إسلام ويب

لا يزال الله تعالى يسرد أوصاف المنافقين المخذلين للمؤمنين في غزوة الأحزاب، والذين إذا جاء الخوف رأيتهم تدور أعينهم، وإذا ذهب الخوف أظهروا الشجاعة والبسالة. ثم يأمر الله عباده المؤمنين أن يتخذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة وأسوة في كل أحوالهم.

تفسير قوله تعالى: (أشحة عليكم فإذا جاء الخوف ...)

قال الله تعالى: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [الأحزاب:19].

لا يزال الله جل جلاله يصف حال هؤلاء المنافقين الذين كادوا أن يحولوا غزوة الخندق أو الأحزاب إلى هزيمة للمسلمين، ولكن هيهات هيهات لا مذل ولا غالب لمن نصره الله وأعزه، فكشف الله كذب المنافقين وأظهر صفاتهم، حتى عرفها النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون.

فقوله: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ [الأحزاب:19].

الشح منتهى البخل، فهؤلاء يبخلون عليكم بالمال وبالأرواح وبالإخلاص وبالصدق وبالإيمان.

وقوله: فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ [الأحزاب:19].

أي: إذا حضرت معركة وجاء خوف على حياتهم وعلى أموالهم، تجدهم في غاية من الهلع، وقد وصف الله ذلك بأبلغ العبارة وأصدق الألفاظ، فقال: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [الأحزاب:19].

وصف الله نظرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عندما يشتد خوفهم وهلعهم من الحرب فقال: تراهم يا محمد ينظرون إليك في الظاهر، ولكن أعينهم تدور في محاجرها زائغة، لا يكاد يستقر بصرهم على مرئي لا لك ولا لغيرك، حالهم كحال المحتضر عند الموت عندما يزيغ بصره، تراه ينظر إليك وهو لا ينظر، وهؤلاء تراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون، وإنما أبصارهم شاخصة باهتة، شأن المرعوب الذي أصابه الهلع والجزع.

فيصف الله هؤلاء المنافقين بأقبح الصفات، يصفهم بالشح وهو أقبح أنواع البخل، وبالجبن الشديد الذي لا يتماسكون فيه، لا في قول ولا في بصر ولا في حالة، مع أن الرجل عند الخوف يتماسك ويظهر البطولة والشجاعة، أما هؤلاء عند الخوف تجدهم كالنساء.

وكما وصفهم الشاعر أنهم عند الخوف كالنساء العواتق أو كالأطفال الصغار، والنساء العواتق هن ذوات الحيض.

وهؤلاء المنافقون إذا زال الخوف أخذوا يتظاهرون بالرجولة والشجاعة، وإذا جاء الخوف إذا بهم يفرون فرار النعامة.

وقوله: فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ [الأحزاب:19].

أي: إذا ذهب الخوف من أنفسهم آذوكم وهاجموكم وشتموكم بألسنة حداد شرسة، تسمع منهم الكلمة الرذيلة واللفظة البذيئة، فهم يتفاصحون ويظهرون أنهم لا يهابون ولا يخافون، في حين إذا بدا أمامهم قط ظنوه نمراً، وإذا بهم يعودون إلى هلعهم وإلى وخوفهم.

وقوله: أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ [الأحزاب:19].

كانوا من قبل أشحة عليكم، أشحة في مشاركتكم في القتال بأموالهم وبأرواحهم وبالكلمات الطيبات، وعند زوال الخوف تجدهم أشحة على الخير، لا خير فيهم ألبتة، يشتد شحهم وبخلهم حتى بكلمة خير أو مساعدة في خير، أو عمل صالح، فهم لا خير فيهم، وهم ليسوا بشجعان، وليس لهم من الرجولة إلا الشكل، وإنما هم كالنساء الحيض.

وقال تعالى: أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ [الأحزاب:19]، أي: هؤلاء الجبناء الأشحاء، وهؤلاء الذين لا خير فيهم، وهؤلاء المنافقون؛ لم يؤمنوا ولكن أظهروا الإسلام، ولم يدخل الإيمان في القلب، والإيمان عمل القلب، ففي حديث جبريل فصل الإسلام عن الإيمان، وذلك عندما سأله عن الإيمان، فقال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله تعالى) أي: أن تصدق ذلك بقلبك.

وعندما سأل عن الإسلام، قال: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن تقيم الصلاة ..) إلى آخر الحديث أي: الإسلام هو إعلان ذلك باللسان بأن تنطق بالشهادتين، وهو عمل ظاهر بالجوارح كالصلاة والزكاة والصوم والحج.

إذاً: الإيمان يكون بالقلب، ولا يتم إسلام بلا إيمان ولا إيمان بلا إسلام، ولا نستطيع أن نعلم أن هذا قد آمن وصدق بقلبه؛ لأننا لا نكشف عن القلوب، ولكن اللسان يعرب عما في القلب، قال تعالى: أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ [الأحزاب:19]، أي: أولئك فيما أظهروا من صلاتهم ومن قتالهم ومن إيمانهم كانوا كاذبين لم يؤمنوا بقلوبهم، فأحبط الله أعمالهم، كما قال عليه الصلاة والسلام عن أمية بن أبي الصلت عندما قرئ عليه من شعره في التوحيد والإيمان فقال عنه النبي عليه الصلاة والسلام: (ذاك رجل آمن لسانه وكفر قلبه).

فإذا قال اللسان قولاً لم يصدقه القلب فهو النفاق، وهذا معنى قوله تعالى: أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ [الأحزاب:19].

أي: أولئك الذين وصفهم الله بالكذب والنفاق، وبالشح والجبن، وبسلاطة اللسان، وبظهور الرجولة عند ذهاب الخوف، وعند ظهور الخوف يكونون في غاية من الهلع والجبن، فهؤلاء الموصفون بهذه الصفات لم تؤمن قلوبهم، وإنما قال اللسان شيئاً لم يصدقه القلب، فأحبط الله أعمالهم، وأذهبها ومحقها.

وهكذا كل عمل لا يكون فيه إخلاص لله، وكل عمل شابه نفاق ورياء وسمعة فهو غير مقبول؛ لأن الله لا يقبل إلا ما كان خالصاً له، قال تعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3].

وقد بين صلى الله عليه وسلم صفات المنافق بقوله: (إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر) أي: ليس له عهد ولا صدق ولا إخلاص.

وقوله: وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [الأحزاب:19].

أي: إحباط أعمالهم وإذلالهم وتخليدهم في النار إن ماتوا على النفاق يسير على الله وهين، لأنهم لم يصدقوا في إيمانهم.

تفسير قوله تعالى: (يحسبون الأحزاب لم يذهبوا ...)

قال الله تعالى: يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:20].

تفرقت الأحزاب من قريش وغيرها وعادت بخفي حنين، عادت خائبة إلى نجد وإلى مكة، أما اليهود فتوجه لهم نبي الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم في حصونهم إلى أن خضعوا لحكم سعد بن معاذ ، فقتل الرجال وسبى النساء والأطفال وأخذ الأموال غنيمة، وكانوا عبرة لكل معتبر من كل منافق وكافر، وكفى الله المؤمنين القتال.

ومع كل هذا الذي رآه المنافقون فهم لا يزالون يظنون أن الأحزاب الذين تجمعوا حول الخندق وحول المدينة المنورة يحسبون ويظنون أنهم لم يذهبوا، وأن قريشاً وغطفان لا تزال محاصرة للمدينة، ولو أن العين قد رأت غير ذلك، ولكنه من رعبهم وهلعهم، وصعود قلوبهم وخروجها من مكانها رعباً وهلعاً ظنوا أن الأحزاب لا تزال ولم يذهبوا.

وقوله: وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ [الأحزاب:20] أي: وإن عادوا فهم يظنون أنهم لم يذهبوا أو أنهم ذهبوا ليعودوا.

وقوله: وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ [الأحزاب:20].

أي: لو رجع الأحزاب فإن المنافقين يتمنون ويحبون ويودون أنهم لا يكونوا في المدينة، وإنما يكونون في البادية خارج المدينة بعداء عن متناول هؤلاء الأحزاب، وهم مع بعدهم يلحقهم الخوف إلى هناك، فتجدهم يسألون يريدون أن يسمعوا أن المسلمين قد هزموا، ليأتوا وقد ذهب الخوف فيؤذوا المؤمنين بألسنة حداد، وهم أشحة على الخير كما وصفهم الله جلا جلاله.

وقوله: وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ [الأحزاب:20] أي: وعلى فرض أنهم عادوا إليكم ودخلوا صفوفكم وتظاهروا أنهم من جندكم، مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:20] فهم سيعودون إلى حالهم من الجبن والبخل والهلع والتظاهر بالقتال ولا قتال، فهم لا يقاتلون إلا بالألسن فتراهم ينفرون ويعوقون المؤمنين عن القتال، ويفرون عند أول اللقاء مع العدو.

إذاً: هؤلاء لا خير فيهم سوء كانوا في العصور السابقة أو في العصور اللاحقة، فهم في كل وقت وعصر يقولون عن الإسلام ما لا يليق، فتجدهم الآن يقولون: إن أحكام الإسلام فيها قسوة، أو أنها لا تصلح لزماننا هذا، فقائل هذا القول منافق كافر لم يؤمن قلبه، وإن آمن لسانه فهو كاذب مخادع منافق.

تفسير قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ...)

قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].

أي: يا مسلمون في عموم أقطار الأرض لم لا تتخذون محمداً نبي الله الأسوة والقدوة الصالحة؟!

فنبي الله عليه الصلاة والسلام قد أوذي في مكة وأوذي في المدينة، وحضر هذه المعارك بنفسه الشريفة عليه الصلاة والسلام فشتم، وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم، وشج وجهه، وهجر سنوات حتى اضطر مع أصحابه أن يأكل ورق الشجر زمناً ودهراً، وقيل عنه: ساحر، وقيل عنه: كاذب، ومع كل هذا لم يزده ذلك إلا رسوخاً في الله وثباتاً في أمر الله وقياماً بدعوة الله، وهاهو في غزوة الأحزاب شارك بنفسه عليه الصلاة والسلام، وأخذ المعول وكسر الصخور والأحجار، وثبت ثبوت الجبال الرواسي، فلم يبخل بنفسه ولا ماله، ولم يخف عدواً مهاجماً أو مترصباً أو محاصراً، فلم لا تتخذون يا هؤلاء نبيكم محمداً عليه الصلاة والسلام القدوة والأسوة؟!

قرئ: (الأسوة) و(الإسوة) وكل ذلك متواتر في القراءات السبع، وهما بمعنى واحد.

(الأسوة) مكان التأسي والاقتداء والاتباع، والله جلا جلاله أمرنا بأوامر ونهانا بنواهٍ، وأنزل علينا الكتاب فيه بيان الحلال والحرام، وفيه بيان الآداب والرقائق، وفيه تفصيل العقائد، وفيه الكلام على الدنيا والآخرة، فيه خبر أهل الجنة وأهل الجحيم، وصفة كل واحد منهم.

ومع ذلك فكل هذه التفاصيل أجملها الله تعالى في أن تتخذوا محمداً نبيكم رسول الله أسوة وقدوة، فانظروا عمله وهديه وعبادته وشجاعته وكرمه فاجعلوه قدوة وأسوة، هذا إن كنتم صادقين في الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر.

أما إذا كان الإسلام باللسان فقط والقلب ينكر ما يقوله اللسان فذاك النفاق، والمنافق لا يأتسي بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا يقتدي به، ولا يصدق رسالته، ولا يخلص لدعوته.

وقوله: (لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ).

أي: يرجو رحمته ويرجو جنته ويرجو رضاه، ويخاف عذابه ونقمته، يخاف عذاب الآخرة، يخاف يوم الحساب ويوم العرض على الله، فهو في الدنيا يعيش بين خوف وطمع، يخاف عذاب الله، ويرجو رحمة الله.

وقوله: (وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا).

أي: هو كثير الذكر باللسان، والذكر بالجوارح؛ ليكون مؤمناً حقاً لا شائبة نفاق فيه.

تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة...)

قوله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ [الأحزاب:21].

هذه الآية الكريمة شرحها النبي عليه الصلاة والسلام عندما ذكر اختلاف الأمم السابقة واللاحقة، فقال عليه الصلاة والسلام: (اختلفت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستختلف أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: يا رسول الله! ومن هذه الواحدة؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي).

أي: ما كان عليه الصلاة والسلام فيه من عقائد، ومن عبادات، ومن آداب، ومن جهاد، ومن كرم، ومن طاعة لله، ومن قيام وتهجد، ومن مختلف أنواع الطاعات.

فالفئة الناجية الصالحة التي على الحق هي من اتخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة والأسوة والإمام والمتبوع، فلا إمام غيره ولا متبوع سواه، وكل النبوات السابقة ليست لعموم الناس، ولكنها لأقوامهم ولعشائرهم، ولم تكن رسالة عامة لمختلف أنواع البشر والأجناس وفي جميع الأعصار إلا رسالة محمد عليه صلوات الله وسلامه.

ولم يكن موسى وعيسى وغيرهما إلا أنبياء في أقوامهم من بني إسرائيل، ولذلك يقال عنهم: أنبياء بني إسرائيل، وزاد هذا تأكيداً قول النبي عليه الصلاة والسلام: (أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي، فذكر منها: أن الأنبياء كانوا يبعثون إلى أقوامهم خاصة وأنا بعثت إلى الناس كافة).

وقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158] فيوم ظهر صلى الله عليه وسلم في هذه البطاح المقدسة أمر أن يدعو كل الناس في مشارق الأرض ومغاربها من عاصروه ومن جاءوا بعده، من كانوا معه ومن كانوا بعيدين عنه، ليبلغ الحاضر الغائب، فالكل مدعو للإيمان بالرسالة المحمدية، والكل مدعو إلى الإيمان بمحمد النبي الخاتم الذي لا نبي بعده ولا رسالة بعد رسالته صلى الله عليه وعلى آله.

حكم الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم

اختلف العلماء هنا هل الأسوة بالنبي عليه الصلاة والسلام فرض واجب في الحلال والحرام والآداب وشئون الدنيا والآخرة؟

فقال علماؤنا: الأسوة برسول الله عليه الصلاة والسلام واجب من الواجبات وركن من الأركان، فينبغي أن نرى كيف صلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فتكون صلاتنا كصلاته أركاناً وواجبات، وسنناً، وآداباً، وأوقاتاً، فالتأسي به في ذلك واجب وحق، حتى إذا اختلفنا في آية أو في حديث، أو في مفهومهما، كان المرجع في تحقيق ذلك الأسوة المحمدية النبوية.

من باب المثال: نحن نتوضأ في الليل والنهار مرات، ومع ذلك هذا الرأس الذي نمسحه عند كل وضوء اختلف الأئمة الأربعة فيه هل الواجب مسح جميع الرأس أو ربعه أو بعض شعرات منه؟

قال الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد : يكفي مسح بعض الرأس.

وقال مالك منفرداً من بين الأربعة: يجب مسح جميع الرأس، واستدل بقوله تعالى في الآية الكريمة: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6]، وقال: الباء للإلصاق، يعني: أمر الله أن نلصق أيدينا برءوسنا جميعاً.

وقال الأئمة الثلاثة: الباء للتبعيض، أي: امسحوا بعض الرأس، والآية الكريمة تحتمل التبعيض والإلصاق، وما احتمل واحتمل سقط به البرهان والاستدلال، فما المرجع؟

يقول بعض علماء الأصول: عندما يختلف في فهم النص ويحتمل نرجع إلى الأسوة والقدوة صلى الله عليه وسلم فننظر كيف قال، وكيف فهم، وكيف نفذ ذلك القول، والنبي عليه الصلاة والسلام توضأ مرات بعدد أيام سنينه منذ نبئ وهو ابن أربعين سنة، إلى أن ذهب إلى الرفيق الأعلى وهو ابن ثلاث وستين سنة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فماذا كان يفعل؟

أجمع الفقهاء على أنه كان يمسح جميع رأسه إلا في صورة حكيت: أنه كان به وجع في الرأس من شدة برد المدينة، فعندما حاول مسح جميع الرأس أمال العمامة قليلاً ومسح على الناصية، وأتم المسح على العمامة، فالجمهور قالوا: إنه بهذا الفعل يكون قد مسح بعض الرأس.

فقيل لهؤلاء: إن كان هذا الفهم صحيحاً فما باله مسح على العمامة؟

أي: مادام مسح الناصية كافياً فلم مسح على العمامة؟ فهو لم يمسح عليها إلا وقد اعتبرها نابت عن مسح جميع الرأس، وذلك دليل الإمام مالك، وهو الحق، أعني أن مسح جميع الرأس فرض واجب، وأن الباء للإلصاق؛ لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يتجاوز ذلك.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الأحزاب [19-21] للشيخ : المنتصر الكتاني

https://audio.islamweb.net