إسلام ويب

نعم الله على الناس متوالية، وآيات قدرته متكاثرة، ودلائل وحدانيته ونصره لرسله والمؤمنين عظيمة باهرة، فمن ينظر في آثار رحمة الله تدله على ذلك.

تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات...)

كان أسلافنا في السنوات الماضية لا يسافرون إلا بواسطة الرياح، ولا يبتغون الرزق والتجارة إلا بها.

فإن جاءت الرياح موافقة حيث شاء الركبان والمسافرون فهي المباركة، وإن وقفت الرياح وقفت السفن، فلا رحلة ولا سفر ولا تنقل.

وإن جاءت معاكسة لاتجاه السفن جاء البلاء، فقد تعود بالسفينة من حيث خرجت، وقد تكون قد قطعت شهراً أو أكثر في البحار وإذا بها وقد أتتها الرياح معاكسة تعود بها من حيث بدأت، وخرجت من حيث كانت.

ومن هنا يقول الشاعر:

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.

والرياح تجري عادة بمشتهاها ومبتغاها، فقد تكون مشرقية أو مغربية، جنوبية أو شمالية، فإذا جاءت معاكسة لخط السير وجريان السفن فهو البلاء والخطر على السفينة، وأقل ذلك البلاء أن تعود السفن من حيث خرجت.

وأشد البلاء أن تقف بها الرياح فتتلاعب بها الأمواج وتتلاطم، وإذا هو الغرق أو الخطر والإنذار بالغرق.

وقوله تعالى: وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ [الروم:46] الله تعالى يرسل الرياح ليذيق الناس من رحمته، وهي خيره وبركته ورزقه.

ويرسل الرياح لتجري الفلك بأمره، وإذنه وإرادته حيث شاء من مشرق أو مغرب.

وقوله تعالى: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [الروم:46] أي: بواسطة هذه الرياح المبشرة تبتغون من فضل الله؛ من تجارة، وزراعة، وكل ما يكون الإنسان محتاجاً فيه إلى الرحلة والسفر، والجري في الأرض، والسفر يكون براً وبحراً، وقد أصبح جواً كذلك.

والبحار لا بد من قطعها للسفر لما وراءها لبغية التجارة وللكسب وللمعاش وللحياة، فعندما تأتي الرياح موافقة لسير السفن تكون مبشرات بإذن الله وبأمره.

فالرياح تأتي لخير الناس وخصبها، لإنبات الأرض بالزرع، ولسقيها بالأمطار، ولتجري الفلك بأمر الله، وليبتغي الناس من فضله.

وقوله تعالى: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الروم:46].

أي: ولعلكم يا هؤلاء العباد تشكرون الله على نعمه، وأرزاقه، وعلى ما أكرمكم به من مختلف ما خلق لكم على وجه الأرض وفي السماء وما بين السماء والأرض.

والذي من ذلك الرياح، فهي تأتي مبشرات بالغيث والمطر، وبجريان السفن، وبابتغاء الفضل، وهو التجارة والأرزاق والأرباح لعلكم بعد ذلك تشكرون الله على نعمه الظاهرة والباطنة، ما لو ظللتم كل حياتكم ساجدين وراكعين لله لما أديتم جزءاً من شكر نعم الله.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم ...)

قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47].

أي: ولقد أرسلنا -يا محمد- من قبلك رسلاً إلى قومهم وعشائرهم.

وهذه الآية تعزية وتسلية للرسول عليه الصلاة والسلام في أنه إذا وجد من بعض قومه أو من بعض أمته من لم يطعه لم يؤمن به، بل وعاكسه وقاومه وكفر بما جاء به، فلقد أرسل قبله أنبياء، فكذبهم أقوامهم وكفروا برسالتهم، فعاقب الله من عاقب، ورحم من رحم، وقليل هم الذين آمنوا وأسلموا، قال تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ [الواقعة:13-14].

وكان الأنبياء قبل البعثة المحمدية يرسلون إلى أقوامهم خاصة، فأديانهم قومية وليست بعامة عالمية، أما الرسالة المحمدية فقد اختصت بكونها عامة وعالمية للخلق كلهم في مشارق الأرض ومغاربها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد مماته.

وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في بيان هذه المعاني التي جاء فيها آيات كثر: (كان الأنبياء قبلي يرسلون إلى أقوامهم خاصة وأرسلت إلى الناس عامة).

فليست اليهودية والنصرانية ديانتين عالميتين، إنما هما ديانتان إسرائيليتان خاصتان باليهود والنصارى من بني إسرائيل، فمن آمن بأحدهما في عصرها لم يطلب منه إلا ذلك، ولم يرسل الرسل الآخرين إليه، وبموت الرسل انتهت رسالاتهم.

وبظهور النبي عليه الصلاة والسلام كانت هاتان الرسالتان قد بدلتا وغيرتا وحرفتا وبالظهور المحمدي نسختا برسالة الإسلام فأصبح الدين الحق والمقبول عند الله هو الدين الذي أتى به نبينا عليه الصلاة والسلام وحده.

قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]، وقال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19].

أي: إن الدين الحق والمقبول عند الله هو الإسلام لا سواه ولا غيره.

وقوله تعالى: فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [الروم:47].

أي: فجاء هؤلاء الرسل قومهم بالبينات والمعجزات والدلائل القاطعات على صدق رسالتهم، وصدق ما بعثوا به من وحي حق، ومن كتب سماوية حق، فآمن من آمن وهم قليل.

ولذلك قال الله بعد ذلك: فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا [الروم:47].

أي: آمن قلة ولكن الكثير أجرموا، فارتكبوا أعمال المجرمين، فكذبوا رسلهم وكذبوا الوحي الذي جاءوا به، وكذبوا الكتب السماوية المنزلة عليهم فكانوا مجرمين بذلك، فانتقم الله منهم وسلط عليهم أنواع العذاب والنقمة والشدة بما نسوا به ما كانوا عليه، حتى إذا بعثوا يوم القيامة كان عذاب الله أشد وأكثر نقمة، وأدوم عذاباً ومقاماً.

وقوله تعالى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47].

جعل الله على نفسه حقاً واجباً أوجبه على نفسه، ولا يجب عليه شيء جل جلاله، فالملك ملكه والخلق خلقه، يتصرف فيه كيف يشاء، ولا يقال للمالك: لم تصرفت في ملكك؟ ولكن الله جل جلاله حرم الظلم على نفسه كما حرمه على عباده، ففي الحديث القدسي: (يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا) .

فكان من ذلك أنه أوجب على نفسه حقاً هو نصر الرسل والمؤمنين، فقد كان الرسل مبلغين عن الله، ناطقين بالوحي عن الله، وأتوا برسالات وكتب سماوية ومعهم آيات ومعجزات تؤيد صدقهم عما جاءوا به من عند الله وعدم كذبهم.

فجازى الله من آمن بالثواب وبالنصر على الأعداء وبالخلود في الجنان بعد ذلك، وانتقم من المكذبين المجرمين بالعذاب في الدنيا وفي الآخرة.

عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يذب عن عرض أخيه المسلم إلا دافع الله عنه أو ذب الله عنه يوم القيامة عذاب النار. ثم تلا صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]).

فالمؤمنون الصادقون من آمن جنانهم وصدق، ونطق لسانهم بما يحقق ذلك الإيمان بالقلب، وعملت الجوارح والأركان حسب الاعتقاد والقول، فعملت الصالحات والواجبات من شهادتين وصلاة وزكاة وحج وصيام.

فهؤلاء هم المؤمنون حقاً إن كانوا كذلك، والله جل جلاله جعل عليه حقاً واجباً نصرهم على أعدائهم، والعاقبة للمتقين.

تفسير قوله تعالى: (الله الذي يرسل الرياح ...)

قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الروم:48].

أي: أن الله يرسل الرياح فتثير السحاب، أي: تزيله من مكانه، وتبعثه ليجتمع في السماء.

قال غير واحد من أعلامنا القدامى، وقال المحدثون تقريباً: إن الرياح تثير السحاب من البحار، فعندما تتبخر من البحار تأخذها هذه السحب فتصفيها كالمصفاة من ملحها وأجاجها، وتصعد بها إلى الأجواء العالية فيصفيها الله تعالى فينزلها كما ينزل الحليب من ثدي النوق والبقر والأغنام.

وتنزل الأمطار على شكل قطرات، تسقي الأرض بكل أجزائها، فالأرض الخصبة التي تنبت والتي يصلح الزرع فيها فتأتي من كل زوج بهيج، من أنواع الحبوب والخضر والثمار وغير ذلك، مما يتغذى به الإنس والحيوان والطير.

وهذا السحاب الذي نراه داكناً أحياناً، وأسود حالكاً أحياناً، وأصفر أحياناً يشبه الزرع الأصفر الذي ابتدأ يحترق، أو ييبس، وأعظمه وأكثره غيثاً هو السحاب الأسود الغدق لكثرة الماء فيه، ولثقله بالماء الذي يحمله.

أما إذا كان أصفر فهو الريح العقيم الذي ما أتى على زرع إلا وأيبسه، ولا على أرض إلا وأجدبها حتى ولو كانت ذات فواكه ونبات فإنه ييبس كذلك ويصفر، ولا يأتي الريح العقيم إلا بالهلاك والعذاب، والقحط والجدب.

قال تعالى: فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ [الروم:48] أي: أن الله جل جلاله يبسط السحاب، ويكون مقدار ذراع، وإذا به يتمدد ويستطيل حتى يكاد يغطي المدينة كلها وأحياناً القطر كله.

وإذا اشتد واسود وعم يرسل الله منه غيثه ورحمته، فيسقي الأرض بعد جدب ويغيثها بالمطر، فيسقي الإنسان وهو أول ما يحتاج إليه الإنسان، ثم يسقي الأرض وما عليها من الدواب والطيور وكل ما خلق.

ولذلك عندما يشتد الجدب والقحط بالناس يستغيث المسلمون ويستسقون الله تعالى، يستحب لهم أن يخرجوا جميعاً نسائهم ورجالهم وأطفالهم، حفاة كاشفي الرءوس وبألبسة مقلوبة، ويخرج معهم أهل الذمة، ويخرجون دوابهم وحيواناتهم، فالكل في حاجة إلى رحمة الله، وغيث الله، وبركات الله.

فتجد الجمال والغنم والبقر وغير ذلك تصيح، كل يدعو بلغته، والإنس كذلك مؤمنهم وكافرهم، ولا يستغني عن رحمة الله مخلوق، فالكل في حاجة لذلك، فإذا جاء الجدب والقحط جاء البلاء والعذاب وعم كل الخلق.

وقوله تعالى: فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ [الروم:48] أي: يمدده ويطيله ويكثره حتى يعم الإقليم كله.

وقوله تعالى: وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا [الروم:48].

كسفاً: جمع كسفة، أي: قطعاً، قطعة هنا وقطعة هناك، يسقي البساتين والفيافي والغابات، فما لم يستفد من على سطح الأرض يستفيد منه الماء في جوفها، لتكثر مياه الآبار وتجري الأنهار وتزداد بعد أن كادت تيبس.

وكثيراً ما حصل ذلك فجفت الآبار، ونشفت المياه في الأنهار، فإذا وصل الحال لذلك اشتد العذاب بالناس فهو الموت، إلا أن يغيثهم.

وقد زرنا أقطاراً مضت عليها سنون عديدة لم تسق قط، فوجدنا الدواب ميتة، والبحار قد جفت، والأنهار قد وقفت، والأشجار قد يبست، والناس إلى الموت أقرب.

والماء الذي يشربونه لا يكادون يجدونه، ثم أتى الله بالغيث بعد ذلك، فعوضاً عن أن يشكروا الله على نعمه كفروا وارتدوا ووقع فيهم انقلابي ماركسي، شيوعي، إلحادي.

وطردوا اللغة العربية والمدارس الإسلامية من البلاد، وذهبوا لعبادة هؤلاء الأشخاص القذرين الوسخين، واتخذوهم أرباباً من دون الله.

ومن عجيب أمر الله في عباده، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من استعان بظالم سلط عليه) .

وإذا بهؤلاء الذين دانوا بدينهم، وارتدوا بردتهم، وكفروا بكفرهم سلطهم الله عليهم، فضربوهم من السماء بأنواع العذاب من طائرات وصواريخ، وبدبابات وبأسلحة فتاكة مدمرة من الأرض، وهم يستغيثون منذ دهر فلا يغاثون؛ لأن الله لم يغثهم، لأنهم كفروا بأنعمه وأبوا إلا الجحود والعصيان والردة، مع أن الله وحده الذي أغاثهم، ولن يستطيع مخلوق إذا أجدبت الأرض أن يأتي بالماء من السماء.

وقوله تعالى: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [الروم:48] أي: ترى المطر يخرج من وسطه وأثنائه، وأركانه، ومن نواحيه كلها، وكأنه ثدي الناقة أو ثدي الأم ينزل قطرة قطرة بما يكفي الوليد وما يعيشه بهذا الحليب.

ولو نزل المطر على غير شكل قطرات لخرب الأرض، ولقلع الأشجار، ولكنه ينزل خفيفاً قطرة قطرة فيأخذ كل عرق وكل جذر وكل نبتة وكل شجرة كانت كبيرة أو صغيرة حاجتها من الري، وحاجتها من الغيث، فيسقي الله ويغيث العباد بذلك.

وقوله تعالى: فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الروم:48].

فمن عجيب صنع الله أن تجد أرضاً قد أحاط المطر بجوانبها الست ولم ينزل عليها المطر، فإذا بحثت عن سبب ذلك وجدت صاحب تلك الأرض أو تلك المزرعة لا ينفق من ماله، ولا يؤدي حق الله فيها، وإذا بالله الكريم قد جعل لما عمله من سنوات هباءً منثوراً، وجعل عمله كأن لم يكن.

فإذا أصاب الله بهذا المطر الذي ينزله من السحب من شاء من عباده، إذا بهم يفاجئون برحمة الله وغيثه فيستبشرون ويفرحون ويسرون.

وبعض هؤلاء الذين فرحوا واستبشروا يؤدون شكر ذلك من نفقات وزكوات، والبعض الآخر اتخذوا فرح ذلك بطراً وتيهاً وخيلاء وطغياناً في ما ملكوا وما زرعوا، فهؤلاء لا تفرح لهم، ويوشك أن يأتيهم الله بعذاب من عنده.

قال تعالى: وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ [الروم:49].

أي: وإن كان هؤلاء الذين أمطروا وأغيثوا من قبل أن ينزل عليهم هذا المطر كانوا من قبله آيسين، قانطين، متألمين، باكين أو كالباكين، ما صرفوه في الأرض من عمل ومن زمن لم يأت بشيء، بل كل ما زرعوه وما حرثوه ضاع زيادة على الجدب والقحط في أصله.

فإذا جاء هذا الغيث فجأة وأصابهم الله برحمته إذا بهم يفاجئون بالرحمة ويسرون بما أصابهم، إذ جاءهم على قدر من غير انتظار، وإن كانوا من قبل ذلك لآيسين قانطين من الرحمة.

و(قبل) في الآية كررت مرتين وذلك للتأكيد.

وقراءة ابن عباس بقبل الأولى فقط: ( وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم لمبلسين ) إنما كررت الثانية: مِنْ قَبْلِهِ [الروم:49] تأكيداً لقنوطهم الأول وما كانوا عليه من أحزان، وإذا بهم يفاجئون بالاستبشار والفرح بنزول المطر، فذكرت قبل مرتين لتأتي بالاستبشار وتأتي باليأس قبل ذلك.

تفسير قوله تعالى: (فانظر إلى آثار رحمة الله ...)

قال تعالى: فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم:50].

أي: فانظر يا محمد ولتنظر معك أمتك نظر تدبر، ونظر اعتبار، ونظر قلب إلى آثار رحمة الله، فرحمة الله هنا الغيث والمطر، وآثار ذلك أن الأرض التي كانت يابسة أينعت واخضرت وأثمرت ورعى فيها الدواب والطير، وأكل من نبتها وحبها الإنسان، وأتت بالثمرات من كل زوج بهيج، فعاشوا على ذلك، وصحوا على ذلك، وانتشر الخصب والخير.

ولا يستطيع أن يفعل ذلك إلا الله، وهو وحده المشكور على ذلك، والمحمود عليه.

وقوله تعالى: فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الروم:50].

أي: انظر كيف كانت الأرض يابسة قد سقط شجرها، وثمارها قد يبست، وأوراقها قد تحاتت، وإذا بها أصبحت ميتة، فما كاد ينزل هذا الغيث إلا وظهر أثر رحمة الله فيها، فاخضرت الأرض وأينعت وأتت من حبها وثمراتها ما أغيث به كل حي إنساناً وحيواناً وطيراً.

وقوله تعالى: إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى [الروم:50].

ضرب الله ذلك مثلاً لمنكري البعث، يقول لهم: خذوا الدليل على الغائب بالشاهد، قد رأيتم الأرض ماتت ويبست وأجدبت وتحات شجرها فتساقط ثمرها، وجاع الخلق إنساناً وحيواناً وطيراً، وإذا الأرض بأثر رحمة الله من مطره وغيثه آتت من كل زوج بهيج، فاهتزت وربت وحيت، وعادت حية بعد أن كانت ميتة.

فالذي أحياها بعد الموت هو محيي الموتى بعد كذلك، فانظروا الشاهد فخذوا منه المثال للغائب.

فيا هؤلاء الذين تتعجبون وتكادون تنكرون بأن الإنسان بعد أن يصبح رمة، وتراباً كما كان، كيف يعود؟

قال تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:78-79].

فالذي أوجد الإنسان من العدم أهون عليه - والكل عليه هين - أن يعيده تارة أخرى كما كان وأكمل وأصح.

وكذلك الذي أحيا الأرض وقد أصبحت ميتة قادر على أن يحيي الموتى من الناس ومن غيرهم من خلق الله.

وقوله تعالى: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم:50] أي: الله الخالق لذلك، ذو الآيات البينات والبراهين القاطعات، هو القادر على كل شيء، القادر على أن يحيي الموتى، كما أوجدهم من العدم بعد أن لم يكونوا.

وقد مضى دهر من الزمن لم يكن الإنسان فيه شيئاً مذكوراً، لا وجود له لا شبحاً ولا روحاً، وإذا به قد وجد على غير مثال سابق، الذي أوجده على غير مثال سابق وأحيا الأرض بعد موتها، قادر على أن يعيد حياة الإنسان للحياة مرة ثانية، فهو القادر على كل شيء جل جلاله.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الروم [46-50] للشيخ : المنتصر الكتاني

https://audio.islamweb.net