إسلام ويب

يمتن الله تعالى على عباده بأنه هو الذي أحياهم وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، وأنه الذي رزقهم وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، إذاً فهو المستحق للعبادة، فلم عبد المشركون غيره، واستكانوا لغيره ممن لا يصنع شيئاً ولا يضر ولا ينفع؟!

تفسير قوله تعالى: (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم ...)

قال الله عزة قدرته: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ * حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [المؤمنون:76-77].

لا يزال الله جل جلاله في هذه الآيات يسوق عذابهم ووعيدهم وتهديدهم فيما إذا بقوا مصرين على الكفر، وسادرين في الشرك، والكلام لهم وهو لأمثالهم كذلك متجدداً إلى يوم الدين.

ذكر جل جلاله أن هؤلاء بعد أن أرسل إليهم، وبعد أن بلغوا الدعوة، وبعد أن بقوا على الكفر والإصرار عليه، أخذهم الله بالعذاب الشديد، وأخذهم بالنقمة؛ لعلهم يرعوون، ولعلهم يتوبون، وإذا بهم يبقون على ما هم عليه، فلم يستكينوا ولم يذلوا لربهم، ولم يخشوا ربهم، ولم يمدوا أيديهم بالدعاء ضارعين داعين راجين، ولم يقولوا: ربنا اغفر لنا يوم الدين.

وقد دعا عليهم صلى الله عليه وسلم بسنين كسني يوسف، فقحطت الأرض، وأمسكت السماء غيثها وخيراتها، فجاعوا حتى جاء أبو سفيان كبيرهم يقول: يا محمد! إنك تزعم أنك أرسلت رحمة للعالمين، وهؤلاء ذوو أرحام قد قتلت رجالهم، وأجعت نساءهم، فادعُ الله لهم ليرفع عنهم ما هم فيه من بلاء، فدعا لهم، فرزقوا غيثاً مغيثاً، وخيراً عميماً، وإذا بهم ما زاداهم ذلك إلا كفراً وعناداً، ثم أسلم كبير نجد بعد أن أسره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ثمامة بن أثال فربطه في المسجد النبوي ثلاثة أيام، فكان عند صباح كل يوم يقف عليه صلى الله عليه وسلم عندما يخرج لصلاة الصبح ويقول: (هيه يا ثمامة ما عندك؟ فيقول له: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تعف تعفُ على شاكر، وإن ترد المال فلك ما تريد)، وكرر ذلك في اليوم الثاني ثم اليوم الثالث، وهذا جواب ثمامة .

وإذا به في اليوم الثالث يطلق سراحه صلى الله عليه وسلم ويعفو عنه، فيخرج الرجل فيغيب زمناً ثم يأتي إليه فيقول: مدّ يدك يا محمد! أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ولا والله يا رسول الله! لا يصل لقريش بعد اليوم حبة من القمح أو الحنطة من نجد، فأسلم ثمامة وأصبح من المجاهدين المنافحين المدافعين عن الإسلام ومن الصحابة المخلصين، وأمسك ميرته وأمسك حبه وأمسك حنطته على مكة، حتى ضاق بها المقام واشتد بها الجوع.

وهكذا عادوا مرة ثانية يستعطفون ويتوسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتوسط لهم إلى ثمامة ، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام ثمامة بأن يسمح بأن تذهب الحنطة والحب إلى أهل مكة، فما زادتهم هذه الشفقة والرحمة إلا كفراً وعناداً، فما استكانوا وما خشعوا وما ذلوا لله ولا آمنوا به، ثم لم يتضرعوا، ولم يتوبوا، ولم يمدوا أيديهم لله راجين داعين تائبين من شركهم وكفرهم.

قال تعالى: حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [المؤمنون:77] بقي هذا الإصرار، فكان عذاب الدنيا، ثم ماتوا فهلكوا ففتح الله عليهم باباً في جنهم ذا عذاب شديد.

هذا العذاب الذي كلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلوداً غيرها؛ ليذوقوا العذاب، فتح عليهم باباً من نقمته وباباً من عذابه المقيم الأبدي؛ لشركهم ولكفرهم، .. فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [المؤمنون:77]، فبعد أن ابتلوا ووجدوا ما كانوا ينكرونه في حياتهم من البعث والنشور، ومن العذاب على الشرك والكفر، وجدوا أنفسهم في واقع ذلك، وإذا بهم يقذفون في جنهم مع العذاب المؤلم، ومع العذاب الشديد، وإذا بهم إذ ذاك يرون من ربهم ما لم يكن يخطر لهم ببال، وهم مشركون كافرون جاحدون، وإذا هم مبلسون من رحمة الله، أي: يائسون، فيئسوا من رحمته، ويئسوا من مغفرته؛ لأن الله يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فلا مغفرة للشرك، ولا مغفرة للكفر، ولا مغفرة للجحود، وبعد أن بعثوا هيهات الرجوع، فقد مضت الأيام في الدنيا، فلم ينتهزوا شبابهم، ولم ينتهزوا دنياهم فيتوبوا إلى الله يوماً، ويقولوا: ربنا اغفر لنا يوم الدين، وهكذا قد يئسوا من الرحمة، وسلموا لملائكة غلاظ شداد كالحي الوجوه، لا يعصون الله ما أمرهم، وهم مطيعون في كل ما أمر الله به؛ جزاءً وفاقاً للكفر والشرك الذي صنعه هؤلاء في دنياهم.

حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [المؤمنون:77] أي: إذا هم في ذلك الباب وذلك العذاب الشديد مبلسون، أبلسوا أي: يئسوا، ولم يعد يخطر لهم ببال أن يرحموا، أو أن يستغفروا، أو أن يتوبوا؛ لأن الأمر أصبح أمر شهود وحضور، والإيمان لا يتم إلا في الدنيا إيماناً بالغيب، وإيماناً بتصديق الرسل، وإيماناً بكتب الله المرسلة على رسله، وأما وقد أصبح الأمر واقعاً فلا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار ...)

قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [المؤمنون:78].

اسأل هؤلاء من الكفرة والجاحدين، ومن أعداء الرسل والصالحين، ومن المكذبين بكتب الله التي جاءتهم، من الذي خلقكم من غير مثال سابق؟ ومن الذي خلق لكم الأسماع فأصبحتم تسمعون؟ ومن الذي خلق لكم الأبصار فأصبحتم تبصرون؟ ومن الذي خلق لكم القلوب فأصبحتم تعون وتفهمون؟ هل أولئك الذين جعلتموهم شركاء لله كمناة والعزى؟ أو مريم وعيسى؟ أو العزير والعجل؟ أو الملائكة الذين سميتموهم بنات الله؟ أو غير ذلك من جماد وحيوان وإنس وملك وجن؟ هل هم الذين أنشأوا وخلقوا لكم هذه الحواس فأصبحتم سامعين بعد إن لم تكونوا كذلك؟ فقد كنتم مضغة لحم، وكنتم نطفة، وكنتم جنيناً في أرحام أمهاتكم لا سمع ولا بصر ولا وعي لكم، ثم بعد ذلك رزقكم الله من الحواس ما تعيشون بها، وما تدركون بها، وتميزون بين الحق والباطل، فمن الذي أنشأ لكم ذلك واخترعه وخلقه وابتكره؟

(قليلاً ما تشكرون) قلما تشكرون الله على نعمه الظاهرة والباطنة، فالله أنزل وحياً وكتباً سماوية مع أنبيائه وعباده المكرمين من الرسل؛ لينذر خلقه، ولينذر عباده، فإذا جاءوه جاءوه متقين، وجاءوه سالمين من الشرك والكفر والمعصية والخلاف؛ لتبقى حجة الله البالغة، حتى إذا هلكوا وأصبحوا بأمس الدابر، ودخلوا قبورهم وجاء الملكان يسألان من في القبر: من ربك؟ ومن نبيك؟ وما صلاتك وما زكاتك؟ فإنهم يجيبون بما علموه، وبما قاموا به، وعبدوا به ربهم، وأما إذا جاء وقت السؤال فأخذوا يقولون: لا نعلم، ولم ندرك، سمعناهم يقولون: جاءنا نبي فلم نؤمن به، فيا هلاك هذا، ويا بلاءه ويا عذابه الدائم.

وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [المؤمنون:78] الضمير يعود إلى الله تعالى، والضمير هنا للغائب ولكنه يكاد يكون أعرف من كل معرف، فهو أعرف حتى من (أنا) للمتكلم، ومن (أنت) للمخاطب، فعندما يطلق (هو) فلا يعنى به إلا الله جل جلاله، وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ [المؤمنون:78] هو الله، الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ [المؤمنون:78] خلقه وابتكره، و(السمع) بالألف واللام هو للجنس، أي: الأسماع، أي: سمع كل واحد منا منذ خلق أبانا الأول آدم وأمنا الأولى حواء وإلى آخر إنسان في الأرض، وقد يبتلى الإنسان فلا يكون له سمع، ولا يكون له بصر، ويكون مجنوناً فلا يكون له وعي، ولكن هذا بالنسبة للمجموع يكون نادراً وقليلاً، والأصل في الأشياء العموم.

وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [المؤمنون:78] جمع بصر، والأفئدة: جمع فؤاد، وهو العقل، ويطلق على القلب، وبكليهما يعي الإنسان ويعقل، ولو أصيب قلبه لمات، ولو أصيب عقله لَجُنّ، فلا إدراك ولا وعي ولا فهم، قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [المؤمنون:78] يا أيها الناس! فلا تشكرون الله على نعمه الظاهرة والباطنة، ولا على ما أكرمكم به من مرسلين يأتونكم لتعلموا ولتؤمنوا، ولينذروكم يوم التلاق، يوم هم شاخصون، ويوم هم معروضون على الله.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون)

وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المؤمنون:79].

(ذرأكم) أي: خلقكم، فهو الذي خلقنا على الأرض، وملكنا إياها ومنافعها، فنأكل من ثمراتها ومن حيواناتها، ونشرب من مياهها، ونعيش في أجوائها صيفاً وشتاءً وربيعاً وخريفاً، وجعلنا خلفاءه في الأرض، فقال ربنا للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، فجعلنا خلفاء لنحكم بالعدل، وندعو لعبادة الله، ونقاوم الشرك، ونقضي على الظلم، فإذا قام الإنسان بهذه المعاني كان خليفة حقاً، وقد قام بما خلفه الله عليه، فإذا لم يقم كان مشاكساً، وكان مخالفاً، وكان عبداً عاقاً، فيعاقب بما يعاقب به العققة والمخالفين لأمر الله من المشركين والعصاة.

وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ [المؤمنون:79] أي: خلقنا في الأرض ولم يخلقنا في السماء، وجعل لنا كل ما عليها بحاراً وجبالاً وأشجاراً، رجالاً ونساءً، أطفالاً وخدماً، وجعل الكل مسخراً يخدم بعضهم بعضاً، وكلنا فقراء إليه، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، فمهما استغنى الرجل منا، ومهما ملك الرجل منا فهو يحتاج لمن يخبز له، ولمن يبني له، ولمن يطبخ له، ولمن يخيط له، ولمن يعالجه إذا مرض ولمن .. ولمن، وهكذا سخر بعضنا لبعض، وخدم بعضنا بعضاً، والغني المطلق الذي لا يحتاج إلى مؤازرة ولا مشاركة هو الله جل جلاله، ربنا وإلهنا وخالقنا عز وجل وتعالى مقامه.

وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المؤمنون:79]، فقد خلقنا مدة وزمناً معيناً له بداية وله نهاية، وأوجدنا من العدم، ثم سيميتنا، ثم سيحينا مرة ثانية، ويحشرنا إليه ونقف بين يديه لنحاسب على حياتنا وما صنعنا فيها: هل صدقنا رسلنا؟ وهل آمنا بربنا؟ وهل أطعناهم فيما أمرونا به وتركنا ما نهونا عنه؟ وهنا ذكر الحشر إنذاراً وتهديداً بأنه قد ذرأنا في الأرض ولم يتركنا عبثاً، ولم يخلقنا للعب والهوى، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فهل هذه العبادة التي خلقنا الله لها ومن أجلها قد قمنا بها حق القيام أو بعض القيام؟ وهل استغفرنا الله على النقص وعملنا جهدنا في بعض، عسى الله أن يغفر ذنوبنا؟ وأعظم شيء أن يعيش الإنسان موحداً وأن يموت موحداً، فيعبد الله ولا يشرك به أحداً، ويصدق رسله، ويصدق كتبه فمهما كان فهو إلى مغفرة في النهاية، إما بعد أدب وعذاب في النار، وقد يغفر ذلك بلا عذاب ولا نار، والله تعالى لا يسأل عما يفعل.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار ...)

قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [المؤمنون:80].

الله جل جلاله هو الذي أحيانا بعد أن لم نكن، وأوجدنا من العدم، فنحن نشعر بأنفسنا أحياءً ننطق ونتحدث، ونسمع ونبصر، ونلبس ونعرى، ونشبع ونجوع، ونشكر ونلغي الشكر، وهذا دليل على وجودنا، فنحن نتحرك ونعمل، ألم يفكر الكافر والمشرك يوماً: من أنا؟ ومن الذي خلقني؟ وما الفرق بيني وبين تلك الجثة التي فقدت الروح وهذا الجماد؟ ولِمَ كنت أتحرك قبل أن أموت؟ وما هي هذه الروح؟ وكيف تحركت يدي ونطق لساني؟ وكيف أبصرت عيني وسمعت أذني؟ وكيف وعى قلبي؟ وكيف حفظت ما حفظني الله إياه من علوم في الشريعة أو في الدنيا؟

ومن الذي أعطاني هذا العقل أفكر فيه؟ فالمؤمن يقول على كل شيء: الله الخالق الرازق المنشئ، مالك كل شيء، والكافر يذهب فيقول كلاماً قلد فيه الآباء والأجداد، فتكلم بما لم يعلم، وهرف بما لم يعرف، وأخذ يقول كلاماً هو كلام المغرورين والمجانين، وكأنه ظن أنه سيخلد أبداً، فلم ينظر إلى من سبقه من أبٍ أو جد أو كبير أو صغير وقد كانوا يوماً أعظم سلطاناً وأقوى شباباً وأغنى جاهاً وأكثر ترفاً ومقاماً، ومع ذلك ذهبوا مع الذاهبين، فقد جاءا من التراب ثم ذهبوا إلى التراب، أفيظن أن ذلك قد كان ثم لا عيشة ولا بعثة ثانية؟ هيهات، فالله ينبئنا في دار الدنيا أن نفكر يوماً ونعتبر، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [المؤمنون:80]، فأما الحياة فرأيناها، وسل الأولين والآخرين ومن يدعون العلم اليوم: ما هي الروح؟ وقد سأل هذا السؤال الآباء والأجداد ومن عاصروا الوحي وعايشوا محمداً صلى الله عليه وسلم، وقال له الله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، فإذا أخذنا نفسرها ونشرحها بأنها الحركة وبأنها الإدراك فيكون هذا شرح الجهلة وليس حتى شرح المبتدئين في رياض الأطفال، فالحركة ليست إلا أثراً لها، والنطق ليس إلا أثراً لها. ولكن ما هي الروح؟ ما هو هذا الشيء الذي دخل أجسامنا وحرك عروقنا وأجرى دمائنا وتركنا نعي ونسمع ونعقل مائة سنة أو عشر سنوات أو أقل أو أكثر هذا ما لم يبلغه الأطباء ولا علماء تشريح والجسد، فهم يدخلون فيه جهالاً ويخرجون منه ولو بعد ألف عام جهالاً، وقد قال الله لنا: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، وإياكم أن تطغوا وتتجبروا وتقولوا: قد علمنا، فلم تعلموا شيئاً، ولذلك علم الله نبينا صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق على الإطلاق، فقال له: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، فالنبي صلى الله عليه وسلم الخليل المختار كان في حاجة دوماً إلى المزيد من العلم، وموسى عندما سئل وهو من أنبياء الله عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: هل هناك أعلم منه، قال: لا، وإذا بالله الكريم يؤدبه على هذه الكلمة، فيقول له: بلى عبدنا خضر، فيتعبه ويسافر إليه ويذهب من المشرق إلى المغرب إلى مجمع البحرين والبحر المحيط في أرض طنجة كما قال الصحابة والتابعين، إلى أن وجد رجلاً عادياً في المنظر، يجلس على حشيش أخضر، يتعبد الله باكياً خاشعاً ذليلاً، ولا يزيد على أن يقول: رب اغفر لي يوم الدين، قال له: السلام عليكم، قال: من أنت؟ وأنى السلام في أرضك؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. فكان ما قص الله علينا في سورة الكهف.

والشاهد: أنه جاء عصفور صغير فنقر نقرة وأخذ قطرة ماء من البحر، فالتفت الخضر إلى موسى وقال: يا موسى! أترى أن هذا العصفور نقط من هذا البحر شيئاً؟ قال: لا، قال: ما علمي وعلمك أمام علم الله إلا كهذه القطرة يأخذها هذا الطائر من هذا البحر! وهكذا سنقول دوماً ولو عشنا ما عاشه نوح وزدنا: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، فقد قالها لسيد الخلائق وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، فكيف بنا؟!

قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [المؤمنون:80] فأحيانا وأوجدنا من العدم، وسيميتنا بعد، ثم يعيدنا في يوم البعث والنشور للحساب على الأعمال في الدنيا.

قال تعالى: وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [المؤمنون:80] لله الليل والنهار واختلافهما، فهذا أسود مظلم إذا مددت يدك وخاصة في الليالي التي لا قمر فيها ولا هلال لا تكاد تراها، والنهار أبيض مشرق، وتارة هذا قصير وهذا طويل وتارة العكس، وهكذا يتعاقبان، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ [يس:40]، فهما يختلفان في الأوقات والأزمان، وفي الألوان، وفي الأحوال، فمن الذي جعل السواد سواداً، والنهار بياضاً، والليل ليلاً والنهار نهاراً، وجعل هذا بياتاً وراحة وجعل النهار معاشاً وجهاداً وسعياً في الرزق وما إليه؟ إنه الله جل جلاله.

وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [المؤمنون:80] أليس لكم عقول تفكرون فيها يوماً؟ فمن أنت؟ وأين كنت قبل أن يتزوج أبوك بأمك؟ ومن كان يعلم بوجودك، ومن أين أتيت؟ ومن الذي أوجدك؟ وقل ذلك عن أبيك، ثم قله عن ولدك، ثم قله عن حفيدك، وما تقوله عن واحد هو الذي يقال عن جميع الخلق، ثم ترى الموتى ليلاً نهاراً في كل صلاة وفي كل صباح وفي كل مساء، فنصلي على الميتة، وعلى الطفل، ألم يخطر لك ببال أنه سيأتي دورك يوماً ويقول المؤذن: الصلاة على الجنازة؟ فماذا أعددت لهذه الساعة، وماذا أعددت لهذا الوقت، ثم بعد الدخول للقبر ماذا أعددت جواباً لسؤال الملكين الكريمين المكلفين من قبل الرب جل جلاله؟ فنحن ونحن أطفال ونحن كبار إذا هددت بسؤال أستاذ فإنك تخاف أن تجيب خطأ فستكون فضيحة، فتسهر وتذاكر حتى لا تفضح.

فكيف إذا علمنا أننا يوماً ما سنسأل من رسل الله الملائكة، ثم يعطون الجواب لله جل جلاله، هل كنت على الإسلام أو الكفر؟ وينبني على ذلك: أن تدخل النار أو الجنة، وأن تعذب أو تنعم إلى يوم القيامة.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة المؤمنون [76-80] للشيخ : المنتصر الكتاني

https://audio.islamweb.net