إسلام ويب

عندما ولدت أم موسى خافت على رضيعها فألهمها الله فألقته في البحر، فسخر الله له امرأة فرعون فاستبقته لنفسها وبحثوا عن مرضع حتى عاد إلى أمه، ثم تربى في بيت فرعون حتى شب وبلغ أشده.

تفسير قوله تعالى: (وقالت امرأة فرعون ...)

قال تعالى: وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ [القصص:9].

التقط آل فرعون هذا الوليد، وإذا بامرأة فرعون جاءت إلى فرعون واستعطفته وتمسحت به وقالت له: لا ولد لنا، هذا الوليد قد يكون قرة عين لي ولك، وسبب فرح وسعادة وسيادة وينشر ذريتنا وسلالتنا، ويرث عرشنا وملكنا.

وأصل قرة العين هدوءها وبردها، ويكون ذلك عند الفرح بما يسر القلب ويطمئن النفس.

وقيل إنه وافق وقال لها: أما لكِ فنعم، وأما أنا فلا حاجة لي به.

ورووا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو قال فرعون قرة عين لي ولكِ لكان قرة عين له ولها أيضاً) ولكنه رفض ذلك ليتم وعيد الله، ولتتم عقوبة الله على هذا الظالم المتأله الكاذب.

وقوله تعالى: (لا تَقْتُلُوهُ) باعتبار قتله لكل عبراني، وهو ولد في السنة التي يقتل فيها أطفال بني إسرائيل فأخذت ترجوه وتستعطفه ألا تقتلوه؛ (عَسَى) إن تُرك بلا قتل (أَنْ يَنفَعَنَا) أي: أنا وأنت ومملكتنا ودولتنا (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) أي: نتبناه، عسى أن يصدر لنا منه نفع في المستقبل، أو يكون ولداً لنا حيث لا أولاد لنا.

وكل ذلك رفضه فرعون فقال: لا حاجة لي بنفعه ولا ببنوته فهو قرة عين لكِ فقط، وقد كان هذا كذلك، فقد هداها الله على يده فأسلمت وآمنت وكانت من الصدّيقات، قال النبي عليه الصلاة والسلام لـخديجة أم المؤمنين الأولى رضي الله عنها: (ألا تدري يا خديجة أن الله سيزوجني يوم القيامة آسية امرأة فرعون ومريم أم عيسى؟) والحديث صحيح؛ وعلى هذا الاعتبار يجب أن تُعتبر آسية أماً من أمهات المؤمنين ولو في الآخرة، ومريم أماً من أمهات المؤمنين ولو في الآخرة.

وهكذا من خلد ذكره في الصالحين فإنه يذكر ولو بعد حين، فخلدت آسية على لسان خاتم الأنبياء، وعلى لسان أتباعه من ورثته من العلماء إلى كل المؤمنين، فقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسية بنت مزاحم ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد) .

فالله عز وجل ألهمها أن تقول: (قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) فلقد نفعها النفع الجزيل فآمنت وأسلمت وأخلصت لله، وامتثلت أمر موسى عندما جاء نبياً يدعو فرعون إلى توحيد الله، فنفعها وكان قرة عين لها، ورفض ذلك فرعون وبقي على كفره واستحق عقوبة الله له.

وقوله تعالى: (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) كل هذا الذي يقوله الله، ويوحي به إلى أم موسى والقوم لا يشعرون بهذا، ولو شعر فرعون بأن موسى سيكون سبب هلاكه لمزّقه تمزيقاً، ولو شعر الذبّاحون والأقباط أنه سيكون سبب هلاكهم وسبب عقوبة الله لهم لذبحوه.

فقوله تعالى: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [القصص:9] .

أي: ولو شعر فرعون بأن موسى سيكون سبب هلاكه لمزّقه تمزيقاً، ولو شعر الذبّاحون والأقباط جميعاً أن هذا الوليد الذي ينشأ على عين فرعون وفي بيت فرعون ولا يُعرف إلا بموسى بن فرعون سيكون سبب هلاكهم وسبب عقوبة الله لهم، لقتلوه منذ أزمان.

فهم لا يَشْعُرُونَ بحكم الله وبالعاقبة التي يريد الله عقوبتهم بها؛ وهؤلاء الذين طالما حذروا وذبحوا الآلاف بل عشرات الآلاف لكي لا يُقتل فرعون ولا يُطرد فرعون ولا يُمحق الأقباط ولا يذهب الكهان؛ ولكن هيهات أن ينفع حذر من قدر!

تفسير قوله تعالى: (وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً ...)

قال تعالى: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص:10] .

قذفت أم موسى وليدها في البحر، وعندما قذفته أصبح فؤادها ضائعاً هواء، لأنها مولهة به فهي كالمجنونة الضائعة، وتصور أماً اضطرّت إلى قذف ولدها في البحر أو في النار أو ليُذبح! كيف سيكون حالها؟

وكانت قد غلبت ذاتيتها وبشريتها على ما أوحي لها به، فقد قال الله عن الأنبياء جميعاً: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا [يوسف:110] كان يشتد البلاء بالأنبياء، وبرسل الله حتى تضيق عليهم الأرض بما رحبت وتخطر ببالهم الخواطر التي لا تليق ولكن لا يملكون صرفها إلى أن يظنوا ويتوهموا أنهم قد كذبوا، عند ذلك يأتي النصر والفرج مع الصبر، وكذلك يأتي نصر الله ووعده الحق بالأنبياء وأتباع الأنبياء من الصادقين المؤمنين.

فقوله تعالى: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا) أي: فارغاً من كل شيء في الكون إلا من موسى.

(إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) أي: كادت لتخرج من الدار وتمشي في الشوارع وتقول: واموساه! أين ولدي؟ فهذا الذي أخذته امرأة فرعون هو ولدي؟ أتحرمونني منه وأنا في الحياة وتجعلونه بلا أم؟ ألا يكفي في ذلك أن يكون يتيم الأب فيكون مرة ثانية يتيم الأم في ما ذكروا؟ وإلا فالسياق يدل على أن أباه كان لا يزال حياً ولكن لم يُذكر.

وكاد في لغة العرب من أفعال المقاربة، فقوله تعالى: إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ [القصص:10] أي: قاربت أن تُظهره، ولو فعلت لكان ذلك سبب ذبحه والقضاء عليه، ولكن الله ثبتها بالصبر كما ثبّتها بالوحي.

وقوله تعالى: (لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا) أي: لولا أن الله صبّرها وشد على قلبها الذي ضاع وتاه، وأصبح فارغاً هواء، فثبّتها وصبّرها لكي لا تخرج من الدار وتُعلن أن هذا الوليد ولدها.

وقوله تعالى: (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي: لتكون أم موسى مؤمنة بالوحي الذي أوحى الله إليها، ولو لم تكن من المؤمنين لكانت من المكذبين، ولا يليق بنبية أن تكون من المكذّبين.

فهي من المصدقات بوعد الله، وهو أن الله راده عليها، وأنها ستنعم به وأنه سيكون عند الكبر نبياً رسولاً.

تفسير قوله تعالى: (وقالت لأخته قصيه ...)

قال الله تعالى: وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ [القصص:11].

وقالت أم موسى لأخته: يا فلانة! قصيه أي: اتبعي أثره، وفي مكة يسمون من يتبع آثار السارق والفار والهارب القاص، وهي لغة عربية فصيحة.

وقوله تعالى: فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [القصص:11]:

أي: فاتبعت أثره من جنب: أي: من جانب بعيد بحيث لا يشعرون بأنها تتبع الوليد، وتترسم خطاه ونهايته، فرأته ببصرها لا بعلم قلبه ولا بإخبار أحد أنه في الشاطئ، وأن جواري فرعون نزلن للشاطئ وأخذنه، فاطمأنت أنه لم يمت وبشّرت أمها بأن موسى لم يغرق ولم يضع ولم تأكله هوام البحر، ولكنها زادت رُعباً عندما دخل قصر فرعون، فإنه سيذبحه لأنه لم يكن هذا إلا لأنه كان عبرانياً إسرائيلياً.

وقوله تعالى: (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي: لا يشعرون بأنها تتبع أثره وتترسم خطاه، وتريد أن تعلم ماذا جرى له، ولو انتُبه لها لضغطوا عليها وهي صبية ولعذّبوها إلى أن تقول الحقيقة فيضيع موسى، ولكن الله لطيف لما يشاء كما قال يوسف في قصته مع إخوته.

تفسير قوله تعالى: (وحرمنا عليه المراضع من قبل ...)

قال تعالى: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:12].

أي: أتوا بالمرضعات في القصر وخارج القصر فامتنع أن يرضع من أي امرأة، وهذا تنفيذ وعد الله.

(وَحَرَّمْنَا عَلَيْه) أي: تحريماً قدرياً بمعنى: منعنا.

(الْمَرَاضِعَ) جمع مرضعة، فكانوا يتجولون بالطفل في الطرق وزوجة فرعون تكاد تُجن أكثر من أمه الحقيقية، وإذا بأخت موسى تقف عندهم وتقول لهم: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ) فقالوا لها: ما يُدريك؟ هل الولد وليدكم؟ هل أنتم الذين قذفتموه في البحر؟ فقالت: إن أُمي مسكينة وتحتاج إلى مساعدة الملك، ثم هي تنصح الملك فيما ينالها من سروره وبهجته وقرة عينه، وقد ولدت في السنة الماضية وليداً حيث كان لا يُذبح أولاد بني إسرائيل، فهي لا تزال ترضعه ولا يزال ثدياها يجريان بالحليب.

وكان كلام أخت موسى كلاماً ظاهراً مقبولاً، فلو لم يكن لها وليد ووجدوها تُرضع لقالوا لها: من أين الرضاع ولا رضيع؟ ولكن الأمور كلها جاءت طبيعية ليتم وعد الله بالحق.

فقوله تعالى: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ) أي: من قبل أن يصل إلى أمه وهم يتجولون به ثلاثة أيام أو أربعة أيام حتى كاد أن يموت، وأمه التي تريد أن تتبناه وهي زوجة فرعون كادت أن تُجن عليه أكثر من أم موسى.

ومعنى قوله: (يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) أي: يحضنونه ويحفظونه ويضمنون حياته وصحته وإشباعه وريّه.

(وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ) أي: ينصحونه ويخلصون له ويبرّون له رجاء خدمة الملك ومعروف الملك ومسرة الملك، وهي مرضعة لها وليد تُرضعه. فكان الكلام مقبولاً فاستجابوا لها، فذهبوا به إلى أمه.

تفسير قوله تعالى: (فرددناه إلى أمه ...)

قال تعالى: فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص:13].

كان ذلك سبباً في أن يأتي الطفل إلى أمه، وجاءوا بالوليد فسلّمته الثدي مع العطف والشوق، وإذا بالحليب يدر من أول مرة كأنه نافورة، وإذا بالطفل يشم رائحة أمه فيلتقم ثديها ولو توسع فمه الصغير لارتضعه جميعاً، فسرّت أم موسى وبلغ ذلك زوجة فرعون، فسرّت وفرحت وقرّت عينها وطلبت منها أن تأتي إلى قصرها فجاءت، فقالت لها: أنت في بيتي وواحدة من أهلي فاخدميه وأرضعيه هنا.

فقالت لها أم موسى: هذا يسرني ولكنني زوجة لرجل وأم لأولاد ومكلّفة ببيت، فلمن أترك الزوج والأولاد، فدعيه عندي فأنا سأخدمه بعيني وأنصح لكم فيه، فوافقت.

وذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن الرجل يعمل العمل فيحتسب به على الله فيؤجر عليه كما أُجرت أم موسى على وليدها، أرضعت ولدها وأخذت أجرة.

ووعد الله كان بأسرع وقت، وعدها الله بأن يرده إليها فرده خلال يومين أو ثلاثة أيام بالأكثر، قال تعالى: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا):

أي: تزداد فرحاً وسروراً وارتياحاً وبهجة بوليدها حيث سترضعه أمام الملأ دون خوف ولا وجل ولا رُعب؛ لأنه لو بقي عندها لأرضعت ولداً من أولاد بني إسرائيل، ومهما حاولت أن تُخفيه فهي في رعب مستمر، ويقع عليها رعب أشد من الرعب الأول عندما ألقته في اليم، أما الآن فهي تُرضع ولد الملك بإجلال وباحترام وبإعزاز، وهكذا وعد الله الحق إذا وعد أحداً بأن يفعل له وأن يكرمه كان وعده الحق جل جلاله، قال تعالى: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111] أي: لا أحد.

وقوله تعالى: (وَلا تَحْزَنَ) فقد ذهب حزنها وانتهى بأسرع وقت.

(وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ولتزداد أم موسى علماً وإيماناً ويقيناً بأن وعد الله حق، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ولكن أكثر الناس لا يثقون بعهد الله ولا بوعده ولا يؤمنون بذلك فهم كفرة فجرة، وقد يكونون مسلمين يعلمون وعد الله الحق بنصرة المسلمين ومع ذلك لا يطمئنون، وذاك من ضعف إيمانهم وقلة يقينهم.

تفسير قوله تعالى: (ولما بلغ أشده واستوى ...)

ولما ذكر الله تعالى ولادته وطفولته ورضاعه، ذكر بعد ذلك نشأته من بداية شبابه إلى اكتماله ونضوجه، فقال تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [القصص:14].

لما بلغ موسى الحلم والأشد: ما بين الثامنة عشرة إلى الثالثة والثلاثين من بداية الشبيبة إلى اكتمالها ونضجها (وَاسْتَوَى) أي: أتم الأربعين، لا يكون استواء الرجولية إلا عند الأربعين عاماً من عمر الإنسان، فهو العمر القابل لإرسال الرسالات ووحي الله تعالى لعبيده من البشر كما أرسل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة.

وقوله تعالى: (آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) أي: آتاه الله الحكمة والعلم والفهم، أما النبوة فلم تأت له إلا بعد أن يترك البلد ويهدد بحياته ويصبح في أرض مدين، وتلك مرحلة ثالثة وليست المرحلة الأخيرة من المراحل التي قص الله علينا من سيرة موسى.

فعندما بلغ موسى هذا السن وهو ما دون الأربعين سنة أكرمه الله بالفهم والحكمة، ومن ذلك أنه كان على دين آبائه، كان موحداً ومؤمناً بما تبقى من رسالات بني إسرائيل.

قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) كل من عاش محسناً في حياته مطيعاً لربه مصدّقاً بوعده غير مخالف ولا عاص فإن الله يحسن إليه كما أحسن إلى موسى عليه الصلاة والسلام؛ فالله القديم الأزلي الذي لا أول له ولا آخر له وهو على ما كان عليه كائن، وكما أكرم الأولين فهو يُكرم الآخرين وفضل الله تعالى لا يحجّر ولن يحجّر، من أحسن في دينه وطاعته وأكرم مثوى نفسه وأخلص الخدمة لعباد الله المؤمنين؛ فلم يسرق ولم يزن ولم يخالف فإن الله تعالى يجزيه أحسن ما يجازي به عباده الصالحين، كما أحسن لموسى يحسن لمن فعل فعله من الطاعة والامتثال فزاده العلم والحكمة.

تفسير قوله تعالى: (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها...)

قال تعالى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ [القصص:15].

بعدما أصبح موسى في هذه الدرجة من الوعي والفهم والعلم، بينما هو في يوم من الأيام قد دخل المدينة واسمها عين الشمس، وهي المدينة التي نشأ فيها، ولكن كان وهو كرئيس وابن الملك قلما يخرج للشوارع، فبدا له أن يخرج يوماً في وقت خلاء الشوارع وليس فيها أحد كشأن الكبراء عندما يريدون أن يتنقلوا ويسيحوا في البلاد.

فخرج في وقت القيلولة والراحة أو ما بين المغرب والعشاء، وهو وقت نهاية عمل اليوم والعودة إلى البيت للعشاء والراحة، فخرج في هذا الوقت وكانت الطرق خالية ليس فيها أحد، وإذا به وهو يتجوّل يجد رجلين يقتتلان ويتخاصمان ويتنازعان ويضرب بعضهما بعضاً، ويكاد يقتل أحدهما الآخر أو يُقتلان معاً، (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِه) أي: الإسرائيلي فهو من قومه (عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّه) أي: القبطي، وكان موسى قوي الجسم متين العضلات فجمع أصابع يده فوكز القبطي بضربة فألقاه ميتاً، وهو لا يريد قتله ولكن يريد الانتقام منه نصرة للذي من شيعته وقومه.

فقوله: (فَوَكَزَهُ مُوسَى) الوكز الضرب بجمع اليد عند الصدر.

(فَقَضَى عَلَيْه) أي: كانت القاضية على حياته، فعندما رآه موسى يُصرع ميتاً (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَان) أي: أنا لم أرد قتله ولم أفعل ما يكون سبباً لقتله، فالشيطان هو الذي تدخل في الموضوع فدفع موسى وحمسه إلى أن قتله.

(إِنَّهُ عَدُوٌّ) أي: إن الشيطان عدو للإنسان منذ امتنع من السجود لأبيه آدم، و(مُضِلٌّ مُبِينٌ) فهو لا يسعى إلا في ضلال الناس وفي إفسادهم، فهو مضل ظاهر بيّن واضح لمن عمي قلبه قبل أن يعمي بصره، إذ ذاك موسى وقد أوتي الحكمة والعلم والفهم والدين ولم يوح إليه بعد فقال كما ذكر تعالى:

تفسير قوله تعالى: (قال رب إني ظلمت نفسي...)

قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي [القصص:16].

اعترف أنه ظلم نفسه بقتله من لا يستحق القتل ولغير سبب من أسباب القتل فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص:16].

ولكن موسى لا يدري أن الله قد غفر له فذاك يحتاج إلى وحي، والوحي لم يأته بعد، فالله غفر الله لأنه قتل من يستحق القتل، لأنه كان كافراً، والكافر والكلب سواء فلا حرمة لدم الكافر ولا لماله ولا لعرضه؛ وهذا معروف من الدين بالضرورة، وإن كان موسى قد رأى أنه قد تسبب بقتل إنسان لا يستحق القتل فقال: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) فهذا الموضوع يحتاج إلى استغفار، فرفع يديه بالاستغفار، (فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

فالله هو الغفور وهو الرحيم يغفر عن زلات الزال وعن ذنوب المذنب وعن سيئات المسيء، يرحم ضعفه ويرحم ما قام به في حالة ضعف وغلط وفتنة.

تفسير قوله تعالى: (قال رب بما أنعمت علي ..)

ثم وعد موسى ربه وعداً حقاً فقال: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ [القصص:17].

أي: رب بسبب إنعامك عليّ من الحكمة والعلم والفهم والدين فلن أكون بعد اليوم ظهيراً ومعيناً ومساعداً للظالمين والمجرمين، ودخل في هذا الوعد فرعون وقومه والكفرة من بني إسرائيل، وكأن هذا الإسرائيلي الذي تعصّب له موسى وقتل القبطي من أجله لم يكن مؤمناً، فقد ناصر مجرماً كما ناصر فرعون ببقائه معه في قصره بعد العقل والفهم والإدراك وهو لا يستحق ذلك؛ فموسى مؤمن أوتي العلم والحكمة وفرعون يدّعي الإلوهية، ولذلك كم من ذنب تنشأ عنه حسنة وهذا من ذاك.

ومعنى ذلك أن مساعدة المجرم حاكماً كان أو تاجراً ظلم وإجرام وهكذا؛ وهو سبب في العقوبة كما قال ربنا: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129] فالظلمة يسلّطهم الله على بعض، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم:83] ثم يُقذف بالكل إلى قعر جهنم، فمن أعان ظالماً سُلّط عليه، قال تعالى: وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] فكل هذا قد حرّمه الله ورسوله، وحرّمته شريعة الإسلام.

قال تعالى: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص:18].

بعد هذا الموقف ترك موسى دار فرعون ولم يعد إليها، لأنه قد قتل نفساً قبطية بغير نفس فخاف من المتابعة وإن كان لم يراه أحد، ولكن خاف من الإسرائيلي أن يبلّغ عنه فهو قد كان كافراً وقد يحمله الكفر والرعب والهلع من طُغيان فرعون أن يبلّغ عن طغيان موسى.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة القصص [9-17] للشيخ : المنتصر الكتاني

https://audio.islamweb.net