اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الروم [51-60] للشيخ : المنتصر الكتاني
قوله تعالى: وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا [الروم:51] ذكر الريح مفرداً في القرآن للعذاب وللجدب وللعقوبة.
وإذا ذكر مجموعاً فهو للخيرات، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ [الروم:46]، فالرياح مبشرات بالخصب والبركات.
وقوله تعالى: فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا [الروم:51] أي: أثر هذا الريح رأوه مصفراً، وما أثره إلا الشجر والنباتات وأوراق الشجر القائم بنفسه.
فإذا رأوه مصفراً فيعني ذلك يبسه وموته وعدم إثماره ونهاية حياته، فإذا رأوا ذلك كفروا بالنعم السابقة، وضلوا من بعد هذا الريح الذي اصفر له الأشجار والنباتات والزروع والثمار والخضروات بجميع أشكالها، وزادهم كفراً وزادهم معصية وجحوداً وضلوا من بعده يكفرون، أي: ضلوا من بعد إرسال هذه الريح الصفراء التي كان من أثرها أن اصفرت الأشجار وكل شيء أخضر على وجه الأرض.
فلما رأوا هذا المنظر لم يحمدوا الله ولم يصبروا ولم يرجوا رحمته ويخافوا عذابه، بل أعلنوا بالكفر والجحود ونسوا ما سبق ذلك من خيرات وبركات، ومن أمطار مغيثات.
وهذا شأن الكافر يؤمن على حرف، فإن آتاه الله خيراً وجد ذلك وكأنه من نفسه، وإن وجد غير ذلك تجده يائساً مبلساً، يعلن الكفر بلسانه وحاله، وهذا بخلاف المؤمن.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).
فهو على كل الأحوال صابراً وشاكر، شاكر على نعمه، وصابر على بلائه، إن ابتلي رجى الله ودعاه أن يرفع عنه بلاءه وهو مع ذلك صابر، وإن أنعم عليه شكر الله بلسانه وزاد الشكر بالعمل والنفقات وكثرة الصدقات للعائل وللمحروم وللسائل وللقريب في الدرجة الأولى.
أي: يا محمد! هؤلاء موتى فحياتهم لم يستفيدوا منها، وأسماعهم لم يسمعوا بها، وأعينهم لم يبصروا بها، وقلوبهم لم يفقهوا بها فكانوا أمواتاً، ولو أنهم على شكل أحياء.
والميت لا يسمع ولا يفهم، وعلى ذلك فأنت لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء، أي: النداء، إذا ناديت ودعوت لم يسمعوك، ولم يستجيبوا لك؛ لأن لهم قلوباً لا يفقهون بها، وآذاناً لا يسمعون بها، وأعيناً لا يبصرون بها، فهم كالأنعام بل هم أضل.
والأنعام تستفيد من بطنها حملاً ومن ظهرها ركوباً ورحلة، ومن ضرعها حليباً.
وأما هذا الميت فيضيق على الحي من الناس بطعامه ولباسه وسكنه وقد لا يكتفي بذلك، فيؤذي الناس الصالحين الأخيار، فموته خير من حياته، وأصلح للبشر من وجوده.
وقوله تعالى: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [الروم:52] الموتى جمع ميت.
فقوله تعالى: وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ [الروم:52] أي: إذا دعوت الموتى لم يسمعوك، والصم جمع أصم، وإذا دعوتهم فلم يسمعوك.
فقوله تعالى: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [الروم:52] الصم يتفاهمون بالإشارة، والأصم إذا ولى لا يرى إشارتك ولا يسمع نداءك، فهو في ضياع وخراب، وهو في إعراض عن الحق وعن سماعه البتة.
ولذلك كان الكفار إذا سمعوا رسول الله يتلو القرآن ويدعوهم إليه، يدعو بعضهم بعضاً ويقولون: الغوا فيه ولا تسمعوا إليه.
فكان البعض يغلق آذانه عن السماع، والبعض يصيح ويفر كما يفر الشيطان إذا سمع الأذان وله ضراط حتى لا يسمع الله أكبر، ولا يسمع الشهادتين.
وكون الميت لا يسمع هذا الشأن المعروف، ولكن مع ذلك فإن سماع الميت قد ثبت بالتواتر، ففي غزوة بدر بعد أن هلك من هلك من الكفار والأعداء، تركهم النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام على التراب إلى أن جيفوا، ثم أمر بقذفهم في القليب وهو بئر، ثم وقف على شفير البئر فنادى: (يا أمية بن خلف ، يا عتبة بن أمية ، يا عمرو بن هشام ، وإذا بـعمر يقول له: يا رسول الله! أتدعو أقواماً قد جيفوا؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يستطيعون الجواب، وأخذ يقول لهم: هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ أما نحن فقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً).
والحديث اشتهر بحديث عبد الله بن عمر عن عمر ، ولكن عائشة رضوان الله عليها الشابة العالمة كانت تحاول أن تجتهد في كل شيء حتى في الرواية المسموعة، فهي ترد على الكثير من الصحابة، فقد ردت على عبد الله بن عمر وقالت: لم يقل رسول الله: لستم بأسمع منهم، وإنما قال: هم الآن يعلمون ما أوعدوا به.
وهذا الذي قالته ليس بصحيح، فلم يرو هذا الحديث عبد الله بن عمر فقط، فقد رواه الكثير من الصحابة، فقد سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم أهل بدر وكان عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر مجاهداً، فكلهم سمعوا قوله، إذ كان يرفع صوته في مخاطبتهم، والأحاديث بذلك في الصحاح والسنن وفي جميع أمهات السنة وغير ذلك.
وعندما نسلم على رسول الله فإننا نقول: السلام عليك، إذ نخاطبه بكاف الخطاب، وقد أمرنا صلى الله عليه وسلم عندما نزور الموتى أن نقول لهم: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون ونحن اللاحقون، رحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، وأسأل الله العافية لي ولكم).
وهذا الخطاب لكل ميت ولرسول الله صلى الله عليه وسلم في الدرجة الأولى، فقد تواترت الأحاديث بأن الميت يسمعنا ولكنه لا يجيبنا، لأن الشبح الذي سيجيب قد فني وصار إلى التراب.
أما الروح فباقية، وقد ثبت بالتواتر أن الأرواح تسر بسرور أهلها في دار الدنيا، وتتألم بألمهم في دار الدنيا، وترد السلام على المسلم عليها، ومن ذلك: تلقين الميت عندما ندفنه ونقول له: يا فلان ابن فلان، إذا سألك الملكان: من ربك؟ فقل: الله. ومن نبيك؟ فقل: محمد رسول الله.
وهذا التلقين كذلك ثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإذا كان الميت لا يسمع فما الفائدة من التلقين ولكن الآية معناها أنهم موتى في الحياة لم يموتوا بعد، وموتهم في الحياة أنهم عطلوا أسماعهم وأبصارهم وأعينهم، عطلوا حواسهم عن السمع والرؤية والفقه، فكانوا كالموتى الذي كان الشأن فيهم ألا يسمعوا ولا يعقلوا ولا يروا.
فروح كل ميت تسمع وتجيب، واختص النبي عليه الصلاة والسلام بأن كلف الله له ملكاً يرد السلام على من مسلم عليه.
ويستحب استحباباً مؤكداً وخاصة يوم الجمعة أن نكثر الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن من صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه عشراً.
فمعنى قوله تعالى: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ [الروم:52] أي: لا تسمع الدعاء الموتى والصم.
وقوله تعالى: وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [الروم:52] أي: لا تسمع الدعاء إذا قد أدبروا، فلا يرون إشارة وبالتالي لا يفهمونها لأنهم لم يروها.
أي: إنك يا محمد! لن تهدي العمي ولن تهدي الصم وإنما تهدي من يبصر ويسمع، والذي يسمع هو من يؤمن بآياتنا، هو الذي ألقى السمع وهو شهيد، أي: سمعه لما تدعو إليه من كتاب ربك المنزل عليك، ومن حديثك المفسر لذلك، ومن هديك الذي يبين حقائق ذلك. والذين آمنوا بالله فنظروا واستفادوا بالنظر، وسمعوا واستفادوا بالسمع، وعقلوا واستفادوا بالقلب، هؤلاء هم المؤمنون وحدهم الذين يسمعون دعاءك، ويسمعون دعوتك فيستجيبون لها، ويؤمنون بها.
وهم مسلمون قد أسلموا وجوههم لله واستسلموا لدين الله ولأمر الله، فلا يخرجون عنه، فإن خرجوا استعاذوا بالله وتابوا من السيئات وعادوا بالشكر، وبالتوبة إلى الله.
هؤلاء المؤمنون التائبون المسلمون هم الذين يسمعونك، أما أولئك فلا سمع لهم ولا بصر ولا فقه ولا رؤية.
الله جل جلاله يدلنا بمنطق العقل والوعي والإدراك على قدرته وعلى الأطوار التي خلقنا فيها.
وتقديم العامل وهو لفظ الجلالة (الله) على المعمول -أي المفعول به- يفيد الحصر، أي: الله وحده هو الذي خلقنا في جميع هذه الأطوار، فلا الأوثان ولا الشركاء ولا الآلهة المزيفة الكاذبة شاركت أو أعانت بشيء من ذلك.
فقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ [الروم:54] أي: الله خلقنا ضعافاً يوم خلقنا، خلق الأصل وهو آدم من تراب -وما عسى أن يفعل التراب؟- ثم خلقنا من ماء مهين فهو أضعف من ضعيف، ثم خلقنا بعد ذلك من أضعاف متتالية.
وأطوار خلق الإنسان: النطفة ثم العلقة ثم المضغة ثم العظام ثم يكسى لحماً ثم ينشأ خلقاً آخر، ثم يخرج إلى الدنيا وهو ضعيف لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ذباباً، ولا حشرة صغيرة.
قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً [الروم:54].
أي: ثم جعل بعد الضعف قوة وهو سن الشباب، فابتدأ الله بالبداية، ثم سن المراهقة، ثم سن الشباب، ثم إلى أن أصبح الشاب رجلاً قد بلغ أشده في القوة العضلية والفكرية والعملية.
وقال تعالى: ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً [الروم:54].
أي: ثم عاد بنا للبداية، من القوة إلى الضعف في الظواهر والبواطن، ضعفت الحواس عن وظائفها، وضعفت حركة المعدة في الهضم، وهكذا في جميع أعضاء الإنسان، فصارت بعد القوة ضعفاً وشيبة، وشيباً وشيبة بمعنىً واحد.
فانتقل سواد الشعر إلى البياض، وقوة البدن إلى ضعف، وشيخوخة ثم إلى موت وفناء، كان الله ولا شيء معه وهو على ما كان عليه.
قال تعالى: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم:54].
فالله جل جلاله الخالق لما يشاء، فهذا خلقه قوياً، وهذا خلقه ضعيفاً، وأدام ضعفه إلى الموت.
وهذا خلقه ضعيفاً ثم قواه وأدام قوته إلى الموت، كم من شيوخ شابت شعورهم ولا يزالون أقوى من الشباب؟ وكما لا يزالون شباباً.
وكثير من الأصحاب والمعاصرين تجاوزوا المائة فلم تشب منهم إلا شعرة أو شعرات، ولم تسقط لهم سن، ولا يزالون يذهبون الأميال على أرجلهم، ويحملون الأثقال التي يعجز عن حملها الشباب، ويعملون في كل الأوقات بما يعجز عنه الشباب، يخلق الله ما يشاء، والله انفرد بالخلق والقدرة، يفعل ما شاء كيف يشاء، لا يسأل عن ما يفعل.
وقوله تعالى: وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم:54].
أي: العليم بخلقه وما ينفعهم من الضعف أو القوة، يعلم أن هذا ينفعه الضعف والآخر ينفعه القوة، ويعلم أن من منفعة هذا أن يميته صغيراً وينفع الآخر أن يميته كبيراً، وهو القادر على كل شيء، لا يعجزه شيء جل جلاله وعز مقامه.
يخبرنا ربنا جل جلاله عن هؤلاء الكفار المكذبين للآخرة، أنه يكذبهم في الدنيا والآخرة.
فقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ [الروم:55] أي: يوم القيامة.
وقوله تعالى: يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ [الروم:55] أي: المشركون الكافرون الذين مضت حياتهم وكلها جرائم، فهم يقسمون أنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة، أي: لم يعيشوا دنياهم وسنواتهم وأعمارهم إلا مدة ساعة، فهم بذلك أنكروا الرسالات والرسل والكتب، وأنكروا الأوامر والنواهي، وقالوا: عشنا ساعة وماذا عسى أن تكفي ساعة للعبادة وللعمل؟
وقوله تعالى: كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ [الروم:55].
الإفك: الكذب، أي: أنهم يصرفون عن الحق إلى الكذب.
وقوله تعالى: كَذَلِكَ [الروم:55] أي: كما كانوا في الدنيا كذبة، فجرة، لا ينطقون بالحق ولا يعرفونه، كذلك عندما بعثوا وعادوا للحياة الثانية عادوا كذبة فجرة، فكان الكذب خلقهم في الدنيا والآخرة، ولكن هيهات أن يتركوا لحالهم ولأنفسهم.
يجيب العلماء والمؤمنون المجرمين ويكذبونهم، هؤلاء المؤمنون الذين آمنوا بربهم ونبيهم في الدنيا، وعندما بعثوا علموا أنهم قد عاشوا دهراً، وأنهم بعثوا من جديد، وأن هذا اليوم يوم البعث والنشور والحياة الثانية.
وقال أهل العلم: العلماء أيضاً من الملائكة والرسل وعموم المؤمنين.
وقوله تعالى: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الروم:56].
أي: في ما كتبه الله وقدره، أي: في جنس الكتاب، وهو الكتب السماوية المنزلة على أنبيائكم من صحائف إبراهيم، ومن زبور داود، ومن توراة موسى، ومن إنجيل عيسى، ومن القرآن المنزل على خاتمهم محمد صلى الله وسلم عليه وعليهم أجمعين، فأنتم قد بلغتم وعلمنا ذلك في كتاب الله وقدره السابق أننا سنعيش دهراً ونحن نبعث بعد ذلك.
ومعنى: لَبِثْتُمْ [الروم:56]: أقمتم.
وقوله تعالى: إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ [الروم:56].
أي: عشتم في دنياكم زمناً ثم متم بعد ذلك، وبقيتم في قبوركم إلى يوم البعث.
وقوله تعالى: فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ [الروم:56].
أي: هذا الذي أنتم فيه هو يوم البعث الذي كنتم تنكرونه، فأنتم تعيشون في واقعة حقيقية، وما كنتم تنكرونه قد رأيتموه رأي العين وسمعتموه بالآذان وعشتم في واقعه.
وقوله تعالى: وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الروم:56].
أي: كنتم في حياتكم الدنيا مشركين كفرة لم تعلموا علماً، ولم تعلموا إيماناً، ولم تدركوا يقيناً، عشتم كفرة كذبة وبعثتم كفرة كذبة، ولا تزالون تكذبون إلى الآن عندما تقسمون أنكم ما لبثتم في دنياكم إلا لحظات لا تكاد تدرك.
وقال البعض من العلماء: معنى قوله تعالى: يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [الروم:55] بأنهم أقسموا أنهم ما أقاموا في قبورهم إلا ساعة.
وقال من قال تعليقاً على هذا الفهم: إن كانوا قد أقسموا على أنهم لم يقيموا في القبور إلا ساعة فأين عذاب القبر وهو حق؟ وتواترت به الأحاديث، فكيف لم يشعروا وهو عليهم وفي أرواحهم؟ فكان جواب البعض ممن حاول أن يقر هذا الفهم وهذا المعنى بقوله: عذبت الأرواح والآن قد بعثت الأشباح.
والأشباح لم تكن ذات روح لم تشعر بالعذاب، ولكن الذي شعر بالعذاب هي الروح، فلو أنهم شعروا بالعذاب وعلموا به ثم كذبوا، فإنهم كذبة في الدنيا ثم كذبوا في الآخرة مرة ثانية.
وهذا المعنى في القرآن في غير ما آية، من أنهم أقسموا على أنهم ما لبثوا في الدنيا غير ساعة، وأن عذاب القبر حق، والعذاب للروح لا للشبح.
معنى قوله تعالى: (يومئذ) أي: يوم القيامة.
ولا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا [الروم:57] أي: لا ينفع الذين كفروا.
ومَعْذِرَتُهُمْ [الروم:57] أي: أنهم أخذوا يعتذرون ويقولون: لم نعش في الدنيا إلا ساعة، ولم تكفنا للإيمان ولا العلم بالإيمان، فقد كنا جهلة، لم نعلم الحقيقة إلا الآن، ولكن الله لم يقبل عذرهم، فقد قامت عليهم الحجج المتوالية والمتظافرة من أنبيائهم ورسلهم، ومن علمائهم، ومن كتب الله التي أنزلت على رسلهم وأنبيائهم.
وقوله تعالى: وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [الروم:57].
أي: لا يقبل عتابهم، يقال: فلان استعتب فلاناً إذا طلب منه أن يزيل عتبه عليه، ويعذره، ويسامحه، ويغفر له.
فالكفار ما هم بمستعتبين، فعتابهم يضرب به على وجوههم ولم يقبل منهم، وعتاب الله لهم كان عذاباً، ونقمة، وناراً خالدة دائمة أبدية لكل من مات ظالماً لنفسه بالشرك والكفر.
لا يقبل زوال عتبهم، ولا تقبل معذرتهم، ولا يقبل قولهم الكاذب أنهم لم يقيموا في الدنيا غير ساعة.
أي: ضرب الله للناس مسلمين وكافرين الأمثال، والأشباه والنظائر ليعلموا، وليدركوا، وليفهموا.
فبين الله لهم في القرآن الكريم الحلال والحرام ليتركوا الحرام كله، وليفعلوا من الحلال ما يطيقونه حسب قدرتهم ورغبتهم، وضرب به الأمثال للعلم والمعرفة والإيمان.
وقوله تعالى: مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الروم:58].
أي: من كل شبيه ونظير، لعل الناس يدركون ويعون.
وقوله تعالى: وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ [الروم:58].
أي: ولو جئتهم يا محمد مع هذا القرآن الذي ضربنا فيه للناس كلهم أمثالاً وأشباهاً ونظائر مما تراه أعينهم على الغائب، وما تسمعه أذنهم مما لا يسمعونه، ليعلم الغائب بالحاضر والحاضر بالماضي والمستقبل بالحاضر.
ومع ذلك مهما أتيتهم به من آية ومن معجزة ومن بينة تدل على صدقك، قالوا: بل أعانك عليه قوم آخرون كما زعم الكافرون الضالون، وقالوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ [الروم:58].
أي: تعيشون في باطل، فما تزعمونه باطل وما أتيتم به باطل، فكذبوا الصدق إذا جاءهم، وافتروا على الله بما ليس واقعاً فما ازدادوا إلا كفراً وجحوداً.
أي: كما طبع على قلوب هؤلاء الكافرين فلا يفهمون، وطبع على أسماعهم وعلى أبصارهم، فأغلقت عن السماع وعن الرؤية وعن الفهم بإغراقهم في الكفر والظلم، ولجحودهم المتواصل أصبحوا كالحجر الأصم الذي لا يعي ولا يعقل.
وقوله تعالى: كَذَلِكَ [الروم:59] أي: كما فعل بأولئك.
وقوله تعالى: يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الروم:59].
أي: يطبع على قلوب الجاهلين الذين لا يريدون علماً بالله، ولا بكتاب الله، ولا برسول الله، ولا بسنة رسول الله، ولا علماً بالحقائق ليميزوا بينها وبين الباطل.
طبع الله عليهم وأبعدهم عن الفهم؛ لأنهم لم يريدوا فهماً ولا علماً ولا إيماناً.
أي: فاصبر يا محمد على كفر هؤلاء وعلى شتمهم وجحودهم، وذلك قبل أن يفرض الجهاد.
فهذه السورة مكية، والجهاد لم يؤذن به في مكة، إن هو إلا الصبر، يأمر الله به رسوله، ويأمر به رسوله الناس، فكان رسوله عليه الصلاة والسلام يمر على أتباعه وهم يعذبون، ولا يجد لهم أكثر من أن يقول: (صبراً آل ياسر؛ إن موعدكم الجنة).
يأتون إليه يريدون الحرب والقتال فيقول لهم: (لم أومر بهذا بعد)، ولم يؤذن بالقتال إلا في المدينة المنورة عند نزول أول آية في الأمر بالقتال: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39].
فعندما استأذن المؤمنون رسول الله للقتال وكرروا ذلك أذن الله لهؤلاء الذين شهد بأنهم قد ظلموا، وأخرجوا من ديارهم بغير حق، وقوطعوا، وأخذت أموالهم وأولادهم وأملاكهم وطردوا من بيوتهم إلى بيوت غريبة وأرض غريبة، إذ ذاك أذن الله لهؤلاء المظلومين أن يقاتلوا فنصرهم.
فقوله تعالى: فَاصْبِرْ [الروم:60] وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك.
وقوله تعالى: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [الروم:60].
أي: ما وعدك الله به يا محمد من نصر، وتفوق، وسحق للأعداء، وعودتك لمكة فاتحاً منتصراً معززاً، إذ أنزل عليك وأنت لا تزال في الطريق إلى المدينة مهاجراً: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص:85] فهو رادك لا محالة، وستحكم فيها كيف شئت، وتتصرف في رقابهم كيف شئت.
فما وعدك الله به من نصر ونشر للإسلام في مختلف بقاع الأرض مشارق ومغارب، شمالاً وجنوباً، كل ذلك واقع لا محالة، فالذي وعد بذلك الله الذي لا يخلف الميعاد.
وقوله تعالى: وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ [الروم:60].
الأمر له لأمته كذلك، أي: لا يدعوك للخفة: خفة العقل والعمل والقرار المتسرع، وإياك أن تتبعهم أو أن تسايرهم في سلوك أو في دعوة أو في عمل.
وقوله تعالى: وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ [الروم:60].
أي: الذين لا يوقنون بيوم البعث، ولا يوقنون بك نبياً رسولاً، ولا يوقنون بأن الإسلام دين حق، وبأن القرآن كلام الله الحق، هؤلاء لا تهتم بهم ولا تلتفت إليهم، وإياك أن يستخفوك بأن تكون خفيف العقل، والسمع، أو تغتر أمتك بالكافرين، ويتبعون أعمالهم ويقولون بفلسفتهم ويتأثرون بدينهم.
وبهذا نكون ولله الحمد قد ختمنا سورة الروم، ودخلنا في سورة لقمان.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الروم [51-60] للشيخ : المنتصر الكتاني
https://audio.islamweb.net