إسلام ويب

ينهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول إنه سيفعل شيئاً في المستقبل دون أن يقول إن شاء الله، ويأمره بتفويض الأمر إليه والتمسك بكتابه والركون إليه.

تفسير قوله تعالى: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً)

قال تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24].

إن سبب نزول هذه الآية هو أن عقبة والنضر ،وكلاهما عاشا على الكفر وأصرا عليه وعلى حرب الله ورسوله وقد مكن الله نبيه من رقبتيهما، وقتلهما صبراً في غزوة بدر، عندما جاءا مثيرين لأهل مكة، من قبل أعداء الله ورسوله اليهود؛ فقد سألوا النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن جعلوا له مجلساً عند الكعبة في فنائها، فقالوا له: يا محمد! إن كنت نبياً حقاً، فأخبرنا عن جماعة من الشباب غابوا في الدهر القديم، أين ذهبوا ومن هم؟ وأخبرنا عن رجل طواف بين المشرق والمغرب من هو، وما قصته؟ وأخبرنا عن الروح.

فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: غداً أجيبكم، فجاء الغد وجاء بعد الغد إلى اليوم الخامس عشر ولم يأتهم بنبأ، فكثرت الأقاويل، وكثر اتهام نبي الله عليه الصلاة والسلام بأن الله تركه، وأنه قد تخلى عنه شيطانه، وحاشا نبينا من كل ذلك عليه الصلاة والسلام.

وفي اليوم الخامس عشر جاء الوحي وجاء العتاب: لم تقول لهم غداً ولا تقول: إن شاء الله، قال تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128] ، فالأمر بيد الله، فلو قلت: إن شاء الله وانتظرت أمر الله لكان أفضل، ولذلك دخل هذا الاستثناء والعتاب والملام في صلب السورة، فقد قص الله عليه القصة التي سئل عنها، وأنهاها بتأديبه وأن لا يعود إلى ذلك مرة ثانية.

فقال له ربه جل جلاله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24].

أي: قل: إن شاء الله، واجعل الأمر بيد ربك، فله الأمر وله النهي، خاصة وأنت نبي ورسول، تتحدث عن الله وبوحي الله وبأمره، على أن الخطاب كذلك عام، كما يقول علماء الأصول، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

والنبي لم يقل: إن شاء الله، لأنه نسي، فقال الله له: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24].

فكان هذا هو الأصل، وأصبحت الآية عامة لكل الناس، لأن الغد ليس لنا، إنما الغد لله، قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30].

فإذا كان الأمر كذلك فيجب على المؤمن الموحد المخلص لله طاعةً وعبادةً، ألا يتحدث عن شيء إلا ويحيل علمه إلى الله، فضلاً عن عمله.

حكي عن سليمان أنه قال يوماً: لأطوفنَّ هذه الليلة على مائة من نسائي - وكان أنبياء بني إسرائيل يتزوجون المائة والمائتين والثلاثمائة امرأة - ليرزقني الله من كل واحدة منهن فارساً يجاهد في سبيل الله، فمضى العام، ومضت الأشهر التسعة التي تكون عادة هي مدة الحمل ولم يلد من زوجاته إلا واحدة، وولدته نصف إنسان، كما في الصحاح.

وقال النبي تعليقاً على ذلك: (لو قال سليمان: إن شاء الله، لاستجاب الله له، ولرزقه مائة فارس كلهم يجاهدوه في سبيل الله)، ولكن لم يقل: إن شاء الله.

قال تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] ، يعني: اذكر ربك إذا نسيت بعد التذكر للاستثناء، أي إذا قال أحدنا: سأفعل غداً، أو سأفعل بعد غد، ونسي أن يقول إن شاء الله، فذكر بعد ساعة أو ساعتين، فبمجرد أن يتذكر يقول: إن شاء الله.

وهذا هو علاج النسيان فيما إذا لم نقل إن شاء الله، وبذلك ترفع عنا المسئولية.

فالله علم نبيه وذلك، وهو أسوتنا الأعظم عليه الصلاة والسلام، فنحن نقول: إن شاء الله في كل ما نريد عمله، فإذا أنسانا الشيطان أن نذكر اسم ربنا، فعلينا إذا ذكرنا أن نقول: إن شاء الله.

وتجري على ذلك أحكام، فمن الناس من يطلق وبعد ساعة أو أكثر يقول: إن شاء الله، فتطلق عليه زوجته، لأنه أخر الاستثناء.

و ابن عباس له في ذلك رأي وحكم عجيب، يقول: الاستثناء مقبول ولو بعد عام، ولكن علماءنا يقولون: ابن عباس أعلم وأكرم من أن يقول: الطلاق يبقى معلقاً سنة؛ لأنه خلال العام كيف يتصل بها وهي مطلقة، فقد فارقت زوجها وقد تتزوج غيره، وقد انتهت عدتها.

إذاً: فـابن عباس يقصد الأعمال الأخرى غير الطلاق، ولكن إذا طلق ثم استثنى قريباً، فعند ابن عباس يعتبر ذلك استثناء ولا يحدث طلاق، واختلف في هذا علماؤنا ومجتهدونا، فقالوا: إن كان الاستثناء متصلاً فنعم، وإن مضت مدة فلا يعتبر الاستثناء استثناءً من الفعل.

وهذا كقوله عليه الصلاة السلام: (من نسي صلاة أو نام عنها فوقتها حين يذكرها).

فالصلاة لا تؤخر عن وقتها، فإذا نسيها إنسان وتذكر بعد يوم أو بعد سنة، فبمجرد ذكره لها يصليها بلا تأخير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ، وذلك أصل من أصول الشريعة، فالإنسان لا يؤاخذ على ما فعله نسياناً، ولا على ما استكره عليه.

قال تعالى: وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا [الكهف:24] أي: يا محمد! عندما تنسى ادعُ ربك وقل: عسى، وعسى من الله تحقيق وليست للترجي، أي: إذا ذكرت ربي بعد ذلك فإن الله تعالى سيلهمني الصواب، ويرزقني الرشد والتوفيق والهداية للحق والصواب، فإذا نسيت أن تثني بإن شاء الله، أو إذا ذكرت بعد ذلك فقلت: إن شاء الله، فقل مع هذا: عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا [الكهف:24].

قل: عسى الله أن يرشدني لأن أقرب الصواب، ولأن أكون قريباً للصواب والرشاد، وأن أمتنع وأبتعد عن الخطأ، وعن الضلال وعما لا يليق.

هذا ما يجب على الناس أن يفعلوه، أن يقولوا بعد أن يذكروا: إن شاء الله، فيدعون الله بهذا الدعاء، كما قال علماؤنا ومفسرونا.

تفسير قوله تعالى: (ولبثوا في كهفهم ... )

قال تعالى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف:25].

أخبرنا الله جل جلاله لتتم القصة وليعلمها النبي صلى الله عليه وسلم ، وليبلغها لهؤلاء الذين أرادوا امتحانه واستفزازه فقال الله لنبيه: إنهم أقاموا في الكهف ثلاثمائة عام، وازدادوا تسعاً.

وزعموا أن في الكتب السابقة: أنهم ما أقاموا إلا ثلاثمائة عام، لكن الله قال: ثلاثمائة عام وازدادوا تسعاً، فإن قيل: لِمَ قال هكذا: (وازدادوا) ألم يكن كافياً أن يقال: ثلاثمائة وتسع سنوات؟

فالجواب: هناك السنة القمرية، وهناك السنة الشمسية، فهي ثلاثمائة عام شمسية، وهي ثلاثمائة وتسعة أعوام قمرية.

والقرن الشمسي يزيد عن القرن القمري بثلاث سنوات في كل مائة عام، فكل مائة سنة شمسية تساوي مائة وثلاث سنين قمرية، فهي ثلاثمائة عام شمسية، وثلاثمائة عام وتسعة أعوام قمرية، ومعنى القمرية: أننا نعد أشهرها برؤية القمر، فبرؤية القمر نصوم، وبرؤية القمر نفطر، وبرؤية القمر تكون مواعيدنا، وبرؤية القمر يكفر من يكفر بصيام شهرين متتابعين، وبالشهر القمري تحد المرأة على وفاة زوجها أربعة أشهر وعشراً، ولا عبرة بالسنة الشمسية البتة.

فالإثنا عشر من الشهور التي ذكرها الله كلها قمرية، وهي من المحرم إلى ذي الحجة، فنحج بيت الله الحرام على الحساب القمري.

ومن حسنات هذه البلاد أن الشهر القمري الشرعي الإسلامي لم يبقَ قائماً إلا فيها، ففي جميع ديار الإسلام تركوا الشهر القمري الإسلامي، واعتمدوا على تاريخ لا صلة لنا به، وهو تاريخ نصراني يتعلق بعيسى، ومع احترامنا لعيسى أنه نبي الله وعبده، فإنه ليس هو عيسى الذي يؤمن به النصارى.

فإن عيسى الذي يؤمن به النصارى يزعمونه إلهاً ورباً وابن صاحبة، وهم مع ذلك يقولون: إنه ولد، ويقولون: التاريخ الميلادي حسب ولادته، وحتى هذا التاريخ فإن فرق النصارى غير متفقه عليه، فالبعض يقول: قبل ذلك بعشرة، والبعض يقول: من بعد ذلك عشرة، وغير ذلك.

فما حاجتنا إلى أن نستخدم تاريخاً لا تربطنا به شريعة ولا عقيدة ونخالف إجماع الصحابة، فقد اتفق الصحابة على أن يبتدئ التاريخ من الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة، فمعاملاتنا وصيامنا وحجنا ومواعيد شريعتنا، كلها مبنية على الشهر القمري، وتركه فسق، وخروج عن أمر الله وإجماع المسلمين، فكيف بإجماع الصحابة.

قال تعالى: ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف:25].

من المعلوم أن تمييز العدد مائة يكون مفرداً، فتقول: جاء مائة رجلٍ، واشتريت مائة جمل، ولا تقول: مائة سنين ولا ثلاثمائة سنين، ولكن الكلام تقديره، ولبثوا في كهفهم سنين ثلاثمائة.

وفهم بعض النحاة من ذلك أن تمييز العدد مائة قد يكون مفرداً وقد يكون جمعاً، ولكن هذا غير معروف، فقد فسروها بقولهم: ولبثوا في كهفهم سنين ثلاثمائة، أي: من الأعداد ثلاث مائة سنة، وازدادوا تسعاً.

قوله: (ازدادوا) هل الضمير يعود للثلاثمائة؟ ولو كان كذلك يقيل: وازدادت تسعاً، ولكن الضمير لا يرجع إلى السنوات ولا إلى القرون، وإنما يرجع إلى أصحاب الكهف وهم عقلاء.

فقد أقاموا في الكهف ثلاثمائة من السنين، وازدادوا في الكهف على هذه المدة تسع سنوات أخرى.

تفسير قوله تعالى: ( قل الله أعلم بما لبثوا ... )

قال تعالى: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [الكهف:26].

وفي قراءة ابن مسعود وقراءته شاذة: (وقالوا لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين).

فنسب هذا القول لأولئك الذين أعثر الله عليهم، أنهم هم الذين قالوا ذلك.

وقال ابن مسعود : لم يقرهم الله عليه؛ ولذلك قال: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [الكهف:26].

وهذا ليس بصحيح؛ لأن قراءة ابن مسعود شاذة لا تصح، وليست في القراءات السبع، فالخبر بمدة إقامتهم في الكهف، ثلاثمائة وتسع سنوات خبر إلهي، ولكن قال الله تعالى: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [الكهف:26].

لأن يهود المدينة وأدعياء الكتاب سيناربونك، وأن المدة ليست ثلاثمائة سنة وتسعاً، وأن العدد ليس سبعه والكلب الثامن، وسيقولون ويقولون.

أي: فإن نازعوك فلا تمار في ذلك إلا مراءً ظاهراً، ثم أخبرك ربك وأعلمك فإن عارضوك: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [الكهف:26].

فالله أعلم بمدة لبثهم وإقامتهم، هل لبثوا مائة سنة أم ألف سنة، أم سبعمائة، فأخبر يا محمد بما أُخبرت به، فإن نازعوك فقل: الله أعلم بالعدد.

قال تعالى: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف:26].

قال تعالى: هؤلاء إن جادلوك وماروك، ونازعوك، فلا تمارهم ولا تنازعهم، وقل ربي: أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:26].

فالله وحده هو عالم الغيب والشهادة إذ لا يعلم غيبه أحد، قال تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن:26-27].

ولا يدعي معرفة الغيب من قبل ذاته إلا دجال كذاب أشر، وغيوب الأنبياء هي بعلم الله، وبإعلام الله، من شاء أعلمه، ومن شاء لم يعلمه، وغيب الله لا يعلمه أحد، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، إلا من شاء الله أن يعلمه.

يعلمه ببعض ما يريد.

قوله: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ [الكهف:26].

تعجب للكثرة، أي: ما أسمعه، وما أكثر سمعه، وما أكثر بصره، فبعض العلماء نازعوا في هذا التعبير أن يقال على الله، والآية تدل على أنهم قالوا ما ليس بحق، والنبي يؤكد ذلك عليه الصلاة السلام فقال (لا أحد أصبر من الله)، أي: يكفر به الإنسان ويشرك به ومع ذلك يصبر، ويرفق بهم ويعطيهم عوناً وأرزاقاً، وهكذا هنا.

فالمعنى: ما أصبره وما أسمعه، فالله جل جلاله يعلمنا أن نقول: هو وحده الذي انفرد بأن يسمع كل شيء ويبصر كل شيء، وأن يعلم كل شيء.

هو عالم الغيب والشهادة لا يشاركه أحد في علمه ولا في غيبه ولا في شهوده جل جلاله وعلا مقامه.

قال تعالى: مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ [الكهف:26] أي: ليس لأحد من الخلق من دون الله ولي ولا ناصر ولا معزز، ولا ما يعطيهم إذا هم جاعوا وذلوا وتضرعوا.

قال تعالى: وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف:26].

لله الأمر والنهي، لا حكم إلا لله وحده، ولا يشرك الله في حكمه ولا في أمره ولا في إرادته أحد من خلقه، وكل ما زعم المشركون والكافرون إن هي إلا أسماء سموها، مالهم بها من علم ولا لآبائهم، ولا دليل عليها، ولا سلطان لها.

فالله لم يشرك معه أحداً لا في الخلق، ولا في الأمر، ولا في النهي، ولا في العطاء ولا في المنع، وكل هذا تأكيد لتوحيد الله وعبادته وإفراده بالعبودية وبالألوهية والربوبية جل جلاله.

تفسير قوله تعالى: ( واتل ما أوحي إليك ... )

قال تعالى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الكهف:27].

يخاطب الله أشرف عبيده، وكأنه يقول له: دع عنك اليهود والمشركين وأعداء الله، واقرأ ما أوحى الله إليك من كتاب، واعتنِ بهذا القرآن تالياً وقارئاً وحاكماً، وآمراً وناهياً، أحل حلاله وحرم حرامه، صدق بقصصه واعمل بموجبه، ولا تدعه أبداً، فهو الحق: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42].

فاقرأ كتاب ربك لتكون معانيه وحقائقه لازمة لك، استحضرها دوماً واعلم أن ما أخبرك به هذا الكتاب هو الحق، وما أثبته فهو الحق، وما لم يقله فهو الباطل، وما لم يزكه فهو الباطل.

فإياك أن تأخذ الحقائق عن أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا وتلاعبوا، وزادوا في دين الله ما ليس فيه، ونقصوا منه ما فيه.

وقد كان أحب شيء لرسول الله تلاوة القرآن، فقد كان عليه الصلاة والسلام يتلو القرآن في كل أحواله، يصلي بالمسلمين بالقرآن، ويتهجد به في أول الليل ثم ينام، ثم يتلو ثم ينام ثم يقوم في الثلث الأخير من الليل، نافلةً له.

فكان التهجد في حق المسلمين سنة مستحبه، وفي حق رسول الله صلى الله عليه وسلم واجباً عينياً.

فكان وهو يتهجد يتلو القرآن، فيتذكر معانيه، ولا ينساها عليه الصلاة والسلام، بل كان يزداد لها ذكراً وعملاً، وتعليماً ونشراً لدين الله.

ومن هنا كان يقول عليه الصلاة والسلام (نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأدها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع) .

أما القرآن فقد رواه أطباق المسلمين، عصراً بعد عصر، وجيلاً بعد جيل من الصدور والسطور، وبذلك لم يتغير فيه كلمة ولا حركة ولا آية.

وكذلك كانت السنة في الدرجة الثانية، إذ سمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرواة والحفاظ من الصحابة والتابعين، بضبط الكلمة، وبشرح معناها، وتأكيد لفظها، ولذلك كان يقول: (نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها)، أي: حفظها أولاً: (فأدها كما سمعها)، حتى إذا سمع ولم يفهم، فسيأتي من يفهمها، (فرب مبلغ أوعى من سامع).

قال تعالى: لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الكهف:27].

هذا الكتاب الحق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كلماته لم تغير ولم يتلاعب بها كما حدث في التوراة والإنجيل، وذاك قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

فقد مضى على القرآن أربعة عشر قرناً من التاريخ ولم يعتره التحريف، وهذا أصدق دليل وأكبر معجزة، ومن هنا كان القرآن الكريم هو المعجزة المستمرة الدائمة في صدق رسول الله عليه أزكى الصلوات وأفضل التسليم.

فقوله: لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الكهف:27].

أي: لا مبدل لها لفظاً، ولا مبدل لها معنىً، مهما تلاعب المبتدعة من الفرق الضالة في تحريف معنى القرآن والتلاعب به، فإنه سيبقى من أكرمهم الله بعلمه، ومعرفته، فمع بيان رسول الله له، ومع السنة المطهرة المفسرة الشارحة، بقي القرآن بمعانيه وبألفاظه، لم يغير ولم يبدل.

ومهما حاول أن يبدل المبدلون في المعاني، سيبقى ذلك الكلام مضروباً به وجوههم، دالاً على بدعتهم، بل دالاً أحياناً على كفرهم.

قال تعالى: وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الكهف:27].

أصل الإلحاد: الميل، فقوله: وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ [الكهف:27]، أي: من دون الله ومن دون كتابه، والكل بمعنى، و(لن) لنفي التأبيد، أي: لن تجد مرجعاً ولن تجد من تحيد إليه وتستغيث به، إلا الله جل جلاله، وكتابه هو الذي يدلكم على ما أحل وعلى ما حرم، وعلى أنباء السابقين لرسل الله وأنبيائه المقربين.

فلا ملجأ منه إلا إليه جل جلاله، وكتابه هو الحاكم وهو المعلم، وهو الهادي المرشد، أنزله الله لنا، ليكون رفيقاً في المكتب والمدرسة، وحاكماً في المحكمة، ومؤدباً في الشارع، وموجهاً للأسرة، والحاكم بيننا وبين الأحباب، وبيننا وبين الأعداء.

فيه خبر من قبلكم، ونبأ من بعدكم، هو الجد ليس بالهزل، ما تركه من جبار إلا وقصمه الله، وما حكم به إمام إلا وهداه الله.

تفسير قوله تعالى: ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم ... )

قال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].

هذه آية عباد الله المساكين الفقراء العابدين الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفقدوا، الذين يشغلون صباحهم ومساءهم بذكر الله؛ مصلين وصائمين وتالين ومسبحين ومنزهين ومعظمين.

وأمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يصبر نفسه معهم إذا جالسهم وآكلهم وعاشرهم، فيتحملهم ولا يتبرم بهم، فقد مر النبي عليه الصلاة والسلام يوماً بالمسجد على جماعة من ضعفاء الصحابة بعضهم ليس عليه إلا ثوب واحد، وبعضهم ثائر الشعر، فجلس بينهم وقال: أنتم الذين قال الله لي عنكم: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28].

أي: يذكرون في الصبح، ويذكرون الله تعالى في العشية والمساء.

والذكر كلمة عامة، وأفضل الذكر لا إله إلا الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أفضل ما قلته أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله) .

وذكر الله يكون بالتهليل والتسبيح والتعظيم، والإجلال والإكبار.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الكهف [23-28] للشيخ : المنتصر الكتاني

https://audio.islamweb.net