إسلام ويب

آتى الله سيدنا موسى الكتاب هدى لبني إسرائيل؛ لكنهم عاندوا وطلبوا ما ليس لهم أن يطلبوه، وقد أقام الله عليهم الحجة وأثبت صدق رسله وأنبيائه.

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب ... )

قال الله ربنا جل جلاله: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص:43].

لا نزال مع موسى وما أكرمه الله به من إشادة وذكر في العالمين منذ طفولته، بل منذ ولدته أمه إلى أن أصبح نبياً كريماً، قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ [القصص:43].

فبعد أن كلم الله موسى عليه السلام وشرفه أنزل عليه التوراة فيها هدى ونور، وفيها الصلاح والفلاح والدعوة إلى الله، وهكذا كان هذا الكتاب يوم نزوله، ووقت وجود موسى وهارون عليهما السلام، ثم بدلوه وغيروه من كتاب توحيد إلى كتاب شرك ووثنية، فجعلوا لله شركاء وجعلوا أنفسهم أبناءً لله، وقذفوا الأنبياء واتهموهم بالكبائر، وقالوا عن الله ما لا يقوله إلا كافر أرعن أحمق.

قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ [القصص:43].

فقد جاء موسى عليه السلام وأرسل بالكتاب إلى بني إسرائيل بعد القرون الماضية والأجيال السابقة، قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم إبراهيم، فجاء بعدما هلكوا وبادوا.

وفسر بعض المفسرين الآية: أن الأمم والأنبياء من قبل موسى لم يشرع لهم القتال والجهاد، فإذا كفرت أمة وأشركت بادرها الله بالعقوبة في الدنيا بأمر منه، فحين عصى قوم نوح نوحاً أفاض الله عليهم الماء فأغرقهم، وأهلك عاداً بما أهلكهم به من الصيحة والفزع، وأهلك قوم صالح كذلك، وأهلك قوم لوط بأن جعل عالي الأرض سافلها، وأهلك قوم فرعون بالغرق والضياع، ثم لما جاء موسى شرع القتال والحرب، فلم تبق الفتنة ولا العذاب ولا القضاء شاملاً عاماً لكل الأمة ممن كفر بالله وأشرك به، ولكن الله تعالى شرع للمؤمنين أن يقاتلوا الكافرين؛ ليذلوا ويسحقوا ويؤدبوا على يدهم، ومنذ موسى عليه السلام رفع الخسف والصعق والغرق والبلاء على الأمم عامة، إلا ما كان من القتال والجهاد، يكرم الله به المؤمنين، وهم يبذلون أرواحهم وأموالهم وأولادهم رخيصة لإعلاء كلمة الله.

ومع ذلك فإن قرية من القرى أيام موسى عليه السلام عندما تحايلوا على الصيد في يوم السبت وحاصروا الحيتان وحجزوها إلى يوم الأحد مسخوا قردة، قالوا: ولم يحدث بعد ذلك أن كان شيء من هذا، وإنما الهلاك يكون على يد الأمم بعضها بعضاً، فيسلط الله قوماً على قوم، وأمة على أمة، فقد يكون المسلمون - وهو هذا الشأن - هم المظفرون المنصورون، ولكن إذا بدلوا كذلك وغيروا كما صنع اليهود والنصارى قبلهم سلط الله عليهم شعوباً أخرى أذلوهم واستعبدوهم واستعمروهم، كما نعيش منذ قرون،ولا يزيد الأمر إلا شدة؛ لأن المؤمنين زادوا كفراً وخلافاً وعصياناً، وبقدر ما يزيدون يزيد الله عذابه ونقمته وتأديبه.

قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى [القصص:43].

القرون جمع: قرن، تطلق على المائة سنة، وعلى الجيل، وهنا أطلقت على الأجيال والأمم والشعوب ما مضى منها وما تلا، وإلى عصر موسى وما بعد عصره، ثم أوقف الله عذابه الشامل للأمم، واكتفى بأن أمرهم بالجهاد، ليقاتل المسلمون الكافرين، وأرسل موسى بالتوراة والكتاب بصائر للناس، أي: للتبصر والتنور والوعي والإدراك والإيمان عن بصيرة، فكان بصائر للناس وهدى؛ ليهتدوا بذلك ويزول ما هم فيه من ظلمات بعضها فوق بعض، ثم هو هداية يهديهم من الضلال إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الشرك إلى التوحيد، ورحمة ومغفرة ودخولاً للجنان وقبولاً لتوبة من آمن به والإيمان والإسلام يجب ما قبله.

لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص:43].

فأرسل الله موسى عليه السلام بالتوراة؛ ليتبصر بها بنو إسرائيل، ويخرجوا من الشرك إلى التوحيد، ومن الكفر إلى الإيمان، وأرسل هداية؛ ليتركوا الضلال إلى الهدى، ثم رحمة لمن آمن به، وصنع ذلك بهم لعلهم يتذكرون ويعون ويفكرون، ولعلهم يقولون يوماً: ربي الله، ويدعون الكفر والظلام والضلال إلى الإيمان والهداية والنور.

تفسير قوله تعالى: (وما كنت بجانب الغربي ... )

قال تعالى: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ [القصص:44].

هذا من ظواهر المعجزات التي أتى بها نبينا عليه الصلاة والسلام التي ينص عليها الله في كتابه؛ ليعيها الشاك والمرتاب والمتردد، وليزداد بها المؤمن إيماناً وإيقاناً وثباتاً في الله وفي دينه.

قال تعالى: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ [القصص:44].

أي: يا محمد! لم تكن حاضراً في الجانب الغربي جانب الطور وجانب الشجرة والبقعة المقدسة المباركة التي نادى فيها الرب جل جلاله عبده موسى، فكلمه وشرفه وأرسله، فأنت لم تكن حاضراً، ولم تكن من الشاهدين ولا من الحاضرين، ومع ذلك أنت الآن علمت ذلك كما لو كنت شاهداً وحاضراً، وأمتك لم تكن أمة قارئة، بل كانت أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب، ولم ينزل على أمتك وشعبك قبلك نبي ولا كتاب، وها أنت ذا تتكلم بالحقائق، وتتحدث عن الأنبياء السابقين منذ آدم إلى نوح إلى موسى وعيسى عليهم السلام، بما كانوا عليه من حقائق، وبما عاشوا فيه من واقع، وتتحدث عن الدنيا منذ كانت، إلى أن وصلت إليك، إلى ما بعدك وإلى يوم القيامة، وأنت لم تكن حاضراً هذا مع موسى؛ لأنك لم تكن خلقت بعد، فبينك وبينه الآلاف من السنين، فلم يكن ذلك إلا وحياً وإنباء وإخباراً من الله؛ لتعلمها أنت وتعلمها لهم ولغيرهم.

أفلا يكفي الكافرين من العرب والعجم من السابقين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ومن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة أن يروا هذا الرجل الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب يأتيه الوحي في غار حراء، فإذا به ينطق بالحكمة ويقول الحقائق والعلوم التي لم يعلمها سابق ولا لاحق؟ فمن أين ذاك؟

أعلمه الناس كما زعم بعض الكافرين قديماً وحديثاً، فقد زعموا أن حداداً كان في مكة هو الذي علمه، وهو لا يكاد يبين بالعربية، ونبينا لا يعرف سواها، وهذا الحداد ما عسى أن يعرف أو يعلم، فهو جاهل ولا يكاد يعلم ما في يومه فضلاً عن أمسه وعن مستقبله، وهذا الذي أتى به من المعارف والحقائق وما فرض على الناس يؤمن به من أصلح الله قلبه وغسله من الشرك والظلمات والكفر والعناد على الكفر.

وفي عصرنا هذا كتب أحد النصارى الفرنسيين كتاباً قارن فيه بين القرآن والتوراة والإنجيل، وقال: كل ما جاء في التوراة فقد حرف، والإنجيل قد حرف، وكل ما أتى به هذان الكتابان التوراة والإنجيل يخالف الحقائق والعلوم والواقع، إلا القرآن فما نطق القرآن بشيء عن السماوات والأرض وأنباء الأنبياء السابقين والأديان السابقة إلا وهو حق وصدق أيدته الكتب السابقة والعلم الحديث والحفريات على الآثار التي اكتشف بها الكثير مما كان يجهله الناس، وهكذا الله جل جلاله يلفت أنظار العقلاء والذين يبحثون عن الحقائق؛ ليعيشوا مع الحق والواقع، لا مع الأوهام، والأكاذيب والأباطيل والأضاليل.

وفكر يوماً أيها المشرك الكافر! من أين لمحمد العربي الأمي هذه العلوم والحقائق، وهذه القصص عن موسى منذ الولادة إلى النهاية، وهو لم يكن شاهداً ولا حاضراً، وهذا ما يلفت إليه القرآن أذهان الناس وعقولهم، فقال: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ [القصص:44] ، أي: لم تكن بجانب الجهة الغربية من الشجرة المباركة في البقعة المقدسة عندما أوحى الله إلى موسى عليه السلام ما أوحى وكلمه بما كلمه، وقضى الله جل جلاله الأمر والرسالة والنبوة، والهداية والتكليف منه جل جلاله إلى موسى، وهو الأمر الذي يشار إليه بالأمر، فلم تكن حاضراً إذ ذاك، فمن أين لك هذا لولا أن الله أكرمك بالوحي، وعلمك ما لم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيماً؟ كما أن له الفضل على أتباعه المؤمنين به وبجميع ما جاء به ففضل الله عليه وعلى أتباعه عظيم.

قال تعالى: وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ [القصص:44] ، أي: لم تكن بجانب الغربي مع موسى عندما كلمه الله، ولا من الحاضرين في عصره، المشاهدين لحياته، كيف ولد، وكيف قذف في اليم، وكيف أخذ إلى فرعون ، وكيف كبر، وكيف قتل الفرعوني، وكيف خرج من مصر، وكيف بقي في مدين إلى أن تزوج وأصبح زوجاً وأباً، وكيف رحل بعد ذلك إلى أن كلم بالوحي، ثم كيف عاد إلى مصر، فمن أين لك كل هذه الحقائق لولا إنعام الله عليك بالوحي وبالعلم وبما علمك به؟

تفسير قوله تعالى: (ولكنا أنشأنا قرونا ...)

قال تعالى: وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ [القصص:45].

الكلام هنا مع اليهود والنصارى أولاً، ثم مع الكفار عموماً من كفار مكة والجزيرة إلى كفار الأرض بكل مللهم وأجناسهم ونحلهم.

قال تعالى: وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ [القصص:45]، أي: ولكن الله بعد موسى والتوراة أنشأ وخلق قروناً وأجيالاً وشعوباً وأمماً أخرى طويلة في مئات وآلاف من السنين.

فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ [القصص:45] ، أي: طال على أهل الكتاب نصارى ويهوداً، وعلى المشركين الذين لم يؤمنوا بكتاب قبل ولم يرسل إليهم نبي ولا كتاب، فطال عليهم العمر والزمن من قبل ومن بعد إلى نسوا الكتاب فحرفوه وبدلوه وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتسافدوا تسافد البهائم في الشوارع، وأصبح القوي يأكل الضعيف، والغني المتجبر الطاغي يستعبد الخلق والبشر.

قال تعالى: وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ [القصص:45].

ومعناه: لكن هؤلاء بدلوا وغيروا وأنكروا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في التوراة والإنجيل، وأبوا إلا الكفران والجحود كما كفروا قبل ذلك بشريعتهم، فغيروها وحرفوها وبدلوها، وغيروا كتب الله ورسالاته، حتى إذا جاءهم سيد البشر صلى الله عليه وسلم مبيناً لهم الحقائق مصححاً لهم الوقائع والأحداث أبوا إلا العناد والجحود والكفران والتألب والتواطؤ والتآمر على هذا الدين الجديد وعلى نبيه المرسل إليه صلوات الله وسلامه عليه.

تفسير قوله تعالى: (وما كنت ثاوياً في أهل مدين ...)

قال تعالى: وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [القصص:45].

أي: لم تكن حاضراً بين قوم شعيب ، ولم تكن ثاوياً مقيماً بينهم، حتى تعلم عنهم وتدرك حالهم وتعرف أخبارهم بنفسك وتتلو عليهم آياتنا، ولم تكن نبياً إذا ذاك ولا معلماً ولم يظهر شخصك بعد، ولكن ذكرك واسمك سبقاك، فذكرت في توراة موسى وإنجيل عيسى عليهما السلام، وبشرت بك الخلائق من قبل جيلاً بعد جيل، وديناً بعد دين، وقرناً بعد قرن، ولكن هؤلاء أبوا إلا التغيير والتبديل والانحراف.

قال تعالى: وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ [القصص:45] ، أي: وما علمناك وأخبرناك من قصص شعيب ومن قبله ومن بعده لم تكن بينهم ولا حاضراً معهم، ولا تلوت عليهم كتابك، فلم تكن بعد لا أنت ولا كتابك ولا رسالتك.

قال تعالى: وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [القصص:45]، أي: ولكننا بعد ذلك شرفناك ورفعنا ذكرك، وقرناه باسمنا في الشهادتين وفي الإقامة وفي مفاتيح الإسلام، فلا تتم شهادة الدخول في الإسلام إلا بقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ولا يتم أذان ولا إقامة إلا إذا قرن اسم محمد صلى الله عليه وسلم باسم الله خالقه ومرسله، صلى الله عليه وسلم، وتعالى ربنا وعز.

قال تعالى: وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [القصص:45] ، أي: ولكن سبب مجيئك بهذه الأخبار مع أنك لم تكن حاضراً هو أننا أرسلناك فعلمناك وهديناك وأنزلنا عليك القرآن خاتم الكتب السماوية والمهيمن عليها والمتحكم فيها والمبين لحقائقها والمزيف لأباطيلها، فعند ذلك تكلمت بالحق والصدق وبالوحي من الله، فكان كلامك عن الله، سواء القرآن الذي هو كلام الله باللفظ والمعنى، أو السنة التي هي بيان وتفسير وشرح للكتاب.

قال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4] ومن هنا كان قول النبي عليه الصلاة والسلام شرعاً، وفعله شرعاً، وإقراره شرعاً في الغضب والرضا، في السفر والحضر.

ولذلك عندما كان يكتب عبد الله بن عمرو بن العاص كل ما يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم قال له بعض الجهلة من قريش: أتكتب عن رسول الله كل شيء، وهو بشر يغضب ويرضى؟! فكف، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: لم ذاك؟ فقال: قال لي فلان وفلان من قريش كذا وكذا، فقال: اكتب، فوالله لا يخرج منه إلا الحق في الغضب والرضاء.

فلا هوى له صلى الله عليه وسلم، وما هو إلا الوحي والحق والدعوة إلى الله، ولم يكن يعتبر لنفسه كياناً ولا وجوداً، بل كان يتسامح فيما يتعلق بشخصه إلا إذا انتهكت محارم الله فهو الأسد الهصور، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

تفسير قوله تعالى: (وما كنت بجانب الطور ...)

قال تعالى: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا [القصص:46].

أي: كذلك لم تكن مع موسى عندما جاء يبحث عن هذه النار التي رآها وهو لا يريد منها إلا جذوة أو خبراً من أي أحد من الناس يهديه الطريق ويعرفه كيف يذهب في مسالك الأرض، ولم تكن معه عندما نودي من الشجرة المباركة: إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص:30].

فلم تكن بجانب الطور إذ نادينا وقلنا: يا موسى! ومع ذلك علمت ما لم يعلم غيرك ممن مضى أو حضر، ومن باب أولى ممن يأتي إذ لا نبي بعده ولا رسول.

وهذا تأكيد لقوله في الآية الأولى: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ [القصص:44] أي: بالجانب الغربي من الشجرة المباركة من البقعة المقدسة، أي: لم تكن بجانب الطور وجبل سيناء عندما نادى الله موسى وكلمه، وقال: إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص:30] ومع ذلك علمت ذلك وتحققته وأمرت بمعرفته، وذلك لتعرف به الناس وتصحح أغاليطهم التي حرفوها وأتوا بها منحرفة في التوراة والإنجيل والزبور.

قال تعالى: وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص:46].

رحمة: مفعول مطلق، أي: ولكن رحمك ربك رحمة.

لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص:46] فقد أرسلناك وبعثناك نذيراً لقوم لا يعرفون من قبل نذيراً، ولم يرسل إليهم رسول، ولم يبعث إليهم هاد، ولم يأتهم كتاب، فقد جئتهم على قدر يا محمد! فرحمه الله وأكرمه بالوحي وبالرسالة وبختم الأنبياء والرسل، وأرسل لقوم ابتداءً، وإلا فهو قد أرسل لكل البشر.

قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158].

وقال صلى الله عليه وسلم: (أرسلت إلى الأبيض والأحمر، لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي).

وليس هذا موضع نزاع من أحد، ومن هنا كانت القاديانية وكل ملة وفرقة تزعم أن لها نبياً بعد محمد صلى الله عليه وسلم هي أديان كاذبة باطلة، ومعتقد ذلك كافر، فإن كان قبل مسلماً فقد ارتد، فإما أن يعود إلى الإسلام، وإما أن يقتل بسيف الإسلام.

والله أرسل النبي عليه الصلاة والسلام على ثلاث مراحل، فقيل له أولاً: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] فأنذر عشيرته الأقربين، وأخذ ينادي: يا صفية بنت عبد المطلب ! يا فاطمة بنت محمد ! يا فلان! يا فلانة! وقال لهم: إني نذير من الله لكم بين يدي عذاب أليم.

ثم بعد ذلك دعا الأبيض والأسود، ودعا المشرك واليهودي والنصراني، ودعا كفرة الأرض جميعاً بكل أشكالهم، ومن كان في الأصل صاحب كتاب ثم أشرك فحرف وبدل، ومن لم يكن له كتاب أو كان يؤمن بخزعبلات من الاعتقاد في الحجارة وفي البشر، وقد كان بعضهم يعبد النار، وبعضهم يعبد عزيراً والمسيح، وبعضهم يعبد الشيطان، وبعضهم يعبد الأحجار، وبعضهم يعبد غير هؤلاء، فكل هؤلاء كفرة مشركون، وكلهم إما أن يدخلوا الإسلام، وإما أن يجاهدوا، بل يجب جهادهم حتى يؤمنوا، ومن لم يفعل يؤدي الجزية عن يد وهو صاغر.

قال تعالى: وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص:46] أي: لتنذر وتدعو قوماً لم يرسل لهم قبلك نذير، وهكذا كانت الرسالة في الشهور الأولى، ثم عمت، وشملت الشرقي والغربي، والكتابي والوثني والمشارق والمغارب، وجميع أمم الدنيا، وقال الله له: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158] ، أي: لعلهم يتذكرون وبرحمة من ربك أرسلك نذيراً إلى العرب الذين لم يرسل لهم قبلك نذير ولا رسول ولا كتاب؛ لعلهم يتذكرون ويذكرون أن هذه نعمة من الله لم ينعم بها على أحد قبلهم، إذ الأديان قبلهم كانت قومية خاصة بالأقوام.

وأما الرسالة التي أرسل بها نبينا صلى الله عليه وسلم فهي رسالة شاملة عامة، تعم كل الكون الجن والإنس.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة القصص [43-46] للشيخ : المنتصر الكتاني

https://audio.islamweb.net