إسلام ويب

ومن الأدواء الخبيثة المنتشرة في المجتمع داء الغيبة والطعن في الأعراض، والذي يغتاب أخيه فكأنما أكل لحمه ميتاً. والله تعالى خلق الناس وجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا لا ليتفاخروا، فإنه لا فضل لأحد ولا كرامة عند الله إلا بالتقوى.

تفسير قوله تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضاً ...)

قال الله جل جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12].

يخاطب الله جل جلاله عباده المسلمين بألا يغتاب بعضهم بعضاً، وألا يتخذوا الريبة والظنون السيئة مطية للطعن في الصالحين منهم لمجرد أوهام ليس عليها دليل يؤكد ظاهرها، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ [الحجرات:12]، فأمر باجتناب الكثير من الظن لا الظن كله، ومعنى ذلك أن بعض الظن تدعو إليه الضرورة، حيث يدعو إليه فسق الفاسق وفساد الفاسد ومعصية العاصي، ومنه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن من الحزم سوء الظن).

فالرجل الصالح والمرأة الصالحة لا يجوز أن يشكك في أمرهما، وسوء الظن يدعو إلى الغيبة، والدعوة للغيبة تجعل الإنسان في حالة يوشك أن يخرج فيها عن الطريق السوي المستقيم، أما الفاسق فقد جاء في شأنه في الحديث النبوي: (اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس)، فقد يكون معلماً، وقد يكون أباً، وقد يكون مربياً، لكي يحذر الناس أخلاقه وفساده، إذ لا بد من معرفة ذلك.

ومن هنا كان الجرح والتعديل عند المحدثين، حيث يقولون: هذا ثقة، وهذا واهم، وهذا كذاب، ليحذر الناس روايته.

يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12]، ومنه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (الظن أكذب الحديث)، فهو أكذب الحديث عندما يكون مبنياً على غير موجب، وإنما هو أوهام أقرب إلى الخواطر التي لا دليل عليها، فذاك ما حرم الله، وهو كبيرة من الكبائر.

يقول تعالى: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12]، ومنه الظن بالصالحين والصالحات ظن السوء مما يطعن به في أعراضهم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه).

معنى قوله تعالى: (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه)

قال تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12]، فذكر أخاك بما يكره كأنك أكلت لحمه ميتاً.

وقوله تعالى:( فَكَرِهْتُمُوهُ) أي: كما تكرهون أكل لحم إنسان من البشر ميتاً يجب أن تكرهوا الغيبة امتثالاً لأمر الله وطاعة لما أدب به عباده المؤمنين الصالحين.

وقد بلغ النبي عليه الصلاة والسلام أن امرأتين صائمتين وقعتا في غيرهما بالغيبة وبالشتيمة، فناداهما ودعا بإناء فقال لهما: تقيئا، فتقيئا دماً وصديداً ولحماً، فقال: (إن هاتين صامتا عما أحل الله وأفطرتا على ما حرم الله).

وقد جاء ماعز إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله أصبت حداً، فأعرض عنه النبي عليه الصلاة والسلام أربع مرات، وفي الخامسة التفت إليه وقال: ما تريد بذلك؟ قال: أن تطهرني، ثم أمر برجمه فرجم، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى ضواحي المدينة وإذا برجلين ممن معه قد أخذا يشتمان ماعزاً ويقولان: رجل ستر الله عليه ففضح نفسه حتى رجم، فسكت عنهما صلى الله عليه وسلم زمناً، وبعد برهة من الزمن مروا على جيفة حمار فقال لهما: (كلا، فقالا له: غفر الله لك يا رسول الله، فقال: ما أكلتما من لحم أخيكما آنفاً أبغض عند الله من أكلكما من هذه الجيفة لو فعلتما) .

فالله جل جلاله شبه غيبة أخيك المسلم بأكل لحمه ميتاً، فكما أن أكلك لحمه ميتاً لا يشعر به، فكذلك اغتيابك له وهو غائب عن مجلسك لا يشعر به.

ولذلك اعتبرت الغيبة كبيرة من الكبائر عقوبتها التعزير، والتعزير عند الفقهاء الأئمة هو أن يضرب المذنب والمخالف بعشر ضربات على أن يحضر عذابه طائفة من المؤمنين؛ ليكون ذلك أردع لذنبه ولغيره ممن تحدثه نفسه بمثل ذلك.

يقول تعالى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12].

أي: كيف أحببتم غيبة أخيكم المسلم ولم تكرهوها وتكرهوا أكل لحمه وهو ميت؟! فكما تكرهون أكل لحمه ميتاً يجب عليكم أن تكرهوا ذكره بالسوء وهو غائب عنكم.

معنى قوله تعالى: (واتقوا الله إن الله تواب رحيم)

قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12]، أي: اتقوا الله فأطيعوا أوامره واجتنبوا نواهيه وأحسنوا أخوتكم؛ فإنما المؤمنون إخوة.

فالمؤمن لا يُسلم ولا يخذل ولا يظلم ولا يؤذى ولا يغتاب ولا يتجسس عليه ولا يظن به السوء، ومن فعل ذلك يكون قد أنكر أخوة ربطها الله من فوق عرشه جل جلاله وعز مقامه، فاتقوا الله في الذنوب والمعاصي، واجعلوا بينكم وبين المعاصي وقاية تقيكم العصيان والمخالفة.

إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12] يجود على من تاب مما قد سبق منه من التجسس على المسلمين وظن السوء بهم، وغيبتهم وأكل لحومهم، فالله تعالى تواب على من تاب، رحيم بمن عاد إليه وندم على ما اقترف منه.

حكم إخبار المرء أخاه بغيبته له ليتحلل منها

وهنا مسألة، وهي: هل من الضروري إذا تبت من الغيبة أن تخبر من اغتبته بذلك ليحللك من الإثم؟

يقول الجمهور من الفقهاء: لا يجب ذلك؛ لأنه ليس حقاً من حقوق المال ونحوها، فالغيبة شيء غاب عنه وجهله، ولعلك إذا أخبرته يجد في نفسه شيئاً عليك، فلتكن التوبة بينك وبين ربك، ثم تذكره بالصالحات وبالدعاء له، فيوشك أن يتوب الله عليك وأن يرحمك بهذه التوبة.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ...)

معنى قوله تعالى: (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى)

قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].

لما نهى الله المؤمنين أن يهزأ أحدهم بأخيه المؤمن أو ينبزه أو يلمزه أو يتنقصه أو يظن السوء به عاد فبين سبب ذلك، أي لأنكم سواء، وكلكم من طينه واحدة، فأبوكم واحد وأمكم واحدة، فلم التعاظم على الخلق؟ ولم الكبرياء على الناس وأنتم كلكم من تراب، وكلكم من آدم وحواء.

قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [الحجرات:13]، هكذا نرى عندما يخاطب الله الناس بأصول الشريعة، حيث يخاطب المسلم وغير المسلم بلفظ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) فالمسلم من ذكر وأنثى، والكافر كذلك من ذكر وأنثى، وعندما يخاطب الله بفروع الشريعة يخاطب بلفظ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).

قوله تعالى: إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى [الحجرات:13]، أي: فأنتم أبناء آدم وأنتم أبناء حواء، فلا يفضل ذلك أخ على أخ، ولا أخت على أخت، فالأب واحد والأم واحدة.

وإنما يقع التفاضل بالأخلاق وبالصلاح وبالطاعة، فالأكثر تديناً وامتثالاً لأمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نهى الله عنه ورسوله هو الفاضل.

معنى قوله تعالى: (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا)

قال تعالى: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [الحجرات:13].

الشعوب: جمع شعب، والقبائل: جمع قبيلة، والشعوب بالنسبة للعجم، والقبائل بالنسبة للعرب؛ لأن العجم لا ينتسبون لقبائل، ولذلك لا تجد لهم أنساباً، وليس كذلك العرب، فهؤلاء قرشيون، وهؤلاء قحطانيون، وهؤلاء عدنانيون وهكذا.

ولذلك تجد النسبة العربية إلى القبائل وتجد النسبة الأعجمية وطنية وشعوبية، فغير العربي ينتسب لبلد وينتسب لوطن، وقد يحدث هذا لعرب انتسبوا حديثاً لمدن وشعوب لا لقبائل.

والشعب: أمة من الناس يتشابهون في اللغة ويتشابهون في العادات والتقاليد والأخلاق، وكذلك القبائل.

قوله تعالى: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [الحجرات:13].

فالله خلق الناس من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء، فعندما كثر الرجال وكثر النساء تعارف الناس بالشعوب والقبائل التي ينتسبون إليها فخلقنا الله من أرومة واحدة وأصل واحد، ثم تكاثرنا، فانبنى على ذلك الحاجة إلى التعارف، فلذلك قال عليه الصلاة والسلام: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم)، ويوشك من لا يعلم نسبه أن يتزوج ذات محرم.

وصلة الأرحام فرض لازم، وقد ذكرها الله في غير ما آية وسورة، وأكدها رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأصبح من المعلوم من الدين بالضرورة صلة الأرحام بين الناس، وصلة الأرحام لا تكون إلا بمعرفة الأنساب، فتعرف صلة هذا بأبيك وعمك وخالك وخالتك وعمتك.

معنى قوله تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)

يقول النبي عليه الصلاة والسلام في خطبة من الخطب: (يا أيها الناس! إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية، كلكم لآدم وآدم من تراب، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13])، ثم أنهى خطبته عليه الصلاة والسلام.

ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).

ويقول عليه الصلاة والسلام: (تنكح المرأة لدينها ولحسبها ولنسبها ولجمالها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)، حث على الدين والتقوى لأن من كانت زوجه كذلك فيوشك أن تكون ذريته ذرية صلاح وتقى ومروءة.

يقول تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، وذلك لأن الأصل واحد.

وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن إلهكم واحد وأباكم واحد وأمكم واحدة، ليس هناك فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي).

وهكذا جعل الإسلام الأنساب والأحساب والمناصب والأموال والألوان كلها لا عبرة بها في الجماعة المسلمة، وقد قال أحد الأصحاب لأخ له كانت أمه سوداء: يا ابن السوداء! فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (إنك امرؤ فيك جاهلية)، فلست أحسن من أبيض ولا أحمر ولا أسود، فكلكم لآدم وآدم من تراب، والله هو الذي خلق الألوان وخلق الأشكال، فلا يعير الإنسان بشيءٍ لا يملكه ولم يكن له فيه خيار.

قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13]، فهو العليم بأحوالكم، وهو الخبير بالصالح والفاسد، ومن يستحق الجنة نتيجة تقواه ومن يستحق النار نتيجة عصيانه ومخالفته.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الحجرات [12-13] للشيخ : المنتصر الكتاني

https://audio.islamweb.net