إسلام ويب

كان سيدنا إبراهيم عليه السلام من أولي العزم الخمسة، وقد عانى من قومه وكفرهم ما عانى، فلم تقنعهم حجة ولا دليل، ثم تآمروا عليه ليحرقوه فأنجاه الله ونصره عليهم.

تفسير قوله تعالى: (وإن من شيعته لإبراهيم)

قال تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:83-87].

وإن من شيعته: أي ممن هو على دينه، وعلى منهاجه، وعلى طريقته، ومن أنصاره، وقرنائه وأمثاله، والقائلين بقوله، والذين هم على مبدئه وهدفه وغايته، وأنبياء الله كلهم كذلك، فكلهم أمروا بتوحيد الله، كلهم أمروا بأن يأمروا الخلق بطاعة الله، والإيمان بما أنزل الله، والإيمان بيوم البعث والنشور، يوم العرض على الله، وبالجنة والنار.

فجاء إبراهيم مجدداً، جاء نبياً رسولاً، ففعل ما فعله نوح من حيث التوحيد والدعوة إلى وحدانية الله وعبادته، فكذلك كان إبراهيم من شيعته، ممن هو على منهاجه، ممن هو على طريقته في الدعوة إلى الله والتحمل والصبر، وكما تحمل نوح من قومه البلاء العظيم والكرب الشديد، ثم نصره الله وأزال كربه، كذلك إبراهيم سيحارب وسيعارض، وسيقذف به في نار لو قذف فيها غابة لاحترقت وصارت رماداً، ولكن الله يأبى إلا أن ينصر رسله، وأن ينصر أنبياءه، وأن تكون العاقبة لهم على أعدائهم.

قال: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ [الصافات:83].

بين إبراهيم ونوح ألفا سنة وستمائة وأربعون عاماً فيما زعم الكثيرون، ولا يقين في ذلك، إذ الأخبار لا تتم إلا بنص من الله أو حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يوجد، وكان ما بين نوح وإبراهيم من الأنبياء هود وصالح، وقد أرسل إبراهيم في أرضه في العراق، وكل أنبياء الله الذين جاءوا بعده ينحدرون من سلالته، فقد ولد ولدين كليهما نبي كريم: إسماعيل ثم إسحاق، فكانت سلالة أنبياء بني إسرائيل من إسحاق، وكان من سلالة إسماعيل سيد البشر على الإطلاق، وإمام الأنبياء، وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم محمد العربي الهاشمي المكي المدني نبينا صلى الله وعليه وعلى آله.

قال تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات:83-84].

أتى إلى الله داعياً بقلبه، أتى بإخلاصه، أتى بيقينه منذ نبئ وأرسل، كان أول المؤمنين من قومه، وأول الدعاة إلى الله من قومه، أخلص العبادة، وأخلص اليقين، وأخلص جميع حياته ليلها ونهارها في السفر والحضر لله، وجاء ربه بقلب سليم من الشرك، سليم من الضغينة ومن الرياء والسمعة، فهو طاهر القلب وسيد الموحدين في عصره، وهو أحد الخمسة من أولي العزم، ولا يعلوه في المقام إلا حفيده محمد صلى الله وعليه وعلى آله.

وقد سئل محمد بن سيرين عن قول الله: إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات:84] ما سليم؟ فقال: جاء ربه سليماً من الشرك، سليماً من المخالفة، سليماً من الضغينة، فهو سليم القلب من كل أنواع السوء شركاً وعصياناً ومخالفة، جاء ربه وهو داع إليه، خاضع لجلاله، قائم بين يديه، في كل ما أمره به، جل جلاله وعلا مقامه.

قال تعالى: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ [الصافات:85].

قال لقومه: ماذا تعبدون؟! وكانوا يعبدون الأحجار، ويعبدون الأوثان، ويعبدون الأصنام، كأكثر الأولين إلا قلة بينهم، أما أبوه فقد سماه الله في القرآن: آزر، ومضى لنا ببيان وتفصيل: أن آزر عمه والعم أب، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (العم صنو الأب) أي: جزء وشقيق له أي: قسم منه أي: فكما أن هذا أب فهذا أب، وفي لغة العرب كذلك تنادي العم: أباً، وهي لغة مشهورة، وللإمام السيوطي رحمه الله كتاب مستقل أن آزر عم إبراهيم وليس أباه، وقد ذكر في القرآن بأنه أب.

من المعلوم أن إبراهيم عندما دعا عمه إلى الله استنكر ذلك منه: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ [مريم:46]، ثم أخيراً قال له: اهجرني ملياً، قال إبراهيم: قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم:47]، وبعد ذلك استغفر له، فقال عنه جل جلاله: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة:114].

أي: عندما تبين له أنه كافر ومات على الكفر والضلال تبرأ منه، والذي يتبرأ منه لا يدعى له، ولا يستغفر له، وإنما استغفر له بموعدة وعدها إياها، فقد وعده بأنه سيستغفر له، فلما تبين له أنه مات على الكفر، ومات على الضلال تبرأ منه وترك الاستغفار، لأنه لا فائدة في الاستغفار لمن مات مشركاً: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، سواء دعا له نبي مرسل، أو ملك مقرب، كل ذلك سواء من مات على الشرك فلا ينتظر له إلا العذاب، ولا استغفار له ولا توبة، وقد كان إبراهيم عندما دعا أباه لا يزال في شبابه في سن الأربعين عندما أرسل ونبئ، وعندما جاء إلى أرض الكعبة ومعه ابنه إسماعيل، وقد أتى به طفلاً رضيعاً مع أمه إلى هذه البقاع المقدسة، فعندما أتم البناء حمد الله وشكره وقال: رب اغفر لي ولوالدي.

وهذا في كتاب الله، فقوله: (رب اغفر لي ولوالدي) استغفار لوالديه وما والداه إلا أبوه وأمه، فلو كان الذي ذكره الله أباً حقيقياً لما استغفر له، ومن هنا علمنا بنص الآية أن ذاك ليس أباً؛ لأن الأب قال الله عنه: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة:114]، ونبي الله أكرم من أن يتبين له أن أباه ضال مضل، وأنه مات على الضلال والكفر من أن يستغفر له، وقد تبرأ منه، والمتبرأ منه لا يدعى له، ولا يستغفر له، فإذا وجدناه في أخريات أيامه وعند قرب موته يقول: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ [نوح:28]، فهذا يعني: أن آزر لم يكن أباً بل كان عماً، وقد ثبت أن هذا العم قال -لما أنجى الله إبراهيم من نار نمرود قال له هذا العم: لو لم أكن أنا لما أنجيت، وإذا بالشرار من النار يصيب هذا العم فيحترق؛ لأنه ترفع على الله وادعى مقاماً ليس له، وقال عن ابن أخيه إبراهيم: بأنه شارك في وثنية هذا، أو شارك في شركه أنقذ من النار، وإذا بالله الكريم يحرقه بشرارة فضلاً عن كل تلك النار، وبهذا يتأكد أن آزر ليس الأب وإنما هو العم.

قال تعالى: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ [الصافات:85-86].

الإفك: أقبح أنواع الكذب، أي: أتريدون آلهة غير الله كذباً وزوراً ظاهراً، أي: أتريدون الإفك والكذب، أتريدون آلهة من الأوثان والأصنام والأحجار تتخذونها آلهة دون الله، أهذه إرادة عاقل؟ أهذه إرادة مفكر؟ أهذه إرادة إنسان يعلم أن الموت آتيه يوماً لا محالة.

قال تعالى: فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:87]، أي: فماذا تظنون بعد أن تقبلوا على الله؟ وبعد أن تبعثوا يوم القيامة؟ كيف سيكون جزاؤكم مع الله وقد جئتم إليه وأنتم تعبدون غيره، وتشركون به سواه؟ وهذا استفهام للتقرير والتوبيخ، أي: أيمكن أن يخطر ببالكم أن يقابلكم الله بخير أو رحمة وأنتم قد استنكرتم قوته وعبدتم سواه ممن لم يخلقكم، ولم يرزقكم ولم يعاقبكم، ولم يعطكم؛ أهذا فعل العقلاء؟

قال تعالى: أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:86-87].

فما ظنكم بالرب الذي خلقني وخلق عالمي وعالمكم، عالم عصرنا والعالم الذي مضى، والعوالم الآتية، عندما تقبلون عليه، وتعيشون بعد الموت؟ فما الظن الذي يخطر ببالكم؟ والمعنى: أنهم سيلقون اللعن والغضب والجحيم.

تفسير قوله تعالى: (فنظر نظرة في النجوم ...)

ثم قال تعالى: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:88-89].

في هذه الحالة جاءه قومه وكان لهم عيد، وقالوا: يا إبراهيم! اخرج معنا لهذا العيد حتى ولو لم ترد عبادة آلهتنا، لكن شاركنا وتفرج علينا، فلما دعوه رفع بصره إلى السماء وقال: إني سقيم؛ ولذلك لا أستطيع الذهاب معكم.

قالوا: إنه قال: مريض بالطاعون؛ لأن عدواه تنتشر بسرعة.

فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ [الصافات:90] خافوا العدوى، فما عادوا يقربونه، ولا يلحون على خروجه، فأعطوه قفاهم مدبرين، فذهبوا فارين مهرولين مسرعين حتى لا تنالهم العدوى.

وقد فسر المفسرون ذلك بمعان كثيرة منها: قال بعضهم: كان علم النجوم علماً نبوياً، وكان يؤخذ من النجوم.

ولكن الحروف المكتوبة هي دلالة ورموز على تلك المعاني، فلا غيب هناك ولا تكهن، قالوا: وعلم النجوم في أصله كذلك، فعندما يرون إلى النجم الفلاني والنجم الفلاني ولقاء هذا بهذا، فكأنما يقرأ في كتاب، فهذا يدل على كذا وكذا، فهو نظر في النجوم على عادة الأنبياء فيما زعموه، فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89].

ولم يكن سقيماً إذ ذاك، فظاهره القوة والعافية، ولكن معنى الكلام: سقيم: سأسقم، وسقيم اسم فاعل واسم الفاعل كالفعل المضارع يدل على الحال والاستقبال، يعني: إن لم أكن مريضاً الآن فأنا مريض مستقبلاً، ومن ثم نسخ هذا العلم وبطل، وكل من يشتغل به يشتغل بالكهانة والضلالة، فلم يعد له أصل مطلقاً.

وقال قوم: ليس المعنى أنه نظر نظرة في النجوم المعروفة، وإنما المراد بقوله: (نظر نظرة): فكر فكرة أي: أخذ يفكر بماذا يجيبهم، وماذا يقول لهم، فنظر نظرة في النجوم، يقال: نجم كذا، وينجم كذا: إذا ظهر وبرز.

فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ [الصافات:88]، أي: في الحوادث الآتية، ويفكر ماذا سيعمل، وما ينتظر من جواب الآخرين، وهو يتمنى هذه الخلوة منذ زمن؛ ليفعل فعله بأصنامهم، فما أراد الخروج وما أراد أن يضيع هذه الفرصة من عمره.

فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ [الصافات:88] أي: فكر تفكيراً في الأحداث الناجمة الآتية عن عدم ذهابه، فهل سيجبرونه ويفسدون عليه عمله، أم سيتركونه؟ وخوفهم وأنذرهم بأنه مريض بالطاعون، وهم يخافون من مرض الطاعون ومن عدواه ومن انتشاره، فكانت النتيجة أن مضى الأمر ونجح ما تحايل به عليهم، وأتى بالنتيجة المطلوبة.

فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ [الصافات:90] أي: أعرضوا عنه حال كونهم مدبرين، وذهبوا مسرعين إلى عيدهم، وإلى تجمعاتهم، وإلى أباطيلهم وأضاليلهم، وذلك ما كان يريد.

تفسير قوله تعالى: (فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون...)

فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ [الصافات:91-93].

عندما أدبروا وتولوا ذهب وأسرع ومشى إلى آلهتهم، فوجد كل إله منهم بجانبه طعام، وكان في أعيادهم يطرحون طعاماً لكل صنم من هذه الأصنام، فعندما يعودون من نزهتهم ومن عيدهم تكون بركة الآلهة المزيفة فيه، وما يصنعونه في العيد مما لا يليق يغفر لهم ببركة الآلهة، ويأكلون طعاماً قد باركته الآلهة، فعندما دخل للمعبد وجد هذه الآلهة، ووجد عند كل إله طعاماً، فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [الصافات:91] أي: ناداهم ألا تأكلون؟! ما وضع هذا الطعام إلا للأكل، فلم يجيبوه بطبيعة الحال فهي أحجار وجمادات، فقال: مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ [الصافات:92] لأنها آلهة عاجزة عن الوعي والكلام والفهم: فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ [الصافات:93]، والضرب باليمين أقوى من الضرب باليسار، وكان قد أخذ فأساً معه، فجاء إلى جميع الآلهة وكسرها، وجعلها جذاذاً إلا كبيراً لهم، حتى لا تكاد تعرف أنها من أصل الحجارة أو الصخور، ووضع الفأس في عنق الإله الكبير في زعمهم.

تفسير قوله تعالى: (فأقبلوا إليه يزفون ...)

قال تعالى: فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ [الصافات:94].

وكانوا قد تساءلوا: من فعل هذا بآلهتنا؟ وإذا بأحد يقول لهم: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60] كما في سورة الأنبياء، أي: يذكرهم بسوء، فذهبوا إلى إبراهيم وأقبلوا إليه يزفون أي: يسرعون، ومنه الزفاف: الإسراع في زفاف البنت إلى الزوج، فأقبلوا إليه يسرعون، أقبلوا إليه مهرولين، وهم ذاهبون عقلاً؛ لأن آلهتهم أهينت وهم يعبدونها.

وقرئ: (يُزِفُّون) والمعنى واحد من الزفاف: وهي السرعة والهرولة: قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:95-96].

فلما أخذوا معه في الكلام، قال: كيف تعبدون شيئاً صنعتموه بأيديكم، نحتموه من الأخشاب، ومن الحديد، ومن الحجارة، فتأتون إلى أخشاب صنعتموها بيدكم، وإلى حديد ذريتموه بأيديكم، وإلى طين فتتخذوه إلهاً، فكيف تعبدون ما خلقته أيديكم؟! وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] فالكل خلق الله، وتتركون الخالق وتعبدون المخلوق، أهذا فعل العقلاء؟!

فقال لهم: قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ [الصافات:95]من النحت، والنحت: النقل والبري والصنعة، أتعبدون ما تنحتون، أي: هذه الآلهة، بل أنتم صنعتموها ونحتموها من الأخشاب، ومن الحجارة، ومن الحديد، وليس الخشب لكم، ولا الحديد من خلقكم، بل الكل خلق الله: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96].

خلقكم، وخلق هذه الأخشاب، وهذا الحديد، وهذه الحجارة، فكيف تأتون إلى شيء خلقه الله، فهو مخلوق، وأنتم مخلوقون، فتتركون الخالق الذي خلقكم، وتذهبون إلى عبادة المخلوق، أهذا منطق العقل.

وكل هؤلاء العابدين ممن لا يزالون إلى الآن، تدخل كنائسهم تجد هناك صوراً وتماثيل يصرفون لها هذه العبادة، ثم يقولون عن فلان: فيلسوف، وعن فلان كذا، وما هم إلا أنعام ضالون، كيف يأتون إلى هذه الأحجار، وإلى هذه الأخشاب، وإلى هذه الحدائد يصنعونها بأيديهم، ينحتونها بأيديهم، ثم يسمونها آلهة، فيركعون لها ويسجدون لها، ويعبدونها دون الخالق؟! والخالق هو الذي خلقهم وخلق أعمالهم: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96].

تفسير قوله تعالى: (قالوا ابنوا له بنياناً ...)

وإذا بهم كعادة الكفار حينما يعجزون عن الدليل والبرهان، وهذا فعل السفهاء قديماً، وفعل السفهاء حديثاً، وهؤلاء الآن يسمون أنفسهم: التقدميين والتجديديين، وهم في الحقيقة رجعيون متأخرون، يرجعون لما قاله آباؤهم وأسلافهم من المشركين، يقولون نفس قولهم، نفس دليلهم، نفس برهانهم، عندما يعجزون عن الجواب، وعن الدليل والبرهان، يذهبون إلى البطر وإلى الإخضاع وهيهات هيهات! فالحقائق هي الحقائق، وهؤلاء أصحاب أباطيل وأضاليل ما أنزل الله بها من سلطان.

فكان جوابهم عن هذه الأدلة: قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات:97]، وقد سماه الله جحيماً لهوله قال ربنا: فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ [الصافات:98]، ذهبوا يهيجون له ناراً لمدة أشهر، وبنوا بهذه النار بنياناً عارماً يصل إلى عشرات الأمتار، ثم أخذوا كل أخشاب غاباتهم، وزادوا عليها أحجارهم إلى أن أخذ يأكل بعضها بعضاً، ثم وضعوه في المنجنيق وألقوه فيها، ولقد كان الطير إذا حلق من فوقها يحترق من شدة لهيبها ونارها، فأخذوه من البعد؛ لأن القرب منها سيحرقهم، وألقوه كما تلقى الحجارة وقذفوه قذفاً.

قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ [الصافات:97-98]، جعلهم الأسفل والأخسر والأذل، جعلهم ينهزمون، بقيت النار مشتعلة عدة أسابيع إلى أن انطفأت، وإذا بإبراهيم يوجد جالساً وهو يقول لا إله إلا الله.

ويقال في الأثر: لما ألقي في النار جاءه جبريل فقال: يا نبي الله! هل لك من حاجة؟ هل لك من طلب؟ قال: علمه حالي يغنيني عن سؤالي، ماذا يطلب؟ الله يرى هذا، وإذا بالله يقول لها: كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، ولو قال برداً فقط لكان برداً زمهريراً، ولقتله البرد من شدته، ولكنه قال برداً وسلاماً، بحيث لا تقتله.

فعندما حصل هذا وانتهى سلط الله على نمرود ناموسة دخلت في خياشيمه إلى أن وصلت إلى دماغه فأخذ يضرب رأسه لعل الناموسة تخرج، وإذا بالناموسة لا تخرج، فأخذ يضرب رأسه بالحجارة بالحيطان، وهكذا بقي يضرب رأسه إلى أن تفتت مخه وانفجر، وانتثر على الأرض والناس تراه، بعد أن ادعى الألوهية، وادعى الطغيان، وهذا كما صنع الله جل جلاله مع نبينا وكان إرهاصاً له، عندما أرادت الحبشة أن تضرب الكعبة، فجاءت بفيلها، وجاءت بقوتها، وجاءت بجيوشها، فدخلوا مكة إلى أن احتلوها، وقبل أن يصلوا للكعبة جاء عبد المطلب جد النبي عليه الصلاة والسلام إلى أبرهة ملك الحبشة يطلب إبله، وقد أخذها جنده وكانت مائة، فلما دخل وطلب الإبل عجب أبرهة منه؛ وذلك لحسن منطقه ودهائه ومع ذلك يطلب إبلاً ولا يدافع عن الكعبة، فقال لـأبرهة : أنا رب إبلي وللبيت رب يحميه، وكان إهلاك أبرهة وأصحابه إرهاصاً لبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإرهاصة: هي المعجزة قبل الظهور.

وبهذا نزل في الكعبة قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1]، سلط الله عليهم طيراً تحمل حجارة من سجيل تقذفها على رءوس هؤلاء الطغاة فتدخل من رأسه وتخرج من دبره، فأصبحوا كالعصف المأكول، كالحشيش عندما يخرج بعراً بعد أن تأكله الدواب.

وهكذا عندما يعجز المسلمون، ويظن أعداؤهم أنهم قضوا عليهم، عندها قضت إرادة الله الغالبة أن للبيت رباً يحميه، ويحمي عباده المؤمنين المستضعفين بما لا يخطر على بال ظالم، أو على بال عدو، فهؤلاء الأمم والدول الكبرى التي طالما عصت أمر الله، وطغت واحتقرت المسلمين، وأراقت دماءهم، وجعلتهم أقل من كلب، فالكلب إذا قتل قامت الدنيا، وعشرات المسلمين بل آلاف المسلمين يذبحون ويحتلون في كل ركن في الأرض، ولا صوت يرتفع، فهذا تأديب من الله، ولكن النتيجة: إن للبيت رباً يحميه.

يقول تعالى عن هؤلاء وقد حمى نبيه وأكرمه: قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ [الصافات:97-98].

بعد ذلك وجبت الهجرة من الأرض التي يسكنها الكفار والمنافقون، ويمنع المؤمن من إظهار دينه، ومن قبول دعوته إلى الله، كما فعل بعد ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام عندما ضاقت به مكة فانتقل منها إلى المدينة، وفي الهجرة وهو في الجحفة ينزل عليه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص:85]، فأنت ستذهب للمدينة ولكنك ستعود إلى مكة ظافراً منتصراً سيداً متحكماً في أعدائك، وهكذا كان.

تفسير قوله تعالى: (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين...)

فترك إبراهيم بعد ذلك البلدة وهاجر منها: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99] أي: سأذهب مهاجراً إلى الله في أرض لا أقاتل فيها، ولا يحضر على الإنسان أن يدعو فيها إلى الله، وهكذا ترك العراق وذهب إلى أرض الشام إلى حران واتخذها مهجراً ومقاماً، فدعا إلى الله ما شاء، فآمن به من كتب لهم العز والنصر والعاقبة الطيبة، ومن كفر به ألحقه الله بالأولين من الضالين.

وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، ذهب فوجد نفسه غريباً، لا قريب ولا تابع ولا بعيد، لا زوجة ولا ولد، فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:100].

فدعا الله أن يهب له ولداً، وأن يكون من الصالحين؛ ليأنس به، وليجدد به سلالته، قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:100].



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الصافات [83-100] للشيخ : المنتصر الكتاني

https://audio.islamweb.net