إسلام ويب

ما من معجزة جعلها الله للأنبياء إلا وستصير أمراً عادياً، ومن ذلك الريح المسخرة لسيدنا سليمان عليه السلام، فإنه كان معجزة واليوم يماثلها الطيران.

تفسير قوله تعالى: (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره...)

قال تعالى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ [الأنبياء:81].

المعنى: وسخرنا لسليمان الريح عاصفة، شديدة الهبوب، تجري وتتحرك وتتنقل بأمره كما يريد إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأنبياء:81].

بكل بقعة من بقاع الأرض، والغاية والبداية التي باركنا فيها هي أرض الشام حيث سليمان، سخر الله له الريح العاصفة أي: الشديدة، وفيه آية أخرى: تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [ص:36]، والرخاء: اللينة، ومعنى ذلك: أنها تكون عاصفة عندما يريد حسب أمره وإرادته، وتكون لينة رخاء عندما يريد ذلك ويراه من المصلحة، وكيف كان فهذا هو الطيران الذي نراه الآن، سخر الله ذلك لسليمان قبل أن يخطر هذا على خاطر بشر، وكان يأتي إلى بساط صنعه الجن ونسجوه، قالوا: كان عرضه فراسخ وطوله فراسخ، فكان ينتقل فوقه بسلاحه وبجيوشه ومؤنته، وبما يحتاج إليه، وينتقل إليه مسافة شهر ذهاباً وإياباً، والريح التي تنقله حسب ما يراه، إن كانت المسافة والغاية بعيدة تكون الريح عاصفة، شديدة، قوية، وإن كان المكان قريباً تكون رخاء لينة.

وهذه الريح التي سخرها الله لسليمان هو ما سخر لنا في عصر الطائرة، فإنه لو وقف الهواء لسقطت، وهي تجري في الريح، وإذا وصلت إلى الغلاف الجوي من السماء لما أمكن نزولها إلا بآلات وصنعة جديدة، وقد تفجر وتبقى قطعها ضائعة في الهواء حيث لا ثقل للأبدان.

وهذا البساط مصنوع قيل: صنع من خشب، ومن سود، فالطائرات صنعت من خشب، وصنعت من سود، وصنعت من حديد، وصنعت من أنواع أخرى، ولولا الهواء الذي سخره الله لما طارت الطائرات، ولكن هذا كان في عصر سليمان معجزة؛ لأنه لم يصنع له شيئاً، ولم يعد له شيئاً، فكان معجزة لسليمان من الله، صنعها الله له، وقديماً قال أحد العلماء العارفين من المشاهير: لا تقوم الساعة حتى لا تبقى معجزة من المعجزات التي ذكرها الله للأنبياء إلا وتصبح شيئاً عادياً، لأن النبوات انتهت، ولا حاجة إلى معجزات إلا إذا كانت كرامات، والكرامات لا يتحدى بها، وآخر الأنبياء نبينا عليه الصلاة والسلام، فمعجزته الخالدة الدائمة هي هذا الكتاب العظيم الكريم، فكونه لم يغير ولم يبدل، وكونه أعجز البشر عن الإتيان بمثله لفظاً وعبارة، وأعجزهم عن الإتيان بمثله بما فيه من علوم ومعارف صادقت العلم قديماً وحديثاً، حذو القذة بالقذة، فلم تبق هناك حاجة إلى معجزة، وإنما تقع كرامة الأولياء، ولكن لا تحدي فيها، وهذا الفرق بين المعجزة والكرامة، المعجزة أتت من الأنبياء للإعجاز والتحدي، والكرامة لا يتحدى بها.

من هنا يقول: ما كان معجزة لن تنتهي الدنيا حتى يصبح شيئاً عادياً، ومن ذلك بساط سليمان، فنحن نطير الآن من قارة إلى قارة، بما لم يكد يخطر على بال الإنسان قبل أن يكون ذلك، لو رأى الطائرات آباؤنا وأجدادنا قد يصابون بمس في العقول، ويظنونها أولاً طائراً، فإذا أتوا إليها ورأوها حديداً وخشباً لم يقبلها تصورهم ألبتة، ونحن إنما قبلناها لأننا رأيناها وركبنا فيها، وامتطيناها، ورآها الجميع، ومنكرها يكون مجنوناً، هذا ما قال الله لنا: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ [فصلت:53]، وهذه منها، وهذه كانت معجزة والآن شيئاً عادياً.

من ذلك، أيضاً قصة سليمان عندما جاءه الهدهد، فأخبره أنه رأى قوماً معتكفين على عبادة الشمس، ولا يؤمنون بالله، وإذا به يأمر الجن: أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النمل:39-40]، أي: قبل أن تتحرك أجفانك يكون أمامك، وقد كان، فقيل لها: أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ [النمل:42] وعندما دخلت الصرح كشفت عن ساقها وحسبته لجة، واضطرت للإيمان بالله إله سليمان.

هذا الذي حكاه الله أيضاً معجزة، إن بين صنعاء وأرض الشام آلاف الكيلو مترات، لكن الصواريخ اليوم والطيران الذي وصل إلى الأعالي يقطع هذا في لحظات، وليس ذلك معجزة، والذي يصنعها ليس مؤمناً، وهذا تأكيد للمعنى الذي قاله هذا العالم، وكان قد ذكر ذلك ولم يذكر أمثلة؛ لأن الأمثلة لم تكن بعد، قال: (لا تقوم الساعة حتى يصبح ما كان معجزة أمراً عادياً).

وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ [الأنبياء:81] بعلمه كان ذلك، بإذنه كان ذلك، وبتسخيره جل جلاله كان ذلك.

تفسير قوله تعالى: (ومن الشياطين من يغوصون له ..)

قال تعالى: وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ [الأنبياء:82].

أي: كما سخر لسليمان الريح سخر له الجن، يغوصون في البحار فيأتونه بجواهرها ودررها.

قوله: وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ [الأنبياء:82].

أي: من محاريب وتماثيل وجفان، وكل بناء وغواص، يبنون ما يريد، وكان سليمان إذا أمر الجن بأمر، أو كلف بهم أحداً من ولاته، وأمرائه، وحكامه يقول له: إذا انتهى من شغل فأشغله بآخر، وإلا فسيعود ليخرب ما شغل؛ ولذلك إذا لم يكن له شيء يصفدهم في الأصفاد، لأن الشيطان من عمله التخريب لا الإصلاح، وهم دائماً يعملون هيبة لسليمان وخوفاً من بطشه.

قوله: وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ [الأنبياء:82].

أي: كان حافظاً لسليمان وجنده من فساد الشياطين وتخريبهم.

وفسِّر أيضاً (حافظين) من أن يخربوا ويفسدوا، ومن ذلك تصفيدهم بالأغلال والحديد من قبل سليمان؛ لكي لا يخربوا، وما عادوا للخراب والإفساد حتى مات سليمان، فانتشروا فرحين لتمام إفسادهم وتخريبهم في الأرض.

تفسير قوله تعالى: (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر...)

ذكر الله لنا الأنبياء الماضين آدم ونوحاً وموسى وهارون وداود وسليمان، وسنذكر أيوب وذا النون وزكريا، ثم مريم عليهم جميعاً وعلى نبينا الصلاة والسلام، ومن هنا سميت السورة بسورة الأنبياء.

قال تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:83-84].

هاتان الآيتان في قصة أيوب مختصرة، وقد مضت قبل، وأيوب هو نبي الله ورسوله، ضُرب المثل بصبره على أنواع البلاء.. وقد كان يملك من الدنيا ما لا يملكه الملوك، وكان له من الزوجات والأولاد ما لا حصر له، وكان له من كل نعم الأرض الكثير والكثير، والله الفاعل المختار لا يسأل عما يفعل، وإذا به جل جلاله أراد أن يجعل من أيوب مثالاً للمبتلين، فأصابه في أمواله فذهبت وكأن لم تكن، ثم الأولاد والأهل جميعاً إلا امرأته، ثم ابتلي هو في جسده، ويقال بُلي بأنواع من الأمراض تساقط لها لحمه ورق عظمه.. إلى أن مله قومه ورموه على مزبلة، ولم يبق من المحيطين به إلا صديقان تابعان، وزوجته الحانية الوحيدة عليه.

طال بلاؤه سنوات، وهو في كل ذلك يحمد الله أن حفظ عليه لسانه يسبح الله ويمجده ويعظمه، وحفظ له قلبه ليبقى حاضراً في الذكر والعبادة لله.

طال البلاء فكانت زوجته تشتغل في البيوت لتأتيه بما يأكل، وامتنع الناس أن يعطوها، وإذا بيوم تأتي بظفائرها مقصوصة فقال لها: أين ظفائرك؟ قالت: بعتها لآتيك برغيف؛ فغضب في هذه الحالة عليها، وأقسم ليجلدنها مائة جلدة، فصبرت واحتسبت.

وذات يوم جاء هذان الصاحبان وكانا يترددان عليه، فقال أحدهما للآخر وأيوب يسمع وما كان يظنان أنه يسمع: هذا البلاء الذي أصاب الله به عبده أيوب لا شك أنه صنع معصية مع الله فعذّبه عليها بهذا البلاء. فلما سمع ذلك آلمه أكثر مما هو فيه، وأخذ يجأر لربه: يا رب! لا أعلم أني ظلمت نفسي وأذنبت وأسأت، اللهم ارفع عني ما بي من ضر.

قوله: وَأَيُّوبَ [الأنبياء:83] أي: اذكر أيوب يا محمد إن كنت قد صبرت على بلاء قومك حين شتموك، وكسروا رباعيتك، ورجموك بالحجارة في قدميك، وهجروك ثلاث سنوات في مكة.. إلى أن أكلت الشجر والنبات، اذكر ما كان بأيوب ومع ذلك صبر، ماذا أدركت؟ وماذا ابتليت مما ابتلي به أيوب؟

كان ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله، وعزاء لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله؛ ليأخذ من ذلك قوة وطاقة للبقاء باستمرار يدعو ويقاتل، ولا يبالي بأي بلاء بلي به.

وليبق أيوب مثالاً لكل مبتلى من المؤمنين؛ حتى لا تهتز عقيدته وإيمانه، ويعتقد أن الدنيا زائلة بما عليها وما فيها مهما كان، والعاقبة للمتقين.

سمع أيوب ما سمع فصاح: يا رب! اكشف ما بي من ضر قال تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83].

فأخذ أيوب ينادي ربه ويضرع على قدر ضعفه، ولكن كان لسانه لا يزال سليماً، وقلبه لا يزال حاضراً، فنادى ربه وتضرع إليه ودعاه: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83] فارحمني يا رب! وارفع ما بي يا رب!

تفسير قوله تعالى: (فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر ...)

قال تعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ [الأنبياء:84] كيف كان ذلك؟

عندما دعا أيوب وقد سمع ما سمعه من صاحبيه إذا بالله يقول له: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص:42] وجاء الفرج، فضرب الأرض فتفجرت عين فأخذ يغتسل بالماء الذي تفجّر عند قدميه، وما من غرفة ماء يصبها عليه إلا وتنزل بما فيها من أمراض من قيح وصديد ودم وضعف.. وهكذا إلى أن أصبح شاباً كما كان ابن عشرين سنة جمالاً وضياء وإشراقاً وقوة، وسواد شعر واكتمال قوة، فقد ذهبت الأمراض الظاهرة كلها وزالت، وأخذ يشرب، وإذا بالأمراض الباطنية جعلت تنزل من دبره، وإذا به يعود أصح ما كان قوة وشباباً، وكأنه لم يمرض يوماً.

ومن هنا يأخذ المبتلى المؤمن أنه مهما ابتلي الإنسان لا تزال الرحمة قائمة، فالله أرحم الراحمين يسمع.. هو الذي يرفع الضر وينجي منه، ويعود بالمغفرة والعافية والصحة كما عاد على أيوب ظاهراً وباطناً.

تفسير قوله تعالى: (وآتيناه أهله ومثلهم معهم...)

قال تعالى: وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ [الأنبياء:84].

ظاهر الآية يدل -كما يقول جمهور المفسرين- على أن الله أحياهم كأشب ما كانوا والأهل يُطلق على الزوجات والأولاد، فعاد الأولاد والنساء كأشب وأقوى ما كانوا عندما كانوا في الحياة.

قوله: وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ [الأنبياء:84] أكرمه الله بأن أعطاه ما كان، وضاعفه مثليه، وكيف كان الضعف؟

هؤلاء الزوجات أولدهن، وإذا بكل واحدة ولدت عشرين وثلاثين، فعوّض ما ضاع وازداد، وعوّضه ما ضاع من أراض وزروع وخيول، ومن كل ما كان عنده مضاعفاً.

قوله: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا [الأنبياء:84] رحمه الله وأكرمه، واستجاب دعاءه، كما نرجو الله أن يرفع عن هذه الأمة وعنا هذا البلاء المبين، وتسلط اليهود والنصارى والمجرمين، وما كان ذلك إلا لعقوبة وذنب، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لم تكن عقوبة إلا بذنب)، وإلا فالله لا يكرهه شيء.

جاءت امرأة أيوب ووجدت شاباً جميلاً، ولم تجد المكان الذي كان فيه أيوب المبتلى المريض، وبحثت فكادت تتوله أين ذهب؟ هل جرته الكلاب؟ هل جرى له وجرى له؟ فسألت هذا الشاب الجالس القريب من المكان: أما رأيت أيوب المبتلى؟ فتبسم لها، فعندما تبسم قالت له: والله لكأنك هو وقت شبابه، وإن ابتسامتك ذكرتني بابتسامته، قال لها: أنا أيوب، فارتمت عليه معانقة: فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:84].

هذا هو المغزى، وهذه دائماً خواتم الآي، فمعنى ذلك: قصصنا عليكم أيها المؤمنون قصة أيوب؛ لتكون ذكرى للعابدين إذا ابتلوا وامتحنوا وأصابهم ضر فلا ييئسوا من روح الله ورحمته: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87].

وهكذا تبقى قصة أيوب، وقد ذكرت في القرآن في غير ما آية وفي غير ما سورة، كما قال تعالى: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:84] أي: للمخلصين لله والقائمين على عبادة الله، والمؤمنين الصادقين الذين لا يشركون مع الله غيره، والذين لا يعبدونه رياء ولا سمعة؛ وهذا المغزى هو سر وروح الآية والقصة، ذكر ذلك لنبينا أولاً لتكون ذكرى له.

تفسير قوله تعالى: (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل...)

ثم عاد الله فذكر لنا ثلاثة أنبياء في نسق فقال: وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء:85].

أي: واذكر يا محمد إسماعيل بن إبراهيم جدك الأعلى، وإدريس جد نوح ووَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء:85] أي صبروا على البلاء، وإسماعيل قد مضت قصته في مريم، كما مضت قصة إدريس ونعيدها ملخصة.

إسماعيل بن إبراهيم الولد البكر لإبراهيم، ومصطفى أولاد إبراهيم، وسيد أولاد إبراهيم، ما فوقه إلا أبوه إبراهيم وابنه محمد عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وهو ابن هاجر والد عرب الحجاز، إسماعيل الذي وهبه الله لإبراهيم على كبر من هاجر الحرة البتول، لا كما يقول بنو إسرائيل في أضاليلهم وأكاذيبهم إنها جارية ومملوكة، وسارة كانت ابنة عم إبراهيم، وكانت لها مكانتها؛ لأنها انفردت من النساء عند المحنة على إبراهيم عندما قُذف في النار، انفردت من بين النساء ممن آمن به؛ فبقي مكرماً لها، وكانت تتمنى هي الولادة قبل هاجر ، فعندما ولدت هاجر وسبقتها غارت منها، وخاف إبراهيم على ولده إسماعيل؛ فأوحى الله إليه أن يأتي به إلى هذه البلاد المكرمة المقدّسة، وأتى به إلى مكان زمزم جاء به ومعه أمه، فجاءوا على البراق فتركهم وأراد الرجوع، فأخذت تصيح هاجر : إلى أين يا إبراهيم؟ فلم يجبها، إلى أين يا إبراهيم؟ فلم يجبها، وإذا بها تقول: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم قالت: إذاً لا يضيعنا الله.

ذهب إبراهيم وكانت هذه الأرض بلقعاً خراباً لا ساكن فيها، ولا ماء ولا طائر، ولا هوام ولا حشرات.. عطش الوليد وهو لا يزال في شهوره الأولى، فذهلت أمه وكادت أن تجن، فلا يوجد من تستشيره ولا من تستغيث به من البشر، فذهبت إلى المكان الذي هو الآن الصفا والمروة، ووقفت على تلة الصفا، وأخذت تلتفت يميناً وشمالاً هل ترى من أحد؟! ثم نزلت مهرولة إلى أن وصلت المروة، وهكذا فعلت سبع مرات، ومن هنا كان أصل السعي بين الصفا والمروة ذكرى لهذا اليوم العظيم، وهذا اليوم العطر المعجز إرهاصاً لنبينا عليه الصلاة والسلام قبل كونه بآلاف السنين.

عندما أتمت السبعة الأشواط -وهي على المروة- إذا بها ترى طيراً يحلّق على المكان الذي تركت فيه وليدها إسماعيل، وجاءت مهرولة وإذا بها تجد الماء عند قدميه؛ فإما أن جبريل ضربه بجناحه كما قالوا، أو الوليد إرهاصاً، وعلى عادة الأطفال تُحرك قدميها عند البكاء، وإذا بذلك التحريك يفجر الماء.

ثم جاءت ووجدت الماء قليلاً فخافت عليه أن يضيع وتتشربه الرمال، وأخذت تجمعه وتقول له: زم زم! أي: تجمع تجمع، ومن ذلك الوقت سمي زمزم، وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: (لو لا فعل هاجر للماء وقولها لها: زم زم لبقي نهراً سائحاً إلى يوم القيامة).

وهكذا القبائل المحيطة بأرض مكة رأت الطير فقالت: عهدنا بالطير لا يحلق إلا عند الماء ولا ماء هنا، فجاءوا فوجدوا الماء فاستأذنوها أن يشربوا معها، قالت لهم: لا مانع، فقالوا: هل نسكن معكِ؟ فقالت: لا مانع بشرط الماء لي، ولا يشركني فيه أحد قالوا: وافقنا، فوجدت بهم أنساً وبهجة وابتعاداً عن العزلة والوحشة، فكبر الولد وتزوج واستعرب، ومن هنا يقال: عرب مستعربة، لا أريد أن أحكي القصة بطولها فستأتي مرة أخرى..

تردد أبوه عليه وقد تزوج عربية من الجزيرة من الحجاز، جاء فلم يجده فسأل زوجته: أين إسماعيل؟ قالت: ذهب للصيد ليرتزق، سألها: كيف حالكِ؟ وكيف عيشتك؟ قالت: في شر عيشة قال: قولي لإسماعيل إذا جاء أن يغير عتبة بيته، جاء إسماعيل ليلاً وقد ذهب أبوه وعاد إلى الشام، جاء على البراق ورجع بالبراق وهو دابة الأنبياء، ووجد تغيراً في المنزل فسأل: هل حضر أحد؟ قالت: نعم. قال: من؟ قالت: لا أعلم من هو، قال: ما صفته؟ فوصفته، فقال: ذاك أبي، ماذا قال لكِ؟ ومعنى (ذاك أبي) أنه كبر، وكان يتردد عليه ولا يعرف أباه لأنه لا يعرفه من زمن الطفولة وهو لا يزال رضيعاً في الأشهر الأولى، قالت: قال لي أقول لك: غيّر عتبة بيتك. قال لها: أنتِ عتبة بيتي وأنت طالق، قد أمرني أبي بذلك.

ثم جاء سنة ثانية فوجد امرأة غيرها ولم يجد إسماعيل فسألها: كيف أنت؟ قالت: أنا بخير حال قال لها: كيف عيشك؟ قالت: على أحسن حال، قال: كيف زوجك؟ قالت: على أحسن عشرة، قال لها: قولي لإسماعيل: إذا أتى فليثبت عتبة بيته.

وهكذا جاء فقال لها: أنتِ عتبة بيتي وقد أمرني والدي بتثبيتك، وهكذا كبر الغلام، وأمر الله إبراهيم ومعه ولده إسماعيل ببناء الكعبة، فبُنيت، ثم رأى إبراهيم رؤيا أنه يذبح ولده، ومن هنا كان: كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء:85].

قال لولده وأصبح غلاماً يسعى معه: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فلَمَّا أسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:102-103] أي: أماله ليذبحه، فأنقذه الله وفداه بذبح عظيم أي: بكبش، فصبر على البلاء، وصبر على بناء الكعبة، وصبر على تقشف مكة والصحراء، فاستحق من الله أن يشيد به ويخلد مع الخالدين.

قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل) لا كما يزعم اليهود أن إسحاق أفضل من إسماعيل، وجعلوا يتنقصون إسماعيل؛ وفي هذه الأشهر الأخيرة يتجولون على بلاد المسلمين بفلم سينمائي تمثيلي يتنقصون إسماعيل، ويشيدون بإسحاق عليهم لعائن الله تترا، ونحن نقول: إسماعيل نبي الله ورسوله، وإسحاق نبي الله، ولكن إسماعيل نبي ورسول، أما إسحاق فنبي فقط، وقد ذكر الله في سورة مريم: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:54]، أما إسحاق فذكره بالنبوة فقط، وقال عنه النبي عليه الصلاة والسلام بأن الله اصطفاه من أولاد إبراهيم، فهو سيد أولاد إبراهيم على الإطلاق.

قوله: وَإِدْرِيسَ [الأنبياء:85] من إدريس؟

قيل إن اسمه: خنوخ، وإدريس هو جد والد نوح وأقدم منه، فإدريس أول من ألهم علم القلم والكتابة، وإدريس أول من أُلهم خياطة الثياب، وكان الناس قبله يلبسون الجلود، كالكثير من بلاد أفريقيا البدائية اليوم يأتون الجلد فيلبسونه، وقد لا يسترون إلا العورة.. إدريس أُلهم أن يخيط الثياب، فخاطها وعلمه أولاده وشعبه وأمته.

وقد قال الله عنه: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [مريم:57] رُفع إلى السماء الرابعة، حيث اجتمع به صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء، وهو ليس من أجداد الرسول عليه الصلاة والسلام، عندما قابله لم يقل له: مرحباً بالولد الصالح كما قال إبراهيم.

وإدريس رفع مكاناً علياً حياً كما قال الجمهور، وقال آخرون رُفع ولكنه بروحه وليس ببدنه، وحكوا قصة لم تثبت عندنا في السنة النبوية والأحاديث، ولم تذكر في القرآن، وقيل: إنه مات في السماء، وإنه رأى ملك الموت ينظر إليه، فتساءل: ما هي نظرة عزرائيل هذه؟ فحكى لبعض من عاصره ممن كان على صلة به، ولعله من الملائكة أيضاً قال له: ما أرى ملك الموت إلا يريد روحي أبعدني عنه إلى الأعالي! أخذه وحلّق به في الأجواء ليرفعه إلى السماء الرابعة، وإذا بملك الموت يفاجئه محمولاً وقد كاد يصل إلى السماوات، فعجب وسأله من معه أن يرجئ موته إن كان مكلفاً بذلك، قال: أنا عندما رأيت إليه عجبت لأنني مكلف بأخذ روحه في السماء ورأيته في الأرض، وهذا بعد لحظات، وأين الأرض من السماء؟ ومتى سيصل إليها؟ فأخذ يرجوه أن يؤجله فالتفت فوجده ميتاً، هذا الكلام قد قيل: وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ [الأنبياء:85].



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الأنبياء [81-85] للشيخ : المنتصر الكتاني

https://audio.islamweb.net