وبعضهم ينسى هذه الزلات والخطايا ويضفي أثواب المدح على صاحب الخير، والله يقول: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة:143].

تنبيهات هامة

ينبه على الإخوة المصطافين بأمور نريد أن نذكرها لأننا سمعناها من بعض المشايخ وبعض أهل الفضل والقائمين على الدعوة:

الأمر الأول: أنا أعرف أن أمامي أهل استقامة ورشد وخير والتزام بالحجاب حتى في أماكن الاصطياف وعدم الاختلاط، لأنه تسوهل في بعض المخيمات أن يأتي قرابة من مناطق متعددة، فيجلس الرجال والنساء سوياً، وهذا يخالف منهج الله عز وجل وكتاب الله، وهذه جلسة جاهلية: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].

الأمر الثاني: وجد ضياع الوقت في المنتزهات، فلا يوجد عندهم في جلساتهم قراءة قرآن ولا تدارس حديث، ولا استماع شريط إسلامي، ولا ذكر لله، ولا زيادة نوافل، وهذا خطأ، لأن المسلم ليس من مقصده ضياع الوقت، قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:115-116].

الأمر الثالث: وجد أن بعضهم يؤذي جيرانه برفع أصوات الغناء والمسجلات التي فيها أصوات تغضب الله عز وجل، وهذا خطأ، وقد شكي كثيراً من هذه الظاهرة، وهذه لا تبشر بالخير.

الأمر الرابع: الإسراف في الوجبات وتناول المطعومات والمشروبات، وهذه حلال لكن الإسراف فيها هو المحرم، قال تعالى: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً [الإسراء:26].

هذا ما حصل في هذه الليلة، وأعود مرة رابعة، وأقول للإخوة الذين ينـزلون تهامة للدعوة في القرى كما أخبرتكم: إن أحد المحسنين تقدم بسيارة تبرع جزاه الله خيراً، وهي على وشك أن تشترى بما يقارب خمسين ألفاً، وجهزها للدعاة الذين ينـزلون إلى ضواحي تهامة لتعليم الناس الإسلام الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، وجهة البادية، والقرى المجاورة لـأبها ودائماً كل يوم جمعة في العصر يجتمع الإخوة هنا وينطلقون إلى هذا الضواحي يعلمون الناس الدين بشيء مبسط ميسر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} يعلمونهم الفاتحة والوضوء والصلاة، وينهونهم عن الكبائر والمحرمات؛ لينقذوهم من النار ويدلوهم على الجنة: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

وأدعوكم كما ذكرني بعض الإخوة في رسائلهم أن أنبه على الإخوة لشراء الأشرطة وإهدائها للناس لتكون أسلوباً للدعوة، لأنه ليس كل أحد يستطيع الكلام مع الناس، فإهداء الشريط الإسلامي مطلوب، وأنا أدعو أهل التسجيلات الإسلامية أن يعنونوا في آخر كل شريط بطلب إهداء الشريط إلى الإخوان المسلمين وإلى الأخوات المسلمات وإلى إدخاله البيوت علَّ الله أن يصلح به وأن يهدي به وينفع.

شكر الله لكم استماعكم، وجمعني بكم في دار الكرامة، وثبتنا وإياكم على الاستقامة، وألهمنا كلمة الخير والعدل والسلامة، وأحلنا بها الجنة، وثبتنا وإياكم حتى نلقاه.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

وأعتذر عن بعض الأسئلة لأنها إما سؤال شخصي أو سؤال لا يناسب عرضه على الناس، وبالإمكان الاتصال بي أو بأحد الإخوة من طلبة العلم للإجابة، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للشيخ : عائض القرني

https://audio.islamweb.net