إسلام ويب

المال مال الله والخلق خلقه والرزق من إفضاله، وهو يمتحن الناس بالمال ثم يأمرهم بالإنفاق، لكن الكافرين يرفضون ويقولون: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه، وهم بذلك يكونون كفاراً جاحدين، وستأتيهم الصعقة فتأخذهم حتى يحشرون إلى ربهم فيعذبون.

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله...)

قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يس:47] .

أي: وإذا قيل للأغنياء من هؤلاء كافرين أو منافقين أو بخلاء من المسلمين أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [يس:47] أي: أنفقوا من مال الله الذي آتاكم، فالمال مال الله، والخلق خلق الله، وإنما نُعطي مما أعطانا الله، فلقد خرجنا إلى الدنيا عراة لا نملك ثوباً ولا مالاً، ولا نملك عقلاً ولا إرادة، ولكن بعد ذلك رزقنا الله العقل والقوة والمال والعلم، فلِمَ نبخل على خلق الله وعباد الله بما أعطانا الله؟!

قوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا [يس:47].

أي: قال المشركون الذين جحدوا نعمة الله من البخلاء والعصاة، أَنُطْعِمُ [يس:47] أي: أنرزق مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ [يس:47] أي: من لو يشاء الله رزقه، فنحن رزقنا الله، ولو شاء لهؤلاء الفقراء لرزقهم، فهل سنكون أكثر حناناً ورحمة عليهم من ربهم؟!

وهذا كلام جاهل لم يعلم حقاً لنفسه ولا حقاً لربه، فالله قال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [يس:47] فالرزق رزق الله، وقد جعل الله في المال الذي أعطاني حقوقاً أنا أمين عليها وكفيل بها، فهناك حقوق واجبة وفرض كنفقتي على زوجتي وأولادي، وكنفقتي على أبويّ إن كانا محتاجين إلي، وكالنفقة على الأقارب من الأخ والأخت، والخالة والعمة، والعم والخال..، وهكذا الأقرب فالأقرب، فهذا المال جعل الله فيه حقاً واجباً هو رزق لأولئك، قال ربنا: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ [التوبة:60] قال العلماء والمفسرون: هذه اللام لام التمليك، أي: جعل الله في مالي سهماً وجزءاً هو حق لأولئك، فعلي أن أُعطيها، فإن لم أفعل فللحاكم أن يأخذها بالقوة، وأكثر من ذلك إذا منع الفقراء عن أخذ حقوقهم وأموالهم التي مُنحوها.

قال فقهاؤنا الأربعة أبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد والجماهير من علماء الصحابة فمن بعدهم: إذا تواطأ قوم على منع إعطاء حقوق الفقراء والمساكين، فللفقراء الحق أن يحاربوا الأغنياء ويأخذوا المال بالقوة، فمن مات من الممتنع فقد قتله سيف الإسلام فإلى سقر، وإن مات أحد من المطالبين بالحق فيُقتل قاتله.

وأول حرب أهلية في الإسلام كانت حرب أبي بكر رضي الله عنه مع مانعي الزكاة، وكان هذا بعد خلاف لم يتفهموه ولم يعوه كما وعاه أبو بكر ، وقد قال عمر لـأبي بكر : كيف نقاتل قوماً يقولون لا إله إلا الله والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها؟) فقال له أبو بكر : يا ابن الخطاب ! أخوار في الإسلام جبار في الجاهلية؟! أليس من حق لا إله إلا الله أداء الزكاة؟ والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم عليها ما استمسك السيف في يدي.

إن الله قرن بين الصلاة والزكاة فقال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43] فالصلاة حق الله، والزكاة حق الفقراء والمساكين، فلا تصح صلاة بلا زكاة، ولا تصح زكاة بلا صلاة، فكل ذلك حق واجب، وكما أن الصلاة من تركها يُقتل فإن الزكاة من لا يؤديها تؤخذ منه جبراً، فإن تكتلوا وامتنعوا جميعاً يُقاتلون قتال البغاة.

قولهم: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يس:47]:

(إن) نافية، والمعنى: لستم إلا في خطأ بيّن ظاهر! هكذا يزعمون! وكما قيل: رمتني بدائها وانسلت، على أن المال الذي رُزقوه هو رزق الله ومال الله؛ ولذلك يقول الله وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33].

عن علي رضي الله عنه قال: إن الله فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم فإن جاعوا أو عروا وجهدوا فبمنع الأغنياء حقوق الفقراء في أموالهم، فحق على الله أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه.

والإسلام صارم في هذا، وليس هناك تردد، فإما الفعل وإما القتل أو القتال، وما الشيوعية في هذا العصر ومصادرة الأملاك إلا عقوبة إلهية لهؤلاء الأغنياء الذين اكتنزوا الأموال، ومنعوا الفقراء حقوقهم؛ فسلّط الله عليهم كافراً لا يرحمهم، وفاسقاً يأخذ أموالهم ويتهمهم بأنهم يسرقون ويزنون، وهكذا يصير حالهم إلى فقر وكأنهم ما ملكوا، ومع ذلك يهانون ويُذلون.

وليست الشيوعية ببعيدة عن أحد ما دام الأغنياء يمنعون الفقراء حقوقهم، ويمسكون عليهم أرزاقهم، ويقولون ما قال هؤلاء الكفار: (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه)، فالله قد شاء ذلك في مالك، وأمرك بذلك، وجعل حقوقهم عندك، ولو أدى الأغنياء الحقوق من أموالهم للفقراء لما وجد في المجتمع المسلم فقير ولا محتاج، هذا إذا أعطوا الحقوق الواجبة فقط، فكيف والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن في المال لحقاً سوى الزكاة)، فيجب أن يعطى الفقراء والمساكين من أموال الأغنياء دولة ومجتمعاً وشعباً، بما يسترهم من سكن عن أعين الناس وعن المارة وعن الشمس وعن القر والقيض، وبما يشبع جوعتهم، ويستر عورتهم، ويعالجون به مريضهم، ويعلمون به أولادهم، وهكذا إلى أن يهيئ الله للأصحاء منهم والقادرين عملاً، فإن لم يجدوا لهم عملاً فعليهم أن ينفقوا عليهم إلى أن يجدوا العمل أو يموتوا، ذاك حق من حقوق الله جعله للفقراء والمساكين ولبقية الناس.

قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يس:47] زعموا زعمهم وكان هذا الزعم من الشيطان ومن فهمه، فقد ضلّوا ضلالاً واضحاً بيناً.

تفسير قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين)

قال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [يس:48] .

أي: مع جدالهم في حق الله وحقوق الفقراء والمساكين تراهم قد عادوا إلى إنكار البعث، وإلى إنكار النشر والعرض على الله والحياة الثانية، ويقولون هازئين متضاحكين: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[يس:48].

أي: الوعد بالقيامة وبالحياة الثانية، فمن أتى خيراً فله الخير، ومن أتى بالشر فله الشر.

تفسير قوله تعالى: (ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون)

قال تعالى: مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ [يس:49] .

فهم لا ينتظرون أن يؤمنوا وأن يستجيبوا إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً وهذه الصيحة تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ [يس:49].

والصيحات ثلاث، وإسرافيل هو الملك المكلف بهذه الصيحات الثلاث، فصيحة اسمها صيحة الفزع، والصيحة الثانية: صيحة الصعق، والصيحة الثالثة: صيحة الحياة بعد الموت.

وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن إسرافيل قد حنى رأسه على القرن والبوق الذي سينفخ فيه ينتظر أمر الله بذلك.

ونبينا هو أول علامة من علامات الساعة، قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت والساعة كهاتين: وأشار بالسبابة والوسطى)، فينفخ إسرافيل النفخة الأولى وتسمى نفخة الفزع، أي: أنه يفزع لها كل حي في الأرض، فتجدهم فزعين ذاهلين، وإذ ذاك لا تقوم الساعة إلا على أناس لا يقولون: ربنا الله، ولا تقوم إلا على لكع بن لكع.

فهم يفزعون وتأخذهم أوهام وظنون: لعل هذا الذي بلغنا عن الآباء القدامى أن هناك نفخة وهناك وهناك!

فقوله: مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تكون من إسرافيل بواسطة القرن، وهو قرن الله أعلم بقدره، أما صوته فيزلزل الأرض حتى يكاد يقتلعها من مكانها.

وَهُمْ يَخِصِّمُونَ [يس:49] وقرئ: يَخَصَّمُونَ وهي قراءة ورش، ومعناها: يختصمون، أي: يتجادلون ويكونون في بيع وشراء، وأخذ وعطاء، وما يفعله الحي في مكتبه أو في سوقه أو في زراعته أو في داره أو في أي مكان، تأتي الصيحة وهو على هذا الحال؛ فتدعه مذهولاً واجماً لا يدري ماذا بعدها؟! مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ [يس:49] تأتيهم فجأة، والساعة لا تأتي إلا بغتة.

تفسير قوله تعالى: (فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون)

قال تعالى: فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس:50] .

وهنا تكون الصيحة الثانية.. صيحة الموت، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن الرجل تأتيه الصعقة وهو يحمل اللقمة إلى فيه فلا يكاد يضعها في فيه إلا ويموت، وتأتي الرجل وهو يبيع ويشتري وينشر الثوب وإذا به تبقى يده على الثوب واليد الأخرى على المال.

وهكذا يأتي الموت أحدهم في البيت قائماً، والثاني قاعداً، والثالث يمد يده، والآخر يذرع؛ وهكذا تفجؤهم الساعة وهم في شئون الحياة وإذا بهم قد صعقوا، قال الله عنهم: فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس:50].

فلا يستطيعون أن يوصوا بحقوق ومعاملات كما يوصي الميت عندما يموت، لم يبق هناك وقت ولا زمن، قد أُعجلوا عن ذلك.

وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس:50].

أي: ولا أن يرجعوا إلى عيالهم وأولادهم ليوصوا أو يموتوا بينهم، تأتي الوفاة هكذا ويأتي الموت.

تكون نفخة الصعق (الموت) فلا وقت للتوصية، ولا وقت للعودة إلى البيت والرجوع فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس:50].

تفسير قوله تعالى: (ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون)

قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ [يس:51] وهذه النفخة الثالثة، وهي نفخة الحياة، ونفخة البعث بعد الموت، فينفخ إسرافيل وإذا الكل قيام ينظرون.

فقوله: (ينسلون) أي: يجرون، وجاء في الحديث أن ضعيفاً شكا لرسول الله عليه الصلاة والسلام ضعفه وما يصنع؟ قال: (عليك بالنسل) ومعنى النسل: الجري، أي: المشي بسرعة والهرولة، ويظهر أنه كان ضعيفاً لعدم التريض وعدم الحركة، فأمره بأن يتحرك ويمشي مسرعاً لعل أعضاءه تتحرك فيشفى ويعود إلى صحته.

يَنسِلُونَ أي: يجرون بسرعة، ومنه النسل، فالأبناء للآباء يعتبرون نسلاً، وإذا بالولد تراه صغيراً فيغيب زمناً فتأتي إليه وتجده قد أصبح رجلاً وأباً، وهو قد جرى من الطفولة إلى الأبوة، ثم تغيب عنه قليلاً وإذا به تجده قد أصبح شيخاً ذا أسباط وأحفاد؛ وهكذا الحياة تجري وتسرع.

قوله: فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ .

الأجداث: جمع جدث وهو القبر، أي: وإذا بهم يقومون من قبورهم يُتبعون إلى حيث العرض، وقد وردت أحاديث أن المحشر والمنشر سيكون في أرض الشام، فمن كان قريباً منها سيكون وصوله بقرب، ومن كان بعيداً منها سيتعب، ومع ذلك لا بد من الوصول طال الزمن أو قصر، وهناك يوم طويل كألف سنة مما تعدون، لو مشى من الألف سنتين مسرعاً على قدميه فسيصل لا محالة، وكم أتى من أناس للحج على أرجلهم من مشرق الأرض ومن مغربها وقد وصلوا ولا شيء عليهم.

قوله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ [يس:51].

أي: إذا هم يجرون إلى ربهم وإلى العرض عليه والقضاء.. إلى أخذ الظالم بظلمه، وإلى مكافأة المحسن برحمته وجنته.. إلى أن يقفوا بين يدي الله، واليوم شديد قال تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37] يشتد عرق الواقفين المعروضين على الله.. يعرقون عرقاً حتى يغرق بعضهم في غرقه إلى ركبته، والبعض إلى سرته، والبعض إلى جميع ترقوته ويبقى غارقاً ولن يموت؛ لأنه انتهى الموت، ولكن يبقى يعذّب، وتكون هناك منقبة وفضيلة في هذا اليوم، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (المؤذنون يوم القيامة أطول الناس أعناقاً)، فمن لم يفهم الحديث يقول: وما فضيلة طول العنق؟ أهو شيء جميل؟ وفضل هذا هو عندما يعرق الناس يوم العرض على الله تجد هذا مهما غرق في عرقه تبقى عيناه ومنافذ وجهه بعيدة عن الغرق، وذلك ببركة ما كان يدعو به بلسانه: أشهد أن لا إله إلا الله.. أشهد أن محمداً رسول الله.. حي على الصلاة.. حي على الفلاح، ذاك يوم المؤذنين، ومن قبل الله منهم طاعتهم وعبادتهم.

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا...)

قال تعالى: قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس:52].

أي: يقوم هؤلاء الكافرون الذين كانوا ينكرون البعث وهم يرون أنهم قد عاشوا بعد الموت ما كانوا ينكرونه، ثم عادوا وعاشوا في واقعه، فينادون إذ ذاك بالويل والثبور: يا ويلهم! يا ويلهم! أي: ما ينتظرهم من عذاب، والويل: هو مناداة، وهو نهر من القيح والصديد في النار؛ فكأنهم يستعجلون ذلك بغير قصد، فتجد الإنسان إذا تعجب أو خاف من عذاب أو ويل وهو في مستقبل أيامه تجده ينادي: يا ويلاه يا ويلاه.. يا مصيبتاه!

قوله: قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا [يس:52].

أي: من أقامنا؟ من أحيانا؟ من بعثنا وأعادنا للحياة ونحن رقود في هذه الدهور والأزمان المتطاولة.

قوله : مِنْ مَرْقَدِنَا .

المرقد معناه: أنه كان ممداً امتداد الراقد والنائم؛ وهذا ينافي ما هو معلوم من الدين بالضرورة عند من يفهم هكذا، فإن الكافر والعاصي يبقى في قبره يعذّب في روحه.. إلى أن يُبعث مرة أخرى، ويعذّب جسداً وروحاً، فكيف يهرب من الرقود؟ معناه كان مرتاحاً.

وقد فسّروا الآية بتفسيرين:

فـابن عباس وابن مسعود ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن البصري والجمهور قالوا: المعنى أن هذا الرقود كان يعتبر عذاباً بالنسبة إلى حالهم في الدنيا، أما العذاب المقبل -عذاب النار- الذي وصفه: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56] فهذا الرقود وهذا العذاب في القبر يعتبر راحة بالنسبة لذلك العذاب.

وقال البعض: وردت آثار في أن ما بين كل نفخة ونفخة أربعون عاماً، فالنفخة الأولى للصعق إلى البعث تبقى أربعين سنة، وفي هذه الحالة يرتفع عنهم العذاب، فيرقدون في راحة لم يروها منذ ماتوا، وإذا بهم عندما يبعثون ويعود النفخ مرة ثانية يتمنون أن لو بقوا رقوداً، وهم قد رأوا البعث والحياة الثانية وكانوا ينكرونها، وقد علموا ما ينتظرهم من عذاب وغضب: قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا [يس:52] أي: من موتنا.

وإذا بهم بعضهم يجيب بعض: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس:52].

اعترفوا بعد فوات الأوان، وندموا ولات حين مندم، فلا ينفعهم بعد ذلك إيمان، ولا ينفع الإنسان إيمانه إلا إذا كان حياً وقبل أن تصل الروح إلى الحلقوم؛ أما في يوم القيامة فلا ينفع الإيمان بالآخرة وهو يراها، ويعيش بحضورها، هيهات هيهات أن يكون ذلك.

وقوله: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس:52].

أي: هذا وعد الله قد ظهر وتم من الحياة الثانية، ومن البعث والنشور بعد الموت، فها نحن قد بُعثنا وقمنا من قبورنا.

قوله: وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ أي: صدق الأنبياء الذين أرسلهم الله بهذا، وأن هناك حياة ثانية دائمة لا موت فيها، فمن كان في النار فإلى أبد الآباد، ومن كان في الجنة فإلى أبد الآباد، هذا الذي وعد الرحمن ووعد الله جل جلاله.

فقوله: وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ أي: الذين جاءونا بهذا وبلغونا إياه.

تفسير قوله تعالى: (إن كانت إلا صيحة واحدة...)

قال تعالى: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس:53] .

هذه هي الصيحة الثالثة، إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً أي: ليست إلا صيحة واحدة في بوق أو في قرن إسرافيل المكلف بذلك، فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس:53].

(فإذا) فيها معنى المفاجأة وهي بمعنى: الاستمرار، ومضى معناها غير مرة في الكثير من الآيات.

قوله: فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ .

أي: فإذا جميع الخلق من آدم وحواء إلى آخرهم في الأرض.

قوله: مُحْضَرُونَ أي: كلهم يحضرون بين يدي الله ويعرضون على الله للحساب إما إلى جنة وإما إلى نار، إما أن الملائكة قد ساقوهم أو ألهموا ذلك؛ فكان الله هو الذي أخبرهم وأبلغهم جل جلاله بما ألهمهم في ذلك، وإن كان المعنى الأظهر بأن الملائكة قد أخذوا يسوقونهم من العرض على الله إلى الحساب والقضاء والحكم بين العباد.

تفسير قوله تعالى: (فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون)

قال تعالى: فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [يس:54].

هذا هو الفصل والقضاء، فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا أي: لا ظلم اليوم، والله قد حرّم الظلم على نفسه وحرمه على عباده، ففي الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، ويقول جل جلاله مع هذا الوعيد والتهديد يوم البعث كما وعد أنه لن يظلم أحداً: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].

ويبقى فضل الله بالنسبة لمن مات على التوحيد، والموحد الذي مات على التوحيد لن يخاف طال زمانه أو قصر، وقد يغفر الله له ذنوبه، وقد يدخل النار زمناً ثم يعود فيدخل الجنة؛ أما الكافر فقد حرّم الله عليه الجنة، ولا توبة له، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48].

فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا والشيء: كلمة تطلق على كل موجود حتى الذرة، كما قال الله في آية أخرى: فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فمن أتى بالخير فله الخير، وله الرضا والجنة، ومن جاء كافراً وقد أصر على الكفر إلى أن هلك فله النار والجحيم، فمن في النار مخلد فيها أبد الآباد، ومن في الجنة مخلد فيها أبد الآباد، والموت يذبح فلا موت بعد ذلك.

تفسير قوله تعالى: (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون)

قال تعالى: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [يس:55-56] .

نحن الآن نتكلم وندخل في الكلام على من أنعم الله عليهم، وعلى من مات على الدين والتوحيد، والكفر بالأوثان والأصنام، وهذا صنيع الله دوماً وسنته التي ما تغيرت في كتابه، حيث يكون الكلام على الكافرين مع الكلام على المؤمنين؛ لكي يعيش المؤمن ولا يغتر، ولا يأمن مكر الله؛ ولكي يعيش الكافر ولا ييئس فيرجو رحمة الله، وكما يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لو علم الكافر ما عند الله من رحمة لطمع في رحمته وجنته، ولو يعلم المؤمن ما عند الله من نقمة وعذاب لشاب وخاف ألا يدخل الجنة)، ولذلك يعيش الإنسان دائماً بين خوف ورجاء، وبين طمع وخوف.

قال تعالى: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ [يس:55].

يقول ربنا: أما أهل الجنة فهم اليوم في نعيم، والذي يعذب هم أولئك الذين يدخلون النار أبداً وسرمداً، وأهل الجنة هم أصحابها الذين ماتوا على الإيمان مطيعين له في حياته مؤمنين بأنبيائه مطيعين لهم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة يس [47-54] للشيخ : المنتصر الكتاني

https://audio.islamweb.net