إسلام ويب

في هذه الآيات ينعي الله تعالى على الكافرين المشركين عدم تدبرهم لهذا الوحي، وعدم تفكرهم فيه وهو بلغتهم ولهجتهم، وهم أهل الفصاحة والبلاغة، فهل يريدون أن يتبع الحق أهواءهم حتى يؤمنوا؟! فلو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيها، ولخربت البلاد وهلك العباد.

تفسير قوله تعالى: (أفلم يدبروا القول ...)

قال تعالى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ [المؤمنون:68].

الكلام هنا لقريش، ولكن كما يقول علماء الأصول: العبرة بعموم اللفظ، فالخطاب كان وسيبقى إلى يوم البعث والنشور خطاباً لكل كافر كان على شكل أولئك الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكافرين، والكلام سوف يبقى كما أنزل خطاباً لكل مسلم، فللمؤمن الجنة وللكافر النار، فإذا قال ربنا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة:21] فهو خطاب للمؤمن والكافر، وإذا قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:104] فهو خطاب للؤمن وحده.

أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أي: هل هؤلاء أصابتهم البلادة، وأصابهم العجز عن الفهم وتقدير المعنى وتدبره وفهمه؟ كيف لم يدبروا ولم يفهموا ولم يعوا ما أنزل عليهم من كتاب؟ فهو خير الكتب للناس، وخاتم الكتب للناس، فيه ذكرهم، وفيه تعليمهم، وفيه هدايتهم، وفيه ما يجعلهم سادة الدنيا وأئمتها وحكامها.

أفلم يدبروا كلام نبيهم ويفهموا قوله وهو يخاطبهم بلغتهم ولهجتهم، وهو منهم وإليهم، حسباً ونسباً؟ كيف جهلوا كل ذلك؟ فهذا استفهام إنكاري توبيخي تقريعي، فيوبخهم الله ويقرعهم كيف مع فصاحتهم وبلاغتهم ومع ذكائهم جهلوا وتبلدوا؟ فقد صار حسهم مطبوعاً طبع الحمر التي لا تعي ولا تدرك.

أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أي: قول الله وقول رسوله، وقول الحق والمنطق.

أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ أو لأنه قد جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين من رسالة، ومن نبوءة، ومن كتاب، ومن وحي، أهذه علة للكفر، أو يجب أن تكون علة للإيمان في كونهم كرموا بين الآباء والأجداد بأن أرسل إليهم، وبأن شرفوا بذكرهم، وبأن شرفوا بالنبي منهم وإليهم، وبأن شرفوا بأن يقوموا برسالة ينشرونها في الأرض وهم سادتها ومعلموها وناشروها كما كان بعد؟

أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ ما لم يأت آباءهم من رسالة ومن نبوءة ومن كتاب، وقد فسروا (أم) هنا بمعنى بل، أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ بل جاءهم، ولا حاجة لهذا التأويل.

فالله تعالى يمتن عليهم بأنهم قد جاءهم من الخصائص ومن التشريف ومن التكريم ما لم يكرم به الآباء ولم يشرف به الأجداد، فجعل منهم نبياً من أوساطهم، ومن أشرافهم، من أوسطهم وأعلاهم شرفاً، يعرفون صدقه وأمانته، ويعرفون نشأته وصباه وشبوبيته، وقد جاءهم برسالة عن الله فكيف جهلوه؟ وكيف أعرضوا عنه؟ وكيف ابتعدوا عنه؟

أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ وهذا الاستفهام إنكاري أن آباءهم لم تأتهم نبوءة ولم تأتهم رسالة، ولأول مرة أتى العرب رسول ونبي وكتاب.

ومن هنا فأهل الجاهلية لا يعذبون، وقد قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، وما بعث رسولاً إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، ولم يكن قبله للعرب رسول، ومن هنا يؤكد القرآن: أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ أي: عوضاً عن أن يشكروا هذه النعمة، وهذا الشرف، وهذه الخصيصة اتخذوها كفراً وجحوداً، وقد خصصوا بما لم يخص به الآباء والأجداد.

تفسير قوله تعالى: (أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون)

قال تعالى: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [المؤمنون:69].

أي: ما بال هؤلاء أين ضاعت عقولهم؟ وأين ضاع ذكاؤهم؟ وأين ضاعت فطنتهم؟ ألم يعرفوا هذا الرسول؟!

أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ كيف أنكروه وجهلوه وهو منهم وإليهم؟ فقد علموا ولادته، وعرفوا صباه، ونشأ بينهم، واشتهر بينهم باسم الصادق الأمين، وعلموا صدقه، وعلموا أمانته، حتى إن أبا سفيان بن حرب وكان زعيم الكفر وزعيم الشرك في مكة ذهب إلى الشام في تجارة، فسأل هرقل ملك الروم عن هذا النبي العربي الذي يزعم أنه نبي وأنه رسول للناس كافة، فسأل أن يؤتى له بمن هو قريب من العرب إلى النبي صلى الله عليه، فوجدوا أبا سفيان الذي هو أيضاً من قريش ومن أهل مكة ومن بيوتاتهم الكبيرة، فأتي به ومعه جماعة من أصحابه أيضاً من قريش، فأوقف هرقل أبا سفيان أمام وأصحابه خلف، وقال لـأبي سفيان : أنا سائلك أسئلة فأجبني بالصدق، وقال لمن خلفه: إذا كذب فأشيروا لي برءوسكم حتى لا يتحرجوا مع زعيمهم، ولكن من خصائص العرب أنها لا تكذب، هكذا كانت أخلاقها حتى في الجاهلية، فـأبو سفيان على عداوته للرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى حربه له وحقده عليه، عندما سأله هرقل أجاب بالأجوبة التي يعتقدها الحق، فسأله أيصدق؟ وسأله أيخلص؟ وسأله إذا عاهدكم أيفي؟ قال: نعم، ونحن الآن على عهد، وكانت حينئذٍ غزوة الحديبية، ولا ندري ما هو فاعل، قال أبو سفيان : لم أجد كلمة أدخل فيها إلا هذه، قلت: هو يفي، ولكن العهد قد قام الآن فلا ندري هل سيفي مستقبلاً أم لا، فكان مما سأله: هل تعرفونه قبل؟ قال: نعم، قال: ماذا تعرفون؟ قال: نعرف ولادته، ونعرف أبوته، ونعرف أمومته، وعرف بيننا بالأمانة وبالصديق، قال: هل كان يكذب؟ قال: لا، قال: هل كان أحد من آبائه يدعي ذلك أو يزعمه؟ قال: لا، وإذا بـهرقل يقول له: من عاش بينكم هذه المدة الطويلة ولم يكذب على الناس جدير ألا يكذب على الله، ومن ليس في آبائه وأجداده من ادعى هذه الدعوى فلا نقول عنه: قام ليطالب بشيء سبق أن طالب به آباؤه وأجداده، وهكذا النبي عليه الصلاة والسلام عرف عند هدم الكعبة برأيه السديد، وعرف عند حلف الفضول برأيه السديد، وعرف عندما أراد أن يحضر ولا يزال شاباً صغيراً يافعاً إلى أحد أعراس مكة وإذا بالنوم يغلبه، فلا يرى مما يفعله الجاهلية شيئاً، يقول: (ولم أشعر إلا وحر الشمس على ظهري)، حدث هذا مرتين، وكانت له إرهاصات.

وهكذا جعفر بن أبي طالب عندما هاجر للحبشة بزعامة المهاجرين الأول سأله النجاشي عن هذا الذي يقول إنه نبي: أتعرفونه؟ قال: نعم، نعرف أمانته ونعرف صدقه ونعرف نشأته ونعرف أبوته ونعرف أجداده، وهكذا قال المغيرة بن شعبة عندما ذهب للتفاوض في حرب الفرس مع نائب كسرى، فسأله: أتعرفون محمداً هذا الذي كان يدعوكم لنبوءته ورسالته؟ وقد حدث هذا في خلافة عمر ، قال: نعم نعرف صدقه ونعرف أمانته.

وهكذا يقول الله لهم: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ، أهؤلاء أنكروا نبوءة محمد وصدق محمد ورسالة محمد؛ لأنه رجل مجهول لديهم، ونكرة عندهم، فلا يعرفونه وظنوا فيه الظنون، وتوهموا فيه الأوهام؟! فهو استفهام إنكاري توبيخي بأن الأمر لم يكن كذلك، فهم جميعاً يعرفونه، فهو ابن وحفيد سيد مكة، وسيد جزيرة العرب عبد المطلب الذي كان موضع الإجلال، وموضع الإكرام، وموضع الاحترام من جميع أهل مكة، وكذلك كان والده الشاب عبد الله على صغره وعدم طول حياته ما كان يعرف إلا بالجد بينهم، وهكذا أمه آمنة ، فلقد كان صلى الله عليه وسلم من بيئة صادقة، ومن بيئة معروفة بالصدق وبالأمانة وبالشرف وبالذكر، وعرفوا النبي صلى الله عليه وسلم خلال الأربعين عاماً قبل الهجرة بالصدق والأمانة، أفهذا الذي كان لا يكذب على الخلق وعلى الناس لمدة أربعين عاماً أبعد الأربعين سيكذب على الله؟! حاشى لله، هذا لا يقبله منطق العقل، ولا منطق الفهم، ولا منطق الناس.

أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ أي: جاهلون، وشأن المجهول أن ينكر، ولم يكن نبيهم مجهولاً.

ومن هنا فعلماء الجرح والتعديل إذا وجدوا في السند مجهولاً عطلوا العمل به، وأوقفوه إلى أن يعرف، فإن بقي مجهولاً سقط السند والمتن والعمل به.

تفسير قوله تعالى: (أم يقولون به جنة ...)

قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [المؤمنون:70].

أو يعرفونه ولكنهم اتهموه بالجنون، فقالوا: تارة مجنون، وتارة شاعر، وتارة.. وتارة، أصحيح هذا؟ ليس الأمر كذلك، وإنما قالوها شتيمة، وقالوها انتقاصاً ولم يقولوها عن يقين، فهم كانوا يعلمون منه العاقبة النبيلة، فقد كان وهو في شبيبته سبباً لتوائمهم ولتآخيهم، فقد كادوا يتقاتلون عندما أرادوا وضع الحجر الأسود في مكانه بعد أن بنوه وقد خربته السيول، فأخذوا يتنازعون من الذي سيحصل على شرف رفعه من الأرض إلى مكانه من الركن، وإذا بواحد منهم يقول: مادمتم لم تتفقوا على واحد منكم فلنحكم أول آت، وإذا بالآتي هو محمد صلى الله عليه وعلى آله، فقالوا: حكمناك، وكل قد سروا لما يعلمون من عقله ومن فكره وحسن تدبيره، فقالوا: يا محمد إن قومك كادوا يشهرون السيوف في وجوه بعضهم؛ لشرف وضع هذا الحجر في مكانه فماذا تقترح؟ فقال: ائتوني بثوب، فأتوه بثوب، ورفعه بيده الشريفة ووضعه عليه، وقال: ليتقدم واحد من كل فخذ من كل قبيلة من قبائل قريش، ومن قبائل العرب الموجودة في مكة، فحضروا وحملوه معه، فنالوا جميعاً شرف رفع الحجر، وإذا به بعد ذلك يحمله بيده ويضعه في مكانه، وهدأت الناهرة، وسكتت الثائرة، وعادوا للإخوة والمودة.

وحضر معهم صلى الله عليه وسلم حلف الفضول، وحلف الفضول: أنه جاء رجل من الخارج عرض تجارة فأخذت ولم يأخذ أثمانها، فوقف يصيح: يا لقريش، يا عبد المطلب يا لفلان يا لفلان، أأظلم بينكم وتؤخذ أموالي ولا آخذ ثمنها؟ وإذا بكبرائهم يتنادون ويجتمعون في دار الندوة التي هي الآن الصفا والمروة، وكان برلمانهم وموضع شوراهم، وموضع مفاوضاتهم وكلامهم، فحضروا واتفقوا جميعاً وكانوا في ذلك متفضلين، أي: اجتمعوا من غير أمر يأمرهم به أحد.

وحضر معهم صلى الله عليه وسلم فزكى وأيد عملهم، وشجعهم عليه، وهو في العشرين أو تجاوزها بقليل، وقد قال في النبوءة عليه الصلاة والسلام: (لقد حضرت حلف الفضول ولو أدعى لمثله اليوم لأجبت) أي: لو يدعى إلى اجتماع الأمم، والاجتماع بين شعوب الأرض على نصرة الضعيف، والأخذ على يد الظالم الجائر البطاش لفعل ولأجاب صلى الله عليه وسلم، وكان بذلك قد شرع لنا أننا نتنادى ونتداعى لنصرة الضعيف مع أي إنسان يدعو إلى ذلك، فالإسلام يحرص على نصرة الضعيف، وزوال الظلم، وأداء الحقوق، وعدم أذية الخلق مؤمنين وغير مؤمنين، ولكن غير المؤمنين نطالبهم بالإسلام، فإن رفضوا فالجزية، فإن رفضوا فالسيف؛ لأن دين الله يجب أن يكون هو السيد وهو الشرع، وهو الحاكم في الأرض، ورايته هي الخفاقة دون سواها.

أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ [المؤمنون:70].

قال الله لهم: لم يكن به جنة، وهو أعلى من ذلك، وما كنا لنرسل رسولاً مجنوناً أو نبياً مجنوناً، فقد جاء بالحق ودحض به الباطل، وجاء بالقرآن وهو الحق من الحق، وجاء بالسنة بياناً للقرآن، وهي حق لشرح الحق، وجاء بدعوة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول، فقد جاء بالحق، ودعا إلى الحق، ونصر الحق، ورفع السيف لنصرة الحق ولمحاربة كل معاد للحق، بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ، وأكثر هؤلاء الجاحدين والمسرفين والكافرين يكرهون الحق، ويبتعدون عن الحق، ويتمسكون بالباطل.

والباطل هو كل ما سوى الحق، فكل ما سوى الإسلام باطل، وكل ما سوى الحقيقة الإلهية باطل، وكل ما سوى الحقيقة النبوية باطل، وكل ما ليس شرعاً وليس ديناً حقاً فهو باطل في باطل، وإنما الحق كتاب الله وسنة رسول الله، وإنما الحق ما دعا إليه الله ورسوله، ودان به المسلمون.

تفسير قوله تعالى: (ولو اتبع الحق أهواءهم ...)

قال تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:71].

هؤلاء الذين لا يتبعون إلا الباطل، وسموا الباطل حقاً، والحق هنا هو اسم من أسماء الله، والحق هو كل ما دون الباطل، فلو اتبع الله تعالى أهواءهم ونزواتهم وأنزل القرآن حسب هواهم وحسب رغائبهم: لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، ولو كان فيهما آلهة لفسدتا، ولعلا بعضهم على بعض، ولو طلبوا أن يعطى الأغنياء وأن يذل الفقراء لفسدت الأرض، ولو نزل القرآن على حسب أهوائهم ونزواتهم لفسدت السماوات والأرض، وفسد نظام الكون، ونظام الحياة، ونظام الأحكام، ونظام الدولة، ولذلك فالحق لا ينطق به إلا الحق، والحق هو الله جل جلاله، وهو الذي أنزل الحق كتاباً، وأرسل الحق رسولاً، وزاد الحق بياناً بالسنة النبوية لصاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام، ولذلك لا ينبغي أبداً للغوغاء وللمبطلين من الناس أن يستشاروا ، فهنا جاءت نظم برلمانية يدعون إليها باسم الديمقراطية، فيجتمع فيها كل من هب ودب.

وقد حدث هذا في كثير من ديار الإسلام، فهم يتذاكرون: أنقول: دين الدولة الإسلام؟ فقال الأكثر: لا، فتركوا، وبهذا الاعتبار حلت الخمور، وحل الزنا، وانتشر الفساد، وكثر الربا، وكثرت معصية الله في الأرض، وعم الفساد البر والبحر؛ لأن هؤلاء أرادوا أن يخضعوا الحق لأهوائهم، والله لم يجعل الحق إلا إلى أهل الحق، والله لم يجعل الحق في الشورى إلا لأولي الأمر منكم، ومن هم أولوا الأمر؟ هم العلماء وحكام المسلمين العادلون.

وقد قال الله تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، ويقول: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83] وأولو الأمر هم الذين يستنبطون، ولا يستنبط إلا عالم، ولا يستنبط إلا حاكم عالم، وأما أن تترك الأمور سبهللاً لكل جاهل، ولكل حيوان، ولكل من لا يستطيع أن يحكم في بيته مع زوجته ومع أولاده، فكيف نحكمه في رقاب شعب وأمة ودين وشرع؟! إن هي إلا الأباطيل، وإن هي إلا الأضاليل، وبذلك ضحك الاستعمار اليهودي والنصراني والشيوعي على عقول المسلمين، فأفسد برامجهم، وأفسد مدارسهم، وأفسد جامعاتهم، وأصبحوا يجرون خلف هذا الباطل ويقولون: حرية وديمقراطية.

وهكذا إذا كان هناك حيوان لا يكاد يميز بين كوعه من بوعه، وبين الحق والباطل، وبين المؤمن والكافر فإنهم يحضرونه فيما يسمونه بالبرلمان؛ ليعطي من الآراء ما هو ضد لله، وضد لرسول الله، وضد لكتاب الله، وضد لأحكام العدل وأحكام الحق، والله يقول عن هؤلاء وأمثالهم: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [المؤمنون:71]، وقد حدث، فأفسدوا الأرض وأفسدوا السماوات بطائراتها، فحتى في الأجواء يشربون الخمور ويفسدون مع الشابات ومع العجائز، فأفسدوا الأرض وأفسدوا السماء، ولكن هيهات فللباطل صولة ثم يضمحل، ويأبى الله إلا أن ينصر دينه وأن يرفع الحق وأعلامه، وهكذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق لا يضرها من خذلها وهي على ذلك إلى يوم القيامة).

وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ (من) اسم موصول تطلق على العاقل بانفراده، يقال: جاء الرجال، فتسأل أنت: من؟ فيقال لك: أحمد وعلي وأبو بكر، و(ما) اسم موصول يطلق على غير العاقل بانفراده، ويقال: جاء قطعان من الدواب والماشية، فتقول أنت: ما هي؟ فيقال لك: هي بقر وغنم وماشية، ولكن (من وما) إذا عمت فإنها تشمل العاقل وغير العاقل فتطلق (من) عليهما (وما) عليهما، والقرآن بهذا صريح في كثير من الآيات: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:284]، فما هنا تطلق على العاقل وغير العاقل.

أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ [يونس:66] (من) هنا للعاقلين وغير العاقلين.

وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ (من) هنا للعاقل وغير عاقل، من مدرك وواع وغير مدرك وغير عاقل.

قال تعالى: بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ الذكر هنا الشرف، يقول الله عن هؤلاء العرب الذين حاربوا نبي الله، وعن هؤلاء العرب الذين لا يزالون يعيشون بيننا ممن تنكروا لنبيهم ولدينهم ورجعوا القهقرى، فارتد من ارتد، وعصى من عصى، فألغوا الشريعة وألغوا الحكم وحكموا بغير ما أنزل الله.

بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ أتيناهم بشرفهم، والذكر هنا الشرف، وهكذا قال الله: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء:10]، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف:44]، وإنه لشرف لك يا محمد ولقومك؛ لأنهم هم الذين كلفوا بفهم الرسالة، وبنشر الرسالة، وببذل الأرواح رخيصة في سبيل الرسالة، وهذا واقع التاريخ، فالنبوات نزلت على العرب على محمد سيدهم صلى الله عليه وسلم، فالذين قاموا معه هم المهاجرون والأنصار في مكة والمدينة الحرمين الشريفين، ثم في بقية جزيرة العرب، وذهب صلى الله عليه وسلم للرفيق الأعلى والإسلام لم يخرج بعد عن جزيرة العرب، فخرج على يد العرب ابتداء من أبي بكر ، ثم لقي ربه، ثم قام عمر فنشر الإسلام في العراق وفي الشام وفي مصر وفي فارس وفي المغرب، وهكذا خلال نصف قرن عم الإسلام الأرض من أقصى بلاد الصين شرقاً إلى أقصى بلاد الغرب غرباً، وقال الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، فمن لم يكن كذلك لم يأمر بمعروف، ولم ينه عن منكر أو فعله، ولم يكن ذلك بناءً على الإيمان بالله، بل كان بفلسفات فارغة وبآراء باطلة، وكان بمذاهب وافدة يسمونها الاشتراكية والماسونية والوجودية والشيوعية مما أتى به اليهود، ودعا إليه أفراخ اليهود، فاستمسك به كذلك من ذل وأذل معه غيره بذلك، وتركوا كتاب الله وراءهم ظهرياً، وتركوا القيادة المحمدية، وتركوا قيادة الأصحاب من الخلفاء الراشدين والعشرة المبشرين بالجنة، وتركوا قوانينهم التي أتت بالحق ودعت للحق وكان فيها شرفهم، وكان فيه ذكرهم، فالله تعالى قرع هؤلاء: كيف تركوا القرآن وفيه شرفهم، وتركوا الإسلام وفيه ذكرهم وعزهم؟!

بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ أعرضوا عن شرفهم، وعن ذكرهم، وعن التنويه بهم؛ جهلاً وضلالاً، وانتحروا وذبحوا أنفسهم فخسروا الدنيا والآخرة، على أن المسلمين في الإسلام سواسية، (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، ولكن يبقى الحق ويبقى الشرف للداعية الأول ومن خلفه، فقد قال صلى الله عليه وسلم لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لأن يهدي الله على يديك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس)، فمن هدى الله على يده إنساناً من كفر إلى إيمان، ومن عصيان إلى طاعة، ومن زندقة إلى يقين وإلى إيمان صادق، فللمطيع الأجر والثواب، ولمن علمه ولمن وجهه أجره وثوابه، (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزورها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة).

تفسير قوله تعالى: (أم تسألهم خرجاً فخراج ربك خير ...)

أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [المؤمنون:72].

أي: يا محمد أم أكثرت عليهم وأثقلت كواهلهم وطلبت مالاً وأجراً على ما هديتهم إليه، فهو استفهام إنكاري قرعهم به وهو غير موجود، ولكن قال لهم: هل أنتم طولبتم بمال وبأجرة على كون محمد جاع من أجلكم وسهر من أجلكم وجرح من أجلكم وتحمل من أجلكم وكان حريصاً عليكم، وكان يحزنه ألا تؤمنوا، وكان عزيزاً عليه كفركم وجحودكم وبعدكم عن الإسلام؟ كلا، ومع كل هذا أبيتم إلا قتاله وإلا جحود هدى الله إلا من رحمه الله، وقد تم ذلك بعد ذلك: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128].

أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا [الطور:40] وهذا لم يحدث، فهو أيضاً استفهام إنكاري يقرعهم الله به ويوبخهم، فهل فررتم من دنانير ودراهم وأجرة على هذا الدين؟ فهذا لم يكن كذلك.

أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا أي: أجرة وشيئاً مضروباً عليكم كضريبة مقابل الهداية والإسلام.

أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا أم تسألهم يا محمد خرجاً، فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأجرة ربك خير لك، وثواب ربك خير لك، ومن هنا حرم صلى الله عليه وسلم الصدقة والزكاة على أهل بيته؛ حتى لا يقول المشركون: قد شرع في دينه ما يغني أتباعه وأولاده وأسرته، كالأسر الحاكمة عادة، فالله لأجل ذلك حرم ذلك ألبتة، وما كانوا يأخذون إلا ما تأخذه سيوفهم حرباً ونصلاً وغلاباً من غنائم وفيء، وذاك ليس لأحد الحق أن يمتن فيه؛ فلم يؤخذ من المسلمين، وإنما أخذ من الكافرين بعد أن ذلوا، فوزعت أموالهم، وغنم فيؤهم لهؤلاء المجاهدين والمقاتلين والمحاربين.

أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ قرئ: (أم تسألهم خراجاً) والمعنى واحد، وهي من القراءات السبع المتواترة، أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فلست في حاجة إلى مالهم ولا أوساخ أيديهم، فجعل الله رزق نبيه قبل النبوءة بالعمل، ففي الطفولة برعاية الغنم، فقد رعى الأنبياء جميعاً، وعند شبابه كان تاجراً في مال خديجة مضاربة، ووجد حصته بعرق جبينه وبكد يمينه صلى الله عليه وسلم، وبعد النبوءة قاتل وجاهد وكان على رأس المحاربين، فغنم الغنائم التي حللها الله للمؤمنين والمجاهدين والمسلمين، وجعل الكافرين ليسوا أهلاً لا لبلد ولا لتملكهم، فملك أرضهم وأموالهم حتى نساءهم وبناتهم إلى الفاتحين والمجاهدين، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ .

تفسير قوله تعالى: (وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم)

قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المؤمنون:73].

أي: أنك لم تطلب منهم أجراً، ولم تطلب منهم مالاً، ولم تطلب منهم رياسة، أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [المؤمنون:72].

قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المؤمنون:73].

أي: دعوتهم إلى الحق الواضح المستقيم الذي لا عوج فيه، ودعوتهم إلى العز والشرف، ودعوتهم إلى الصلاح، ودعوتهم للأمن، ودعوتهم لرفع الظلم، ودعوتهم للإحسان إلى الفقير، والرحمة بالأهل والولد وذوي الأرحام، وما دعوتهم إلا إلى الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا اختلاف ولا نزاع، وما الطريق المستقيم إلا كتاب الله الكريم، والإسلام البين الواضح، والسنة المطهرة التي كانت شرحاً وبياناً لكتاب الله، كما يقول الإمام الشافعي : ما من سنة وردت عن نبينا صلى الله عليه وسلم إلا وكانت شرحاً وبياناً لكتاب الله.

قال تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ [المؤمنون:74].

ولكن الناكبين عن الصراط، المنحرفين عنه، الزائغين أمامه، الضائعين الذين لم يتبعوا صراطاً مستقيماً، ولا هداية قيمة، هؤلاء الذين لا يؤمنون باليوم الآخر، والذين لا يؤمنون بالبعث بعد النشور، هؤلاء الكافرون المكذبون لأنبيائهم، الجاحدون لكتب ربهم، الناشرون للفساد بين الناس، السفاكون لدماء الناس، الذين لم يعيشوا وهم حال كفرهم إلا للفسق وللكفر ولنشر الظلم والباطل.

وأما طريق المؤمن، وأما ما يدعو إليه محمد صلى الله عليه وعلى آله فهو الصراط المستقيم، والحق الأبلج الذي ليله كنهاره لا يزيغ عنه إلا هالك.

تفسير قوله تعالى: (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر ...)

قال تعالى: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون:75].

قال ابن عباس حبر القرآن رضي الله عنه: (ولو) هي لمنع ما بعدها البتة، فحيث جاءت (ولو) في القرآن أو في السنة المطهرة فهي للمنع الأبدي لما بعدها.

وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ أي: هؤلاء المشركين الجاحدين وهم على شركهم، وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ أزلنا ضرهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حاربهم فانتصر عليهم، وجازاهم بالجريمة الواحدة عذاباً أليماً، فغزاهم في غزوة بدر، وقتل من قتل وأسر من أسر، وأخذ أموالهم، ودخل مكة ظافراً منتصراً عزيزاً سيداً، فأخذ البلد وجمع الكافرين وأنذرهم وتهددهم: (ماذا ترون أني فاعل بكم معاشر قريش؟ فقالوا له: أخ كريم وابن أخ كريم) وإذا به يرحمهم ويشفق عليهم، ويعفو عنهم عفو القادر، وترك لهم أجل الإيمان والإسلام، ففر من فر، وأسلم من أسلم، وحسن إسلام من حسن، وعاد من فر فأسلم وحسن إسلامه، وأباح دماء أربعة عشرة إنساناً: ست من النساء وثمانية من الرجال، وقال: (اقتلوهم ولو وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة)، فالحرم لا يجير عاصياً.

وقد أكثروا من إيذاء المستضعفين من المؤمنين الذين بقوا تحت سلطانهم وأهلهم في مكة، فأذلوهم واستعبدوهم شيوخاً وشيخات وأطفالاً صغاراً وكباراً، حتى قتلوا من قتلوا، وأمرضوا من أمرضوا أمراضاً مزمنة، فدعا عليهم صلى الله عليه وسلم وقال: (اللهم سنين كسني يوسف)، فأصيبوا بالجدب سنوات حتى اضطروا إلى أكل الكلاب وأكل الجيف، حتى ذهب إليه أبو سفيان فقال له: يا محمد! إنك تقول: أرسلت رحمة للناس، ونحن أرحامك وأهل بلدك وسدنة بيت الحرام، ادع الله تعالى أن يرفع ما بنا من ضر، فدعا لهم، فما زادهم ذلك إلا جحوداً، حتى مكنه الله من رقابهم ومن بلادهم فطهرها من الشرك والأوثان.

وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ، والسورة مكية، وهكذا كانوا، فكشف عنهم بعض ذلك في الدنيا لا في الآخرة، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48] ففي الدنيا قد يرحم الكافر إمهالاً؛ عساه أن يؤمن ويسلم، وعساه يوماً أن يقول: ربي الله.

وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ أي: من قهر ومن جدب وقحط وذل واستعباد، لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ لتمادوا ولأصروا على كفرهم وطغيانهم وضلالهم وعمايتهم.

يَعْمَهُونَ يتيهون في الأرض تيهاناً، فيفقدون البصيرة فلا يميزون حقاً من باطل، ولا ليلاً من نهار، ولا توحيداً من شرك، ولا إيماناً من كفر، وهكذا كان حالهم في الدنيا، فقد رحمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياناً وعاقبهم أحياناً، وما زادتهم رحمته إلا طغياناً وفساداً إلى أن مكنه الله من رقابهم، وأباد خضراء من بقي منهم على الكفر، وبعد ذلك بقيت جزيرة العرب كلها مسلمة.

وقال صلى الله عليه وسلم: (لقد يئس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب بعد اليوم)، فهذه بشرى بشر بها المصطفى منذ 1400 عام أن الجزيرة العربية لن ترتد عن الإيمان، ولن تصبح يهودية ولا نصرانية، ولن تصبح مشركة يوماً من الأيام، وقد تكون هناك جهالات، وقد تكون هناك ضلالات، ولكن العلماء والدعاة ومن وفقهم الله يعلمونهم، ويرفعون جهلهم، ويزيلون ضلالهم تبعاً لأسوتهم الأعظم صلى الله عليه وسلم، والعلماء ورثة الأنبياء، وهذا واجبهم في جزيرة العرب وغيرها من ديار الإسلام عامة، بل في الأرض كلها.

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ [آل عمران:110]، ومن الأمر بالمعروف في الدرجة الأولى الدعوة إلى الإسلام، والدعوة إلى لا إله إلا الله وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون)

قال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:76].

فهؤلاء عذبهم الله وانتقم منهم بالأسر والقتل والتشريد والطرد، وهذا في كل كافر وليس الأمر مقصوراً على العرب فضلاً عن قريش، فعل هذا باليهود في المدينة، فقتل في يوم واحد تسعة وخمسين واحداً، وأخرجهم من دورهم وأخذ دورهم، وطرد الكثير منهم، وأوصى بطرد الباقين، فما زادهم ذلك إلا كفراناً وجحوداً، ومن ذلك الوقت وإلى اليوم منذ 1400 عام ما زادهم ذلك إلا جحوداً وإلا حقداً على سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، وحين دخل هؤلاء القردة والخنازير إلى بيت المقدس أخذ منهم من كان يعيش في بلاد العرب يشتم محمداً صلى الله عليه وسلم باسمه، ويشتم المسلمين، وهذا استدراج من الله لهم، وسيخرجهم بعد ذلك في ذل وهوان مسحوقين بالأقدام، وصدق الله جل جلاله: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167]، فلا مندوحة ولا مفر من غضب الله عليهم الدائم، ولكن العلامة والإشارة بيننا وبين ربنا أن يدخلوا مرة ثانية إلى المقدس، وقد فعلوا وانتهوا، وسيأتي الله بمن يدمرهم ويذلهم وهم في ذل مع كل ذلك، ومن يسحقهم ويقضي عليهم، ومن يخرجهم لا من القدس فقط بل من جميع ديار المسلمين، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إلى يوم الحشر والنشر.

قال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا أي: ما خشعوا لربهم، وما ذلوا لربهم، وما اعترفوا بعقوبته، وَمَا يَتَضَرَّعُونَ لم يتضرعوا لله، ولم يطلبوا الله، ولم يذلوا لله، ولم يقولوا: اللهم اغفر لنا فقد أسأنا واعترفنا بذنوبنا، بل ما زادهم العذاب إلا كفراً وإصراراً على الكفر، وعداء وحقداً على محمد، والكتاب المنزل على محمد، وأصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة المؤمنون [68-76] للشيخ : المنتصر الكتاني

https://audio.islamweb.net