إسلام ويب

اشترط سيدنا الخضر على سيدنا موسى عليهما السلام شروطاً يلتزم بها إذا رافقه، ثم انطلق معه مسافرين حتى ركبا البحر، ثم بدأ الخضر عليه السلام يعمل حسب ما يأمره الله، فكان موسى لا يصبر على السكوت عما ظاهره المنكر حتى فارقه الخضر وذكر له تأويل ما لم يستطع عليه صبراً.

تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها...)

قال الله تعالى: فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا [الكهف:71].

أي: قام الخضر وقد كان نائماً وقال لموسى: الحقني واتبعني، فأخذا يبحثان عن سفينة ليركباها، وموسى يمتثل، بعد أن اجتمعا في طنجة عند صخرة كبيرة، وهي ما تسمى اليوم بجبل طارق، وفي المقابل الآخر الجزيرة الخضراء وملقا من أرض الأندلس، وسيقول لنا أبو هريرة قريباً بأن القرية التي لم تضيفهما كانت في الأندلس.

قوله: فَانطَلَقَا [الكهف:71] أي: انطلقا ماشيين مسافرين متنقلين، وأخذا جهة الشاطئ يبحثان عن سفينة، فوجدا سفينة فركباها، فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا [الكهف:71] أي: قام الخضر وجاء إلى خشبة في عمقها ومعه قدوم فكسرها.

وهذا العمل يدل على أنه يريد إغراق السفينة بمن فيها وموسى معهم، وإذا بموسى ينسى شرطه، وينسى وعده بأنه سيصبر، فصاح مستنكراً فقال له: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا [الكهف:71] أي: كأنه لم يعد صالحاً ولا نبياً، وإنما أصبح كمجرم يريد قتل هؤلاء الركاب في السفينة جميعاً، فقال له: أتريد من خرقك لها أن تغرقها وتغرق أهلها؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا [الكهف:71] أي: شيئاً عظيماً منكراً.

فهو لم يكتف بأن يستفسر عن هذا الفعل، بل استنكره واتهمه بأنه يريد إغراق الركاب، ثم اتهمه بأنه أتى منكراً من العمل، قال موسى: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا [الكهف:71] وإن كان المفسرون قد قالوا إن هذه اللام ليست لام التعليل، وإنما هي لام العاقبة، ولكن ما أظن موسى يقصد العاقبة؛ لأن موسى بحدته اتهمه بأنه يريد إغراق هؤلاء الناس، ولولا أن الله أمره لما تحمل هذا العذاب الشديد في اتباعه.

وإذا بـالخضر كان أهدأ منه عصباً وكان عنده رزانة المعلم، وكان موسى عليه الصلاة والسلام فيه حدة الطالب، فقال له الخضر : أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:72] أي: ألم أقل لك من قبل عندما طلبت أن تكون تابعاً لي متعلماً من علمي، مسترشداً من رشادي، ألم أقل لك: إنك لن تستطيع معي صبراً؟ ولم يقل: إنني اشترطت عليك ألا تسأل عن شيء حتى أبينه لك، مع أنه اشترط عليه ألا يسأله عن شيء حتى يحدث من نفسه ذكر البيان.

وإذا بموسى يقول له: لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا [الكهف:73]، فأخذ يعتذر ويقول: إنني نسيت فلا تحملني ما لا أطيق، ولا تصعب علي عشرتك وصحبتك وطلبي للعلم منك، فقبل الخضر الغلطة الأولى وسكت، فتابعا الرحلة ونزلا من السفينة.

وقبل ذلك لم يذكر الله لنا موقف الركاب عندما رأوا الخضر يأتي إلى السفينة فيخرقها ويعيبها، ويغرقها، وكان الشأن أن يثوروا في وجهه، وأن يرموه في البحر ويقوموا بإصلاح السفينة، ولكن الذي حدث أنه خرق السفينة بأن أزال منها ركناً من الأركان من عمقها، وكان معداً أخشاباً، وبمجرد ما نزع هذا وضع هذا، لكن كان التركيب يظهر السفينة معيبة غير صالحة؛ لكي لا يقع طمع الطامعين في أخذها كما سيأتي بعد.

ولكن موسى بادر وأخذ ثوبه وأراد أن يسد هذا الثقب والخرق بثوبه، وماذا عسى أن يصنع الثوب، قد يأتي حوت ويسحبه إليه يظنه لحماً أو طعاماً، ولكن النتيجة أن السفينة لم تغرق، والركاب لم يهلكوا، وموسى لم يحصل له شيء.

تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله...)

قال الله تعالى: فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [الكهف:74] أي: أخذا طريقهما منطلقين مشياً ورحلةً وسفراً، حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ [الكهف:74]، فكانت الفعلة الثانية أفظع من الأولى.

فقد رأى الخضر غلماناً يلعبون فجاء إلى أجملهم وأذكاهم وأوضئهم، وكان دون البلوغ بين العشر والتسع سنوات فقتله، وإذا بموسى عندما رأى هذا المنظر نسي مرة أخرى وصاح: قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [الكهف:74] ما هذا يا خضر؟ لقد أتيت إلى طفل صغير، (نفس زكية) أي: لم يعص الله بعد فقتلته بغير نفس، ولم يسبق أن قتل نفساً أو أجرم جرماً أو أذنب ذنباً.

(لقد جئت شيئاً نكراً) أي: جئت شيئاً مستنكراً مستفظعاً لا يقبله إنسان.

تفسير قوله تعالى: (قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً ...)

قال الله تعالى: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:75].

هذه أول آية من الجزء السادس عشر من كتاب الله، قال الخضر مرة أخرى لموسى نبي الله: ألم أقل لك يا موسى إنك لن تستطيع معي صبراً، أي: أنت لا تطيقه ولا تتحمله، وإذا بموسى يكتم على نفسه هذه فيقول له: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا [الكهف:76].

أي: إن أنا عدت مرة ثانية وسألتك أو استنكرت عليك فعل شيء فلا تصاحبني، (قد بلغت من لدني عذراً)؛ لأنك صبرت على المرة الأولى والمرة الثانية وهذه المرة الثالثة، فيكون عذرك معك.

تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها...)

قال الله تعالى: فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا [الكهف:77].

لما انطلق الخضر ومعه موسى وصلا إلى هذه القرية جائعين لا زاد معهما، وإذا بـالخضر وموسى يطلبان من أهل هذه القرية الغداء أو العشاء، فطلبا منهم الضيافة فامتنعوا وكانوا لئاماً، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا [الكهف:77] أبوا ضيافتهما وإكرامهما، وهما نبيان مكرمان: نبي الله موسى وهو من أولي العزم، ونبي الله العبد الصالح الخضر .

فقام الخضر إلى جدار يريد أن ينقض، أي: يوشك أن ينهار، وإذا بـالخضر يبني الجدار على الحائط بناءً جديداً.

قال أبو هريرة : هذه القرية كانت مدينة في الأندلس، وهي خلف الضفة الثانية الملاصقة للصخرة التي سميت بعد ذلك بجبل طارق، حيث دخل منها طارق بن زياد المغربي البربري فاتحاً قبل مولاه موسى بن نصير للأندلس.

قالوا: والذي أطعم الخضر وموسى وأضافهما امرأة مغربية من البربر، فدعا موسى والخضر على أهل هذه القرية، ودعوا لهذه المرأة بالبركة وفيضان البركة؛ لما تحلت به من الكرم والجود.

وذكر في التاريخ أن الأندلس اشتهرت قديماً وحديثاً، سواء في عصر الإسلام وقد عاشت ثمانية قرون، أو بعد ذلك وهي عائشة فيه منذ خمسمائة عام في الكفر والردة والنصرانية، فقد اشتهر الأندلسي واليوم الأسبان والبرتغال باللؤم والجوع والبخل، وهذا مما يؤكد أن المدينة كانت أندلسية.

ودعا الخضر وموسى للمرأة البربرية المغربية، وقد اشتهر المغرب قديماً وحديثاً وإلى الآن بالكرم والجود ومد الموائد، الفقير منهم والغني سواء.

قوله: فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ [الكهف:77] أي: أن ينهار ويسقط فَأَقَامَهُ [الكهف:77] أي: أتم بناءه، وإذا بموسى مرة ثالثة ينزعج ويقول: (لو شئت لاتخذت عليه أجراً)، يعني: هؤلاء اللئام الذين منعونا الضيافة ومنعونا الطعام والغداء والعشاء، فتأتي أنت فتبني لهم هذا الحائط ويكلفك وقتاً وزمناً، وتسعى في حجارته وفي طينه وفي ملاطه، وكل هذا دون أجر، وهم لا يستحقون ذلك مع لؤمهم وبخلهم؟!

وإذا بـالخضر يحكم على موسى تنفيذاً لحكمه على نفسه: قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:78] أي: الآن سأخبرك بأسرار وبواطن وتأويل وشرح وبيان هذه القضايا الثلاث التي لم تستطع صبراً على واحدة منها.

قال النبي عليه الصلاة والسلام هنا: (رحمنا الله وموسى، لو صبر على الخضر لأعطانا من علومه ومن عجائبه) ولكن موسى لم يصبر، وكان يمكن أن يصبر، لكن هي الحكمة الإلهية في المغزى، وكان يمكن أن تكون واحدة، لكن الله ثناها وثلثها لتكون الحجة والحكمة البالغة.

ومغزى القصة من الأصل: أن موسى عندما سئل: من أعلم منك؟ قال: لا أعلم، فقال الله له: بلى عبدنا الخضر ، وعاتبه الله ولامه لِمَ لم يسند الأمر إليه ويقول: الله أعلم؟ فالله تعالى أراد أن يؤدبه تأديب الرب الخالق للمخلوق، والله يصنع ما يشاء مع عباده كيف شاء، فيأمر الله تعالى موسى رسول الله أن يسافر من المشرق إلى المغرب شهوراً وشهوراً، ويكابد تعباً ونصباً وجوعاً وعطشاً، ويكون تابعاً طالباً متتلمذاً متأدباً مع الخضر أدب الطلاب مع الأساتذة والمدرسين.

ومع ذلك لم يصبر لا على واحدة ولا اثنتين ولا ثلاث، ولكن عندما أخذ الخضر يؤول أعماله ويفسرها ويذكر باطنها وحقائقها، قبل موسى منه ذلك؛ لأن الله أمره بذلك، وهو الذي أشاد به الخضر أن الله جل جلاله آتاه علماً من لدنه، ولا يسع العبد إلا أن يمتثل وينفذ أمر الله.

قال: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:78] أي: سأخبرك حقيقة الأمور الثلاثة التي استنكرتها واستغربتها.

تفسير قوله تعالى: (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر...)

قال الله تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف:79].

كان هناك ملك طاغية جبار متسلط ظالم، يتسلط على الناس ويصادر أموالهم، كما يأخذ الظلمة الأموال الآن باسم التأمين؛ فالكفر ليس بجديد، فأخذ الأموال من الناس من قبل الحكام والكبراء والملوك كان قديماً ولا يزال إلى وقتنا، فالشيوعية التي تصادر أموال الناس باسم التأمين، والاشتراكية التي تصادر أموال الناس باسم التأمين، والتي تذل العامل والفقير والفلاح والمسكين باسم أنها تريد خدمته، وهي تكذب عليه، هذا نفس الذي أراد الخضر أن يزيله، ويقطع الطريق على هذا الظالم المتسلط، وقيل اسمه هدد بن بدد .

قال تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ [الكهف:79] كان يملكها عشرة من الإخوة، خمسة كانوا مقعدين مرضى لا يستطيعون العمل، والخمسة الآخرون كانوا يعملون في السفينة فيستفيدون ويستفيد معهم إخوتهم المرضى، والخضر علم بعلم الله أن هذا البحر الذي فيه هذه السفينة قد تقع في يد ملك طاغية جبار يتعرض للسفن، وكان كلما رأى سفينة سليمة جديدة غصبها من أهلها.

والخضر نبي الله، والأنبياء يكونون رحمة للعباد ورحمة للمؤمنين، فأراد أن ينقذ السفينة من هذا الملك الطاغية، وينقذ هؤلاء المساكين بإنقاذ السفينة، فجاء إلى السفينة فخرقها وعابها كما قال هو: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79] فهي عندما تكون معيبة وفيها خرق وثقب، فيراها هذا الملك الغاصب اللص قاطع الطريق، فسيزهد فيها ويتركها؛ لأنها لا تصلح.

وقوله: (فأردت أن أعيبها وكان وراءهم) أي: وراءهم في البحر، (ملك يأخذ كل سفينة غصباً) أي: يأخذها غصباً وقهراً بغير حق، فبعمله هذا أنقذ السفينة وبقيت لهؤلاء المساكين.

وهنا نفهم أن وجود سفينة لأفراد لا يزيل عنهم صفة المسكنة، فالمسكين قد يجد طعاماً وشراباً وسكناً، ولكن ليس عنده ما يكفيه في سنته أو في شهره، وفي الشرع أن المسكين يأخذ من الزكاة ما يكتفي به سنة إن شاء.

تفسير قوله تعالى: (وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين...)

قال الله تعالى: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا [الكهف:80-81].

أي: علمه الله وأوحى إليه أن هذا الولد الوضيء الجميل الذكي ذا الملامح الأخاذة سيكون عند كبره وبلوغه عاقاً كافراً طاغيةً جباراً، وسيصيب أبويه المؤمنين الصالحين منه كل بلاء وكل ضرر وأذى.

وقد يغلب حبهما وعطفهما له بأن يجرهما إلى الكفر، فرحمة بهما واستراحة من هذا الكافر سلط الله الخضر لقتله وقطع دابره قبل أن يظهر كفره وطغيانه وفسوقه وعصيانه وعقوقه.

ثم قال: فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا [الكهف:81] أي: يبدل الله هذين الأبوين عن هذا الكافر الذي قتلته وأرحتهما منه خيراً منه زكاةً وأقرب منه إيماناً وصلاحاً ونماءً.

وقوله: (وأقرب رحماً) أي: أقرب لصلة الأرحام وللطاعة والبر، وأبعد عن العقوق والكفر والطغيان.

قالوا: وقد عوض الله هذين المؤمنين بنتاً جاريةً فكبرت وبلغت المحيض وتزوجت صالحاً، وأخرج الله من صلبها جماعةً من الأنبياء، عصراً بعد عصر وزماناً بعد زمان.

وقال علماؤنا: ومن هنا يجعل الإنسان إرادته في إرادة الله، وهي معنى قوله تعالى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:216]، فلا شك أن الأبوين عندما قتل ولدهما صاحا وبكيا وتألما وتوجعا، ولكن كان قتله خيراً لهما.

ولذلك عندما يبتلى الإنسان -نسأل الله السلامة والعافية لنا ولكم جميعاً- ينبغي أن يعلم أن الرضا بالقضاء والقدر أصل الإيمان، ومن تمام اليقين والتوحيد، فإذا وقع ما يكرهه الإنسان فليعلم أن الله تعالى ما سلبك إلا ليعطيك، وما أخذ منك إلا ليزيدك، فيتقبل الإنسان ذلك بالرضا وبالقناعة.

تفسير قوله تعالى: (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة..)

قال الله تعالى: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ [الكهف:82].

قوله: (أراد ربك) تعم الثالثة والثانية والأولى، أي: فلست أنا المريد، ولست إلا آلة، ولست إلا مأموراً.

قوله: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ [الكهف:82] هذان اليتيمان لم يبخلا، ولم يكونا يملكان من شيء؛ لأن أموالهما كانت تحت يد الوصي المشرف على أموالهما.

وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82] كان أبوهما مؤمناً تقياً، ومن هنا نعلم أن الأبوة الصالحة ترجع بركتها على الأولاد والأسباط والأحفاد والذرية إلى قرون.

قالوا: بأن هذا الأب كان السابع، وهذا ورد ولا أستطيع أن أقطع به، ولم يكن في القرآن مذكوراً، لكن الجد يسمى أباً إلى السابع والسبعين، ونحن نقول: أبونا آدم وهو الجد الأعلى، فيمكن أن يكون الأب السابع، ويمكن أن يكون الأب المباشر، ولكن الذي قال: إنه الأب السابع مجموعة من الصحابة والتابعين، وهذا لا يغير شيئاً من سياق القرآن ومن نظم الآيات، فإذا كانت بركة الأبوة الصالحة أفادت الذرية السابعة فما بالك بالأبوة الأولى والثانية والثالثة.

ومعنى ذلك: أن الله يكرم الصالح في أولاده وفي أحفاده وفي أسباطه، فكيف إذا كان هؤلاء الأولاد والأسباط والأحفاد أبناء لمحمد صلى الله عليه وسلم؟! ولا ينكر هذا إلا غشوم أو جحود أو في نفسه شيء، فإذا كانت الأبوة الصالحة المطلقة أفادت البطن السابع، فكيف بالأبوة النبوية الرسولية الخاتمة، الأبوة التي هي سيدة الأبوات منذ كانت الدنيا وإلى يوم القيامة.

ولذلك في الحديث المتواتر الذي نص على تواتره جماعة من العلماء كـابن تيمية وابن القيم والمزي وابن كثير والذهبي وطوائف من الحفاظ والأئمة أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وعترتي آل بيتي، لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض) أي: لن تفترق السلالة عن القرآن حتى يردا على النبي صلى الله عليه وسلم الحوض، (فانظروا كيف تخلفوني فيهما)، وهو في أمهات كتب السنة.

وقوله: وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا [الكهف:82] هذا الكنز قال الأكثر: كان مالاً وعلماً، قالوا: كان لوحاً من ذهب مصمد، أي: غير مجوف، ومكتوب فيه حكم من الواجهتين، في إحدى الواجهتين: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك وما يشبه هذا من التسبيح والتحميد والتمجيد والتعظيم.

وكان في الوجه الثاني حكم أخرى في باب التوحيد.

لا شك أن أعظم الكنوز كنوز العلم، ثم كان مالاً؛ هذه القطعة من الذهب تسوى الكثير، ولرحمة الله تعالى بهذه الأبوة الصالحة رحم أسباطها وأحفادها، فأتى الخضر مع نبي الله موسى ليشرفا على إخراج هذا الكنز الذي كان تحت هذا الجدار ولا يعلمه إلا الله، ولا يعلمه الغلامان الصغيران، لكن عندما وصل الخضر أصبحا مراهقين.

وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ [الكهف:82] أي: تحت الجدار، كَنزٌ لَهُمَا [الكهف:82] جاء الخضر وجدد بناء الجدار، وأخذ الكنز ولم يره موسى، لأنه لو رآه موسى لما انتقد بما انتقد ولما عارض بما عارض، ولما قال له: لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً [الكهف:77].

لكن كان تحته كنز فأخذه الخضر وأعطاهما إياه.

وقوله: وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف:82] أي: أراد الله ولست أنا الذي أردت، فأنا لا علم لي إنما الله الذي علمني وهو الذي أمرني، وأراد ربك الرحمة بهذين المسكينين، فأمرني أن أصنع ما صنعت لهما؛ رحمة بهما؛ ليأخذا حقوقهما رحمةً من ربك.

وكان هذان الطفلان قد بلغا أشدهما في الوقت الذي جاء الخضر فيه إلى هذا الجدار فأقامه، فهو هدمه ثم أعاد بناءه إلى أن صار قائماً مستقيماً وأخذ الكنز، فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا [الكهف:82] أي: يبلغا سن البلوغ، وأن يكونا عاقلين مدركين مع البلوغ.

وأن يحسنا التصرف في مالهما.

قال الخضر : (رحمة من ربك) أي: لم يكن ذلك إلا رحمة أرادها الله.

ثم قال: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82] أي: ما فعلت ذلك من تلقاء نفسي.

ثم قال: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:82]، أي: هذا تأويل هذه القضايا الثلاث التي لم تستطع يا موسى أن تصبر عليها.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الكهف [71-82] للشيخ : المنتصر الكتاني

https://audio.islamweb.net