اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الروم [9-15] للشيخ : المنتصر الكتاني
يكشف الله جل جلاله عن هؤلاء الذين يعاصروننا ممن لم يعلم إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، والسورة تسمى سورة الروم.
والقضية متعلقة بالروم وهم سكان أوروبا وسكان أمريكا بعد ذلك، فهؤلاء الروم النصارى وصفهم الله بأنهم لا يعلمون، وإذا علموا فعلمهم سخيف تافه ليس إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، وأما الباطن من الدنيا فلا يعلمونه، فهم لا يعلمون أسرار هذا الكون سماء وأرضاً، بشراً وخلقاً، طيراً وجناً، وحيوانات ودواب، وهم وإن كانوا يرون ذلك ويمرون عليه، فإن مرورهم مرور الغافلين.
أما من أين أتينا؟ ولماذا خلقنا؟ وإلى أين نسير بعد الموت؟ فهذا مما غفلوا ويغفلون عنه، فهم لا يعلمون ظاهره ولا باطنه، ولا يعلمون اسمه ولا حقيقته.
ثم أخبر سبحانه عن هؤلاء الذين لا يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، فقال: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الروم:9] أي: لماذا لم يسيروا بأنفسهم سائحين ومنتقلين ومتعلمين، ومطلعين عن أحوال تلك الأمم السابقة والشعوب البائدة، وأنها حين كفرت بالله وكذبت رسله ولم تؤمن بما أنزل الله من كتب من السماء دمروا ولم تبق إلا خرائبهم ودورهم التي لم تعمر إلا قليلاً، وأهلكهم الله نتيجة كفرهم، ونتيجة إبائهم الإيمان والإسلام والعلم بما يجب أن يكون عليه الإنسان الذي خلقه الله في الأرض، وأن الله ما خلقه إلا لعبادته، ولا تكون العبادة إلا بالعلم.
وما العلم إلا علوم الآخرة وعلوم الدنيا التي تكون موصلة للآخرة نعلم منها أسرارها وبواطنها، كما أن العلوم الأخرى قد تكون علوماً موصلة للأخرى إذا قصد بها الله والدار الآخرة، وإذا علم منها ومن حقيقتها ومن باطنها أنها من الله، وأنها لخدمة عباد الله، فإن تكلمنا عن الطب مثلاً وقلنا: إن الله الخالق لهذه الجوارح وأن الطبيب ليس بيده خلق قطعة قد زالت، ولكن بيده الترقيع، فهذا لا بأس به، وقل نفس ذلك عن المهندس: إنه لا يعلم إلا خطوط البناء والعلو وما يحتاج إلى عمق الأرض، وقل مثل ذلك عن الصيادلة، وأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ما خلق الله داء وإلا وخلق له دواء إلا السام).
ففي كل عشبة من هذه الأعشاب، وفي كل نبتة من هذه النباتات التي خلقها الله بقدرته دواء من أدواء أمراض الناس، علمها من علمها وجهلها من جهلها، ثم الله ينذر هؤلاء الكفرة ويأمرهم أن يأخذوا الحقائق وما يمكن أن يستفيدوا منه، وذلك بالضرب في الأرض، فينظروا عواقب من مضى من الأمم والخلق كيف كانت نتائج كفرهم، كانت خراباً ودماراً، ولم تبق إلا خرائبهم لتدل عليهم، وإلا البوم والغراب ينعق في خرائبهم، وهم بين يدي الله يحاسبون على الشاذة والفاذة بسبب خلافهم وكفرهم.
والاستفهام في قوله: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الروم:9] جوابه المقدر: هو أنهم كانوا كفرة، فكانت العاقبة دمارهم وخرابهم واندثارهم وبوارهم.
ثم أخبر الله عن أولئك الماضين فقال: كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا [الروم:9]، أي: كانوا أكثر قوة في أبدانهم، وأطول أعماراً في سنيهم، وأكثر ذكاء في أعمالهم وصنائعهم، وأكثر شدة في بأسهم وسلطانهم، وتغلبوا على الشعوب من أمثالهم، واستطاعوا التصرف في الأرض والحضارات، وأثاروا الأرض وعمروها وزرعوها وحرثوها واستنبتوها، وغرسوا فيها الأشجار والبساتين والرياض، وشقوا فيها الأنهر والغدران، وصنعوا على البحار الموانئ التي يستطيعون الوقوف بالبواخر والبوارج والسفن عليها.
فقوله: وَأَثَارُوا الأَرْضَ [الروم:9] أي: استخرجوا معادنها وخيراتها وذهبها وفضتها، وما فيها من ثروات وكنوز، كل ذلك عملوه بقوتهم وبذكائهم، فكان لهم من القصور ما لا نزال نرى آثاره إلى اليوم، فهذه أهرامات مصر شاهدة على ذلك، وقد مضى عليها الآلاف من السنين، والصخرة الواحدة من هذه الأهرامات تزن الآلاف من الأطنان، فكيف قطعت من جبال سيناء وجبال الطور؟ وكيف قطعت على هذا الشكل؟ وعلى أي الآلات حملت؟ وكيف رفعت بعد ذلك على هذه البنية؟!!
وكذلك قل عن آثار بابل في أرض العراق، وقد أراد هارون الرشيد يوماً أن يبني قصوراً في مكانها، فقال له وزراؤه من البرامكة: يا أمير المؤمنين! هي خرائب لا تخرب ولا يؤثر فيها الحديد والفولاذ، قد تهدمها سنوات ولم تهدم، ويصعب علينا أن يقال: بنى الأولون ما عجزنا عن تخريبه، والخراب أيسر من البناء.
فلم يلتفت الرشيد إلى كلامهم وأمر بهدم ذلك، وبعد سنتين من الهدم والتخريب لم يكادوا يخربون إلا جزءاً لا يتجاوز الأمتار من الجدران، فاضطر لأن يترك ذلك، وهو إلى الآن لا يزال كذلك، أما كيف بنوه، ومن أي مادة صنعوه؟ فلا نعلم حقيقة ذلك، فتلك من الآثار التي يشير إليها القرآن الكريم.
وينبغي أن يعلم هؤلاء المعجبون بأنفسهم وبقوتهم وبحضاراتهم أن من مضى من الأمم كانوا أكثر منهم وأشد قوة، ومع ذلك قد بادوا وذهبوا واضمحلوا.
وقوله: وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا [الروم:9] أي: زرعوها وغرسوها ونبشوا عن المعادن واستفادوا منها، وبنوا على الصخور الآثار والقصور الرفيعة والمدن والقرى.
فهم صنعوا كل ذلك مما جعل المعاصرين يعجبون من ذلك ويعجزون أن يصنعوا مثل ذلك أو ما يقاربه.
وقوله: وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [الروم:9] فهؤلاء مع شدتهم وقوتهم وحضارتهم ومدائنهم وسلطانهم عندما جاءتهم الرسل بالبينات وبالدلائل الواضحات على صدق رسالتهم غفلوا وتغافلوا أو كذبوا، فكانوا لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، وإنما جاءهم أنبياؤهم المرسلون إليهم ليعلموهم وليرشدوهم ويعطوهم من بواطن الدنيا كما علموا من ظواهرها، ومن علوم الآخرة التي جهلوها، لكنهم أبوا إلا الجحود والكفران والمخالفة والعصيان.
وإذا بالله الكريم يعاقبهم في الدنيا والآخرة، وكان عذاب الآخرة أشد وأنكى، أما عذاب الدنيا فقد ظهر جلياً بما تركوا من آثار وخرائب تدل على ما أصابهم من غرق وصعق وقلب الأرض عاليها سافلها، وصيحات وزلازل وصواعق من الأرض والسماء لا تزال آثارها في مختلف بقاع الأرض.
قال تعالى: وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [الروم:9]، أي: لا يليق بعدل الله وجلاله أن يظلم أحداً، قال تعالى: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
وفي الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، وهؤلاء ظلموا أنفسهم بكفرهم وبكونهم لم يصدقوا أنبياءهم وما جاءوا به من رسالات وكتب، فكانوا ظالمين لأنفسهم بما أصابها من لعنة وخراب ودمار.
(عاقبة) بالضم على أنها اسم كان، وقرئت: (عاقبة) بالفتح على أنها خبر كان مقدم، والسوأى: هو المبتدأ.
فقوله: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى [الروم:10] أي: الذين أساءوا وكفروا، وما ظهر منهم إلا السوء والإجرام والكبر والكفر والعصيان، والسوأى تأنيث الأسوأ، كالحسنى تأنيث الأحسن، أي: أتوا جرماً أعظم ما يكون سوءاً وهو الكفر بالله وبرسل الله، فكان عاقبة هؤلاء الكافرين أن أصيبوا بذلك البلاء وتلك العقوبة؛ نتيجة كفرهم وجحودهم وعصيانهم، وكان ذلك عاقبة أمرهم ونهاية حياتهم، والقضاء المبرم على وجودهم.
وليست (السوأى) مفعولاً لأساءوا.
وقوله: وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون [الروم:10]، أي: كانوا يستهزئون بأنبياء الله، ويستهزئون بالكتب المنزلة من السماء عصياناً وتمرداً.
وهذا تهديد ووعيد للكفار الذين لم يؤمنوا برسول الله عندما جاءهم، سواء كانوا من كفار العرب أو غيرهم، فقد هددوا وأنذروا وأوعدوا بعاقبة كعاقبة الذين سبقوهم، وبنهاية كنهاية تلك الأمم التي عوقبت في الدنيا قبل الآخرة غرقاً وتدميراً وصعقاً وزلازل وقلباً للأرض عاليها سافلها، مما لا تزال الآثار في الأرض بعضها ظاهر وبعضها يظهر بالحفريات والكشف عن الأثريات.
يقول الله لخلقه وعباده: يا هؤلاء لقد رأيتم أنفسكم وقد خلقت وأوجدت من العدم من غير أي شيء سابق، ألا تأخذون ذلك دليلاً وبرهاناً على أن من بدأ الخلق قادر على أن يعيده وهو أهون عليه؟ والكل هين عليه جل جلاله فهو لا يحتاج لأكثر من أن يقول: كن فيكون، ولا يحتاج لأكثر من إرادة، فيكون ما يريد جل جلاله.
فقوله: اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ [الروم:11]، أي: هو الذي أنشأ الخلق على غير مثال سابق، أوجدنا من العدم، ونحن نرى أنفسنا ونعيش في واقعنا، ونرى الخلق في كل أشكاله وأنواعه، فمن خلقهم؟ من دبرهم؟ من رزقهم؟ من أحياهم وأماتهم؟ من أحياهم وأماتهم قادر على إعادتهم ونشأتهم النشأة الثانية في الحياة الآخرة.
عندما يضرب الله للناس الأمثال والأشباه والنظائر؛ ليتعلموا بالمعلوم المجهول، وبالواقع المستقبل، وبالدنيا الآخرة، فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46].
وقوله: اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الروم:11]، أي: هو الذي يعيد الخلق مرة أخرى فينهي الدنيا ويفنيها، ويعيد الحياة الثانية يوم البعث والنشور، فيوم العرض على الله في الآخرة التي لا فناء لها ولا موت، فمن دخل الجنة فهو خالد فيها أبد الآبدين، ومن دخل النار فهو خالد فيها دهر الداهرين، لا موت ولا فناء، وإنما الموت والفناء لدار الدنيا وما فيها ومن عليها.
إذاً: نحن نرى أن الله قد بدأنا بواقعنا وحياتنا، ومن قدر على ذلك قدر على الإعادة، فهو كما ابتدأنا سيعيدنا إعادة ثانية، وهذه دعوة للإيمان بالبعث، فمن لم يؤمن بالبعث بقي على كفره، ويكون قد كذب الأنبياء جميعاً السابقين واللاحقين وخاتمهم صلى الله عليه وسلم، ويكون قد كذب بالرسالات والنبوءات والكتب السماوية جميعها، فالبعث حق والحياة الثانية حق، كما أن الإنسان حق أن يعاد يوم القيامة مرة ثانية؛ ليعرض على الله ويحاسب على عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
وقوله: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الروم:11]، أي: إلى الله يرجع الخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم، رجالهم ونساؤهم، إنسهم وجنهم.
أي: عند قيام الساعة يوم القيامة في الدار الآخرة يبلس المجرمون، والإبلاس هو السكوت في ذهول وتيه وضياع، فهم يجدون أنفسهم في واقع لا ينكرونه وذلك عندما يسألون: أليس هذا الذي وعدتم في الدار الآخرة، كيف كذبتم به في الدنيا، ها أنتم الآن قد بعثتم بعد الموت؟ فلا يحيرون جواباً، ولا يتحركون ولا ينبس أحدهم ببنت شفة.
وفسروا الإبلاس باليأس من رحمة الله ومنه سمي إبليس، فهو يئس من رحمة الله، والإبلاس الكفر، والإبلاس الشرك والجريمة، وبكل هذه المعاني تفسر هذه الفقرة من الآية الكريمة، فيوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ويخرسون فلا يحيرون جواباً؛ لعجزهم عن إيجاد الدليل والبرهان، فهم لا يجدون برهاناً ولا دليلاً يعتذرون به عن سابق كفرهم وشركهم.
أي: عند ذلك يتركهم الشركاء الذين عبدوهم جهلاً وفساداً في الأرض، وقالوا: ثالث ثلاثة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ومنهم من جعل العجل إلهاً، ومنهم من جعل مريم وعيسى إلهين، ومنهم من جعل الأخشاب والأحجار آلهة، ومنهم من جعل من الجن والملائكة والبشر آلهة، وكل أولئك سيتخلون عنهم يوم القيامة، ولا يشفعون لهم عند الله بعدم دخولهم النار وإطلاق سراحهم من اللعنة والغضب، هيهات هيهات، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، ولن تكون شفاعة إلا لمن أذن له، ولن يأذن للشفاعة إلا لمن رضي عنه من الملائكة والرسل وصالحي الناس.
أما أن يشفع كافر فلن يكون ذلك ألبتة، ومعاذ الله أن يكون لله شريك ومعه شريك، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [النجم:23].
وقوله: وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ [الروم:13] أي: وكان هؤلاء الشركاء والأصنام كافرين بعبادتهم، كما يكفر المتبوع بالتابع ويتبرأ منه، إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [البقرة:166]، أي: تقطعت أسباب المودة التي كانت في الدنيا، والصلة التي كانت بينهم المبنية على الكفر والشرك، ولن يدوم في الآخرة إلا الود في الله والحب في الله، قال الله تعالى: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، لن تدوم خلة ولا صداقة ولا مودة إلا مودة الأتقياء، أما من كانت مودتهم مبنية على الفسق والعصيان والشرك والجحود فهؤلاء ينقلبون أعداء لبعضهم يوم القيامة، ويلعن بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض.
أي: يوم تقوم الساعة يوم القيامة في ذلك اليوم يتفرق المؤمنون والكافرون، يصبح المؤمنون في أعلى عليين، والكافرون في أسفل سافلين، وتجمع النار الكافرين كما تجمع الجنة المؤمنين، ولا تصبح هناك صلة ولا اجتماع بينهم، بل تكون فرقة أبدية كما قال الحسن البصري بياناً وتفسيراً لكلام الله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم:14]، قال: يتفرق المؤمنون إلى الجنة، والكافرون إلى النار، ويفترقون عن المؤمنين فرقة أبدية.
ويميز المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، وتحشر كل طائفة وكل ملة مع نظيرها ومثيلها في نار جهنم، فلا يجتمع مسلم بكافر ولا كافر بمسلم، وإن كان أهل الجنة يحاورون أهل النار ممن حاول أن يضلهم في الدنيا، فيحمد الله أن أنقذه الله من فسق هذا الكافر ومن دعوته الباطلة، ومن شركه المزيف، وأن فرق بينه وبينه.
(أما) أي: اضرب عن القول السابق في عذاب الكافرين وعقباهم من لعنة في الدنيا ونار دائمة يوم القيامة ومن فرقة بين المؤمنين والكافرين هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الروم:15]، يعني: أما الذين آمنوا بالله رباً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبالمؤمنين إخوة وبالكعبة قبلة، ثم بعد هذا الإيمان القولي صدق الخُبر الخبر، فصدق الجنان اللسان، وصدقت الأركان الجنان، فصلوا لله جل جلاله خمس صلوات في اليوم والليلة، وصاموا شهر رمضان، وحجوا بيت الله الحرام إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وأدوا زكاة أموالهم إن كانوا يملكون النصاب ومضى عليه الحول، وتركوا المنكرات بكل أشكالها، قال صلى الله عليه وسلم: (ما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه).
والفعل يفعل قدر الطاقة والاستطاعة، وأما النهي فيكون باتاً كاملاً، فيتركون المنكرات والفواحش ظاهرها وباطنها، فهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ [الروم:15].
والحبور: السرور وحضور النعمة.
والروضة مفرد الرياض، أي: الجنة والجنان.
فهم في الجنان مسرورون منعمون مكرمون، قد رحمهم ربهم لعبادتهم ولتوحيدهم ولعملهم الصالح، وفرق بينهم وبين أولئك الذين كانوا في دار الدنيا يهزءون بهم وبدينهم وبكتابهم وبنبيهم، وكان نتيجة كفر أولئك النار وغضب الله، وكان نتيجة صبر هؤلاء واستمساكهم بالدين الحق والإيمان والعمل الصالح أن أنعم عليهم وكرمهم في سرور وحبور ونعم دائمة، كما قال تعالى: لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة:33]، وقال: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ [الزخرف:71]، وقال صلى الله عليه وسلم: (فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر).
وسنة الله في كتابه أنه يذكر رحمته مع غضبه، وغضبه مع رحمته، ويذكر الجنة ثم النار، والنار ثم الجنة، ويذكر المؤمنين وأعمالهم، ثم الكافرين وأعمالهم، بين الرجاء والخوف؛ حتى إذا رجا كثرت طاعته وابتعد عن الشرك، وإذا خاف ترك المنكرات ظواهرها وبواطنها، فتارة يصنع ذلك، وتارة يعرض عليه صور كأنه يراها رأي العين، وضرب الأمثال سنة الله في كتابه.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الروم [9-15] للشيخ : المنتصر الكتاني
https://audio.islamweb.net