إسلام ويب

لقد أرسل الله تعالى نبيه موسى عليه السلام إلى فرعون وملئه ليدعوهم إلى الله تعالى، فإذا بفرعون يتوعده بقتله، وأنه ما جاء إلا ليفسد الناس ويضلهم عن سواء السبيل، فما كان من موسى عليه السلام إلا أن استعاذ بالله تعالى والتجأ إليه من شر فرعون وقومه، فكفاه الله تعالى شرهم، ونصره عليهم.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين)

قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ [غافر:23].

نعود مرة أخرى إلى قصة موسى وقد مضت غير مرة في سور سابقات، والحكمة من تكرار قصة موسى وبني إسرائيل -وإن كانت عند كل مرة تكرر بمعنى جديد، وبمغزى جديد، وبعبرة جديدة، وبحكمة جديدة- ليرسخ ذلك في الأذهان، وكما أقول باستمرار: الشيء إذا تكرر تقرر، والشيء عندما يكرر يصبح قراراً ثابتاً ممكناً، ولأن أقرب الأنبياء إلينا هم أنبياء بني إسرائيل ومنهم موسى، وهو من أولي العزم من الرسل، ومنهم خاتمهم عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فالله عندما يقص علينا قصص بني إسرائيل يهوداً ونصارى ذلك لنتعظ بما جرى لهم، حتى لا نعمل عملهم، ولا نفعل فعلهم، ولا نرتكب جرائمهم، فإن نحن فعلنا فعلهم عاقبنا الله بما عاقبهم به، وهذا سر تسلط اليهود أحقر الأمم والشعوب وأذلها وألعنها وأبغضها على مسلمي هذا العصر؛ لأنهم تركوا الله فتركهم، ونسوا الله فنسيهم، وعوضوا الإمامة المحمدية بالإمامة اليهودية، وتركوا محمداً وصحبه إلى ماركس اليهودي الشيوعي الملحد وإلى أصحابه، فتركوا الإسلام، وتركوا مذاهب الخلفاء الراشدين وطرائقهم السديدة إلى المذاهب اليهودية: من شيوعية، واشتراكية، ووجودية، وماسونية، وقاديانية، وبهائية.. وما إلى ذلك، كل هذه الأسماء القذرة الوسخة التي لا تحمل إلا قذارة وضلالاً أصبح العرب والمسلمون يتبارون ويتسابقون من يكون يهودياً أكثر من الآخر؟! ومن يكون شيوعياً؟! ومن يكون ماسونياً؟! ومن يكون وجودياً؟! وهل هذه المذاهب جميعها إلا مذاهب يهودية، وهكذا إلى أن خضعوا وتهيئوا لخلافة اليهود عملاً، والركون في ذلهم والاستسلام لهم، ورفع راياتهم في بلاد المسلمين، والاهتمام بهم، وفرض التحيات لهم، واستقبالهم استقبال المسلمين الصالحين، وهل هناك غضب وذل أكثر من هذا؟ ومن يصنع ذلك يجد من قومه وعشيرته من يصفق له ويسانده ويقويه، وقديماً قال ربنا عن فرعون: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ [الزخرف:54].

وهكذا دواليك عندما يلعن الله متهوداً ذليلاً حقيراً لم يهود حتى يجد من عشيرته وأتباعه من يسانده ويقويه، هذا الذي حذرنا الله منه في كتابه، فعندما يذكر قصة موسى وما جرى بينه وبين فرعون وهامان وقارون من محنة ومن عذاب لنبتعد عن ذلك، فعندما لم نفعل يعاملنا الله معاملة اليهود ذلاً وهواناً، وقد سلط الله اليهود على هؤلاء الذين تركوا دين الله، وأخذوا يحاربون الإسلام ويتبعونه لليهودية، ويحاربون القرآن ويتبعونه بالتوراة والإنجيل المحرفة، ويحاربون العلماء ويقتلونهم وينذرونهم بالوبال الشديد، ويأتون إلى علماء اليهود من حاخامات وأحبار فيجلونهم ويجعلونهم شركاء من دون الله، فما زادهم الله بذلك إلا ذلاً وهواناً في الدنيا، ولعذاب الله أشد وأنكى، هذا الذي يحذرنا الله منه منذ أنزل الله كتابه الكريم على خاتم رسله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

تفسير قوله تعالى: (إلى فرعون وهامان وقارون...)

قال تعالى: إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [غافر:24].

أرسل الله تعالى موسى إلى هؤلاء القادة من فراعنة وأقباط مصر في جاهلية مصر، أرسله بالآيات البينات وبالدلائل الواضحات، بالمقبول من المعقول ومما لا يدفعه عقل سليم، وبالمعجزات التي كانت من القمل والضفادع والدم والطوفان، فما زادهم ذلك إلا إصراراً على الكفر وتكذيباً لنبييهم موسى وهارون.

قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ السلطان: الحجة والدليل القاطع مع الحجة الواضحة البينة التي لا ينكرها إلا أعمى والبصيرة قبل أن يكون أعمى البصر، لمن أرسله؟ إلى فرعون الذي قال يوماً: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وإلى هامان وزيره الذي كان له حظ في ذلك، وآمن به رباً وخالقاً رازقاً، وإلى قارون الذي كان أغنى إنسان في حياته وعصره؛ حيث كانت مفاتيح خزائن أمواله تنوء بها العصبة أولو القوة، أي: أن الجماعة القوية كانت تعجز عن حملها مجتمعة في وقت واحد، أرسل لهم موسى وإذا به عندما جاءهم ببيناته ومعجزاته يكذبونه، وأول معجزة له ما قيل لفرعون: إن رجلاً من بني إسرائيل سيكون سبب القضاء على ملكك ودولتك وقوتك، فأمر بقتل جميع الولدان التي تولد من الإسرائيليات، ثم بعد ذلك وقعت الشكوى من قومه بأن قتلك لهؤلاء فساد للعبيد والإماء والخدم، ولكن اقتلهم سنة وأبقهم سنة، ففعل ذلك، فولد موسى في السنة التي يقتل فيها الأولاد، فأوحى إلى الله أمه أن تضعه في صندوق وأن تنبذه في البحر، وإذا به يسري إلى شواطئ قصر فرعون، فتلتقطه الجواري، فتذهب به إلى امرأة فرعون، فتتخذه ولداً، وكانت عقيماً لا تلد، ولم يكن لفرعون ولد لا منها ولا من غيرها، فسرت به المرأة، وعندما جاء فرعون أرته إياه، فرجته بأن يبقيه على حياته وهي لا تعلم أنه إسرائيلي، وهكذا نشأ في داره وفي حصنه، ويأكل من طعامه، وهو من سيدمره ويقضي عليه، ويكون القضاء المبرم الأبدي إلى حد الغرق هو وقومه ودولته وألوهيته الزائفة على يديه، وهل هناك معجزة أكثر من هذه! مع حرصه على أن يستأصل شباب بني إسرائيل جميعهم.

قوله: إِلَى فِرْعَوْنَ أي: أرسل الله موسى إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا أي: جمعيهم، أما فرعون فكان ملك الأقباط، وهامان منهم، وأما قارون فكان يهودياً.

قوله: إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا أي: كلهم قالوا ذلك، وقال ذلك معهم أقوامهم.

قوله: فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أي: المعجزات التي أتى بها موسى قالوا: هي سحر وشعوذة، وقصة السحر وإتيان السحرة مضت، وعلمت بدقائقها ودلائلها، وبظواهرها وبواطنها، وقالوا: كذاب كذب في دعوى الرسالة والنبوءة.

تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه...)

قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غافر:25].

بعد أن عجزوا عن البرهان والدليل، وعن مقارعة الحجة بالحجة، ومحاجة ما جاءهم به موسى من البينات من عند الله، لم يعتمدوا إلا على سلطانهم وقوتهم وأسلحتهم، فاتفق فرعون وهامان وقارون وعشائرهم التي ضحكوا عليها وسخروا بها، وقالوا: اقتلوا أولاد وأبناء وذكور كل من يؤمن بموسى، وهذا القتل الثاني، فالقتل الأول كان عندما قيل لفرعون: ولد من بني إسرائيل سيكون سبب القضاء عليك ودمارك وقتلك، فأخذ يقتل كل من ولد في تلك السنوات إلى نشأ موسى في داره فأوقف القتل، وبكي الفراعنة الأقباط وقالوا: إلى متى تقتلون هؤلاء؛ فهم عبيدنا وإماؤنا وخدمنا؟

فعندما أرسل موسى وهو في دار فرعون وقتل القبطي الذي قتله وفر بنفسه وخرج إلى أرض مدين، عاد فقال فرعون وهامان وقارون : عاقبوا هؤلاء الذين قبلوا بموسى نبياً وآمنوا برسالته ونبوءته، فاقتلوا ذكورهم وأطفالهم منذ الولادة.

قوله: وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ أي: اتركوا البنات أحياء لا تقتلوهن، ولكن اقتلوا الطفل، ولم ذلك؟ أولاً: لتقليل وتضعيف النسل اليهودي، وتركوا البنات ليكن خدماً لهم وجواري لهم، وموضع شهواتهم ونزواتهم.

والمرأة امرأة على كل حال، فما هي قادرة على شيء، فذهب ليقلل نسلهم ويضعفه إلى قتل الذكور من الأطفال.

قوله تعالى: اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ قال الله جل جلاله عن رأيهم وعملهم وما نظموه واطرحوا: وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ، فأراد بذلك الأقباط أن يضعفوا النسل اليهودي؛ ليكون ذليلاً بالنسبة لهم إذاك، فلا يقاومونهم ولا يقدرون على دولتهم وألوهيتهم المزيفة الباطلة، ولكن هذه الحيل وهذا الكيد؛ كيد هؤلاء الذين ظنوا بأنهم عندما يقتلون عشرة أو ألفاً أو ألفين سيقضون على نسل موسى وهارون، فيبقى فرعون متألهاً يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، ومَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، ومن عجائب صنع الله الذي أنذرنا به منذ (1400) عام، حيث أنزل الإنذار لنبينا، وأوحى به إلينا بواسطة نبينا، فاليوم نعيش في مصر التي كانت مستعبدة لليهود، حيث كانت تقتل شبابهم، وتضعف نسلهم لكي لا يكون لهم شأن، فاليوم اليهود يذهبون نفس المذهب في تقليل نسل المسلمين في أرض مصر، فقد جاءوا بيهود خبراء من أرض فلسطين -التي تسمى بإسرائيل- ليضعفوا النسل المسلم في أرض مصر، وهم الآن في طريق ذلك.

ولقد كان هؤلاء يوماً ما هم عبيد مصر، وإذا بالوضع ينقلب فتصبح أهل مصر عبيداً وخدماً لليهود عن رضا منهم وطواعية، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

تفسير قوله تعالى: (وقال فرعون ذروني أقتل موسى ...)

قال تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26].

على عادة الحاكم الظالم عندما يعجز عن الدليل والبرهان يرجع إلى سلطته وقوته، فيحاول أن ينتقم من الضعاف، ولكنهم وإن كانوا ضعافاً في الأبدان والمال إلا أنهم أقوياء وأعزاء بالله، ويأبى الله إلا أن يعز من اعتز به، وأن يذل من انتصر بغيره، فمن اعتز بالله عز، ومن انتصر بغيره ذل.

قال فرعون: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ [غافر:26] معناه: أنه قد كان آمن بعضهم وكتم إيمانه، وهذا ما سيقوله الله لنا، فعندما أراد فرعون أن يقتل موسى وهو يعتبره ولده، حيث نشأ في بيته وقد عقه وقام في وجهه، فقال رجل مؤمن: يا فرعون! أتقتل هذا وهو يدعي النبوة؟! قد يدعو عليك وعلى دولتك وسلطانك، فلا يبعد أن يستجيب الله له، فقال لهم فرعون: (ذروني) أي: دعوني واتركوني ولا تخالفوني ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ [غافر:26] أي: من عسى أن يدعوه؟ ومن هو هذا الرب؟ ألست أنا ربكم الأعلى؟ قال ذلك هذا الضال المضل الأخرق المجنون!

واستدل بقوله: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51] وهي جزء من ألف جزء من آلاف الأرض التي يحكمها الله، وهذه الأرض حكمها فرعون لحكمة أرادها الله، فأراد أن يستعلى بها إلى مقام الألوهية.

وأحد خلفاء بني العباس وهو يتلو كتاب الله وصل إلى هذه الآية فقال: أنا أملك الدنيا، فأرى السحاب في السماء فأقول لها: أمطري حيث شئت فإن خراجك سيأتيني، ومع ذلك أبيت الليل أبكي وأمرغ وجهي في التراب، وأقول: رب اغفر لي ذنبي، رب لا تأخذ علي، سامحني واغفر ذنبي، ولا تأخذني بذنوبي، وما يخطر على بالي يوماً أن أتعالى على الله في شيء، وما مصر إلا جزء من بلدي، والله لأولينها أفقر العباد، فولى عليها كافوراً الإخشيدي، فكان حكم كافور في غاية ما يكون من العدل والنظام والأمن والإنصاف بما لم يحكمه فرعون ولا من جاء على طريقة فرعون من بعد.

ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ [غافر:26] أصبح فرعون يعد ويهدد؛ لأنه خاف على دينه، وهو كونه إلهاً وكون البشر عبيداً له، إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ [غافر:26] أي: أن ينهي الوثنية والصنمية ويحول الشرك إلى التوحيد، والإيمان بالله.

إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26] وما أشبه اليوم بالأمس! اعتبر فرعون الفساد هو دين الله، واتباع الأنبياء، والإيمان بكتب الله، وهكذا اليوم أصبحنا نسمع فيمن أصبحوا عبيداً لليهود يجتمعون على حرب الإسلام والمسلمين، ويقولون: لا دين في الدولة، والقرآن يبقى في المسجد، ومن حاول أن يتكلم عن دولة إسلامية أو جمهورية إسلامية أو أن يتكلم عن الدين في الجامعات أو في المؤسسات فيجعله عبرة، وقد كان من قبله أعظم منه سلطاناً وشأناً، ثم أصبح عبرة للمعتبر، وأضحوكة للناس يتسلون به في السمر، فكيف بهذا الحقير الذي دأبه الليل والنهار حرب المسلمين ولعنهم؛ والإشادة باليهود، فقد انعكست الآية، فقد كان اليهود عبيداً لمصر، فيحاول هذا المجرم أن يجعل مصر عبيدة لليهود، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26] خافوا من النبيين الكريمين الجليلين موسى وهارون أن يظهرا الفساد في أرضهم، والفساد في نظره هو: الإسلام والإيمان وعبادة الله الواحد.

والإيمان في نظره: هو الشرك والوثنية، والفسق، وسفك الدماء، والظلم والبغي، وأكل أموال الناس بالباطل، وهكذا اليوم أصبح الإسلام يحارب بهذا الاسم: أنه فساد وإرهاب، وأما الشيوعية فعلى زعمهم وكذبهم أنهم يحاربونها وهم لا يحاربون إلا الإسلام، وتسمع بين الزمن والزمن أن بعض مسلمين يعلقون في المشانق، ويضربون بالرصاص، ويخلدون في السجون، والكل يسمع ماذا حصل للجماعات وفئات من المسلمين؟ فذهب فرعون الأول وجاء فرعون الحقير الثاني، فجعل الناس في عذاب وهلاك وهوان، ولكن يأبى الله إلا أن ينصر دينه ولو كره الكافرون ولو كره المشركون، وكم قد ضمت هذه الأرض من كفرة ومن أدعياء ومن فراعنة ومن هامانات وقارونات! وماذا كانت النتائج؟!

دمروا جميعاً ولم يبقوا إلا خبراً من الأخبار، وهم بين يدي الله في لعنة دائمة وعذاب دائم، وأصبحوا لعنة اللعانين وسخرية الساخرين.

تفسير قوله تعالى: (وقال موسى إني عذت بربي وربكم ...)

قال تعالى: وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [غافر:27].

عندما بغى فرعون الحقير الذليل المتألي على الله لم يزد موسى على أن قال هذه الكلمة: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ [غافر:27] أي: يتعوذ ويتحصن بالله، فجعل الله معاذاً وموئلاً ومرجعاً؛ ليصونه ويحفظه وقد فعل، وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ [غافر:27] أي: أجعل الله معاذي وموئلي ومرجعي وحصني.

وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ [غافر:27] يقول لأولئك الوثنيين: على أي حال آمنتم أو كفرتم فإنني أتعوذ بربي من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب، من فرعون المتأله على الله، ومن هامان المتكبر المتعالي على الله، ومن قارون الذي اغتر بماله، وقال: إنما أوتيته على علم، فأولئك غرقوا، وأما قارون فقد ساخت به الأرض وخسفت به، والله أعلم إلى أي مدى من القرون والسنين سيبقى كذلك، فقد ذهب بأمواله وعياله وجاهه وسلطانه وهو في أعز ما يكون من زينة، وهو خارج على القوم يمشي على الأرض وكأنه سيطير بغير جناحين، وإذا به تلك الساعة -وقد نسي الله فنسيه وأذله- يأمر الله الأرض أن تخسف به، وقد فعلت.

وكان يقول نبينا عليه الصلاة والسلام عندما يتعوذ من الأعداء: (اللهم إني أجعلك في نحورهم، وأعوذ بك من شرورهم) ، وكما كان يقول: (اللهم اجعلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً) وهكذا أنبياء الله مرجعهم واحد، وإلههم واحد، ودعوتهم واحدة، فكانوا إذا اشتد بهم الكرب عادوا إلى الله متعوذين به، متحصنين بقدرته، متعوذين بجلاله، والله ينصرهم، وتكون العاقبة لهم.

وما يقص الله علينا هذا إلا لنأخذ منه العبر والدروس، فإذا فعلنا فعل أولئك الفراعنة كان عقاب الله لنا عقابه لهم، وإذا فعلنا فعل أنبياء الله المؤمنين الموحدين كان كرم الله لنا كرمه للمؤمنين الموحدين إن كنا منهم.

قال تعالى: وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [غافر:27] أي: لا يؤمن بالبعث والنشور، وهو إنذار له أنه سيخرج مرة ثانية من قبره، ويعرض على الله للقضاء وسيحاسب حساباً شديداً، وتجره الزبانية على وجهه وتلقي به في قعر جنهم وهو يدعو: يا ويلاه يا ثبوراه.

تفسير قوله تعالى: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون ...)

قال تعالى: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر:28] .

قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غافر:28] كان في قوم فرعون رجل مؤمن، وكان كاتماً لإيمانه خوفاً من فرعون وبطشه وعذابه، وكان هذا الرجل الكاتم لإيمانه ابن عم فرعون، وقيل: ابن أخي فرعون، وقيل: هو من بني إسرائيل، وهذا يعارض القرآن مع صراحته في القول، حيث يقول الله: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [غافر:28]، فهو قد آمن بموسى وبرسالته، وآمن بالتوراة المنزلة عليه، ولكنه خاف من فرعون وبطشه، فبقي يكتم إيمانه ويسره ولا يعلنه، فلما رأى بأن نبي الله سيقتل وأخذوا يتآمرون عليه: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ [غافر:26]، فقد خاف فرعون من تكذيبه لدينه، ومن إسلام أهل الأرض، فكاد للقضاء عليه وعلى دولته، فجعل موسى يتعوذ بالله ويتحصن من شر هذا المتكبر على الله، المتعالي على خلق الله وإذا بهذا الكافر يعلن الإسلام ويعلن إيمانه وليكون ما يكون، وهو يرى أن نبيه سيقتل، قال تعالى: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ [غافر:28] يا هؤلاء! أليس لكم عقول تفكرون بها؟ كيف تقتلون هذا الرجل؟ ما هي جريمته؟

أجريمته أن قال: ربي الله الخالق الرازق؟! وقال: وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ [غافر:28] أي: جاءكم بالأدلة الواضحة، وبالعلامات البينة وبالبراهين الفاضحة، فكيف تكذبون بلا دليل ولا برهان لا من عقل ولا من نقل؟!

قوله: يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ [غافر:28] يعني: موسى أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [غافر:28] لأنه قال: ربي الله وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [غافر:28] حال كونه جاءكم بالبينات، ودلل عليه وأكد عليه بأدلة واضحة من المعجزات التي جاءت على يده: من الدم والقمل والضفادع والطوفان، ومع ذلك كيف تحاولون قتله؟

ثم عاد فقال: وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ [غافر:28] أي: إن كان كاذباً ولم تصدقوه ولم تؤمنوا به، فكذبه يضره ويذله، وسوف يعرض على ربه هو، وكذبه لا يضركم، ولم يحمل سيفاً في وجوهكم، ولم يأخذ أموالكم ولا عبيدكم.

وأما إن كان صادقاً: وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر:28] أي: إن كان صادقاً في رسالته ونبوته ودعواه ففي هذه الحالة سيصيبكم بعض ما أنذركم وهددكم به، وقد هددهم بالدمار والهلاك والخسران في الدنيا، وبالعذاب الدائم يوم القيامة، فقال لهم: لو يصيبكم بعض ما أنذركم وهددكم به لانتهيتم، ولما بقيتم يوماً في الأرض، وبذلك يفعلون فعل المجانين ومن لا يعقل.

سأل عروة بن الزبير عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: يا صاحب رسول الله! ما أشد شيء نال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى قريش؟ قال عبد الله بن عمرو : جاء يوماً رسول الله للكعبة وقومه ينظرون إليه فسألوه وقالوا: يا محمد! أنت الذي تسفه آلهتنا، وتريد منا أن نجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ قال: نعم، فيقوم إليه اللعين -من قتله الله بسيف الإسلام ذليلاً حقيراً- عقبة بن أبي معيط ويقبض على منكبه، وجاء إلى ثوبه وضمه وأخذ يخنقه حتى كاد يموت خنقاً صلى الله عليه وسلم، وإذا بـأبي بكر رضي الله عنه يأتي صائحاً باكياً ويدفع عن رسول الله عقبة ويقول: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ [غافر:28]، وكان يقول عبد الله بن عمرو بن العاص : هذا أشد ما أوذي به رسول الله عليه الصلاة والسلام من مشركي قومه.

وهكذا استشهد أبو بكر بهذه الآية؛ بما قال مؤمن آل فرعون عندما حاول أعداء الله قتل موسى، وأخذ فرعون يقول لهم: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى [غافر:26].

يقول الفقهاء: هل إذا كتم المؤمن إيمانه يفيده ذلك؟ هل يكون مؤمناً إذا هو لم ينطق بالشهادتين؟ الإسلام جاء بالوقاية قبل أن يأتي بالعلاج والطب، فهذا الذي يكتم إيمانه لا يتصور إلا إذا عاش بين قوم كافرين أو قوم مرتدين، وهم أيضاً كافرون.

لم يبقى بين الكفار؟! النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أنا بريء من كل مسلم أقام مع المشركين، لا تتراءى نارهما) فحرم على المسلم أن يجاور كافراً ويسكن في أرضه، وحرم بأن يرى هذا نار هذا، وهذا نار هذا، فهو إن فعل ذلك فإنه يكون غير معدود من المسلمين إلا إن كان أسيراً في معركة أو حرب، فإذا منعوه من عبادة ربه فالإيمان عمل بالقلب، وإذا كان في سجن أو في خدمة فليصل على الطريقة التي يستطيعها.

مؤمن آل فرعون هذا لم يعلن إيمانه بموسى إلى الآن وما انكشف إيمانه إلا الآن، ولو لم يكن قريباً قرابة ماسة من فرعون ...



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة غافر [23-28] للشيخ : المنتصر الكتاني

https://audio.islamweb.net