إسلام ويب

لقد ذكر تعالى قصة أهل الكهف مجملة في آيات من هذه السورة العظيمة، ثم عاد فذكر تفاصيل قصتهم العظيمة في دلالتها على التوحيد والبعث والنشور، حيث ذكر تعالى أنهم أووا إلى الكهف راجين من الله أن يؤتيهم رحمة ويهيئ لهم من أمرهم رشداً، وذكروا حال قومهم وما هم عليه من الشرك الذي لا سلطان لهم عليه ولا دليل.

تفسير قوله تعالى: (ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا)

قال الله جل جلاله: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف:12].

لا نزال مع قصة أهل الكهف، حيث أنامهم الله دهراً وزمناً طويلا، ليكونوا مثالاً للبعث يوم النشور، وليؤمن من يؤمن، ولتقوم الحجة على من أبى إلا الكفران والجحود.

يقول الله جل جلاله عن هؤلاء الفتية وقد أنامهم في الكهف سنين عدداً: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ [الكهف:12].

أي: ثم أيقظناهم وأقمناهم من النوم، وذلك يشعر الناس بأنهم ما ماتوا، ولا اندثروا ولا فنوا.

لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف:12].

ومعنى ذلك أن حزبين من الناس اختلفا في هؤلاء الفتية من أهل الكهف، كم لبثوا؟ وفي أي مكان رقدوا؟ وفي أي كهف غابوا؟

والله جل جلاله هو العالم سلفاً، فبعثهم الله وأيقظهم من رقادهم، لُيعلم أي هؤلاء الذين اختلفوا أحصى وأصوب، وأيهم أعلم بالواقع بمقام هؤلاء الذين أقاموا في الكهف.

هذا ما أجمل الله به قصة هؤلاء الفتية في الكهف، وقال لنبيه عليه الصلاة والسلام، بعد أن أخبره بما سأله عنه قومه من اقتراح يهود المدينة: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف:9-12].

ففي هذه الآي القصار أجمل الله الكلام عنهم، ولخصه، وهو أنه قد أنامهم في الكهف، وضرب على آذانهم فلم يسمعوا كلام أحد، ولم ينفذ الكلام والضجيج إلى آذانهم فيكون ذلك سبباً لإيقاظهم.

تفسير قوله تعالى: (نحن نقص عليك نبأهم بالحق...)

ثم أخذ تعالى يفصل فقال: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف:13].

فما سمعت عن هؤلاء ليس إلا كلاماً دخله الحق والباطل، سواء ما قصه اليهود وغير اليهود، ولكن الحق فيهم، وفي مدة إقامتهم وعددهم، وأين كانوا هو ما نتلوه عليك ليسمعه من رغب من قومك، ومن تبعك من المؤمنين المسلمين، قال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف:13] .

فالله جل جلاله يقول: سنقص عليك نبأهم، وخبرهم، فهؤلاء الفتية الذين غابوا زمناً ثم أحياهم الله، قد كان يظن أنهم ماتوا، ولم يكن كذلك، وإنما ناموا، وضرب الله على آذانهم فطال سباتهم، وطال نومهم قرونا.

يقول تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ [الكهف:13] أي: نبأ هؤلاء الفتية (بِالْحَقِّ)، أي: نقص الحق من شأنهم ومن أمرهم.

بيان معنى قوله تعالى: (إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى)

قال تعالى: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ [الكهف:13].

أي: جمع فتى، وهو الشاب الحدث، فهؤلاء الذين غابوا في الكهف كانوا شباباً فروا بدينهم وعقيدتهم من الكفر والطغيان وعبادة الأوثان، ومن جبروت دقيانوس الوثني ملك الروم آنذاك.

قال تعالى: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13].

فهؤلاء الفتية الشباب تركوا قومهم واعتزلوهم؛ لأنهم استنكروا وثنيتهم وعبادتهم للأصنام من دون الله، فهم قد آمنوا بالله الواحد القهار جل جلاله، وبأن كل ما في الكون من خلقه، فلا شريك له ولا معين، ولا ولي له من ذل، ولا شريك له في الملك جل جلاله.

يقول تعالى: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ [الكهف:13]، أي: آمنوا بالله الخالق وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]، أي: زدناهم هداية واطمئناناً وبصيرة وتمسكاً بالحق من غير شك ولا مين ولا تردد.

فهؤلاء الفتية كانوا شباباً أحداثا مؤمنين بربهم، فروا بدينهم، فزادهم الله تثبيتاً، وزادهم بصيرة، وزادهم في توحيدهم هداية، ولم يتأثروا بشرك مشرك، ولم يهابوا طغيان طاغية، وثبتوا على ذلك، وكانوا على بصيرة من أمرهم.

والربط على القلب يعني الثبات واليقين وعدم التردد والشك والميل في العقيدة.

تفسير قوله تعالى: (وربطنا على قلوبهم إذ قاموا ...)

قال تعالى: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [الكهف:14].

قلنا في بداية القصة: إن هؤلاء الفتية كانوا أقارب للملك دقيانوس ، فاجتمع كل منهم إلى غيره حتى صار عددهم ثمانية، واتخذوا معبداً يعبدون الله فيه، وينفردون عن أولئك الذين يعبدون الأوثان والأصنام والحجارة، وبلغ دقيانوس خبرهم فكاد يجن، فأرسل إليهم، فلما وقفوا بين يديه وهم شباب أحداث ربط الله على قلوبهم، ورزقهم قوة ويقيناً، ورزقهم شجاعة، فأعلنوا دينهم، وأعلنوا عقيدتهم، بل دعوا دقيانوس إلى التوحيد وعبادة الله.

فقاموا بين يدي دقيانوس عندما دعاهم وأخذ يقول لهم: كيف تركتم ديني وآلهتي واتخذتم لأنفسكم إلهاً غير الإله الذي أعبد؟! فقاموا بين يديه في ثبات ويقين، وكان قد أوقفهم لينذرهم وليتوعدهم بالبطش والرجم وقطع الأيدي والأرجل، فلم يهابوه ولم يخافوه، وقالوا له وهم قائمون بين يديه، وقد كان يظن بهم الهلع والجزع والخوف: رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:14].

أي: ليس الإله الحق ما تعبد يا أيها الملك، فنحن نعبد خالقك وخالقنا، نعبد رب السموات والأرض، وليس هو ربنا وربك فحسب، ولكنه رب الكل، وخالق الكل، فأخذوا يدعونه إلى الله، وترك الأوثان والإشراك في عبادة الله.

وقد قال لهم: اتخذتم رباً دون ربي؟! فقالوا له: لم نتخذ رباً، ولكنه الرب الموجود الأبدي الأزلي الخالد، الأول والآخر، والظاهر والباطن، الذي بيده الأمر، وبيده الخلق، وهو رب السموات ورب الأرض ورب كل شيء لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا [الكهف:14].

فلا تنتظر ذلك منا، و(لن) لتأبيد النفي، فخذ يقيناً منا أنا لن ندعو غير الله، والدعاء العبادة، ومن هنا قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (الدعاء مخ العبادة).

فلا يدعى إلا الله، ولا يطلب إلا الله، ولا يلجأ إلا إلى الله جل جلاله.

يقول تعالى عنهم: لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا [الكهف:14].

أي: لا تنتظر ذلك منا يا دقيانوس ، واصنع بنا ما تريد، فلن ندعو إلهاً من دون الله خالق السموات والأرض، فإلهنا وإلهك وربنا وربك ورب السموات والأرض جميعاً هو الله تعالى، فلن نعبد غيره، ولن نعترف بسواه.

قال تعالى: لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [الكهف:14].

أي: إن نحن فعلنا فدعونا غيره وعبدنا سواه؛ فقد قلنا الشطط، والشطط: الزور والباطل والبهتان، والشطط في الأصل: تجاوز الحق، وتجاوز الواقع، ويجمع كل ذلك الزور والبهتان والكذب.

وإذا بالملك يزيل عنهم شعار الأسرة المالكة من لباس الذهب ونحوه، ويلبسهم ألبسة الناس العاديين، ويضرب لهم أجلاً إلى الغد، فإذا لم يفعلوا ولم يعودوا إلى دينه فإنه سيرجمهم، وسيقتلهم، وسيصلبهم في جذوع النخل، وسيقطع الأيدي والأرجل من خلاف، وخصهم بالإنظار لقرابتهم منه.

وكان هذا الإنظار لصالحهم، فتركوه وذهبوا ليلتهم يديرون الأمر والفكر، فما العمل؟

إن هذا الطاغية الجبار المشرك الوثني أبى إلا أن يشرك بالله، وأن يفرض شركه على غيره، فكان رأيهم الذي اتفقوا عليه أن يفروا بدينهم منه، وأن يذهبوا إلى مكان لعل الله ينقذهم، ولعل الله يبعدهم عن طغيانه وجبروته.

تفسير قوله تعالى: (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة...)

ولما ذهبوا وجلسوا وأخذوا يتحدثون قالوا فيما بينهم: هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً [الكهف:15]، وليس إلهاً واحد لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الكهف:15].

فأخذوا يقولون فيما بينهم، ويقولون لربهم وهم يدعونه بأن يلهمهم الرشاد في الفرار من هذا الظالم الطاغية: هَؤُلاءِ قَوْمُنَا [الكهف:15] أي: عشيرتنا، اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ [الكهف:15] من دون الله الخالق جل جلاله، آلِهَةً [الكهف:15]، فلم يقتصروا على عبادة الله وحده، بل اتخذوا آلهة من دونه أفردوها بالعبادة، وخصصوها بالوثنية.

لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ [الكهف:15] فهذا الذي قالوه ألهم عليه سلطان وحجة ودليل وبرهان، أم افتروه؟! فمن أين أتوا بالشرك والشركاء؟! فهل لهم بذلك نبأ عن نبي، وهل لهم كتب يتدارسونها يزعمون أنها من كلام الأولين من الحكماء والمؤمنين والعارفين؟! هيهات هيهات، وإنما هو اتباع الآباء والأجداد في دين لم يشرعه الله، ولم يأمر به، وليس عليه دليل ولا سلطان ولا برهان إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [النجم:23].

يقول تعالى: لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ [الكهف:15] فهل يأتون على هذه الآلهة بسلطان بين؟! وجمعت بضمير العاقل على زعمهم، ولا يكون الإله إلا عاقلاً مدركاً واعياً، وإلا فهي أخشاب وجمادات وأحجار، وما كان كذلك فليس بعاقل.

فليس لهم على زعمهم سلطان بين، ودليل قاطع، وبرهان واضح، ولكن ظنوا أنها آلهة بحق، وعلى هذا الاعتبار عاد الضمير إليها بجمع العاقل، وليس ذلك إلا من مفترياتهم ومن مقولاتهم التي لا دليل عليها.

ففعلهم هو الهراء والسخف والجور والباطل، فلا شريك مع الله، ولا ثاني مع الله، فهو الواحد الأحد الفرد الصمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:3-4].

قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الكهف:15].

فهم كذبة حين قالوا ما لم يكن، واخترعوا ما لا وجود له، ومن أعظم جرماً وإثماً ممن افترى على الله كذباً؟! وإذا كان الكذب على الناس يعتبر جريمة وكبيرة، ومخلاً بالمروءة والكرامة؛ فكيف إذا كان على الله؟! فهؤلاء نسبوا إلى الله شريكاً ومعيناً ومؤازراً، فذلك أكبر الكبائر، وأعظم الجرائم، وأقبح ما يعتقده إنسان ويخترعه.

تفسير قوله تعالى: (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله ...)

ثم أخذوا يتفكرون فيما بينهم، ويقول بعضهم لبعض: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا [الكهف:16].

فما دمتم قد اعتزلتم هؤلاء، وعشتم في عزلة دونهم، وقررتم أن تتركوا جموعهم، وأن تبتعدوا عن مدينتهم وعن ملكهم وسلطانهم، وأن تعتزلوا ما يعبدون غير الله، وقررتم تركهم، وترك آلهتهم التي عبدوها من دون الله، فأووا إلى الكهف، أي: اتخذوا من الكهف مأوى ومنزلاً ومعتزلاً وخلوة، ومكاناً تبتعدون فيه عن هؤلاء وآلهتهم الكاذبة، وفجورهم وظلمهم واعتدائهم.

قال تعالى: يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ [الكهف:16].

أي: يعطيكم الله ويجللكم بالرحمة، بأن يرحمكم من أعدائكم، فلا يعرفون مكانكم، ومن ثم لا يرجمونكم ولا يجبرونكم على الدخول في دينهم والعودة إلى باطلهم.

فاتخذوا هذا الكهف مأوى، عسى الله أن ينشر عليكم من رحمته، فيجعل هذا الكهف الذي أنتم فيه مجللاً بالرحمة، وبالحفظ وبالصيانة حتى لا يصل إليكم عدوكم.

قال تعالى: وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا [الكهف:16].

أي: يكرمكم، ويرشدكم، ويوفقكم إلى ما فيه مرفق لكم ترتفقون به، ويزول عنكم العسر، ويزول عنكم ما تتضجرون وتتبرمون به من طغيان هذا الطاغية وجبروت هذا الجبار.

والمرفق: هو ما يرتفق به في الحياة من سكن هادئ، وبيئة صالحة، ولباس مريح، وطعام لذيذ، فأي شيء يرتفق به الإنسان في حياته يسمى المرفق.

فهم يرجون أن يكون هذا الكهف مأوى لهم، ومرفقاً يرفق الله بهم فيه.

فدخلوا الكهف، وانتظروا الرحمة من الله والرفق بحالهم وحياتهم، واستجاب الله جل جلاله دعاءهم، فأكرمهم بالرحمة وبالرفق بهم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الكهف [12-16] للشيخ : المنتصر الكتاني

https://audio.islamweb.net