إسلام ويب

أرسل الله الرسل حجة على خلقه مبشرين ومنذرين، فمن آمن فلنفسه، ومن كفر فعليها، وقد لاقى رسل الله من المكذبين الجحود والاستكبار والاضطهاد والأذى، ولكن الله كتب أن رسله هم المنصورون وأن جنده هم الغالبون ولو بعد حين.

تفسير قوله تعالى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ...)

يقول تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِين ٍ * وَأَبْصِرْهُم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ [الصافات:171-176].

يذكر جل جلاله بعد أن قص علينا ما عاقب به أولئك الجاحدين الكافرين المكذبين بالرسل وبرسالاتهم، وبالكتب المنزلة عليهم، يذكر ربنا: أنه سبق في علمه، وسبق في قضائه، وسبق في اللوح المحفوظ: أن عباده المرسلين هم المنصورون، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:172-173].

وسبق في علم الله أن العاقبة للمتقين، والنصر للمرسلين، والهزيمة للكافرين.

(سبقت كلمتنا) كلمة الله: هي أمره وإرادته، وكان ذلك في قوله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة:21] (كتب الله) أي: فرض الله، كتب في اللوح المحفوظ بأن المرسلين الذين يرسلهم من عباده الصالحين مهما قاومهم أعداؤهم ومهما قاومهم الكفرة الجاحدون، فالنصر في الأخير لهم، والكلمة الحقة لهم.

وهكذا عندما قص الله علينا عن قوم هود، وقوم نوح، وقوم ثمود، وقوم صالح، وجميع أولئك، كان النصر بعد ذلك لنوح، وكان لهود، وكان لصالح، وكان لموسى وهارون، وكان لإبراهيم.

وهنا سؤال مهم: يقول: الحسن البصري : ما سبق أن قتل رسول من رسل الله، تصديقاً لقوله تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ [الصافات:171-172].

السؤال: هل هناك تعارض بين هذا الكلام وبين مقتل يحيى وزكريا؟

الجواب: لا يوجد تعارض؛ فالله تعالى لم يقل: (الأنبياء) ولكن قال: (المرسلين) وهم الذين يحادهم أعداؤهم المرسلون إليهم، وهم الذين أمروا بأن يبلغوا رسالة الله بين قوم جاهلين، وبين قوم وثنيين، وهم الذين يكون بينهم وبينهم أخذ وعطاء، وحرب وقتال.

وأما الأنبياء فليسوا كذلك: فالنبي لم يؤمر برسالة يؤديها لغيره، وإنما هو عبد لله أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول: عبد أوحي إليه برسالة ليبينها للناس.

فالرسول من قبل الله برسالته وبدينه وبكتابه هو الذي يحتاج إلى كفاح وإلى أخذ وعطاء، وإلى حرب تكون تارة له وتارة عليه، وتكون الحرب سجال: فيوم له ويوم عليه، ولكن الغاية والنتيجة تكون للرسول، والنصر له لا لأولئك الأعداء.

قال تعالى: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ [الصافات:172]، والنبي لا يحارب ولا يقاوم؛ لأنه لم يكلف بالبلاغ، لم يكلف برسالة، لم يكلف بكتاب، وعلى ذلك فليس هو في حرب، فإن قتلوا فذلك من الظلم، وهذا شأن اليهود أعداء الله في عصورهم السابقة واللاحقة، فقد حاولوا قتل عيسى، وحاولوا صلبه، ولكن الله أنقذه منهم: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، لكن النصارى واليهود في الأرض قبلوا هذا الكذب، وهذا الإفك، كما كذب من زعم صلبه وقتله.

وحاولوا قتل نبينا عليه الصلاة والسلام وسمموه، وبقي ثلاثة أعوام منذ غزوة خيبر وهو يقول: (لا تزال أكلة خيبر تعاودني حتى قطعت أبهري)، جاءته امرأة يهودية وقدمت له طعاماً وسممت الذراع لعلمها أنه يحبه عليه الصلاة والسلام، وكان معه صحابيان، فمات الصحابيان من حينهما، والنبي رفع يديه من اللقمة الأولى عليه الصلاة والسلام وقال: (لقد أخبرتني هذه الذراع بأنها مسمومة)، ولكن السم سرى في جنبه وبقي يتأثر به ثلاث سنوات متصلة؛ ولذلك كانت تقول السيدة عائشة : جمع الله لرسوله عليه الصلاة والسلام بين الشهادة والموت على فراشه.

ومرة وهو في حصن من حصونهم، حمل أحد اليهود صخرة وأراد أن يرميها على رأسه عليه الصلاة والسلام، ولكن مع ذلك نصره الله عليهم، كما نصر رسله السابقين، وهذا مصداق قوله: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ [الصافات:172]، أي: على أعدائهم، منصورون بالدليل، ومنصورون بالبرهان، ومنصورون بالحجة، ومنصورون بالحرب والقتال، والعاقبة لهم، والعقاب المبين لأعدائهم: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:172-173].

والجند: المجاهدون في سبيله من المهتدين بكتاب الله، فهؤلاء هم الغالبون لأعدائهم، هم المفضلون في رسالاتهم، بالمعنى والحس، بدليل وبرهان وحجة، فالنهاية والعاقبة دائماً لهم مهما أوذوا وحوربوا.

وهكذا عندما نتتبع سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، في حربه معهم، سواء في مكة بلدته ومسقط رأسه الشريف، أو عندما انتقل إلى المدينة، وسواء عندما حاربهم وحاربوه، هاجمهم وهاجموه، بعض المعارك كانت على المسلمين، وبعضها كانت لهم، وكانت العاقبة في النهاية له، وكانت المعركة الفاصلة هي معركة بدر، حيث أذل أعداءه، وقتل زعماءهم، وأسر كفارهم، إلى أن دخل مكة منتصراً مظفراً، وهم يرتل نشيد الفتح: (الحمد لله الذي أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده).

تفسير قوله تعالى: (فتول عنهم حتى حين)

يقول الله له: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِين ٍ * وَأَبْصِرْهُم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ [الصافات:174-175].

أي: فأعرض عن هؤلاء الذين واجهوك وحاربوك، وقالوا عن رسالتك، وقالوا عن الكتاب الذي أنزل عليك ما قالوه من الكذب، ومن الإفك، ومن البهتان، أعرض عن هؤلاء، تولّ عنهم (حتى حين) أي: إلى زمن لاحق، إلى نصرك المؤزر عليهم كما حدث في غزوة بدر.

(إلى حين) أي: حين هلاكهم، وأسرهم، وموتهم، وإراحة الله لك منهم ومن وجودهم، وكان هذا قبل فرض القتال، ولا ننسى أن السورة مكية، والحرب والقتال لم يشرع بعد في مكة، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه: (صبراً آل ياسر! إن موعدكم الجنة)، فقد كانوا يربون على المقاومة، يلحون على الكفاح والمحاربة والنبي عليه الصلاة والسلام يقول لهم: صبراً صبراً.

وهذا مما يؤكد أن الإسلام انتشر باللسان وانتشر بالدليل والبرهان، لا كما زعم الكفرة الجاحدون، ولا كما زعم الجهلة من أفراخهم وتلاميذهم، والدارسين عليهم، وكما قال زعيم من زعماء الكفر -والحق ما شهدت به الأعداء- وكان من المنصفين: من زعم بأن محمداً نشر إسلامه بالسيف فقد كذب. فلم يخرج بين الأمم والشعوب والسيف بيده يقتل هذا ويؤدب هذا والناس مستسلمون له، ولم يكن هذا من طبيعة حياته، ولم يذكر هذا في سير الأنبياء، ولم يذكر هذا عن قادة الأفكار والآراء والرسالات، هذا كذب عقلاً وواقعاً، فقد عاش النبي عليه الصلاة والسلام في مكة المكرمة ثلاثة عشر عاماً، لم يحمل سيفاً ولا عصاً، بل كان يقاوم ولا يقاوم، ويقاوم أصحابه ولا يقاومونه، هجروه وقاطعوه ثلاث سنوات متتالية، حتى كان أصحابه يأكلون ورق الشجر.

شتموا وسبوا، لعنوا وضربوا بالحجارة، كذبوا وتآمروا، قتلوا وعذبوا، حتى قتلوا سمية تحت السياط في شدة حر مكة، ومع ذلك يمرون على عمار وعلى أبيه ياسر ، وعلى أمه سمية وهم يعذبون ليرتدوا عن دينهم، وتأبى أم عمار ، ويمر على بلال وهو يعذب، يقولون له: أشرك بالله واكفر بمحمد، فلا يقول إلا: أحد أحد!

وظفر مسيلمة برسول رسول الله فكان يقول له: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع، فيقول له: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول: نعم، فقال له: تجيب عندما تسمع محمداً وتصم أذنك عن سماعي فقتله.

فرسول الله صلى الله عليه وسلم والرسل أجمعون نشروا دينهم بالحجة والبيان قبل السيف والسنان.

تفسير قوله تعالى: (وأبصرهم فسوف يبصرون)

قال تعالى: وَأَبْصِرْهُم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ [الصافات:175].

أي: أبصر عذابهم وترقب، فسينتقم الله لك وينصرك عليهم كما نصر إخوانك الأنبياء السابقين، فترقب عذابهم، وترقب بلاءهم، وستبصر ذلك بعينيك وسيبصرون كذلك ما ينكرونه، وسيرون العذاب محيطاً بهم، وسيرون أنفسهم مشردين أسرى، بين قتيل وجريح وطريح، إلى أن تفتح مكة وتعلن فيها كلمة الله كما كان ذلك أيام إسماعيل رسول الله، وأبيه إبراهيم رسول الله وخليله.

فقوله: وَأَبْصِرْهُم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ [الصافات:175]، السين وسوف: للمستقبل وللتربص، (السين): للتقريب، و(سوف): للانتظار البعيد، وقد رأوا ذلك بعد سنوات من هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة، ثم لم يقل رسول الله: بل الرفيق الأعلى حتى كان الإسلام قد وطد أركانه وثبت أوتاده، وعلمه الجاهل قبل أن يعلمه العالم.

وما كاد عليه الصلاة والسلام يذهب إلى الرفيق الأعلى حتى خرج الأصحاب في خلافة أبي بكر بداية، ثم في خلافة عمر نهاية، من الجزيرة ناشرين دين الله في مشارق الأرض ومغاربها، وما كادت تتم خمسون سنة من نزول الوحي حتى كان الإسلام قد عم المشارق والمغارب، ودخل أوروبا وفرنسا، وهو شيء لم يشهد نظيره التاريخ، وبقي الناس في عجب وإلى يومنا هذا كيف انتصر الإسلام بهذه السرعة مع وجود دولتين عظيمتين عاصرتا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وكذلك عاصرتا أبا بكر وعمر ، حتى أصبحتا ولاية إسلامية يحكمها المسلمون، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا فارس بعد فارس، ولا كسرى بعد كسرى)، وكان ذلك من معجزات المصطفى صلى الله عليه وسلم وإخباره بالغيب.

بل طرد الروم من المشارق إلى أوروبا، إلى أن أخرجوا في القرن الثاني من القسطنطينية، وأصبحت تسمى: دار الإسلام أو (استانبول)، وبقيت على الإسلام إلى يومنا هذا، وقد حاول أن ينصرها من ينصرها من اليهود ومن الصليبيين، ولكن مع ذلك أبت إلا العودة إلى الإسلام.

تفسير قوله تعالى: (أفبعذابنا يستعجلون)

قال تعالى: أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ [الصافات:176].

أي: أنظرهم الله وإذا بهم يستعجلون العذاب فلم يريدوا انتظاره إلى زمن معين ووقت محدد، بل قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32].

استعجلوا العذاب واستعجلوا البلايا، ولكن الله لا يعجل بعجلة أحد، فجاء الوقت المحدد المسمى عند ربنا فأهلكوا، ودمروا وطردوا، وكان القضاء عليهم، وأصبحت جزيرة العرب كلها دار إسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لقد يئس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب بعد هذا اليوم).

ثم بشر عليه الصلاة والسلام بأنها ستفيض بحار الدعوة إلى الله في سبيل الله، وفي سبيل نشر الإسلام، فبشر بفتح المغرب وفارس، وبفتح الشام واليمن، وبفتح مصر والعراق، وما مضى خمسون عاماً من تاريخ الزمان حتى تحقق كل هذا، ودخل الناس في دين الله وعبادته، وفيمن يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

يقول ربنا جل جلاله: فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ [الصافات:177].

أي: إذا نزل عذابنا بساحتهم، بحضرتهم، بأقوامهم، يقال: ساح بفلان، ويراد قومه ونفسه وداره، وما يحيط به (فإذا نزل) أي: العذاب الذي استعجلوه: بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ [الصافات:177]، أي: ما أسوأ صباحهم! وما أشد لعنتهم! وما أحقر نفوسهم عندما يحل العذاب بساحتهم!

يروي أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين يقول: ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ليؤدبهم حيث غدروا وخانوا في وقعة الأحزاب، فقد خانوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاولوا حرب النبي صلى الله عليه وسلم، وذهبوا إلى مكة يؤلبون عليه عربها، وإلى نجد يؤلبون عليه غطفان فكان بعد أن انتصر عليه الصلاة والسلام في موقعة الأحزاب، ذهب إلى بني قريظة، ثم بعد ذلك إلى خيبر.

فعندما أصبح بخيبر قال أنس: نزل عليهم ليلاً وكان عليه الصلاة والسلام إذا نزل ليلاً لا يحارب إلا صباحاً، كي لا يفجعهم وهم نيام، بات صلى الله عليه وسلم ليله، قال أنس : فجاء الصباح وخرج الناس من خيبر، وخرج اليهود وبيدهم الفئوس للزراعة والحراثة، وإذا بهم يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعودون مرعوبين مفزوعين ذاهلين!! وهم يصيحون: محمد والخميس! أي: الجيش، حيث جاء محارباً مقاتلاً، فعندما سمع ذلك عليه الصلاة والسلام قال: (إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين).

فكان صباحهم صباح ذل، وصباح هوان، وصباح غلبة، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يحاصرهم في حصونهم وقلاعهم إلى أن نزلوا على حكم رسول الله أذلاء خانعين عن كره أو عن رضا، فالكل سواء، فلم يسمح لهم إلا أن يخرجوا ما تحمله أيديهم ورواحلهم فقط.

وهكذا نصر الله خاتم رسله -كما نصر الأولين منهم- النصر العزيز المؤزر على الوثنيين من أهل الجزيرة، وعلى الكتابيين من أهل المدينة، وعلى الكتابيين الآخرين من أرض جيزان.

تفسير قوله تعالى: (وتول عنهم حتى حين...)

ثم أكد الله قوله الأول فقال: وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ [الصافات:178-179].

قال له مرة أخرى مؤكداً هذا النصر المنتظر، وهذا النصر العجيب الآتي: ( تولّ عنهم) اصبر عليهم (حتى حين) إلى حين يؤمر بالقتال، إلى حين يذلون أو يهلكون أو يشردون وكل ذلك كان، فقد شرع القتال، وقتلوا وقهروا، وقتل من قتل وأسر من أسر، وهدى الله من سبق في علمه أنه سيهتدي ويموت على الإسلام.

تفسير قوله تعالى: (سبحان ربك رب العزة عما يصفون ...)

ثم قال تعالى: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180-182].

بعد أن قص الله جل جلاله في هذه السورة الكريمة، سورة الصافات التي نزلت بمكة، قصص من عتا على أنبيائه كقوم نوح، وقوم عاد، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وقوم إلياس، وقوم يونس، ثم جمعهم جميعاً، وقال: بأنهم مهزومون،مغلوبون، وبأن الرسل هم المنصورون الغالبون؛ لأن الله كتب ذلك في سابق علمه، وسبقت به كلمته، حيث قال جل جلاله: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة:21] قال: (سبحان ربك).

فأتم ذلك بالتسبيح والتعظيم والتمجيد، فنزه نفسه ومجدها، وهو سبحانه جل جلاله لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وهو يعلمنا كيف ننزهه ونعظمه ونمجده.

(سبحان ربك) أي: نزه خالقك عن كل نقص، ومجده بكل كمال، وقل: سبحان ربي خالقي ورزاقي ومدبري.

(سبحان ربك): ربك يا محمد! ورب كل الخلق.

(رب العزة): رب الغلبة والقهر، رب القوة والسلطان، رب العزة، فلا عزة لأحد، ولا غلبة لأحد إلا من عزه، وإلا من غلبه، فهؤلاء عندما يغلبون لا يكون ذلك منهم، ولكن من باب قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم:83]، أو قد يكون ذلك بالنسبة للمسلم اختباراً وابتلاءً عسى أن يعود للحق، أن يعود للإيمان، أن يعود للطاعة.

قال: عَمَّا يَصِفُون َ [الصافات:180] عما وصفه به هؤلاء مما قصه الله علينا، بما وصفوه وقالوا: إن لله ولداً وسموه عيسى، إن لله بناتاً: هم الملائكة، إن لله شركاء من الجن، إن لله صاحبة وسموها مريم، إن لله شريكاً أو شركاء، وذهبوا يسمونها من أنواع الجمادات، ومن أنواع الإنس، ومن أنواع الجن، ومن أنواع الدواب، ومن أنواع الملائكة.

فالله جل جلاله يسبح وينزه نفسه عن كل ما وصفه هؤلاء في هذه السورة الماضية المنتهية بهذا الذكر، وهذا التسبيح، وهذا التمجيد، ثم هو ربنا جل جلاله منزه عن جميع ما لا يليق بجلاله، ولا يليق بكماله، عن وصف الكافر، ووصف الجاهل، ووصف الوثني، ووصف الكتابي، وكل ما قالوه وافتروه فيه على الله.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ [الصافات:180] أي: عما يصفه هؤلاء الوثنيون، هؤلاء المشركون، هؤلاء الكافرون بالله، ممن ذكروا خلال هذه السورة.

تفسير قوله تعالى: (وسلام على المرسلين ...)

قال تعالى: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات:181].

الأمان والأمن في الدنيا والآخرة للمرسلين من رسل الله، من آدم إلى إدريس إلى نوح، ومن إبراهيم وولديه إسماعيل وإسحاق إلى الأنبياء من بني إسرائيل، إلى نبينا العربي المكي المدني خاتم الأنبياء وسيد الرسل، بل وسيد الخليقة كلها: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات:181].

قال تعالى: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:182]، فالحمد لله أولاً، والحمد لله أخيراً، والحمد لله على أن هدانا للإسلام وأن نصر رسله، والحمد لله على أن كشف هؤلاء الكفرة وغلبهم، وقهرهم وأذلهم، وجعل مصيرهم إلى النار.

الحمد لله على أن هدانا للإيمان بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً، فالحمد لله على هذه المعاني الصادقة كلها.

ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صليتم عليّ فصلوا على المرسلين، فأنا رسول من المرسلين)، وهذا صنيع ربنا في هذه السورة الكريمة، فهو قال: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات:181]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليختم مجلسه بما ختم به الله هذه السورة: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180-182]).

روى ذلك الطبراني عن زيد بن أرقم عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وروى ذلك علي بن أبي طالب موقوفاً من كلامه، ومرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، وفي رواية زيد : (من قرأ دبر كل صلاة: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180-182] ثلاث مرات فقد اكتال بالمكيال الأوفى يوم القيامة من الأجر).

وهذا يسمى: كفارة المجلس وخاتمته، وأنه يكون ذلك عقب كل مجلس، وعقب كل صلاة وفي دبرها.

وقد ورد حديث آخر في كفارة المجلس، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (من ختم مجلسه بقوله: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)، كان ذلك كفارة له مما قد يقع في ذلك المجلس من لغو أو نميمة أو كلام لا يليق.

فمن الكفارات، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180-182].

وبهذا نكون -ولله الحمد- قد ختمنا سورة الصافات، وسنشرع الآن في سورة (ص).



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الصافات [171-182] للشيخ : المنتصر الكتاني

https://audio.islamweb.net