إسلام ويب

لقد امتن الله تعالى على عباده بأن أنزل لهم من السماء ماء يشربون منه، ويسقون به أنعامهم وزرعهم، وأنشأ لهم به جنات من نخيل وأعناب وفواكه شهية. ثم حذرهم بأنه كما امتن عليهم بذلك فهو قادر على أن يذهب هذا الماء: إما بأن يجعله يغور في الأرض أو غير ذلك فلا ينتفعون به.

تفسير قوله تعالى: (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق ...)

قال الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ [المؤمنون:17].

كثيراً ما يجمع الله جل جلاله بين قصة خلق الإنسان وقصة خلق العالم، كيف خلق السماء والأرض وكيف خلق الإنسان هذا سيد الأرض، الذي جعله الله خليفة عنه، إذ قال ربنا يوم خلق آدم للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، فسماه خليفة، وقال: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ [ص:26]، فسماه خليفة، والإنسان كله خليفة الله على الأرض، بمعنى أن الله رزق الإنسان عقلاً؛ ليفهم ويتدبر ليقبل أو يرفض، ليطيع أو يعصي، وهكذا الإنسان منذ خروجه إلى العالم ومنذ زرع الله فيه العقل والرشد فهو إما سيستجيب فيكون له الجنة والرضا، وإما أنه سيجحد ويشرك فتحل عليه اللعنة والغضب والخلود في النار.

فذكر الله بعد قصة خلق الإنسان بأنه خلق فوقنا سبع طرائق، والطرائق هي السماوات السبع، وهي كالنعل عندما يطرق نعل على نعل، فهي هكذا طبقة على طبقة، فالسموات طباق كما قال تعالى، فهي طبقة على طبقة وسماء على سماء وهكذا إلى سبع سموات إلى سدرة المنتهى إلى العرش، وأشار سيدنا صلى الله عليه وسلم بيده هكذا وأشار كالقبة، وأن العالم هكذا كله كروي، وهذا ما أجمع عليه المسلمون قبل أن يخطر هذا في بال إنسان في الأرض، فخلق الله الأرض كروية والسموات كروية، والعرش فوق الكل كالكرة وأشار بيده هكذا كالكرة، وذكر الإجماع علماؤنا قديماً وحديثاً نص على ذلك ابن حزم وابن تيمية وغيرهما من أئمة المسلمين، ومن نفى ذلك وحاول أن يقول غيره فيكون قد خرج عن إجماع المسلمين.

خلق فوقنا سبع سماوات وجعلها طبقاً على طبق، وطريق فوق طريق، وفسروا طرائق أنها طرائق للملائكة يطرقونها ويمرون فيها، ويجعلونها طرائق لهم لتلقي الأوامر الإلهية وللعبادة، وقد قال سيدنا صلى الله عليه وعلى آله: (أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ما من موضع قدم إلا وعليه ملك ساجد أو راكع) أي: صوتت السماء بثقل الملائكة عليها كما يصوت السقف عندما يصنع من خشب ويكون عليه ثقل، فتجده يصوت، فكذا صوتت السماء لكثرة من تحمل من الملائكة التي العبادة لها كالنفس للإنسان، فتعيش ليلاً ونهاراً على الذكر والعبادة ولا تأكل ولا تشرب ولا تتناكح ولا تتوالد ولا تشتهي، فهي في عبادة دائمة مستمرة راكعة أو ساجدة أو تقول: لا إله إلا الله، أو سبوح قدوس إلى أنواع العبادات لساناً ويداً ورجلاً وحواساً وبكل ما يملك الملك، فهذه السموات السبع طرائق للملائكة، فقد كانت يوماً كذلك طرائق لنبينا سيدنا عليه الصلاة والسلام عندما أسري به إلى السموات، فتنقل فيها وسار إليها سماءً بعد سماء، ووجد أباه الأول آدم عليه الصلاة والسلام، كما وجد بعض إخوانه الأنبياء، ووجد أباه إبراهيم عليه السلام كذلك إلى أن وصل إلى سدرة المنتهى إلى أن كان قاب قوسين أو أدنى، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17]، لم يذهله ذلك عن ربه، ولم يضعه عن ربه وعبادة ربه وتوحيد ربه، وكونه معه حساً وحواساً.

قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ [المؤمنون:17] خلقنا السموات وخلقنا فيها ما يصلحها مما يرفعها بغير عمد كما ترونها، ومع ذلك لم نغفل الإنسان عن حاجته من مطر ونبات وطعام وشراب، ومن هداية ورسالة وكتب وأوامر ونواه، فلم يغفل الله البشر، فكان الحي القيوم عليهم يرزق الكل، ويحيي من شاء، ويميت من شاء، وجعل لهم ما ينفعهم في دنياهم، ثم أخذهم إليه، ثم عرضهم عليه سبحانه بعد أن ماتوا؛ ليسألوا ويحاسبوا على ما قدمت أيديهم في الدار الدنيا، فلم يغفلهم عن رسالة، ولم يغفلهم عن رزق، ولم يغفلهم عما هم بحاجة إليه، فقد وسعت قدرته جل جلاله جميع خلقه من ملك وجن وإنسان، ومن هوام ودواب وطير، فقد قام بالكل وقد رزق الكل جل جلاله من غير حاجة إلى معين ولا شريك جل وعز عن كل ذلك.

تفسير قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء بقدر ...)

قال الله تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ [المؤمنون:18].

من جملة حفظ الله لخلقه وللإنسان في الأرض أن أنزل له الماء من السماء بقدر بما يكفيه وينفعه، فلو أنقص الماء عن ذلك لمات الناس عطشاً، ولجفت الأشجار وضاع ثمرها ونبتها وحبها وما تنتفع به، ولو زاد الماء بغير تقدير لغرق الناس كما غرق قوم نوح، ولكن الله جل جلاله أنزل الماء من السماء بقدر كاف بلا زيادة ولا نقصان، بما ينفعهم مدة حياتهم، بما ينفعهم مدة وجود الدنيا: ينفعهم في أنفسهم، وفي مزارعهم، وفي دوابهم، وفي شئونهم كلها بما لا يزيد على الحاجة ولا ينقص.

فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ [المؤمنون:18]، لو أن الأمطار التي تنزل من السماء والغيث لو تجف مع الرياح لو تجف مع السموم لو تجف مع الحر والصيف والشمس لضاعت تلك المياه في حينها، وعندما يحتاج الإنسان للماء في الأوقات التي لا مطر فيها أو الأشهر أو السنين جدباء لما وجد الماء، ولآل أمره إلى الموت والفناء، ولكن الله جعل لذلك الماء الذي أنزله مخازن في الأرض، وهو ما نستفيد منه بعد ذلك، وهي المياه الجوفية تحت الأرض، وذلك إما بآبار نحفرها، وإما بأنهر تتفجر وتبقى جارية، وهي تستقي ماءها من الماء المخزون في الأرض، وإما مياه البحار لنستفيد منها بالركوب في فلكها لنتقل بين مختلف قارات الأرض للتجارة، والسياحة، وطلب العلم، والدعوة إلى الله، والحكم بين البشر، وكف الظالم عن ظلمه، ونشر العدل بين الخلق، ونستفيد مما فيها من لحم طري ولؤلؤ ومجوهرات، وذلك من فضل الله وامتنانه على البشر، وذلك دليل على كونه لم يغفل عن الخلق، فقد أعطاهم من كل النعم، وكان الحي القيوم لمصالحهم ما داموا أحياء على وجه الأرض.

وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ [المؤمنون:18] ولو شاء الله أن يذهب به، وأن يجففه وأن ينشفه، وأن يدعه يتبخر في الجو وفي السماء لماتوا عطشاً: إنساناً وحيواناً وطيراً.

فالله ينذر بهذا الكافرين الجاحدين، وينبه به المؤمنين ليزدادوا إيماناً، والكافرين ليتوبوا يوماً ويقولوا: ربنا الله، فالله الذي أعطى هو قادر على أن يمنع، وهكذا من قدر أن يعطي قدر أن يمنع، فالله وحده هو القادر على العطاء والقادر على المنع، ولو شاء الله أن يذهب بمائه وسيذهب به يوماً، وقد يحدث هذا كثيراً فتجد أنهار في مختلف القارات وإذا بها بعد أشهر أو سنوات تجدها قد جفت، وآباراً تجدها قد جفت، وأعيناً تجدها قد غارت، وهذا في التاريخ كثير، فقد حكوا أن أفريقيا وأوروبا كانت أرضاً واحدة متصلة، وإذا بزلازل -كما أراد الله بقدرته- تفجرها إلى أرضين، وجعل بينهما بحراً، ومن سنوات قريبة حدثت زعازع وزوابع في الدنيا الجديدة التي تسمى أمريكا، وإذا بجبال كانت موجودة غارت، وإذا بمدن كانت ودخلت في جوف الماء، وساخت في الأرض، وإذا ببحار عامت على أراضٍ وفاضت وغيرت خريطة تلك الأرض تغييراً كاملاً، وهذا يحدث في الدنيا كثيراً، وقد لا يحدث إلا في آلاف السنين، ولذلك فالتاريخ كثيراً ما يقص علينا العجائب والغرائب مما كان ثم تغير وتبدل، وسيأتي يوم عند فناء الدنيا يتغير الكل ويزول الكل، ويموت كل حي، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].

تفسير قوله تعالى: (فأنشأنا لكم به جنات من نخيل ...)

قال تعالى: فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [المؤمنون:19].

أي: بذلك الماء أنشأ الله جل جلاله لنا جنات، فهو الذي جعل من الماء كل شيء حي، والإنشاء هو الإيجاد على غير مثال سابق، وهو الاختراع والابتكار والإيجاد من عدم، ولا يقدر على ذلك إلا الله، ومن يقول: اخترعت وابتكرت إما أن يكون متجاوزاً في لفظه، وإما أن يكون كاذباً على الله، فالله وحده هو المخترع والمبتكر، وهو الذي ينشئ ويوجد الشيء على غير مثال سابق.

فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ [المؤمنون:19] وليست جنة واحدة، أي: بساتين ورياضاً لنعيش بذلك ونتمتع ونحيا ونشكر الله عليه، فبذلك الماء سقى الأرض فأنبت من كل الأنواع والأشكال.

فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ [المؤمنون:19] خص النخيل بالذكر؛ لأن التمر يكاد يشبه الحليب إلا أنه لا يغني عن الماء، فالتمر فيه من المواد الغذائية ما يغني عن اللحم وعن البيض وعن أنواع الفواكه، ففيه من أنواع التغذية الكاملة، وفي أكثر الأحيان لا فضول له إلا إذا كان الجسم مريضاً، فبكل ما فيه يتغذى بدن الإنسان، ولذلك كانت العرب قبل هذه الرفاهية المحدثة والتي لا تبقى أكثر من بضع سنوات وينتهي ذكرها، ويعود الناس إلى صحرائهم وإلى تمرهم وإلى حميرهم وإلى إبلهم، ولعل الناس بعد ذلك يعودون إلى ربهم تائبين.

هذه الجنات أبرز الله ذكر ما يكون فيه من نخيل وأعناب، وهذه النخلة قد سماه النبي صلى الله عليه وسلم عمتنا، فمرة كان في مجلس فقال: (ما هو الشجر الذي هو كالمسلم ليس فيه فضول وكله خير في ظاهره وفي باطنه؟ فأخذ الحاضرون -وكانوا من كبار الصحابة- يتنقلون بين الأشجار وبين الفواكه وبين الثمار والحبوب، فلم يقع عليها أحد، وكان في المجلس عبد الله بن عمر بن الخطاب وهو غلام صغير، وخطر بباله أنها النخلة واستحى أن يقول ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هي عمتكم النخلة).

فالتمر يؤكل كاملاً بلا فضول، ونواه تعلف به الدواب، وشجره ينتفع به، وجريده تسوى به الأسقف، وجماره الذي في جذوره يؤكل حلوى شهية، وهكذا لا فضول فيها كلها، وقال عبد الله بن عمر لأبيه: والله يا أبت لقد خطرت ببالي واستحيت أن أقول ذلك، قال: لو قلت ذلك لكان أحب إلي من حمر النعم.

والإنسان يسر بولده عندما ينبغ ويظهر ذكاؤه مبكراً؛ لأن الولد قطعة من أبيه، فحسنته حسنته وسيئته سيئته، كما قال الشاعر:

وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض

فالأبناء جزء من الإنسان وسلالة منه، وهي جزء من الأب وجزء من الأم، ولن يتم بلا أب ولن تتم بلا أم.

فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [المؤمنون:19] والعنب كذلك كثير التغذية، فهو أعظم من كثير من الفواكه.

فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ ثم عمم الله لنا في هذه الجنات سواء في الأشكال أو الألوان، ولكل قطر وإقليم شكل من الفواكه لا تجدها في قطر آخر، وهذه من عجائب صنع الله وقدرة الله، ونعيم الله الذي أكرم به البشر مؤمنهم وكافرهم.

لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ نأكل من حبها القمح والشعير وبقية الحبوب على أشكالها وألوانها، ونأكل من فواكهها ومن تمرها ومن أعنابها، ونأكل من جميع ما تزرع فيه، وبالدرجة الأولى الحب، وهذا الحب هو الذي قيل: بأن آدم عندما أسكنه الله الجنة أباح له أن يأكل من جميع ثمارها إلا شجرة واحدة قالوا: هي حبة القمح، فكانت الحبة كبيرة كالكلية، زعموا ذلك، ولكن لا ذكر لهذا في القرآن ولا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (وشجرة تخرج من طور سيناء)

قال الله تعالى: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ [المؤمنون:20].

هي شجرة الزيتون، والطور: هو الجبل، وهو طور سيناء الذي في أرض مصر، رده الله للمسلمين مع العزة والكرامة بلا ذل ولا هوان.

تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ قيل: الباء صلة، أي: تنبت الدهن، ودهن شجرة الزيتون هو الزيت، وقد قال صلى الله عليه وسلم عن الزيت: (كلوه وادهنوا به)، وهي الشجرة المباركة التي ليست بشرقية ولا غربية، بمعنى: أن الله أنبتها في مشارق الأرض ومغاربها فلا أحد يستطيع أن يقول: هذا زيت المشرق بمعنى أنه لا وجود له في المغرب، أو هذا زيت المغرب بمعنى أنه لا وجود له في المشرق، فهو في كل الديار وفي كل الأرض إلا في الصحاري؛ لقلة الماء، وحتى هنا قال خبراء الزراعة: يمكن أن تنبت شجرة الزيتون وتعطي الخيرات وتعطي شيئاً لا يكاد يخطر ببال.

وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ سيناء: هو الشجر الملتف، والطور الجبل، فالطور هو الجبل، وسيناء تلك الجهة المخصبة التي فيها الأشجار الملتفة والكثيرة.

وَشَجَرَةً تَخْرُجُ أي: تنبت وتستزرع وتستنبت وتخرج من طور سيناء، تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ أو تُنِبت الدهن، أي: تعطي الدهن، والدهن هو الزيت.

وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ الصبغ: هو الإدام، والإدام هو ما يؤتدم به مع الخبز، وسمي صبغاً لكون الخبز عندما تضعه في الإدام يتغير بتغيره ويصطبغ بشكله، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (ائتدموا، نعم الإدام الخل)، فجعل الخل إداماً، وجعل الزيت إداماً، فالإدام هو ما يؤكل مع الخبز.

وهذه الشجرة فيها من الدهن ما نحتاج إليه لقوام البدن، ولتمام تغذيته، والزيت أشرف شيء للإنسان، وإن كان لا يستغني كذلك عن دهن الحيوانات.

وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ سِيناء فيها قراءتان: بفتح أولها وكسره، (تنبت بالدهن)، إما أن يكون معناها: تنبت مع الدهن، وفسروا الباء بمع، أو الباء صلة، أي: تبنت الدهن، أي: يستخرج منها الزيت، وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ أي: إدام للآكلين، فيجعل مع الخبز إداماً، ويختلط باللحم بأنواعه، ويختلط بالخضر بأنواعها، فهو إدام يؤتدم به مع الخبز.

وبعد أن ذكر الفواكه والحبوب التي تستنبت من الأرض، والزيت والزيتون عقب بذكر الأنعام.

تفسير قوله تعالى: (وإن لكم في الأنعام لعبرة ...)

قال الله تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [المؤمنون:21].

الأنعام تطلق على الإبل والبقر والضأن والماعز، فهذه الأنعام خلقها الله لنا، وجعل لنا فيها من المنافع الكثير الطيب.

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نعتبر بها، ومن عبرها أننا نعيش بألبانها وبإنتاجها، ونعيش بوبرها وشعرها، ونعيش بها ركوباً لنا ننتقل بها من أرض إلى أرض.

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً تعتبرون وتتفكرون بها، فيزداد شكركم وحمدكم لله جل جلاله على بديع صنعته، وعلى إكرامه لكم بما أكرمكم به من أنواع الزيوت والأدهان، ومن أنواع الفواكه والحبوب، ومن أنواع اللحوم.

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا يسقينا مما في بطونها من اللبن، وهذا اللبن أشكال وألوان، فمنه اللبن الحامض المخيض، ومنه الأجبان التي نستعملها منه، والزبدة أشكال وألوان كذلك، فكله يدخل في هذا الذي يخرج من الأنعام.

وكل شيء نقول عندما نأكله ما علمنا صلى الله عليه وسلم أن نقول: (باسم الله اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، وزدنا خيراً منه) إلا الحليب فإنا نقول فيه: (وزدنا منه) لأنه ليس هناك خير من الحليب، فبالحليب نعيش السنتين الأوليين، فهو الغذاء وهو الشراب، ويعيش المريض به، فيستطيع أن يعيش بالحليب بلا حاجة إلى خبز ولا إدام، فالحليب هو الخبز وهو الإدام، وفيه التغذية الكاملة التي في الشيء الآخر، ومن هنا قال الله تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا أي: في الأنعام، مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ فننتفع بما فيها، ننتفع بأوبارها وأشعارها وبطونها وظهورها، فنركب الإبل، وفي الهند يركبون حتى البقر، ويروى في الأحاديث الماضية وبعض ذلك قد صح: (أن بقرة ركبها صاحبها أيام بني إسرائيل فإذا بها تنطق وتقول: لست لهذا خلقت، وإنما خلقت للحرث)، فقد خلقت للحليب وخلقت للولادة، ولذلك لا تكاد تجد هذا في بلاد المسلمين، فالإبل للركوب والبقر للحراثة وللحم وللحليب وللأدهان، وهكذا.

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا من السقي والشراب.

وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ نأكلها إبلاً، ونأكلها بقراً، ونأكلها ضأناً، ونأكلها ماعزاً، ونستفيد من كل ما فيها طعاماً وشراباً وكسوة وألبسة من الأوبار والأشعار.

تفسير قوله تعالى: (وعليها وعلى الفلك تحملون)

قال الله تعالى: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [المؤمنون:22].

فنسافر ونقطع البراري والقفار والجبال والوهاد ومشارق الأرض ومغاربها، ولم تكن قد وجدت المراكب الجديدة من المراكب البخارية، والمراكب الخشبية، فما كان الركوب إلا على الإبل أو الدواب أو المشي على الرجل، ولذلك كانت الإبل تسمى سفن الصحراء، ولا نزال في حاجة إليها إلى الآن، فلا تزال تركب في كثير من الأراضي القاصية في الجبال وفي الوهاد وفي الصحاري حيث يصعب أن تذهب إلى هناك السيارات وما إليها، وخاصة في الأراضي التي ترابها ورملها يغور فيه من يمشي عليه، فقد يبتلع السيارة كلها، وهذا موجود معنا في المملكة هنا، ففي خلق الله عجائب حتى في التراب وأنواع الأرض وترابها.

ومن معجزات القرآن في هذا العصر أن الله تعالى يقول في كتابه: وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ [التكوير:4]، والعشار هي الإبل، وأصل العشار النوق الحوامل، ولكن أصبح بعد ذلك يطلق على الإبل كلها عشار.

وجميع المفسرين إلا قلة وهم معدودون على الأصابع ذكروا أن ذلك يوم القيامة، فهناك ستعطل الإبل عن الركوب، قالوا: وإذ ذاك ستقوم القيامة وتنتهي الدنيا، وفي تصورهم أن الإبل لا تعطل إلا إذا عطل الإنسان عن الرحلة وعن السفر، ولا يعطل الإنسان عن الرحلة والسفر إلا إذا فقد ومات، ونحن الآن نعيش وقد عطلت الإبل، فلا أذكر في حياتي أني ركبت إبلاً، وإنما ركبت مرة فرجة، في حين رواكب من سبقنا كانت جميعاً هي إبل، ولو سكنت هنا قديماً لركبت من مدينة إلى مكة في عشرة أيام واثني عشر يوماً كما ركب أبي وأمي، وكما ركب الكثيرون من الحاضرين والموجودين، ولكن اليوم الإبل عطلت، بل أنواع الدواب كلها، وكنا نرى البعض كانوا يخرجون من هنا في رجب على الحمير إلى المدينة المنورة، وقد أدركت هذا، وكان قريباً وأظنه لا يزال، وكنا نستغرب لهؤلاء الذين يركبون أياماً عدة ويتركون الطائرة في نصف ساعة ويتركون السيارة في بضع ساعات ما حملهم على أن يركبوا الحمير؟! قالوا: ولكن عادة .. لكن ذكرى .. لكن معنى يحترمونه، ولو رأينا الناس يسافرون في هذا العصر على الإبل لكان استغرابنا أعظم.

وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ فقد عطلت ولم ينته الإنسان ولم تقم الساعة بعد، ولا نزال نرحل أكثر مما كنا بواسطة السيارات، وبواسطة البواخر البخارية، فأصبحت الدنيا صغيرة، وهكذا الدنيا تضيق يوماً عن يوم بسبب هذه المراكب وأنواعها وتشكلها.

وقال لنا نبينا صلى الله عليه وسلم: (إن عيسى عندما ينزل من السماء سيحج على غير القلوص) يعني: سيحج ولكن ليس على الإبل وليس على البراق، فالنبوءة انتهت لعيسى مع قومه، فعندما سينزل للأرض فإنه سينزل إنساناً مؤمناً مسلماً من أتباع نبينا صلى الله عليه وسلم، وسيحج على غير القلوص؛ إشارة للطائرات، فيحج كما نحج وكما نتنقل اليوم في العالم على الطائرات، وقد مضى أن قلنا من قبل وفسرنا عندما ذكر الله أنواع المركوبات وقال: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8] أن عبد الله بن عباس قال: ما عطف الله أنواع المركوبات -أي: ما عطف الله بقوله: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ على أنواع المركوبات- حتى كانت من جنسها.

وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ أي: من أنواع المركوبات: من الطائرات والسيارات والبواخر، وسنبقى نقول: ويخلق ما لا تعلمون في تفسير قوله تعالى: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ ، ولم ذلك؟ لو قال النبي عليه الصلاة والسلام يوماً لإنسان: إن الحديد يوماً سيطير بقليل من الماء، وسيقطع الأجواء، وبساط سليمان سيصبح شيئاً عادياً للبشر، لقالوا: جن محمد صلى الله عليه وعلى آله، وقد قالوا عنه من غير شيء: مجنون صلى الله عليه، ومن هنا كان النبي يقول لنا عليه الصلاة والسلام: (خاطبوا الناس بما يفهمون)، فالإنسان إذا حاول أن يخاطب الصغار بلغة الكبار أفسدهم، ودفعهم ليقولوا عنه: مجنون، ولو خاطب الكبار بلغة الصغار لأضاعهم، ولقالوا: أستاذنا لا يزال يعيش معنا عيشة الأطفال، وهكذا لابد للإنسان أن يفرق بين وقت ووقت، وبين كبير وصغير، وبين رجل وأنثى.

وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [المؤمنون:22] أي: على الإبل منها، والفلك هي السفن التي تمشي على الماء سابحة عائمة، وقد كانت قديماً بالشراع، وكانت تسير بالرياح، ولذلك قال الشاعر:

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

وعندما نقرأ رحلات المغاربة والأندلسيين وقد اشتهروا بالرحلة والكتابة فيها دون أكثر بلاد الله، عندما نقرأ رحلة ابن جبير ورحلة ابن بطوطة وغيرهما من المغاربة والأندلسيين نجدهم جاءوا للحج على السفن الشراعية، وعندما كادوا يصلون إلى شواطئ الشام وقد رأوها، وكادوا يصلون إلى شواطئ مصر وقد رأوها إذا بريح معاكسه تعود بهم إلى المغرب، وهم يتغيظون ويكاد ينفجر دمهم، وقد يضيع عليهم الحج، ولو حاولوا أن يعاكسوا الريح لغرقت السفينة ولضاعوا البتة، وكثيراً ما وصلوا إلى الشواطئ فتأتي ريح معاكسة فيذهبون فيعودون مرتين وثلاثاً ولا ييأسون.

وكم من نعم الله علينا في هذا العصر، والكفر في هذا العصر أكثر من كفر أمس، وما زادت هذه النعم الإنسان إلا كفراً وإلا جحوداً، فاليوم نفطر في المغرب ونتغدى في الحجاز، ونتغدى في الحجاز ونتعشى في الهند، وهو بساط سليمان بحاله، ولا يزال الأمر في تطور، فالطيران كما رأيناه كان كالحمار مع الفرس، وحمر الطيران انتهت اليوم، وأصبحنا نطير في أعظم طائرات، وهذه الطائرات تتغير يوماً عن يوم، والطائرة الآن لا تزال تجرب، فتختصر السفر ما بين المشارق والمغارب إلى النصف إلى خمسين في المائة، فإذا كنا نصل إلى المغرب في ست ساعات بالطائرة، فستصل هذه في ثلاث ساعات، ولعلها ستنزل قريباً في خلال هذه الأيام هنا في المملكة، ولا يزال الناس يفكرون، وكما قال ربنا جل جلاله: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53]، فسيرينا الآيات والمعجزات والقدرة الإلهية في الكون وفي أنفسنا، وسنصنع هذا بأيدينا، ولكن من الذي رزقنا ذلك والقدرة عليه؟ ومن الذي رزقنا العلم وقد خرجنا جهالاً؟ ومن الذي رزقنا العلم وقد خرجنا فقراء من بطون أمهاتنا؟ ومن الذي أعطانا بعد ذلك العقل للفكر وللعمل؟ فنحن ليس إلا آلة في يد الله يصنع بها ما شاء، فهو الذي خلقها، وهو الذي يشغلها، فنحن عندما نزعم لأنفسنا الكثير الكثير نكون حمقى بعداء عن الحق والواقع، فالله هو الذي خلق لنا السمع والبصر والقدرة والفهم، وعندما ينسى الواحد منا هذا يزداد إغراقاً في الكفر والحمق والرعونة.

وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [المؤمنون:22] والفلك اليوم كذلك تطورت تطوراً عجيباً، فقد كانت هناك السفن الشراعية ولم ندركها ولم نركب عليها، وهي توجد اليوم لصيد الحيتان، وأما اليوم فتوجد الباخرة، وتسير الباخرة بقوة البخار، وأيضاً تسير بالبترول وأنواعه، فهذه تعاكس الريح وتذهب، وتعاكس الأمواج، يا ما ركبنا البواخر من ثلاثين سنة فكنا نكون تارة كالريشة في أعلى الموجة، وتارة تنزل الموجة، فنكون بين جبلين من الماء، ونقول: قد ذهبنا، ولكن البواخر مع ذلك ازدادت سعة وعظمة وكبراً، فهي أصبحت تقطع هذه البحار التي كانت تقطع في الشهر والشهرين تقطعها في يومين وثلاثة، ولا يزالون يخترعون، وهذا العقل الذي خلقه الله لا يزال الله يعلمه ما لم يعلم، وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النساء:113] قالها للأنبياء وهي لنا كذلك.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه ...)

قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ [المؤمنون:23].

سيقص الله علينا قصة نوح مع قومه، وقد مضت معنا مرات، وفي كل مرة يذكر الله فيها زيادة حكمة، وزيادة فائدة، وزيادة درس وعبرة، وزيادة آية ومعجزة.

فقد أرسل الله نوحاً إلى البشر وأمره بأن يدعوهم إلى عبادته وتوحيده والإيمان به، فاستجاب نوح، وقال: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ، فالله خلق الناس يوم خلقهم مؤمنين، فخلق آدم وجعله نبياً لأولاده وسلالته وذريته، وخلقنا مؤمنين، وأنزل أبانا آدم من الجنة إلى الأرض، وتركنا وأعطانا من الإلهام لنزرع ونبحث ونقوم بما يحتاج إليه الإنسان على وجه الأرض، وانتقل آدم من الراحة والنعيم إلى أن أصبح مزارعاً إلى أن أصبح كساراً يبني في داخل الجبال البيت؛ ليفر من الدواب والهوام، ويزرع الأرض ويستزرعها بالحبوب والفاكهة ليعيش، وهكذا مع الأيام عاش الناس مؤمنين، ومضت ألف سنة فيما زعموا ولا نستطيع البت في ذلك، فليس هناك نص في القرآن ولا نص عن نبي الله عليه الصلاة والسلام، وكل الذي نقوله هو الذي قاله القرآن، فأرسل الله نبيه نوحاً فلبث في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، وكم كان سنه؟ لنفرض أنه كان سنه خمسين فقط، فيكون قد أقام فيهم ألف سنة، وبعد قرون نسوا الإيمان والتوحيد، وأخذوا يعبدون غير الله مشركين معه وداً وسواعاً ويغوث .



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة المؤمنون [17-23] للشيخ : المنتصر الكتاني

https://audio.islamweb.net