إسلام ويب

ومن الأخبار التي ذكرها الله في سورة الكهف قصة الرجل الصالح ذي القرنين، الذي جاب شرق الأرض وغربها، ومكن الله له فيها بتهيئة الأسباب وإخضاع الرقاب لملكه وسلطانه.

تفسير قوله تعالى: (ويسألونك عن ذي القرنين...)

قال الله جل جلاله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:83] .

عرفنا أن سبب نزول سورة الكهف أن فئة من كفار مكة ذهبوا إلى يهود المدينة يسألونهم ليمتحنوا النبي صلى الله عليه وسلم هل هو نبي حقاً أو أنه متقول؟ فقال له هؤلاء الكذبة الفجرة من يهود المدينة وهم لا يريدون امتحاناً ولا اختباراً وإنما يريدون التشهير والتعجيز: سلوا هذا الذي قال إنه نبي من بينكم: ما قصة الجماعة الذين خرجوا يوماً في الدهر فغابوا ولم يعودوا؟ ومن هو الرجل الذي طاف المشارق والمغارب؟ ومتى كان؟ واسألوه عن الروح ما هي؟ فجاءوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام يسألونه فقال لهم: (غداً أجيبكم)، فمضى الغد وبعد الغد إلى أن مكث عشرة أيام ولم يأته الوحي، وفي اليوم الخامس عشر جاءه جبريل يعاتبه عن ربه أنه لم يستثن ويعلق الجواب في الغد بمشيئة الله، ومع ذلك أجابه فأنزل سورة الكهف، وأنزل قبلها الجواب عن الروح وكان جواباً سلبياً: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، فالله استأثر بعلمها ولم يطلع عليه ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً.

وأما قصة الجماعة فهي قصة فتية أهل الكهف التي مضت مفصلة، واليوم سنذكر قصة هذا الذي طوف الأرض مشارقها ومغاربها، فقال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ [الكهف:83] أي: يا محمد! يسألك قومك عن ذي القرنين قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:83] أي: سأجيبكم وأقص عليكم شيئاً من قصة هذا الرجل، وأذكر لكم خبراً يعرف به وماذا صنع، وهل كان مؤمناً أم كافراً؟

فقال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ [الكهف:83] أي: أقص عليكم يا معاشر العرب! ويا معاشر المسلمين! ممن عاصروه ومن لم يعاصروه، أي: سأقص عليكم خبراً من أخباره ونبذة من حياته، وأخبرنا عنه بياناً وتفسيراً نبينا صلوات الله وسلامه عليه كما في في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما من الكتب الستة عن طائفة من الصحابة: (أن النبي عليه الصلاة والسلام أخبرنا عن ذي القرنين وأنه كان عبداً بشراً صالحاً)، ومع ذلك اختلف الناس فيه: أكان ملكاً؟ فالجواب: ليس هذا الخبر إلا من الإسرائيليات، وكثيراً ما تمتزج الإسرائيليات بقصص القرآن عند تفسيرها وبيانها، ونجد فيها الكثير من الخرافات والأكاذيب مروية عن جماعة أسلموا وأدخلوا في هذه القصص ما ليس من القرآن ولا من صحيح السنة، وكان على رأس هؤلاء كعب الأحبار .

نبذة مختصرة عن كعب الأحبار

وكعب الأحبار أدرك حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين عاماً ولم يأت مسلماً، ولم يبحث عن اللقاء به، وما جاء إلا بعد أن استقرت الأحوال بالإسلام عقيدةً وديناً ودولة أيام عمر ، أي: لم يأت أيام أبي بكر ، وكانت الفتن قائمة وارتد من ارتد ومنع الزكاة من منعها وادعى النبوة من ادعاها، وإذا بـأبي بكر يؤدب الخارجين ويجبر المرتد على العودة للإسلام، ويقتل مسيلمة الكذاب ثم يجمع المسلمين جميعاً فجندهم وجعلهم جيوشاً موزعة إلى أرض الروم وأرض فارس، فلم يكن لـكعب أن يأتي في مثل هذه الظروف؛ لأنه قد يفصل فيها رأسه عن جسده، وجاء أيام عمر وأخذ يظهر الكثير من علمه ومعرفته وينقل عن التوراة وعن أهل الكتاب أخباراً، والتوراة معروفة، والإنجيل بنسخه الأربع معروفة متداولة بين الناس قديماً وحديثاً، غيرت وبدلت في العصور الأولى، وعندما نزل القرآن كان قد انتهى تبديلها وتغييرها على الشكل الذي نراه.

وإذا بنا نجد أن الكثير مما يعزو كعب إلى التوراة ليس فيها، ومما يعزوه إلى الإنجيل ليس فيه، ووجدنا أنه قد حصل الشك عند استشهاد عمر وقتله أن ذلك كان نتيجة مؤامرة، وقد قيل: قد كانت تحت إدارة كعب الأحبار الذي كان من أصل يهودي وكان حبراً من أحبارهم، وقد سأله يوماً العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام: كيف يا كعب ! في سنك ونضج عقلك لم تأت لرسول الله وهو حي فتكرم وتتشرف برؤيته والاجتماع به وتصبح ضمن أصحابه؟ ما الذي أخرك؟ فأجاب بما لا يقبل.

وقالت عائشة عنه يوماً: إنا لنبلو عنه الكذب، وقد أخذه عمر معه يوم فتح القدس وأبى بطارقة القدس أن يسلموا مفتاح المدينة إلا للخليفة الأعظم، فوجد عمر أنه لا مانع من حضوره بنفسه وجاء وعلم مكان الأقصى فمسحه ونظفه بردائه وتبعه جميع من معه من الصحابة والجند، وكان معه كعب فقال لـكعب : أين ترى نصلى يا كعب ؟! وكانت قد عرفت الصخرة فقال له كعب : نصلي خلف الصخرة ونجمع بين قبلة بني إسرائيل وقبلة المسلمين، وإذا بـعمر يقول له: لقد ضاهيت اليهودية يا كعب ! بل ندع الصخرة خلفنا ونستقبل الكعبة ما لنا ولصخرة اليهود، وقد سأله بذلك أيضاً معاوية بن أبي سفيان عندما كان خليفة على المسلمين بعد سنة أربعين هجرية واستشهاد علي كرم الله وجهه.

ويخبر الله عن ذي القرنين أنه أعطي من الأسباب والتمكين، فقال كعب : كان يصل بجنده وجيوشه ويربط خيوله في الثريا، وأين الثريا؟ وأين الأرض؟ فقال عمر عنه: إنا لنبلو عنه الكذب.

فكان عمر يتهمه بالكذب وبالاختلاق، وهكذا نجد الكثير ممن زعم الإسلام ممن كانوا من أصول كتابية وكان على رأسهم كعب ثم يأتي بعد ذلك ربيبه وابن زوجته نوف البكالي .

فـذو القرنين لم يكن ملكاً ولا نبياً، وإن كان ستأتي معنا آية يشير ظاهرها إلى أنه نبي، ولكن الجمهور والكثرة الكاثرة على أنه لم يكن نبياً ومن باب أولى لم يكن مَلَكاً، ولم يكن للمَلكِ أن يتصل بالبشر على هذه الطريقة فيحكموه ويطوف بين المشارق والمغارب وبين السدين، ولقد كان كما قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فيما رواه الضياء المقدسي في كتابه المختارة وهو من أصح الكتب، وقد صحح فيه أحاديث انفرد بتصحيحها، وسلم ذلك له من أئمة الحديث وحفاظه وعلمائه، قال عنه: لقد كان عبداً صالحاً ناصحاً لله فمكن له في الأرض.

إذاً: نحن نتكلم عن ذي القرنين الذي ملكه الله العالم من مشرق الشمس إلى مغربها وما بينهما، وأعطاه من كل ما يعطاه الملوك من الأسباب الموطدة لملكه والممكنة له في الحكم والسلطان والأمر والنهي والتصرف في رقاب هؤلاء البشر ملوكاً وأجناساً شعوباً وقبائل.

قال تعالى: قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:83]، أي: قل يا محمد! طالما وقد سألتم فهذا هو الجواب، وسأتلو عليكم منه نبذة تعطي صورة عن حياته.

وأتى الله بقصته كعادة القرآن، أن الله يأتي بالقصص لأخذ العبرة والدرس منها، لا ليقص علينا قصصاً تكون للسمر وللسلوى والسهر، ولذلك قلما تذكر الأسماء والتاريخ والعشيرة والأقوام، والحكمة تؤخذ كاملة مما قصه الله علينا في كلامه عن ذي القرنين.

تفسير قوله تعالى: (إنا مكنا له في الأرض ...)

قال تعالى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا [الكهف:84] .

فـذو القرنين هو عبد من عباد الله مكن الله له في الأرض وأعطاه سلطاناً ونفوذاً وحكماً، وأعطاه ما يحكم به بين المشارق والمغارب، قوله: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ) أي: كل الأرض، والألف واللام للاستغراق، فقد حكم ذو القرنين ما بين شروق الشمس إلى غروبها وما بين شمالها إلى جنوبها، وعاش ألفاً وستمائة عام كما قال المفسرون من الصحابة والتابعين وأئمة الحديث.

فقوله: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ) أي: أعطيناه من الأسباب، قوله: (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) أي: آتيناه من كل ما يحتاج إليه لملكه وحكمه وسلطانه، وأعطيناه من العلوم والوسائل التي يتنقل بها بين المشارق والمغارب من جند ووزراء وأعوان ونصراء وآلات سفر وتنقل، ومن كل ما يحتاج إليه من قهر أعدائه والمخالفين له والمعارضين لسلطانه، وقد روي -ولا أستبعده- أنه سخر له السحاب كما سخر السحاب لسليمان عليه السلام، ومن المعلوم أن سليمان سأل الله أن يهبه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، لكن ذا القرنين كان قبل سليمان، فقد عاصر ذو القرنين إبراهيم الخليل عليه سلام الله وطاف معه بالكعبة، وكان من وزرائه الخضر .

فلقد مكن لـذي القرنين تمكيناً وكان أيام إبراهيم وسخر له السحاب فكان يتنقل بين مشارق الأرض ومغاربها ممكناً له بالأسباب والجند والقوة والجيوش وآلات الحرب والحكم والمال والثروة التي بها أخضع العالم لسلطانه ولأوامره ونواهيه، وكان موحداً لله مسلماً صالحاً.

فقوله: (إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً) أي: آتيناه من كل ما يصلح للملوك والحكام من آلات وعلم ومعرفة وأداة كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير والصحابة والتابعون.

قال تعالى: فَأَتْبَعَ سَبَبًا [الكهف:85] أي: اتبع ما أعطاه الله من أسباب في معرفة الطرق الموصلة إلى المغرب والمشرق ثم إلى ما بين السدين، قوله: (سبباً) أي: طريقاً ومسالك، فقد كان يعلم ذلك علم يقين، وله أعوان من علماء الأرض وجغرافيتها ومسالكها سواء بين الجبال أو الوهاد أو البحار، وهكذا أعطي سبب كل ما يمكنه في الأرض من التحكم فيها وإخضاع ملوك الأرض وشعوبها لسلطانه.

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس ...)

قال تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا [الكهف:86].

أي: استخدم الأسباب ووسائل المواصلات والسير إلى الطرق إلى أن بلغ مغرب الشمس، وهي آخر رقعة من الأرض حيث ليس وراءها إلا الماء.

قال تعالى: (وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) وقرئ: حامية، أي: وجد الشمس تغرب في مرأى العين في عين فيه ماء حام، أي: حار، وقوله: (حمئة) أي: من ماء وطين أسود فيما تراه العين، وقد قال علماؤنا في تفسير هذه الفقرة من الآية الكريمة: كل إنسان إذا وقف على شاطئ البحر عند غروب الشمس يرى قرصها وكأنه في عين حمئة، أي: في ماء من تراب أسود إلى أن تغيب فلا يعود يراها، ذلك وصف نظر العين إليها، وإلا فالشمس فوق السماء وليست من الأرض، فهي تغيب وتحضر وتشرق على الأفلاك كما تشرق على الأرض.

قال تعالى: وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا [الكهف:86] أي: وجد عند غروب الشمس قوماً، وقد وصفهم بعض الصحابة أنهم قوم حمر قصار، وهذه صفة الهنود الحمر من سكان أمريكا، ومعنى ذلك: أن ذا القرنين حكم أقصى غرب الأرض وهي أمريكا، وحكم قومها الذين سموا بعد ذلك بالهنود الحمر، فسكانها الأصليون كانوا قصاراً حمراً يعيشون في أقصى الأرض عند مغرب الشمس، وما المغرب الأقصى المسلم وأوروبا إلا طريق إليها، وكان اكتشافها على أيدي من سموا في التاريخ العربي بالشباب المغرورين قبل خمسمائة عام، فهم الذين دلوا عليها واكتشفوها قبل كولومبس بدهر وإنما اتبع طريقتهم.

فهؤلاء القوم في صفتهم كما ورد عن الصحابة والتابعين ومفسري هذه الآية الكريمة: أنهم قوم حمر قصار، وهي صفة لسكان أمريكا الأصليين الهنود، وإنما جاء هؤلاء البيض طارئين عليهم مستعمرين أرضهم، جاءوا أوزاعاً وأشتاتاً من مختلف أقطار الأرض.

قال تعالى: قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا [الكهف:86] وبهذه الآية قال من قال عن ذي القرنين: إنه نبي من عند الله، إذ يقول الله: (قلنا يا ذا القرنين ) فكأنه وحي، ولكن علماءنا أحصوا الأنبياء المذكورين في القرآن، فوجدوهم لا يتجاوزون الخمسة والعشرين فيمن ذكروا بأسمائهم فلم يكن ذو القرنين ممن سمي، وقالوا: هذا من باب الإلهام وليس من باب الوحي، وهذا رأي الأكثرين، ولو وجدنا من قال سوى ذلك من الجمهور أو الإجماع لقلنا بقولهم، بأن الآية تدل دلالة قوية على نبوته، ولكن مع قوتها اعتبروا هذا القول ليس إيحاء وإنما هو إلهام.

فهؤلاء القوم وجدهم ذو القرنين قوماً كافرين لا يؤمنون بالله ولا يعرفونه ولم تصلهم رسالة، وانتقلوا في مختلف بقاع الأرض بعد طوفان نوح الذي أغرق الجميع، وما أفلت إلا أقوام معدودون بالأصابع، فكان هؤلاء القوم مشركين كافرين بالله، فأطلق الله تعالى يد عبده الصالح ذي القرنين في هؤلاء، فقال له إلهاماً: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا أي: إما أن تعاقبهم على كفرهم وعلى شركهم، وإما أن تحسن إليهم وتكرمهم حسب ما تراه من أحوالهم.

وإذا بـذي القرنين يجيب جواب المؤمن الصالح التقي، كما قال تعالى: قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا [الكهف:87] وهذا الجواب منه كذلك إلهاماً.

قوله: (أما من ظلم) الظلم هنا الكفر، أي: أما من وجدته كافراً مشركاً بربه فإني سأعذبه، والعذاب مطلق، قد يكون بالقتل وقد يكون بالتعذيب حتى الموت وبما شاء من عذاب.

قال: (ثم يرد إلى ربه) معنى ذلك أن الرجل الصالح ذا القرنين يؤمن بالبعثة بعد الموت وباليوم الآخر شأن جميع المؤمنين الموحدين.

قال: (ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً) أي: ثم يرد هذا الظالم المشرك بعد تعذيبي له في الدنيا على كفره وشركه إلى ربه، أي: سيموت ثم يبعث يوم القيامة وسيكون عذابه على يد ربه عذاباً نكراً أي: موجعاً شديداً تستنكره نفسه ويجد عذاب الدنيا ليس عذاباً بالنسبة له، بل سيجده رحمة ونعيماً.

وهكذا شأن الكافرين بالله عموماً، يعذبون في الدنيا حسب ما أمرت به الشرائع، ثم إذا ماتوا على الكفر والشرك ولم يفد فيهم تأديب ولا تعذيب ولا عقاب، عذبوا يوم القيامة عذاباً موجعاً مؤلماً بما لم يكن يخطر لهم ببال.

قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا [الكهف:88].

أي: أما من آمن بالله واحداً، وآمن بالرسالات إلى الأنبياء، فهذا سيكون جزاؤه أي: مكافأته (الحسنى) والحسنى: الجنة، سيكون له من ربه الرضا ودخول الجنان والخلود فيها جزاء إيمانه وعمله الصالح، والإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، ولا يتم للإنسان أن يوصف بالمؤمن حقاً إلا إذا اعتقد قلبه اعتقاداً يقينياً بوحدانية الله، وبصدق رسله، وبما أنزله عليهم من كتبه، ثم بعد ذلك يصدق الاعتقاد والجنان بقول لسانه، بحيث يقول: أشهد أن لا إله إلا الله ويشهد لرسوله، كل حسب من كان في عصره من الرسل، أما بعد البعثة المحمدية فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم يعمل الصالحات وفي الدرجة الأولى الأركان التي بعد الشهادتين: الصلاة ثم الصيام ثم الحج ثم الزكاة، وبصفة عامة أن يترك الشرك كلياً، وأن يعمل من الخير ما يقدر عليه.

وضابط ذلك ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا) ، فلا زنا، ولا سرقة، ولا نميمة، ولا ربا، ولا رشوة، ولا سحت، ولا غير ذلك من أنواع الكبائر والمحرمات، يتركها المسلم البتة دون اختيار واحدة على واحدة.

أما عمل الصالحات فالقدرة العملية لها حد وطاقة، فمن عجز عن الحج سقط عنه، وقد يكون له بدل، وقد يعجز حتى عن البدل، وأمرنا الله بالصيام، فوجد منا المريض والحائض والنفساء والمسافر، فيسقط حال ذلك الصيام ويعوض، وأمرنا الله بالصلاة مستقبلين الكعبة طاهرين متوضئين بالماء، فمن عجز عن الماء أو فقده أو جهل الكعبة أو ما استطاع أن يصلي قائماً صلى قاعداً فإن لم يستطع فعلى جنب، وينتقل من الماء إلى الصعيد الطاهر، وهكذا في الأفعال والأمر بها: (فأتوا منها ما استطعتم).

قال تعالى: وَعَمِلَ صَالِحًا [الكهف:88] يؤكد إيمانه بأن يعمل الصالحات من عبادة لربه، والإخلاص له، والإحسان إلى عباد الله المؤمنين.

قال تعالى: فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى [الكهف:88] (جزاءً) منصوب على أنه مفعول مطلق، أي: جزاؤه الجزاء، ومكافأته المكافأة الحسنى، والحسنى: الجنة.

قال تعالى: وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا [الكهف:88] أي: من يدخل تحت إمكاننا وقدرتنا فنحن نقول له القول اللين والكلام الميسر، ونحسن إليه بمالنا ولساننا وبما نستطيع، ونعينه في أمرنا وسلطاننا وأحكامنا كل حسب مقدرته وعلمه وطاقته.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الكهف [83-88] للشيخ : المنتصر الكتاني

https://audio.islamweb.net