إسلام ويب

يوجه الله زوجات نبيه صلى الله عليه وسلم بما يجب عليهن من الأدب، وأن الله تعالى قد فضلهن على غيرهن من النساء، فمن أتت منهن بفاحشة ضوعف لها العذاب؛ وإذا اتقين الله ولزمن بيوتهن فلهن الأجر العظيم.

تفسير قوله تعالى: (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين...)

قال الله تعالى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [الأحزاب:30].

بعد أن اخترن الله ورسوله نزلت الآيات في نسق واحد، فقد توعدهن الله وأنذرهن أن يؤذين رسول الله من غيرة بعضهن من بعض، حتى لقد كانت عائشة تهجر رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم كله، وكلهن يهجرن رسول الله اليوم واليومين والثلاثة؛ لشدة غيرتهن، بل لقد كانت عائشة تهجر الحديث معه، فقال لها يوماً عليه الصلاة والسلام: (يا عائشة إني لأعلم عندما تكونين عني راضية وعندما تكونين عني غضبى، قالت: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا غضبت قلت: لا ورب إبراهيم، وإذا رضيت قلتِ: لا ورب محمد، فقالت: والله يا رسول الله لا أهجر إلا اسمك).

فهن يردن الدلال عليه، وهذا حق الزوجات على الأزواج، ولكن لا يصل الدلال إلى الإيذاء لرسول الله عليه الصلاة والسلام.

وكان شيخ أعرابي متزوجاً صغيرة ففرت منه وذهبت عند أهلها وامتنعوا أن يردوها عليه، فجاء يشتكي إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام بقطعة شعرية بليغة ختم القصيدة والشكوى الشعرية بقوله: وهن شر غالب لمن غلب، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يكرر معه هذا الشطر من البيت فيقول: (وهن شر غالب لمن غلب).

فهو صلى الله عليه وسلم قد قاسى من غلبة فيهن، ومن كثرة دلالهن عليه لكن الله غار عليه أكثر من غيرته على نفسه صلى الله عليه وسلم، فأدبهن وأنذرهن، وأمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يراجعهن فيما إذا أصررن على أن يعشن ملكات مترفات أن يطلقهن ويمتعهن، ويذهبن إلى حال سبيلهن، ولكنهن رضي الله عنهن كن جميعاً من التقوى والإيمان ومن الحب لله والطاعة لرسول الله في الدرجة القصوى، بحيث لم تستشر إحداهن أباً ولا أماً، ومن أول مرة قلن له: أفيك نستشير أبوينا يا رسول الله؟ نحن نختار الله ورسوله والدار الآخرة، وبعد هذا لم يعدن أبداً إلى طلب شيء من رسول الله عليه الصلاة والسلام.

فالله يتوعدهن بقوله: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ [الأحزاب:30].

والفاحشة هنا فسرت بالنشوز على رسول الله، وبمخالفته المخالفة الدلالية التي تكون بين الزوج والزوجة، لا المخالفة التي تكون بين المؤمن ورسول الله فهي ردة وكفر، وهي خروج عن طاعة رسول الله، وخاصة عندما يأمر كفاحاً ومواجهة فيعتبر ذلك تمرداً، لكن فسّروا الفاحشة هنا بسوء الخلق والنشوز والإيذاء بكثرة المطالب وشدة الغيرة.

وننقل ما قاله القرطبي وغيره: حتى لو كان الإنذار بالفاحشة المعروفة من الفساد والزنا وحاشاهن من ذلك، فالشرط لا يلزم منه الوقوع، وقد قال الله لنبيه: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] ورسول الله معصوم من الذنوب صغارها وكبارها، ولكن إذا قيل هذا للرسول عليه الصلاة والسلام فغيره ممن ليس معصوماً من باب أولى.

ولم يكد يموت رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى ارتد الكثير من العرب، وتنبأ أربعة من الكذبة وادعوا النبوة، وامتنع الكثيرون من أداء الزكاة ممن بقوا على الإسلامه، وقد أنذرهم الله قبل أن يكون ذلك فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54].

أعني أن الشرك والكفر يكون من غير الأنبياء وقد كان، أما من الأنبياء الذين عصمهم الله فلا، وتكريماً للأنبياء ولرسول الله في الدرجة الأولى لم تصدر الفاحشة من إحدى زوجاته، ولن يكون ذلك، وهو يبقى شرط، والشرط لا يلزم منه الوقوع، وأمهات المؤمنين لا يأتين الفاحشة، وبالتالي لا يعاقبن لا ضعفاً ولا ضعفين، ولا مرة ولا مرتين، ولكنه وعيد وإنذار ليعلمن أنه لا يوجد عبد من عبيد الله من الأنبياء فمن دونهم فوق حساب الله وعقاب الله، وأن الخروج عن أمر الله جزاؤه العذاب.

والله أراد أن يجعل من أمهات المؤمنين مثالاً لباقي المؤمنين والمؤمنات، فقال: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب:30] أي: يضاعف فيما لو فعل مثل ذلك غيرهن مرتين في الدنيا والآخرة.

وقوله: وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [الأحزاب:30].

أي: أن مضاعفة العذاب لهن -إن صدر منهن ذلك- هين على الله ويسير عليه؛ لأنهن إن فعلن ذلك لم يكن لهن عند الله مقام ولا اعتبار، فيعذبهن ويضاعف لهن العذاب في الدنيا والآخرة، ومن إكرام الله للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن إكرامه لهن لم يصدر ذلك عنهن، وبالتالي لم تكن عقوبة لا مرة ولا مضاعفة.

نكون قد ختمنا من كتاب الله واحداً وعشرين جزءاً ولله الحمد والشكر والمنة، أي: بقي علينا تسعة أجزاء، وهي أقل من الثلث، وندعو الله ونرجوه ضارعين كما أعاننا على تفسير كتابه إلى حيث وصلنا، أن يعيننا على إتمامه، وأن يقبله فضلاً منه وشكراً له جل جلاله.

وقد مضى على هذا تسع سنوات، ومما أشكر الله عليه وأشكر عليه أخانا الشيخ محمد ناظرين؛ لأنه قد سجّل جميع ما مضى معنا من تفسير في أشرطة، فأصبح لنا تفسير منطوق به، وكون القرآن سجِّل متلواً فهذا عرفه كثير، أما أنه سجِّل التفسير من البداية إلى النهاية لم أسمع بهذا، وتسجيل واحد وعشرين جزءاً نعمة أشكر الله عليها.

وقد كنت أكتب التفسير في أيامي الأولى وكتبت بضعة أجزاء، ثم توقفت عن الكتابة عندما شعرت بأن أخانا الملازم لنا منذ تسع سنوات يسجّل ذلك ويتكلف له مالاً، ويتكلف له زمناً وعملاً، فحمدت الله أولاً، ثم شكرته على صنيعه.

تفسير قوله تعالى: (ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين ...)

قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا [الأحزاب:31].

أي: يا نساء النبي! من عاشت منكن مطيعة لربها ومطيعة لزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، عاملة للصالح من الأعمال، نؤتها أجرها مرتين.

وطاعة الله طاعته في كتابه، وطاعة رسول الله طاعته في سنته، وفعل الصالح القيام بالأركان وما يتعلق بها من واجبات وسنن وآداب ومستحبات.

والواجب لا يترك بحال أبداً، والسنة مأجور فاعلها، قد يعاتب تاركها إن تركها ألبتة، والمستحبات زيادة نوافل، والإحسان: هو الرتبة العليا كما في حديث جبريل الذي رواه عمر وغيره عندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام ثم عن الإيمان ثم عن الإحسان، فقال: (الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، ومن يعبد الله يره بعين القلب والبصيرة:

وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد

عندما يرى نفسه وخلقه يرى الله في ذلك، ويقول: كيف خلقني ربي؟ من الذي يستطيع أن يخلق مثل هذا الخلق الناطق الناظر السامع المتحرك العاقل المدرك؟

عندما يريد الضالون أن يصنعوا تماثيل من أحجار أو أخشاب أو من أي شيء تجد أنهم بعد أن يصنعوها يتباهون بعملهم، وأن فلاناً مبدع؛ لأنه صنع هذه الصورة الجميلة، ولكن مع ذلك قل له: دعها تنطق أو تتحرك أو تعقل، ومن صنع ما حرمه الله عليه فسيقال له يوم القيامة: أحي ما صنعت؟ ولن يفعل، وأين ذاك من خلق الله، عندما يخلق إنساناً أو حيواناً أو أي شيء، كيف ترى حركات هذا المخلوق ووعيه وإدراكه، من الذي يستطيع أن يفعل ذلك سوى الله جل جلاله؟!

فأمهات المؤمنين يحضهن الله على فعل الخيرات وأعلاها، فيقول: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا [الأحزاب:31] وفعل الصالحات وفعل الإحسان يأتي من المحسنات، قال سبحانه: فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:29].

والمحسنات هن القائمات بالإسلام حركات وأركاناً وعبادة وواجبات، والقائمات بالإيمان تصديقاً قلبياً لا شائبة شك فيه، والقائمات بالإحسان اللاتي يعبدن الله كأنهن يرينه، فإن لم يصلن لهذه الدرجة فليعبدنه وهن يعلمن أنه يراهن، ومن عبد الله هكذا تجده على غاية ما يكون من الخشوع ومن السكون ومن الحضور ومن الفكر فيما يتلو ويقرأ، وهو على غاية ما يكون من الهيبة والأدب مع الله.

وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا [الأحزاب:31] (من): اسم موصول يطلق على المفرد المذكر والمؤنث، وعلى المثنى المذكر والمؤنث، وعلى جمع الذكور والإناث، فتقول: من جاء من الرجال؟ من جاء من النساء؟ وهكذا هنا.

فقوله: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا [الأحزاب:31] أي: من أطاعت الله ورسوله وعملت الصالح، فإن الله أعد للمحسنات منهن أجراً عظيما.

وقوله: نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا [الأحزاب:31].

أي: يؤتيها الله أجرها مرتين: أجر الدنيا ببقائها زوجة في عصمة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأجر كونها قدوة للمؤمنات والمؤمنين بسماعها لرسول الله ولحكمته، وبسماعها للآيات المنزلة عليه صلى الله عليه وعلى آله.

وأجرها يوم القيامة في الدار الآخرة بجعلها في أعلى مقام مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى، وأي أجر وأي ثواب أعظم من أن يكن مع رسول الله عليه الصلاة والسلام في الفردوس الأعلى.

تفسير قوله تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول ...)

قال الله تعالى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [الأحزاب:32].

قوله: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ [الأحزاب:32]:

يخاطب الله جل جلاله نبيه بالنبوة والرسالة، فإذا كان الله يقول ذلك ويتكلم بذلك جل جلاله مع رسوله صلى الله عليه وسلم فنحن من باب أولى، والله سبحانه يعلمنا بذلك ويؤدبنا، فمن ينطق ويتكلم عن رسول ويقول: قال محمد وذهب محمد فقد خالف نهج القرآن وفعل الله جل جلاله في كتابه، والأدب الذي يجب أن يكون مع الرسول، والصواب أن يقول: قال رسول الله، ونطق نبي الله، وسمعت رسول الله، ورويت عن نبي الله، وذلك الله جل جلاله مع ألوهيته وعبودية عبده محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يخاطبه بالنبوة ويدعوه بالرسالة، ويتكلم عن نسائه بمثل ذلك: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [الأحزاب:32]، أي: يا نساء النبي درجتكن وفضلكن ومقامكن ليس كأحد من النساء.

وأحد أبلغ من إحدى، وأحد يدخل على المذكر والمؤنث، وإحدى لا تدخل إلا على المؤنث.

وقوله: إِنِ اتَّقَيْتُنَّ [الأحزاب:32].

أي: ويا نساء النبي أنتن في درجات لا يوازيكن فيها أحد من نساء العالمين، فأنتن أفضل الخلق بعد الرسل والأنبياء، وأنتن في أعلى الدرجات، وأنتن في رفقة نبيه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة في الفردوس الأعلى، وكنتن في الدنيا معه صباحاً مساءً، تسمعن ما يتلى عليه وتسمعن ما ينطق به من الحكمة.

ومن فضلهن على الله وكرامتهن في أنفسهن أنهن جميعاً اتقين الله، ولم يأتين بفاحشة لا مبينه ولا غير مبنية، وهن عندما اتقين الله استحققن باستمرار أن يكن أمهات للمؤمنين، وأن تذكر الواحدة منهن بالرضا، كأن نقول: عائشة رضي الله عنها، وأم سلمة رضي الله عنها، وحفصة رضي الله عنها، وهكذا لا يذكرن إلا بالتبجيل والاحترام والترضي، وبأنهن أعلى طبقات النساء في الأرض.

فقوله: إِنِ اتَّقَيْتُنَّ [الأحزاب:32] علق الله ذلك الفضل بالشرط، والشرط التقوى، والتقوى هي القيام بالحلال وترك الحرام، والتقوى هي الإيمان بالله وبرسوله، وطاعة الله وطاعة رسوله، وأمهات المؤمنين رضي الله عنهن كن على هذا المنوال وعلى هذا المنهج تقى وصلاحاً، فقد قمن بالشرط خير قيام؛ لأنهن سيدات نساء المسلمين على الإطلاق والشمول والاستغراق.

ثم أخذ الله يعلمهن الأدب، ويعلمهن ما يكن به القدوة والأسوة للناس جميعاً، إذ هن أمهات المؤمنين، فقال الله لهن: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ [الأحزاب:32].

والخضوع بالقول: هو اللين فيه وتكسيره وترقيقه، فالله منعهن من ذلك ألبتة، وألا يكون ذلك إلا لزوجهن أو محارمهن المحرمية الدائمة كالأب أو الابن أو الأخ أو العم، أما المحرمية المعلقة على المصاهرة غير الدائمة فليست بهذه الدرجة.

فقوله: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ [الأحزاب:32] أي: لا تتكلمن بلين مع الأجانب ولا برقيق الكلام، وهذا أمر لهن وهو أمر لجميع المسلمات.

وقد أذن الله لهن بعد حجبهن في الكلام من وراء حجاب، فقال ربنا لنا: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53] والسؤال يحتاج إلى جواب.

وقال لهن هنا: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ [الأحزاب:32] لم؟ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32] أي: الناس ليسو سواء؛ لأن القلب المريض الفاجر إذا سمع الأنثى تتكسر في قولها وتلين وتترقق فيه قد يدعوه ذلك إلى الطمع وإلى الغزل وإلى ما لا يليق.

فكون هذا تأديباً لأمهات المؤمنين هو في الحقيقة تأديب لمن يأتي بعدهن ولمن عاصرهن من نساء المؤمنين، فالمرأة يحرم عليها تحريماً باتاً أن تتحدث مع الأجانب متكسرة في قولها لينة في كلامها، وهذا يعتبر فجوراً وفساداً وقد حرمه الله جل جلاله، فتكون المرأة بترقيقها كأنها عرضت نفسها على شهوات الفجار وعلى نزوات الفساق وعلى أمراض القلوب.

وقوله: وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [الأحزاب:32].

القول المعروف: هو ما عرفه الله وما عرفه رسوله عليه الصلاة والسلام وعرفته الآداب العامة الإسلامية، لا ما عرفه ما يسمى بالحضارة الزائفة، وما يسمى بالأخلاق الكاذبة، وما يسمى بالأدب الاجتماعي حتى ولو كان فاسداً، وحتى ولو كان فاحشة وفحشاً، ولذلك قيد وقال: وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [الأحزاب:32] أي: قلن القول الذي يعرفه القرآن وتعرفه السنة وتقره، ويعرفه المسلم المتدين ويقره.

تفسير قوله تعالى: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى...)

قال الله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33].

أمر الله نساء رسوله صلى الله عليه وسلم بلزوم الإقامة في البيت، والأمر لهن أمر لنساء المسلمين قاطبة.

فقوله: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33].

قرن: من القرار والملازمة والإقامة، أي: لا تخرجن من دياركن إلا لما لا بد منه،

ولذلك أذن بعد ذلك، وهو مفهوم قوله تعالى: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33] أي: إن كان هناك داع للخروج كالخروج للصلاة في المسجد أو الحج أو لزيارة رحم أو لسبب من الأسباب الشرعية الواجبة فلا بأس.

أما سوى ذلك فكما قال الله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33] أي: الزمن بيوتكن وأقمن فيها، ولذلك أخذ النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع نساءه جميعاً فحججن معه، ثم قال لهن عليه الصلاة والسلام: (هذه ثم ظهور الحصر) أي: هذه الخرجة للحج فقط، وبعد ذلك الزمن الحُصُرَ في بيوتكن فلا خروج ألبتة.

وكانت أم سلمة لا تخرج من بيتها أبداً إلى أن لقيت الله، وكذلك كن أمهات المؤمنين، وما كان من خروج عائشة في معركة الجمل إنما كان ذلك قضاء وقدراً، وكان عن اجتهاد منها، ثم ندمت وبكت واستغفرت.

وعندما طلب عمر رضي الله عنه منها مكاناً ليدفن فيه بجوار صاحبيه، وكانت الغرفة التي فيها النبي عليه الصلاة والسلام وأبو بكر هي مسكنها وغرفتها، أرسل ولده عبد الله وقال له: اذهب إلى أم المؤمنين عائشة فاطلب منها أن أكون مع صاحبي فكان الجواب أن قالت: سأوثر أمير المؤمنين به وكنت أريده لنفسي.

فعندما حضرت معركة الجمل ورجعت وندمت قالت: أدفنوني مع أمهات المؤمنين، ادفنوني مع أخواتي من أزواج رسول الله عليه الصلاة والسلام في البقيع، فما صدر عني لا يصح أن أكون فيه معه رسول الله، قالت هذا لنفسها، وهي إنما فعلت ذلك اجتهاداً، وما أرادت إلا الخير، وما قصدت إلا الإصلاح، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، ولكنها عاقبت نفسها بأن منعت نفسها من أن تدفن مع رسول الله وصاحبيه.

فقوله: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33] أي: لا يخرجن إلا إلى المساجد أو إلى أمر يجب عليهن الخروج له، قال نبي الله عليه الصلاة والسلام: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) ومع ذلك قال لهؤلاء الإماء: (صلاة المرأة في بيتها خير لها من الصلاة في المسجد، وصلاتها في مخدعها خير لها من صلاتها في بيتها)، ومع ذلك قد أذن لها بالصلاة في المسجد بشروط:

قال عليه الصلاة والسلام: (فليخرجن تفلات) أي: غير متزينات ولا متبرجات ولا متعطرات، فإن كانت ستخرج إلى المسجد متزينة متبرجة كاشفة زينتها ففي هذه الحالة تحرم عليها الصلاة في المسجد، لما يصدر منها من التبرج، ولذلك لما قال الله: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33] قال بعد ذلك: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33] أي: أذن لهن بالخروج إلى الصلاة، لكن بلا تبرج، وإنما يخرجن تفلات غير متعطرات وغير متزينات وغير متبرجات، وأذن لهن في الخروج لصلة الرحم وللضرورة الماسة التي لا بد منها، أما الخروج إلى الأسواق والتلاعب في الشوارع وما نرى عليه عصرنا الفاسد فتلك الجاهلية الثانية.

فقوله: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33].

التبرج من الظهور، ومنه سمي البرج برجاً؛ لكونه متبرجاً ظاهراً بارزاً، والمرأة عندما تريد أن تظهر زينتها لرجل تبرز ذلك بزينة وعطر وكشف ما لا يجوز من محاسن ومن شعر ومن جيد أو أي شيء حرمه الله عليها.

قال: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33] أي: الجاهلية التي قضى عليها الإسلام وجاء بعدها، ومنه سمي العصر عصر جاهلي والشعر شعر جاهلي، والعمل عمل جاهلي، والنبي عليه الصلاة والسلام قد قال لبعض أصحابه عندما قال لعبد: يا ابن السوداء قال: (إنك امرؤ فيك جاهليه) أي: عندما عيره بأمه ولونه، وما الفرق بين الأبيض والأسود وكل ذلك خلق الله؟ وكم من أسود هو أتقى وأشرف وأقرب إلى الله من كثير من البيض!



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الأحزاب [30-33] للشيخ : المنتصر الكتاني

https://audio.islamweb.net