اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , كيف فرضت الصلاة؟ للشيخ : عائض القرني
إضافة إلى ترجمة بسيطة لصحابيين جليلين هما أبو ذر الغفاري، وسلمة بن الأكوع .
أما بعـد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
نستأنف كتاب الصلاة مع الإمام البخاري، حيث يستهل كتاب الصلاة بتبويب رائع، حيث يقول: باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء. ثم يقول: وقال ابن عباس رضي الله عنهما: حدثني أبو سفيان في حديث هرقل فقال: (يأمرنا -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- بالصلاة والصدق والعفاف).
ثم ساق حديث أنس، قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فُرج عن سقف بيتي وأنا بـمكة، فنزل جبريل ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطستٍ من ذهبٍ ممتلئ حكمةً وإيماناً، فأفرغه في صدري ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا) الحديث.
هذا أول حديثٍ في كتاب الصلاة يأتي به الإمام البخاري ويستهل به هذا الكتاب العظيم، وفي هذا الكتاب مسائل، وقد تعودنا أن نعيش مع صحابي يكون راوياً أو يذكر في الحديث لنروح به مجلسنا، وقد يتكرر في الترجمة أو سيرة الصحابي شيء ولا بأس بذلك، فحياة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هي الحياة:
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره >>>>>كما المسك ما كررته يتضوع
وأبو ذر هو صاحبنا هذه الليلة، ونحن أصحابه، ونسأل الله أن يحشرنا في زمرته وزمرة أمثاله من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء حديثاً فيه ضعف قال: {يُحشر أبو ذر مع عيسى عليه السلام يوم القيامة} لجهده ولعبادته ولما فيه من كلمة حقٍ كان يقولها، عرف الإسلام -كما تعرفون- ودخل مكة، والتمس مكان الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: السلام عليكم ورحمة الله يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه تحية المسلمين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فتبسم صلى الله عليه وسلم، والعرب كانت تحيي بعضها بقولها: " عم صباحاً..." يقول امرؤ القيس:
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي >>>>>وهل يعمن من كان في العُصُر الخالي
فقال صلى الله عليه وسلم: {لقد أبدلني الله تحيةً خيراً من تحيتك السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته} ودخل في دين الله، وجعله صلى الله عليه وسلم من أقرب أصحابه إلى قلبه.
قال أبو ذر: {وتأخر عني محمد صلى الله عليه وسلم مرة من المرات فلما أتاني التزمني فكان أحسن، أو أطيب} يعني: عانقني، فكانت أطيب من غيرها يعني: أعلى وأروع، واستمر رضي الله عنه وأرضاه مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم مربياً وحكيماً يلحظ المواهب في الناس، فكان يؤهل كل موهبةٍ في مكانها المناسب.
فلم يأتِ بـخالد بن الوليد ليجعله مفتياً في المسجد، وما لـأبي سليمان والفتوى؟! وهو يجيد ضرب الرءوس وقطعها، فيجعله صلى الله عليه وسلم في العسكرية، قائداً في الجيش.
وأتى حسان بن ثابت رب القوافي، وصانع الأبيات والقصائد، فلم يأت به صلى الله عليه وسلم ليجعله إماماً في المسجد وما لـحسان وللإمامة؟! بل جعله شاعر الدعوة الإسلامية، ينصب له المنبر ويقول: {اهجهم وروح القدس معك}.
وأتى زيد بن ثابت فلم يعينه صلى الله عليه وسلم قائداً عسكرياً، بل عينه في الفرائض؛ لأنه يجيد الفرائض. هذه تخصصات: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة:148] فالله أعلم سبحانه وتعالى كيف يُخدم هذا الدين، ولذلك لا يأت الطبيب ليجعل نفسه مفتياً، ولا يأتِ المفتي ليتطبب، ولا يأتِ الأستاذ الذي يجيد الفقه والحديث ليجعل نفسه مهندساً، ولا يأتِ المهندس ليفتي في الفرائض ويقسم بين أهل الفروض وأهل العصبة؛ ما له ولذلك؟! لكن أين أبو ذر من هذه المواهب وهذه الميزات؟
ميزته في الزهد والانقطاع والخلوة عن الناس، ولذلك بيَّن صلى الله عليه وسلم هذا لـأبي ذر.
قالأبو ذر للرسول صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله! أمّرت فلاناً وفلاناً، وتركتني}.
أول الدعوة يظن أن الأمر بالأغلبية أو أن المسألة مسألة اغتنام، فعلمه صلى الله عليه وسلم أن المسألة ليست هكذا، وقال له: {يا أبا ذر! إني أحب لك ما أحب لنفسي، وإنك رجلٌ ضعيف، وإن الإمارة خيبة وندامة يوم القيامة إلا من أدى حق الله فيها} فمنعه صلى الله عليه وسلم أن يتأمَّر، بل أوصاه أن إذا بلغ التقدم الحضاري في المدينة إلى جبل سلع أن يخرج من المدينة، فقال له صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: {إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج من المدينة} فبلغ البناء سلعاً فخرج من المدينة رضي الله عنه إلى الربذة حيث صفاء الصحراء الذي يناسب صفاء أبي ذر رضي الله عنه، حيث إن أبا ذر لا يعرف الدجل ولا التدليس ولا النفاق رضي الله عنه وأرضاه.
فلما توفي صلى الله عليه وسلم خرج أبو ذر من المدينة بطهره وزهده وعبادته، ونصب خيمة في الصحراء يعبد الله ويناجيه ويتلو كتابه، وأتته الوفاة فمات وحده، ثم أدركته عصابة من المؤمنين على رأسهم معلم العراق وداعية الإسلام فيها ابن مسعود رضي الله عنه فدفنوه فعاش في آخر حياته وحده في الصحراء، ومات وحده، ويبعث يوم القيامة أمة وحده، حسناته تزاحمه بجانبيه فلا يطرق مزاحماً معه رضي الله عنه وأرضاه، هذا هو أبو ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه حينما يُذكر يذكر معه الزهد والعبادة والعزلة والانقطاع عن هرج الناس وخلطتهم وكلامهم.
يروي صلى الله عليه وسلم أنه كان غلاماً فيما يقارب الثامنة من عمره، خرج يرعى البْهم مع أخيه من الرضاعة، وأمهما من الرضاعة هي حليمة السعدية، وأخواله بنو سعد، وذهب صلى الله عليه وسلم فلما أصبح مع زميله وأخيه في الصحراء وإذا بملكين من السماء ينزلان لباسهما البياض، فيأخذان الرسول صلى الله عليه وسلم فيضجعانه في الأرض، فلما أصبح مضطجعاً على الأرض على قفاه، شقَّا عن صدره الكريم صلى الله عليه وسلم، وأخرجا المرارة السوداء التي هي في كل إنسانٍ منَّا، حيث يجتمع فيها الحسد والحقد والغش والغضب، أما هو صلى الله عليه وسلم فأخرج من صدره كل هذا الغل، والغش، والحقد، والحسد، وبقي صدره سليماً، ثم أتوا بطستٍ مملوء حكمة وإيمانا فأفرغوه في صدره الشريف، أما أخوه فذهب إلى بيت أمه خائفاً وجلاً وهو يرتعد ويقول: يا أماه! أخي محمد قد قتل، أتى رجلان من السماء فقتلاه وهو مقتول في وادي كذا وكذا، فتذهب أمه وأبوه -وهما خائفان- إلى ذلك المكان، فيجدانه صلى الله عليه وسلم قد قام وهو ممتقع اللون متغير، فقالوا: ما لك؟ قال: جاء رجلان من السماء أضجعاني وأخرجا شيئاً من قلبي، ثم أفاضا في قلبي شيئاً، لذلك يقول سبحانه وتعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1] قال بعض أهل العلم: هذا هو الشرح، وقيل: شرحنا لك صدرك: وسعناه وجعلناه واسعاً رحباً، جعلناه ممتلئاً حكمةً وإيماناً فلا تهتم، ولا تحزن، ولا تغتم.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ماء زمزم شفاء سقمٍ وطعام طعم} يشفي السقيم بإذن الله، ويشبع الجائع، ولذلك لمَّا دخل أبو ذر مكة ما كان له مضيف، فتستر بأستار الكعبة أربعين يوماً، ما كان يأكل إلا من ماء زمزم، فسمن حتى تكسرت عكن بطنه من السمن، هذا من ماء زمزم، وليس لماءٍ على وجه الأرض ميزة أنه يشبع إلا ماء زمزم.
ولذلك ابن هبيرة -جازاه الله بما صنع- كانوا يأتون له بماء زمزم فلا يشربه ويشرب الماء الآخر، ويقول: هذا ماء الخنافس، فدعا عليه بعض أهل العلم، قال: اللهم إن كان محقاً في كلامه فأنت أعلم به، وإن كان مبطلاً فأسألك أن تعذبه في الدنيا وفي الآخرة، فأخذ وقطعت يده اليمنى وهو أمير، وعوقب في العراق ثم قطعت رجله اليسرى ثم عذب حتى مات.
ولا يمتاز إلا بهذه الميزة فيجوز أن يتوضأ منه ويغتسل منه، ولو كان على الإنسان نجاسة فإنه يتوضأ من ماء زمزم ويغتسل منه خلافاً لقول بعضهم قال علي رضي الله عنه في أول مسنده في مسند أحمد: {أتى صلى الله عليه وسلم إلى زمزم فشرب من ماء زمزم وتوضأ عليه الصلاة والسلام} وهو من حديث أسامة كذلك، وكان المسلمون يريدون أن يكسبوا عليه الصلاة والسلام بالإهداء له، فورد في السيرة الحلبية أنه كان ينقل له ماء زمزم هدية، فيشربه صلى الله عليه وسلم ولذلك عُظم ماء زمزم في هذا الموضع، فقال: {ثم غسله -أي: صدره- بماء زمزم، ثم جاء بطستٍ من ذهب}.
لولا جرير هلكت بجيلة>>>>>نعم الفتى وبئست القبيلة
بل نعم الفتى ونعمت القبيلة رضي الله عنهم وأرضاهم.
فمن الملاطفة الأخذ بالأيدي.
والسؤال: كيف يقول سبحانه وتعالى: من المسجد الحرام، وقد أسري به من بيت أم هانئ كما يقول أهل السير؟ والصحيح أنه أسري به عليه الصلاة والسلام من الحرم، فقد خرج من بيت أم هانئ أو من بيته، ثم دخل الحرم فأسري به من الحرم صلى الله عليه وسلم.
وسبب الإسراء أن الرسول صلى الله عليه وسلم طرده أهل مكة وأهل الطائف وكذبوه فعاد في وادي نخلة يناجي ربه في ليلة ظلماء ليس معه إلا الله، وليس له مؤنس إلا الله، فلما رفع أكفَّ الضراعة أدخله الله الحرم فطاف فيه، ثم أذن له بالإسراء والمعراج.
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه>>>>> والرسل في المسجد الأقصى على قدم
كنت الإمام لهم والجمع محتدم >>>>>أعظم بمثلك من هادٍ ومؤتم
لما خطرت به التفوا بسيدهم >>>>>كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلمِ
حتى بلغت مكاناً لا يطار له >>>>>على جناحٍ ولا يسعى على قدمِ
وقيل كل نبيٍ عند رتبته>>>>>ويا محمد هذا العرش فاستلمِ
ووصل صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس في ليلة مظلمة، ودخل في عجلة، وربط الفرس هو وجبريل عند الباب، ثم صلى ركعتين، قال أهل العلم: إن الأنبياء صلوا معه صلى الله عليه وسلم وكان هو الإمام في تلك الليلة.
فلما جلسوا تكلم صلى الله عليه وسلم، فقال الوليد بن المغيرة: يا محمد! إننا نصل بيت المقدس في شهر، ونعود منه في شهر، فكيف وصلت أنت في جزءٍ من ليلة إلى بيت المقدس ثم إلى السماء السابعة ثم عدت في نفس الليلة؟!! فإن كان لك من العلامات فأخبرنا بها، فقال صلى الله عليه وسلم: وماذا تريدون من علامات؟ قالوا: صف لنا بيت المقدس نحن نعرف أبوابه ونوافذه وأسياجه ومداخله ومخارجه والرسول عليه الصلاة والسلام ما تسنى له أن يقف على عدد أبوابه وأسياجه ومداخله ومخارجه، فأخذه من الكرب ما الله به عليم حتى تغشاه العرق، ولما وقف نكس صلى الله عليه وسلم رأسه ثم رفع وإذا بصورة بيت المقدس أمامه، فأخذ يصفه باباً باباً ونافذة نافذة ومخرجاً مخرجاً ومدخلاً مدخلاً فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258] ورفع الوليد بن المغيرة قشة من الأرض، وقال: والله ما زاد على ما وصفت لنا كهذه، فآمن بعضهم وكفر بعضهم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: وهل أزيدكم؟ وسوف تقدم عليكم غداً قافلتكم في أولها الجمل الأورق عليه غرارتان، أي: كيسان، وسوف يقدم رعاتكم الذين رعوا في وادي كذا وكذا، فمررت بهم أنا وجبريل وقد كسرت رجل ناقة من نوقهم، قالوا: ننتظر، وفي الصباح صعدوا على شرفات بيوتهم وانتظروا وإذا بالقافلة داخلة وفي أولها الجمل الأورق عليه غرارتان، وأتى الرعاة فقالوا: أحدث عليكم شيء؟ قالوا: ما حدث شيء إلا أن ناقة فلان كسر رجلها، وصدق الله إذ يقول: أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ [الطور:15].
وعاد صلى الله عليه وسلم وأخبرهم بهذا فكفروا وعتوا عن أمر ربهم: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر:14-15].
قال عليه الصلاة والسلام: {... قال جبريل لخازن السماء: افتح. قال: من هذا؟ قال: هذا جبريل قال: هل معك أحد؟ قال: نعم معي محمد صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أُرسل إليه؟ قال جبريل: نعم أرسل إليه} فالناس والملائكة والجن والإنس يتحرون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فوصل عليه الصلاة والسلام قال: {وإذا أنا برجلٍ في السماء الأولى وهو آدم عليه السلام، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل يساره بكى، فقلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا آدم، إذا نظر عن يمينه رأى هؤلاء الخلق إلى أهل الجنة فضحك استئناساً وفرحاً وسرورا، وإذا نظر إلى ميسرته من أهل النار بكى، فسلَّم عليه صلى الله عليه وسلم وعرَّف به جبريل، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح} ثم عرج بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة، حيث وجد عليه الصلاة والسلام ابنا الخالة يحيى وعيسى قيل: في الثانية أو في الثالثة، فسلم عليهم صلى الله عليه وسلم وحيوا مقدمه وباركوا رسالته، ووجد إدريس في الرابعة وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً [مريم:57] فسلَّم عليه صلى الله عليه وسلم، ووجد هارون في الخامسة فسلَّم عليه ورحب به، وأما في السادسة فوجد موسى الكليم فلما سلَّم عليه صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم: {من هذا يا أخي يا جبريل؟ قال: هذا موسى عليه السلام} والرسول صلى الله عليه وسلم يصف الأنبياء، رآه لحظات لكن أخذ أوصافه- قال: {أما موسى فكأنه من رجال أزدشنوءة} وهي من قبائل جبال الجنوب من جبل الطائف إلى هذا الجبل جبل آسيا، يعني: في السمرة وفي الجعد وفي القوة؛ لأنه وصف بأنه القوي الأمين وأعطاه الله الشجاعة عليه السلام، فما صلح لبني إسرائيل ولا دوخ رءوسهم، ولا أذهب الوسوسة من رءوسهم إلا هو، ولذلك إذا غاب عنهم أو ذهب عبدوا العجل، أو لخبطوا في العبادة أو قالوا أو تكلموا، فإذا دخل عليهم خافوا، وهو لا يعرف عليه السلام المداهنة معهم، بل كان قوياً حازماً معهم فكانوا يخافون منه، وهو الذي قتل نفساً ونجاه الله من الغم وتاب عليه، وهو الذي رفع الصخرة وتعرفون قوة الصخرة، وهو الذي شهد أكبر صراع في التاريخ مع فرعون، وانتصر عليه بإذن الله.
ثم واصل صلى الله عليه وسلم فلما عرج به إلى السادسة بكى موسى فقال صلى الله عليه وسلم لجبريل: {ما لموسى يبكي؟ قال: يقول: نبيٌ بعث من بعدي يدخل الجنة من قومه أكثر مما يدخل الجنة من أمته } يقول ابن تيمية في فتاويه: هذا من التنافس المحمود، فإن موسى لم يبكِ حسداً، ولا حقداً، وإنما بكى تنافساً يريد أن تكون لأمته من المرتبة كما لأمة محمد عليه الصلاة والسلام.
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا>>>>>من العناية ركناً غير منهدمِ
لما دعا الله داعينا لطاعته>>>>>بأكرم الرسل كنا أكرم الأممِ
ثم عرج بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى السابعة، وهناك وجد أفضل الأنبياء بعده صلى الله عليه وسلم وهو إبراهيم فسلم عليه، وقال: {مرحباً بالنبي الصالح، والابن الصالح} وإبراهيم أبو الأنبياء والرسول صلى الله عليه وسلم من أبنائه.
وإذا هو مسند ظهره إلى البيت المعمور، وهذا البيت يطوف به كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، أي لا يأتي دورهم مرة أخرى.
ومن رأى النفي بلن مؤبدا >>>>>فقوله اردد وسواه فاعضدا
أي: اردد قول من قال: إن النفي بلن مؤبد، فهي ليست إلا في الدنيا، وأما في الآخرة فإن الله يراه المؤمنون كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة.
وقد سئل صلى الله عليه وسلم: {هل رأيت ربك؟ قال: نورٌ أنَّى أراه} أي: ما رأيته، وقالت عائشة لما قال الأسود بن يزيد: [[هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ قالت: لقد قف شعري مما قلت -قف شعر رأسه أي: انتفش، واستقام أو تحرك من ثقل هذه الكلمة- من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله]].
فهو لم ير ربه، والذين قالوا: إنه رأى ربه، مثل ابن عباس فقد ورد عنه أنه قال ذلك كما في صحيح مسلم ولكن الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم لم ير ربه وقال: {نورٌ أنَّى أراه}.
الصحيح أن ما فرض عليه صلى الله عليه وسلم إنما هي خمس صلوات، ولذلك ما سوى هذه إما سنة مؤكدة، وإما سنة وإما مندوبٌ يُعمل بها من باب النفل المطلق الذي يتنفل به الإنسان ليتزود به الحسنات عند الله.
فالصلوات الخمس هي المفروضة في الكتاب والسنة، قال ابن عباس رضي الله عنه: [[أنا أستخرج الصلوات الخمس من القرآن]] ولا يغوص عليها إلا غواص -يقول عن نفسه- قال في قوله سبحانه وتعالى: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم:17-18] فذكر الله عز وجل صلاة الفجر في القرآن، وصلاة الظهر، والعصر على قول من يرى أن القسم في سورة العصر يقصد به الفريضة لا الدهر.
وقد أتى رجل من أهل نجد ليؤكد أنه لم يفرض على الرسول صلى الله عليه وسلم إلا خمس صلوات، كما في حديث طلحة بن عبيد الله يقول: {كنا جلوساً مع الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد، فأقبل رجلٌ من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول -يعني: يتمتم في الكلام- فدنا من الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يسأل عن الصلاة، فقال له صلى الله عليه وسلم: خمس صلواتٍ في اليوم والليلة، قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا. إلا أن تطوع} فليس غيرها بواجب إذن.
والأحناف ذهبوا إلى أن الوتر واجب، ولكنه ليس بواجب للأدلة هذه ولأنه خالف الفريضة في أحكامه، فإنه يجوز أن يوتر المسلم على الدابة وفي السيارة ولا يجوز أن يصلي الفريضة كذلك إلا للضرورة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوتر على دابته، وأوتر الصحابة، فلو كان الوتر فريضة لما أوتروا على دوابهم، ولنزلوا وصلوا على الأرض.
هذه هي الصلوات الخمس التي فرضت عليه صلى الله عليه وسلم، أما في السفر فركعتان كما قال عمر رضي الله عنه: {صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر، على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم} هذه هي الصلوات الخمس التي فرضت عليه صلى الله عليه وسلم.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم كما يقول ابن القيم: أن يصلي في اليوم والليلة أربعين ركعة، ما بين فريضة ونافلة، قال ابن القيم: ومن قرع الباب كل يوم أربعين مرةً فيوشك أن يفتح له، فكان عليه الصلاة والسلام يصلي أربعين ركعة ما بين الفريضة والنافلة، منها إحدى عشرة ركعة وتراً، ومنها اثنا عشرة ركعة سنناً رواتب، ومنها الفريضة سبع عشرة ركعة، هي في زاد المعاد، هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة.
وعند أبي داود في الصحيح: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دخل يوم الفتح صلى ثمان ركعات} قال أهل العلم: هذه صلاة الضحى، فللمسلم أن يصلي ركعتين وأربعاً وستاً وثمانياً، لكن المقصود أن يصلي الإنسان شيئاً ويداوم عليه، فقد ينشط الإنسان أن يصلي في بعض الأيام أربعين ركعة، ثم يفتح الله عليه، ويسهل فيداوم ثلاثة أشهر أو أربعة أو سنة، لأن المقصود بالإسلام هو القصد والمداومة، يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيحين من حديث أبي هريرة وحديث أبي ذر: {يصبح على كل سلامى من الناس صدقة؛ فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ويجزي عن ذلك ركعتان يركعهما أحدكم من الضحى}.
وبعض الناس أوجب الضحى، ولكن هذا قولٌ شاذ خالف إجماع الأمة على أن ركعتي الضحى ليست بواجبة، وقائل هذا ما عند أثارة من علم ولا دليل.
وهل تصلى بعد العصر أو بعد الفجر؟ الصحيح أنها تصلى، وأنها من ذوات الأسباب التي تصلى في مثل هذا الوقت، وبعض الناس من الفقهاء يقولون: لا يُصلى في هذا الوقت، ولكن الصحيح أنها تصلى في مثل هذا الوقت لأنها من ذوات الأسباب.
قومٌ قالوا: يرى في الدنيا والآخرة وقد كذبوا، وقومٌ قالوا: لا يُرى في الدنيا ولا في الآخرة وقد كذبوا.
وقومٌ قالوا: يرى في الآخرة ولا يُرى في الدنيا وهم أهل السنة والجماعة.
فعقيدة أهل السنة والجماعة: أن الصالحين يرون الله عز وجل في العرصات، وفي الجنة من باب أولى، أما المعتزلة فقالوا: لا في العرصات، ولا في الجنة.
قال عليه الصلاة والسلام: {فمررت على موسى عليه السلام قال: ما فرض الله لك على أمتك؟ قال: فرض خمسين صلاة، قال: فارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك، فراجعني فوضع شطرها فرجعت إلى موسى قلت: وضع شطرها، فقال: راجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك} قال أهل العلم: جزى الله موسى عن أمة محمدٍ خير الجزاء فإنه أحسن عليه السلام في طلب المعذرة والتخفيف عن الأمة المحمدية، ومقصود البخاري من باب كيف فرضت الصلاة أن يبين متى فرضت وفي أي مكانٍ فرضت، وكم عدد ركعاتها، وقد رتب كتابه ترتيباً عجيباً، ولذلك يقول ابن رجب: استفتح البخاري هذا الكتاب بباب: (كيف فرضت الصلاة في الإسراء) ليبين أن أول ما يتكلم في الموضوع أو في الباب لا بد أن يبين فرضية هذا الباب وهي الصلاة.
الصحيح -كما يقول ابن تيمية رحمه الله- أنها لا تقدر بالأميال، وأن من قدر المسافة المكانية بالأميال فقد أخطأ وليس له دليل، وأن ما ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقصر في ثلاثة أميال، أو في ثلاثة فراسخ، أو في كذا فرسخ فليس بوارد؛ لأن ما فعله صلى الله عليه وسلم اتفاقاً لا يكون دليلاً على التحديد للمسافة، يعني: لا يطلق على كل سفر، والصحيح: أن ما يسمى سفراً في اللغة فنقصر فيه، وإذا تعارف الناس أن هذا سفر قصرنا فيه، فإذا تعارف الناس أنك إذا كنت تريد الطائف أنك مسافر ولم ينكروا عليك إذا قلت: إنك ستسافر إلى الطائف فهذا سفرٌ في العرف وفي اللغة فتقصر فيه، ومثله إلى جدة، وإلى الرياض، أما إذا قلت: أسافر إلى السودة فإن هذا ليس بسفر، وينكر عليك الناس استخدام هذه الكلمة أو أسافر إلى الخميس هذا ليس بوارد، فالصحيح أن السفر لا يقيد بمسافة من الأميال ولا بالكيلو مترات؛ بل ما سمي سفراً عند المسلمين وفي عرفهم، فتقصر فيه الصلاة، ويجوز لك أن تقصر من وقت انطلاقك من بيتك، أو من ركوبك سيارتك، إذا أدركتك الفريضة وأنت على جناح سفر، هذا هو هديه صلى الله عليه وسلم في السفر.
وهنا مسألة: إذا صلى إماماً وهو مسافر والمصلون مقيمون؟
وإن صلَّى هو إماماً بالناس فإنه يصلي القصر ويقول للناس: أتموا صلاتكم؛ فإني في سفر كما فعل عليه الصلاة والسلام في أهل مكة فإنه صلى بهم ثم قال: {أتموا صلاتكم فإنَّا قوم سفر} هذا في السفر.
والجواب على ذلك أنه إذا كان المسافر نوى السفر وهو ما زال مع أهله فليس له أن يقصر، وإذا خرج فله أن يقصر، فقد كان الصحابة إذا ركبوا دوابهم، ثم فارقوا شيئاً من بيوتهم قصروا وأفطروا، فهذا معلوم إلا إن الإمام مالكاً يقول: حتى يفارق عمران البلدة، ولكن هذا ليس عليه حديث صحيح، بل سن الله سبحانه وتعالى للمسافر، ولو كان في البلدة وقد خرج من بيته عازماً على السفر أن يقصر؛ لأن المقصود وسر المسألة موجود وهو السفر، والعلة ليست في المشقة، وبعض الناس إذا سافر يقول: أنا لا أجد مشقة في الطائرة وأنا راكب، فيظن أن هذا من باب الحساب والزيادة عند الله عز وجل، والله عز وجل إنما جعله تخفيفاً للأمة، وجعله سبحانه وتعالى لحكمة أرادها، وهو رخصة، فعليك أن تقبل رخصة الله التي أهداها لك، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في القصر ولا في الفطر مسألة مشقة، إنما المسألة رخصة وهدية أهداها لنا سبحانه وتعالى.
الجواب: لأهل العلم في ذلك روايتان:
فمنهم من قال: يقاس على حديث الذي صلى الفجر في بيته ثم أتى والناس يصلون فالرسول صلى الله عليه وسلم في سنن أبي داود قال للأسود بن يزيد: {صلِّ فإنها لك نافلة} وقال لـأبي ذر في صحيح مسلم: {إذا صليت وأتيت والناس يصلون فصلِّ ولا تقل: إني صليت} وتحتسب له نافلة.
ومنهم من قال: يكتفي بتلك الفريضة التي صلاها في السفر ولا يصلي، والأحوط والأحسن له أن يصلي مع الناس ويحتسبها نافلة.
أما الأذان والإقامة على المرأة فليست عليها لقوله صلى الله عليه وسلم كما في سنن البيهقي بسندٍ صحيح: {ليس على المرأة أذان ولا إقامة}.
يقول الإمام: استووا فيقولون: استوينا واستعنا بالله، من أين أتت؟ من رءوسهم، وهذه صلاة تعبدية، يقول صلى الله عليه وسلم: {من أحدث من أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} وبعضهم يقول: استوينا توجهنا إلى الله الحي القيوم، فإذا قال: الله أكبر قالوا: الله أكبر كبيرا، فزادوا كبيرا، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قالوا: الحمد لله رب العالمين، فإذا قال: الرحمن الرحيم، قالوا: سبحانه، وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قالوا: استعنا بالله، وهذه بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، وأهم شيء في الصلاة والحج والعمرة والصيام الأذكار؛ لأنها وردت من الشارع الحكيم صلى الله عليه وسلم فلا يزاد فيها، خاصة الصلاة، وليس هناك حل إلا أن طلبة العلم يخبرون الناس بهذه الأمور ويعلمونهم السنة، والعجيب أن الكثير من الناس يحفظ من الأحاديث الموضوعة عشرات لكن إذا أتى إلى أحاديث صحيحة لا يحفظها.
ومن البدع في الصلاة كذلك تكرار الفاتحة، فإن بعض الناس يقرءون الفاتحة كثيراً من الوسوسة ويكررها متعمداً، فهذا مبتدع جاهل، فنسأل الله أن يعافيه.
ويذكر عن سلمة بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يزره ولو بشوكة) وفي إسناده نظر.
وفي السيرة أن أعرابياً جاء يسابق فقال: من يسابق؟ فقال سلمة: فاستحييت لعظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال الأعرابي: أقول من يسابق؟ قال: ائذن لي يا رسول الله أن أسابقه، فتسابقا وكان سلمة على الأرض والأعرابي على فرس، فمضى أمام الناس حتى ارتفع نقع الغبار بينهما، وحجز بين الرؤية وبين الناس فانكشف الغبار، وإذا بـسلمة قد سبق الأعرابي بزمنٍ طويل وبمسافة مديدة.
فأخبروه قبل أن يستخبرهم وهو صلى الله عليه وسلم لم يدر أنهم ثمانون، ولم يعلم صلى الله عليه وسلم بهذا، فطوق صلى الله عليه وسلم المكان، وأنزل الثمانين وأخذ سلاحهم، قال سبحانه وتعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً [الفتح:24] فلما نزلوا على حكمه صلى الله عليه وسلم عفا عنهم، فسلم الله رسوله والمؤمنين من محاولاتهم وسلمهم من الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
وهو من الذين رضي الله عنهم وأرضاهم، وهو من السباقين إلى كل مكرمة، سبق إلى المسجد بقلبه، وسبق إلى التقوى بروحه، وسبق الناس في ميدان المصارعة برجليه رضي الله عنه وأرضاه.
هذا سلمة بن الأكوع صحابي محمد عليه الصلاة والسلام الذي علمه على علمٍ وبصر.
نسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية، وأن يفقهنا في الدين، وأن يلهمنا رشدنا، ويقينا شر أنفسنا، وأن يتولانا في الدارين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , كيف فرضت الصلاة؟ للشيخ : عائض القرني
https://audio.islamweb.net