إسلام ويب

لقد حكى الله تعالى لنا في كتابه ما قام به مؤمن آل فرعون من الإنكار على قومه ودعوتهم إلى الإيمان بالله، والكفر بالطواغيت والأوثان، وذلك من أفضل الجهاد؛ ولذا كان لا بد للمؤمن من أن يجهر بكلمة الحق وألا يخاف في الله لومة لائم، وأن يفوض أمره إلى الله، فهو الحافظ من كيد الكائدين ومكر الماكرين.

فوائد إيمانية من قصة مؤمن آل فرعون

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

أما بعد:

تكلمنا -بحمد الله تعالى- في الدرس السابق عن قصة مؤمن آل يس، ونتكلم اليوم إن شاء الله تعالى عن قصة مؤمن آل فرعون، والآيات في سورة غافر، قال تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ * وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ * وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ * الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْن ِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ * وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:26-46].

هذه حلقة من حلقات الصراع بين الحق والباطل، وقصة الصراع واحدة، ولكن تختلف الأسماء، وتختلف شبهات الطغاة والجبابرة، ولكن النهاية تكون واحدة، وهي الانتصار للحق وأهله، وزوال الباطل وأهله، فالباطل ينتفش ويبدو بأسبابه الأرضية كأنه على كل شيء قدير، ولكنه عندما يواجه الحق الثابت الذي يستمد قوته من الله عز وجل تكون العاقبة للمتقين، والهلاك والعذاب للطغاة والمتكبرين.

فالباطل مثل الزبد والرغوة والغثاء الذي يكون على سطح السيل فهو يظهر، ولكن هذا الظهور ظهور وقتي لا يلبث أن يزول: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد:17] فيبقى الحق وأهله.

والقصة التي معنا ليست قصة نبي من الأنبياء، ولكنه مؤمن صادق الإيمان قوي الحجة، يدعو إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة.

وكان يكتم إيمانه من فرعون، وما كان يكتم إيمانه خوفاً؛ ولذلك أظهر إيمانه في أحرج الأوقات، عندما قال فرعون: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26].

فعند ذلك أظهر هذا الرجل المؤمن إيمانه، فلو كان يكتم إيمانه خوفاً من فرعون لكان أجدر به أن يستمر على كتم إيمانه، وقد وصل الحال مع فرعون إلى أنه هدد بقتل موسى، وقال: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى .

وكانت العاقبة للمتقين في هذه القصة، كما هي العاقبة دائماً، قال تعالى: فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ [غافر:45].

ولاحظ أن النهاية تختلف عن نهاية مؤمن آل يس، فمؤمن آل يس قتلوه، ورجموه بالحجارة كما تهددوا الرسل، وانتقل من دار البلاء -يعني: دار العمل- إلى رحمة الله عز وجل، ولما عاين الكرامة: قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27].

وهذه القصة: فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:45-46].

فهي تبين أن المؤمن دائماً رابح سواء قتل فانتقل إلى كرامة الله ورحمته وما عند الله خير، أو انتصر في الدنيا فوقاه الله سيئات ما مكروا.

فمن يعمل مع الله عز وجل، ويتاجر معه لا يمكن أن يخسر بحال من الأحوال، قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ [فاطر:29]، وقال سبحانه: وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:74].

فعلى كل حال المؤمن رابح سواء انتصر أو استشهد، فهو هنا رابح وهنا رابح، بخلاف الكافرين والمكذبين، الذين يحاربون شرع الله عز وجل، هم في خسارة وبوار في الدنيا والآخرة؛ كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36]، فتجارتهم بائرة، يعني: خاسرة في الدنيا والآخرة.

خوف فرعون من قتل موسى وتردده فيه

ولنشرع في شرح الآيات الكريمات: يقول تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26].

قال الزمخشري : قوله: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى : كانوا إذا هم بقتله كفوه بقولهم: ليس بالذي تخافه، وهو أقل من ذلك وأضعف، وما هو إلا بعض السحرة، ومثله لا يقاوم إلا ساحراً مثله.

ويقولون: إن قتلته أدخلت الشبهة على الناس، واعتقدوا أنك عجزت عن معارضته بالحجة.

الظاهر: أن فرعون -لعنه الله- كان قد استيقن أنه نبي، وأن ما جاء به آيات وما هو بسحر، والله عز وجل يسجل ذلك، قال: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14].

وقال موسى: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء:102].

فكان فرعون يعتقد بأنه نبي، وأن هذه المعجزات التي أتى بها تؤيد أنه نبي صادق؛ ولذلك كان يخاف من قتله، فهو يظهر أنه يريد أن يقتله، ولكنه في الواقع كان يخاف من قتل موسى خشية أن ينزل به عذاب.

يقول: ولكن الرجل كان فيه خب وجربزة، وكان قتالاً سفاكاً للدماء في أهون شيء، فكيف لا يقتل من أحس منه بأنه هو الذي يثل عرشه ويهدم ملكه؛ لأنه كان يقتل الولدان، يعني كما يقولون: أنه بلغه من أهل الكتاب أو من بعض الكهان أنه يولد في تاريخه غلام يكون هلاك ملكه على يديه، ومن أجل ذلك كان يقتل الولدان، فهو كان يعتقد أنه سوف يزول ملكه على يديه، ولكنه كان يخاف إن هم بقتله أن يعجل له بالهلاك.

فقوله: وَلْيَدْعُ رَبَّهُ شاهد صدق على فرط خوفه منه، يقول: وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ؛ لأنه خائف من دعاء موسى، وكان قوله: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى تمويهاً على قومه وإيهاماً أنهم هم الذين يكفونه، وما كان يكفه إلا ما في نفسه من هول الفزع.

قوله: أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أن يغير ما أنتم عليه، وكانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام بدليل قوله: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف:127].

يقول: إني أخاف أن يفسد عليكم دينكم بدعوتكم إلى دينه، أو يفسد عليكم دنياكم بما يظهر من الفتن بسببه، وهكذا أهل الباطل دائماً، فهم يصورون أن أهل الإيمان والالتزام سوف يذهبون بطريقتهم المثلى، وأنهم على حضارة، وعلى نور وخير، وأن هؤلاء يريدون أن يردوا الناس إلى عصور الظلام، وأن يحرموهم من المدنية ومن حضارة أوروبا، فهذا تمويه من أهل الباطل، يموهون ويلبسون الباطل ثوب الحق والحق ثوب الباطل.

قوله تعالى: وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [غافر:27].

قال ابن كثير : أي: عذت بالله ولجأت إليه، واستجرت بجنابه من أن يسطو فرعون وغيره علي بسوء.

اعتصام المؤمن بالله دائماً ولجوءه إليه

وقوله: مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ أي: جبار عنيد لا يرعوي ولا ينتهي ولا يخاف عذاب الله وعقابه؛ لأنه لا يعتقد معاداً ولا جزاء، ولهذا قال: مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ .

فهكذا المؤمن دائماً له معاد وله مبدأ وله ملاذ، وهو الله عز وجل، فهو يعوذ به ويحتمي بجنابه، ويلوذ بالله -أي: يلجأ إلى الله عز وجل- إذا أراد شيئاً، كما فعل يوسف لما اجتمعت عليه امرأة العزيز ونساء المدينة، حيث استعان عليهن بالله وقال: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33].

فالمؤمن دائماً يلجأ إلى الله إذا خاف فتنة، أو إذا خاف من جبار ظالم.

اختلاف المفسرين في شخصية مؤمن آل فرعون

قال تعالى: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [غافر:28].

فاختلفوا في هذا الرجل: فقال الحسن ومقاتل والسدي : كان قبطياً، وهو ابن عم فرعون والذي نجا مع موسى.

والمفسرون يرجحون أنه الرجل الذي جاء من أقصى المدينة وقال لموسى: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص:20].

وقيل: كان من بني إسرائيل ولم يكن من آل فرعون وهو خلاف ما في الآية، وقد تمحل لذلك بأن في الآية تقديماً وتأخيراً، والتقدير: وقال رجل مؤمن من بني إسرائيل يكتم إيمانه من آل فرعون.

وهذا خلاف ظاهر الآية، فالآية: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [غافر:28]، فإذا قيل: إنه من بني إسرائيل، أو من قوم موسى، يكون هذا القول خلاف الآية، أي: خلاف ظاهر القرآن، وظاهر القرآن يجب القول به والمصير إليه، حتى يدل الدليل على أن الظاهر غير مراد.

قال القشيري : ومن جعله إسرائيلياً ففيه بعد؛ لأنه يقال: كتمه أمر كذا، ولا يقال: كتم منه، كما قال سبحانه: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:42]، وأيضاً ما كان فرعون يحتمل من بني إسرائيل مثل هذا القول، يعني: كونه تكلم بهذا الكلام أمام فرعون، وجهر بكلمة الحق ونصر موسى نصراً مؤزراً، ودعا الناس إلى الإيمان بالله عز وجل، وخوف فرعون وقومه من أيام الأحزاب التي هلك فيها عاد وثمود وقوم نوح.. وغيرهم، لو كان من قوم من بني إسرائيل قوم موسى لما كان يحتمل منه فرعون هذا الكلام فهو من قوم فرعون كما تدل الآية.

حكمة مؤمن آل فرعون في دعوته قومه إلى الله

وقال الزمخشري -ما ملخصه-: أَنْ يَقُولَ : لأن يقول، وهذا إنكار منه عظيم وتبكيت شديد؛ كأنه يقول: أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة، وما لكم علة قط في ارتكابها إلا كلمة الحق التي نطق بها، وهي قوله: ربي الله، كيف يقتل إنسان يقول: ربي الله، مع أنه لم يحضر لتصحيح قوله بينة واحدة ولكن بينات عدة من عند من نسب إليه الربوبية وهو ربكم؛ لأنه جاء بالبينات -يعني: ليست بينة واحدة، بل بينات ومعجزات- كان يلقي عصاه فتنقلب حية كبيرة، ويدخل يده في جيبه، ثم يخرجها فتصير بيضاء تشع نوراً، فيعيدها إلى جيبه فتعود سيرتها الأولى، فأتى ببينات ومعجزات كثيرة تدل على أنه صادق، فكيف تقتلونه وهو يقول: ربي الله، وقد أتى بالبينات؟

وقوله: (بالبينات)، يريد البينات العظيمة التي عهدتموها وشهدتموها، ثم أخذهم بالاحتجاج على طريقة التقسيم، فقال: لا يخلو من أن يكون كاذباً أو صادقاً، يعني: هذا الذي يدعي أنه نبي، إما أن يكون صادقاً، وإما أن يكون كاذباً، فعلى كل حال لا يجوز قتله، وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ [غافر:28]، أي: إذا كان يكذب على الله فالله تعالى ينتقم منه؛ لأنه يدعي أن الله أرسله، فالله تعالى ينتقم منه (فعليه كذبه) أي: يعود عليه كذبه ولا يتخطاه ضرره إلينا.

وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر:28]: إن كان صادقاً في أن الله عز وجل أرسله يصبكم بعض الذي يعدكم، وهو في الواقع يصيبهم جميع ما يعدهم به، ولكن هذا من باب المداراة، وحتى لا يظهر أنه متحامل عليهم، فقال: (يصبكم بعض الذي يعدكم به)، أي: إن تعرضتم له.

فإن قيل: لم قال: الذي يعدكم، وهو نبي صادق لابد أن يصيبهم كل ما يعدهم به لا بعضه؟

الجواب: لأنه في مقاولة خصوم موسى ومناكريه إلى أن يحايلهم ويداريهم، ويسلك معهم طريق الإنصاف في القول، ويأتيهم من جهة المناصحة، فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله، وتقديم الكاذب على الصادق أيضاً من هذا القبيل، قال: وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ .

قال القاسمي : قال الناصر : ويناسب تقديم الكاذب على الصادق هنا: قوله تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:26-27] حتى لا يظهر أنه متحيز ليوسف، وهم لا شك من بداية الأمر يرون أن القميص قد من دبر.

يقول: إن كان قد من قبل فصدقت أنه هو الذي يريدها، وهي التي تمتنع منه، فقد قميصه من قبل، ولكن إذا كان هو يفر منها وهي تتبعه فتمسك قميصه من الخلف، أي: من دبر، فهذا أيضاً حتى يقبل قوله، وحتى لا يظهر أنه متحامل على امرأة العزيز .

يقول: فقدم الشاهد أمارة صدقها على أمارة صدق يوسف، وإن كان الصادق هو يوسف، وهذا لا يضره؛ لأنه هو الصادق في الواقع؛ لرفع التهمة وإبعاد الظلم وإدلالاً بأن الحق معه، ولا يضره التأخير لهذه الفائدة.

وقريب من هذا التصرف لإبعاد التهمة ما في قصة يوسف مع أخيه، إذ بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه، فلو بدأ بوعاء أخيه واستخرج منه صواع الملك لاتهم بأنه وضعه في وعاء أخيه، ولكن بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه، كأنه لا يقصد أخاه، ولا يريد أن يحتجز أخاه، فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه.

قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غافر:28]: قال الشوكاني : وهو احتجاج آخر من وجهين:

أحدهما: أنه لو كان مسرفاً كذاباً لما هداه الله إلى البينات وأيده بالمعجزات؛ لأن النبي إذا كان صادقاً فهو أصلح الصالحين، فيظهر عليه من العلامات ومن الدلائل من صدق الكلام ومن العفاف ما يدل على صدقه. وذلك كما قال حسان في حق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم:

لو لم تكن فيه آيات مبينةكانت بديهته تأتيك بالخبر

يعني: الناظر إلى وجهه الكريم صلى الله عليه وسلم يعتقد بأنه نبي صادق، فإذا كان الرجل محافظاً على الصلاة ويجتهد في الطاعة والعبادة تظهر عليه أنوار الطاعة والعبادة والإقبال على الله عز وجل، فكيف بالرسل الذين هم أفضل الأولياء.

فليست المعجزات وحدها هي دلائل النبوات، بل الصدق والأمانة وحسن السيرة وشرف النسب وغير ذلك مما يدل على الصدق.

ثانيها: أنه إذا كان كذلك خذله الله وأهلكه، فلا حاجة لكم إلى قتله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غافر:28] يعني: لا تشغلوا أنفسكم به فالله تعالى لا يهدي من هو مسرف كذاب، فلا حاجة لكم إلى قتله.

والمسرف: المقيم على المعاصي المستكثر منها، والكذاب: المفتري.

تذكير مؤمن آل فرعون قومه بنعم الله عليهم

قوله تعالى: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29].

يعني: يذكرهم بأنهم الآن ظاهرون في الأرض، وهذا الظهور ظهور وقتي، ويذكر أيضاً بأن الدولة التي تحارب الدين يؤذن بزوالها.

قال ابن كثير : يحذرهم أن يسلموا هذا الملك العزيز، فإنه ما تعرضت الدولة للدين إلا سلبوا ملكهم، فأي دولة تحارب شرع الله لابد أن تزول وأن تذل بعد عز، ولكن الله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) يعني: يعادي ولياً واحداً من أولياء الله، فالله تعالى يؤذنه -أي: يعلمه- أنه محارب له، فكيف إذا عادوا كل أولياء الله وكل الدعاة إلى الله عز وجل، وإذا حاربوا دين الله عز وجل جهاراً نهاراً لابد أن يزول ملكهم، وتزلزل عروشهم.

يقول: وكذا وقع لآل فرعون، مازالوا في شك وريب ومخالفة ومعاندة لما جاءهم موسى به، حتى أخرجهم الله مما كانوا فيه من الملك والأملاك والدور والقصور والنعمة والحبور، ثم حولوا البحر مهانين، ونقلت أرواحهم بعد العلو والرفعة إلى أسفل سافلين، يعني: الأجسام بالغرق والأرواح بالحرق، نقلت الأرواح إلى النار، وأغرق الله الأجساد.

ولهذا قال هذا الرجل المؤمن المصدق البر الراشد التابع للحق الناصح لقومه الكامل العقل: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ [غافر:29] أي: عالين على الناس حاكمين عليهم.

قال تعالى: فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا [غافر:29] أي: لو كنتم أضعاف ما أنتم فيه من العدد والعدة، والقوة والشدة لما نفعنا ذلك، ولا رد عنا بأس مالك الممالك.

حين ضرب زلزال تركيا أسقط مائة ألف بيت معمور في أقل من دقيقة، فمن يستطيع أن يقف أمام بأس الله عز وجل، وأمام أخذه؟ لا يمكن أن يكون هناك من يدفع بأس الله عز وجل.

وهذا قارون خسف به وبداره الأرض، وابتلعته الأرض بأمواله وخزائنه، فما وجد فئة تنصره من دون الله وما كان من المنتصرين.

رد فرعون على المؤمن وعتوه وكفرانه

إن رد فرعون رد ساذج إذ يقول: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى [غافر:29] أي: ما أقول لكم إلا ما عندي، ليس عندي حجة ولا دليل ولا برهان ولا مقاومة الحجة بالحجة.

وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29] فهو يدعي مجرد ادعاء أنه على سبيل الحق والرشاد، وأنه يعتقد أنه ينصحهم به.

يقول: وكذب في كل من هذين القولين وهاتين المقدمتين، فإنه قد كان يتحقق في باطنه وفي نفسه أن هذا الذي جاء به موسى من عند الله لا محالة، وإنما كان يظهر خلافه بغياً وعدواناً وعتواً وكفراناً، كما قال تعالى: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء:102].

فموسى يخبرهم أن فرعون يعلم تماماً أن الذي جاء به هو من عند الله.

وقال: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14] أي: يعتقدون صدق موسى، ولكن لبغيهم وظلمهم لا ينقادون له، ولا يؤمنون بدعوته ولا يسلمون له.

فهذه المقدمة الأولى لما قال: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وكذب في ذلك، وقال: وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ وكذب في ذلك أيضاً، فإنه لم يكن على رشاد من الأمر، بل كان على سفه وضلال وخبل وخيال، فكان أولاً ممن يعبد الأصنام والأمثال، ثم دعا الجهلة الضلال إلى أن اتبعوه وطاوعوه وصدقوه فيما زعم من الكفر والمحال في دعواه أنه رب العالمين، تعالى الله ذو الجلال.

تذكير مؤمن آل فرعون قومه بهلاك الأمم السابقة وبيوم القيامة

قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ [غافر:30].

قال الرازي -ما ملخصه-: واعلم أنه تعالى حكى عن هذا المؤمن أنواعاً من الكلمات ذكرها لفرعون:

فالأول: قوله: يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ [غافر:30]، والتقدير: مثل أيام الأحزاب، كما قلنا: أنه يأتي المفرد ويراد به الجمع كقوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [القمر:54]، فهي في الواقع أنهار وليس نهراً واحداً.

وقوله عز وجل: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ [النور:31]، يقصد الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء.

فالمفرد يأتي في لغة العرب ويراد به الجمع، فقوله هنا: يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ [غافر:30] أي: مثل أيام الأحزاب، أو كل قوم لهم يوم، مثل أيام الأحزاب، قيل: إنه لما أضاف اليوم إلى الأحزاب وفسرهم بقوم نوح وعاد وثمود، فحينئذ ظهر أن كل حزب كان لهم يوم معين في البلاء، فاقتصر من الجمع على ذكر الواحد لعدم الالتباس.

ثم فسر قوله: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ [غافر:30] بقوله: مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ [غافر:31] ودأب هؤلاء: دأبهم في عملهم من الكفر والتكذيب وسائر المعاصي، فيكون ذلك دأباً دائماً لا يفترون عنه، ولابد من حذف المضاف، يريد مثل جزاء دأبهم.

والحاصل: أنه خوفهم بهلاك معجل في الدنيا، ثم خوفهم أيضاً بهلاك الآخرة، وهو قوله: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الرعد:33]، والمقصود منه: التنبيه على عذاب الآخرة.

النوع الثاني من كلمات ذلك المؤمن: قوله تعالى: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ [غافر:31] يعني: أن تدمير أولئك الأحزاب كان عدلاً؛ لأنهم استوجبوه بسبب تكذيبهم للأنبياء، وتلك العلة قائمة هنا فوجب حصول الحكم هاهنا، يعني: هؤلاء ما أهلكوا ظلماً، بل بما كسبت أيديهم، ولابد أنهم اقترفوا آثاماً أهلكهم الله عز وجل بها، وأنتم الآن تقترفون هذه الآثام فتعرضون أنفسكم أيضاً للهلاك.

النوع الثالث من كلمات هذا المؤمن: قوله: وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ [غافر:32].

فالتناد: تفاعل من النداء، يقال: تنادى القوم أي: نادى بعضهم بعضاً، وأجمع المفسرون على أن يوم التناد يوم القيامة، فمن أسماء يوم القيامة: يوم الزلزلة، الحاقة، الواقعة، القارعة، يوم الجمع، يوم التناد؛ لكثرة صفاته وكثرة أهواله، وهو يوم التناد لكثرة النداء فيه، وفي سبب تسميته بهذا الاسم وجوه:

الأول: أن أهل النار ينادون أهل الجنة، وأهل الجنة ينادون أهل النار، كما في سورة الأعراف.

الثاني: قال الزجاج : لا يبعد أن يكون السبب فيه قوله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:71].

الثالث: أنه ينادي بعض الظالمين بعضاً بالويل والثبور، فيقولون: يا ويلنا.

الرابع: ينادون إلى المحشر، أي: يدعون.

الخامس: ينادي المؤمن: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [الحاقة:19] من فرحه بكتابه، والكافر يقول: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ [الحاقة:25].

السادس: ينادى باللعنة على الظالمين.

السابع: يجاء بالموت على صورة كبش أملح، ثم يذبح، وينادى: يا أهل الجنة! لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، وأهل النار حزناً على حزنهم، فكل هذا مأخوذ من النداء.

الثامن: قال أبو علي الفارسي : التنادي: مشتق من التناد من قولهم: ند فلان إذا هرب، فهذا تفسير آخر، وهو قراءة ابن عباس ، فقال: يندون كما تند الإبل، ويدل على صحة هذه القراءة قوله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ [عبس:34] فالتناد هنا: عندما يند الناس أو يفرون.

ويفسره كذلك قوله تعالى بعد هذه الآية: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ [غافر:33]؛ لأنهم إذا سمعوا زفير الناس يندون هاربين، فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفاً، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه.

المسألة الثانية: انتصب قوله: يوم التناد وجهين:

أحدهما: الظرف للخوف، كأنه خاف عليهم من ذلك اليوم لما يلحقهم من العذاب إن لم يؤمنوا، فيوم التناد يوم مفتوح لأنه ظرف.

والآخر: أن يكون التقدير: إني أخاف عليكم عذاب يوم التناد، وإذا كان كذلك كان انتصاب يوم التناد مفعولاً به.

ثم قال: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ [غافر:33] هو بدل من قوله: (يوم التناد)، عن قتادة : منصرفين عن موقف الحساب إلى النار، ثم أكد التهديد، فقال: مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ [غافر:33]، ثم نبه على قوة ضلالهم وشدة جهالتهم، فقال: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [غافر:33].

تذكير مؤمن آل فرعون قومه بيوسف وما جاءهم به من البينات

ذكر مؤمن آل فرعون قومه بيوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقال: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ [غافر:34].

قال ابن كثير : يعني: أهل مصر، قد بعث الله فيهم رسولاً من قبل موسى عليه الصلاة والسلام، وهو يوسف عليه الصلاة والسلام كان عزيز أهل مصر، وقيل: كان هو الملك، وبعضهم يقول: إن ملك مصر آمن بدعوة يوسف واختاره ملكاً من بعده، وبعضهم يقول: إنه لم يؤمن، ولكنه كان معجباً بحكمته وسياسته فاختاره من بعده، والدليل على ذلك: أنه رفع أبويه على العرش، والعرش: يكون للملك.

وكان رسولاً يدعو إلى الله تعالى أمته القبط، فما أطاعوه تلك الطاعة إلا بمجرد الوزارة والجاه الدنيوي؛ ولهذا قال: فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا [غافر:34]، أي: يئستم فقلتم طامعين: لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا [غافر:34]؛ وذلك لكفرهم وتكذيبهم، كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ [غافر:34] أي: كحالكم هذا يكون حال من يضللهم الله بإسرافه في أفعاله وارتياب قلبه.

ثم قال تعالى: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر:35].

قال الزجاج : هذا تفسير المسرف المرتاب، فالمسرف المرتاب الذي يجادل في آيات الله.

قال المفسرون: يجادلون في إبطالها والتكذيب بها بغير سلطان، أي: بغير حجة أتتهم. (كبر مقتاً) أي: كبر جدالهم مقتاً عند الله، وعند الذين آمنوا، والمعنى: يمقتهم الله ويمقتهم المؤمنون بذلك الجدال الذي يردون به الآيات.

(كذلك) أي: كما طبع الله على قلوبهم حتى كذبوا وجادلوا بالباطل؛ يطبع على كل قلب متكبر عن عبادة الله وتوحيده.

طغيان فرعون وطلبه بلوغ أسباب السماوات

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ [غافر:36] يريد فرعون أن يبرر للناس أن ما يدعيه موسى من أن ربه فوق السماء، فهذه الآية تدل على الفوقية، إذ إن فرعون أراد من هامان أن يبني له برجاً عالياً يصعد عليه ليؤكد لقومه أنه ليس فوق السماء إله يعبد.

قال ابن كثير : كذب فرعون موسى عليه السلام في دعواه أن الله أرسله، وزعم فرعون لقومه ما كذبه وافتراه في قوله لهم: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ [القصص:38].

فبلغ من عتوه أنه يريد أن يبني أبراجاً وسلالم يصعد عليها ليؤكد لهم أنه ليس هناك إله أرسل موسى.

قال: لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ [غافر:36-37] أي: طرقها ومسالكها فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى [غافر:37]، هذا نوع من الكبر والغطرسة، ويحتمل هذا معنيين:

أحدهما: وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافر:37] في قوله: إن للعالم رباً غيري، أو في دعواه أن الله أرسله، والأول أشبه لظاهر حال فرعون، فإنه كان ينكر ظاهراً إثبات الصانع.

والثاني أقرب إلى اللفظ حيث قال: فأطلع إلى إله موسى، أي: فأسأله عن إرساله موسى، -يعني: أرسله أم لا- وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا يعني: في دعواه ذلك، وكأنه مقر بوجود إله، ولكنه يقول: لم يرسله، وإنما كان مقصود فرعون أن يصد الناس عن تصديق موسى عليه السلام، قال تعالى: وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ [غافر:37] أي: الشرك والتكذيب، وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ [غافر:37] على ما لم يسم فاعله، أي: عن سبيل الحق.

وفي قراءة (وصَدَّ عن السبيل)، فهو يصد صداً، أي: صد فرعون الناس عن السبيل.

قال تعالى: وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ [غافر:37] أي: في خسران وضلال، ومنه: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1].

دعوة مؤمن آل فرعون قومه إلى اتباع الرشد وتذكيره لهم بحقارة الدنيا

قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:38].

قال الزمخشري قال: (أهدكم سبيل الرشاد) فأجمل لهم، ثم فصل فافتتح بذم الدنيا، قال: يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ [غافر:39] كأنه يريد أن يبين لهم سبيل الرشاد، وهو أن يعرفوا الدنيا على حقيقتها، وأن الدنيا متاعها متاع قليل، وأن الآخرة هي الحيوان لو كانوا يعلمون، وأن الإنسان عندما يعمل صالحاً يجازى بمثله، والذي يعمل صالحاً يدخل الجنة يرزق فيها بغير حساب.

فأجمل سبيل الرشاد، ثم فصل فافتتح بذم الدنيا وتصغير شأنها؛ لأن الإسناد إليها هو أصل الشر كله، ومنه يتشعب جميع ما يؤدي إلى سخط الله، ويجلب الشقاوة في العاقبة، وثنى بتعظيم الآخرة والاطلاع على حقيقتها، وأنها هي الوطن والمستقر، وذكر الأعمال سيئها وحسنها وعاقبة كل منها؛ ليثبط عما يتلف، وينشط لما يدلف -يعني: يقرب- ثم وازن بين الدعوتين، دعوة إلى دين الله الذي ثمرته النجاة، ودعوته إلى اتخاذ الأنداد الذي عاقبته النار، وحذر وأنذر واجتهد في ذلك واحتشد، لا جرم أن الله استثناه من آل فرعون، وجعله حجة عليهم وعبرة للمعتبرين.

فقال: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر:40] أي: بغير تقدير وموازنة للعمل، بل أضعاف مضاعفة، فضلاً منه تعالى ورحمة، فإنه مهما كان عمل الإنسان لا يوازي جنة الله عز وجل؛ لأن حياة الإنسان محدودة يعيش ستين سنة أو سبعين سنة أو مائة سنة، فتجد جزءاً من هذه الحياة في الطفولة، وجزءاً يشتركون فيه الناس في النوم والأكل والشرب، وتجد أعمال العاملين في خمسة عشر أو عشرين سنة تقريباً، فالذين يجتهدون في هذه المدة في الطاعة يدخلون الجنة، والذين يضيعون أعمالهم يدخلون النار.

فهل الإنسان الذي يعمل عشرين سنة يجازى بخلود في نعيم مقيم، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت؟! فلا يقابل عمل الإنسان في الدنيا أبداً جنة الله عز وجل مهما كان عمله في سبيل الله.

فالله تعالى يعطي المؤمن بغير حساب، أي: بغير تقدير وموازنة، بل أضعاف أضعاف فضلاً منه سبحانه.

تكرار الرجل المؤمن دعوة قومه إلى الله ووقاية الله له من سيئات مكرهم

قال تعالى: وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ [غافر:41-42].

قال الشوكاني : كرر الرجل المؤمن دعاءهم إلى الله، وصرح بإيمانه، ولم يسلك المسالك المتقدمة أنه منهم، وأنه إنما تصدى التذكير كراهة أن يصيبهم بعض ما توعدهم به موسى، كما يقوله الرجل المحب لقومه من التحذير عن الوقوع فيما يخاف عليهم الوقوع فيه، فقال: وَيَا قَوْمِ [غافر:41] كما قال إبراهيم: يَا أَبَتِ [مريم:42]، قال: وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غافر:41]: أخبروني عنكم كيف هذه الحال، أدعوكم إلى النجاة من النار ودخول الجنة بالإيمان بالله وإجابة رسله، وتدعونني إلى النار بما تريدونه مني من الشرك؟

قيل: معنى مَا لِي أَدْعُوكُمْ : ما لكم أدعوكم، كما تقولون: ما لي أراك حزيناً، أي: مالك؟ ثم فسر الدعوتين، فقال: تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ [غافر:42-43] أي: حق، ووجب بطلان دعوته، قال الزجاج : المعنى: ليس له استجابة دعوة تنفع، وقيل: ليس له دعوة توجب له الإلهية في الدنيا ولا في الآخرة.

وقال الكلبي : ليس له شفاعة، (وأن مردنا) أي: مرجعنا ومصيرنا إلى الله بالموت أولاً وبالبعث آخراً، فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير وشر.

وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [غافر:43] ، أي: المستهترين بمعاصي الله.

ثم قال: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].

قال الشنقيطي رحمه الله ما ملخصه: التحقيق الذي لاشك فيه: أن هذا الكلام من كلام مؤمن آل فرعون الذي ذكر الله عنه، وليس لموسى فيه دخل، يعني: هذا الكلام قاله مؤمن آل فرعون: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ يعني: أنهم يوم القيامة يعلمون صحة ما كان يقول لهم، ويذكرون نصيحته، فيندمون حيث لا ينفع الندم، والآيات الدالة على مثل هذا من أن الكفار تنكشف لهم يوم القيامة حقائق ما كانوا يكذبون به في الدنيا، كقوله تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام:66-67]، يعني: سوف يرون الأشياء التي كذبوا بها لزيادة تبكيتهم وعذابهم، وقال: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص:88]، وقال: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ [النبأ:4-5] إلى غير ذلك من الآيات.

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا [غافر:44-45].

دليل واضح على أن التوكل الصادق على الله وتفويض الأمور إليه؛ سبب للحفظ والوقاية من كل سوء، وقد جاء ذلك في آيات أخر، كقوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] أي: كافيه.

وقوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [آل عمران:173-174] فهذا جزاء التوكل، فالإنسان يتوكل ويفوض أمره إلى الله عز وجل، فإذا فعل ذلك فإن الله تعالى يكفيه ويدفع عنه.

والظاهر: أن ما (مكروا) في قوله: (سيئات) مصدرية، أي: فوقاه الله سيئات مكرهم، أي: أضرار مكرهم وشدائده، والمكر يعني: الكيد.

فلا شك أن فرعون يكيد به، يعني: من يقول مثل هذه المقالة الطويلة العظيمة، ويواجه بها أهل الباطل؛ لابد أنهم يكيدون به ويلفقون له التهم والقضايا، والمسلمون تلفق لهم قضايا بغير تهم، من أجل أن يزج بهم خلف الأسوار، أو تستباح دماؤهم، فكيف يقول هذه المقالة الطويلة العظيمة وينصر بها نصراً مؤزراً أمام فرعون ويمكرون به؟ فلا شك أنهم مكروا به، وإن كان القرآن لم يفصح لنا عن طبيعة هذا المكر، ولكن بين الله عز وجل أنه وقاه سيئات ما مكروا.

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ [غافر:45] معناه: أنهم لما أرادوا أن يمكروا بهذا المؤمن وقاه الله مكرهم، ورد العاقبة السيئة عليهم، فرد سوء مكرهم إليهم، فكان المؤمن المذكور ناجياً في الدنيا والآخرة، وكان فرعون وقومه هالكين في الدنيا والآخرة والبرزخ، فقال في هلاكهم في الدنيا: وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ.. [البقرة:50] الآية وأمثالها من الآيات.

وقال في مصيرهم في البرزخ: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر:46] فهذا عذاب برزخ؛ لأنه قال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46].

وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من وقوع المكر السيئ بالماكر أوضحه تعالى بقوله: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر:43].

ويقولون: الواو تفيد تغاير ما قبلها عما بعدها، يعني: النار يعرضون عليها غدواً وعشياً هذا عذاب، ثم قال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ استمال بهم هذا العذاب إلى قيام الساعة، أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ .

بعض ما يستفاد من قصة مؤمن آل فرعون

لا شك أن ما قام به هذا الرجل المؤمن من آل فرعون من الإنكار على فرعون، ثم من دعوة فرعون وقومه إلى الإيمان بالواحد الديان، والكفر بالطواغيت والأوثان من أفضل الجهاد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد: كلمة عدل عند سلطان جائر)، وكان هذا أفضل الجهاد؛ لأن الجهاد تعريض للنفس للتلف، أو الجراح العظيمة، ولكن كلمة الحق عند سلطان جائر تعرض النفس أكثر للتلف، أو يغلب على الظن تلف النفس.

ثبت أيضاً أن أبا بكر الصديق أفضل من هذا الرجل المؤمن، وله موقف مع النبي صلى الله عليه وسلم لما لبده أحد الكفار بردائه، فدفعه أبو بكر وقال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [غافر:28]، هذا الحديث رواه البخاري ومسلم عن عروة بن الزبير قال: (سألت عبد الله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت عقبة بن أبي معيط -هو أشقى القوم- جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع رداءه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه، فقال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ [غافر:28])، بل ثبت أن أبا بكر وعمر أفضل أولياء الله عز وجل بعد الأنبياء، كما في الحديث: (أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين عدا الأنبياء والمرسلين).

وكذلك استدل أهل السنة والجماعة بقوله تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ [غافر:36] على فوقية الله عز وجل على خلقه، فإنه عندما سئل موسى عن ربه قال: فوق السماء؛ فلذلك قال فرعون: يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ [غافر:36]. فهذا يدل على عقيدة الفوقية والأدلة كثيرة على ذلك، كما في قوله تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] يعني: فوق السماء؛ لأن (في) تأتي بمعنى (على)، كما قال تعالى: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك:15]. فنحن لا نمشي داخل الأرض، لكن نمشي فوق الأرض، وأيضاً: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] أي: من على السماء أو فوق السماء.

قال القاسمي في قوله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]: المراد: عرض أرواحهم عليها دائماً، واكتفى بالطرفين المحيطين الغدو والعشي عن الجميع، وبه يستدل على عذاب القبر والبرزخ، وقانا الله عز وجل منه بمنه.

قال السيوطي في العجائب للكرماني : في هذا الآية أدل الدليل على عذاب القبر؛ لأن المعطوف غير المعطوف عليه، يعني: قوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أي: هذا العرض ما دامت الدنيا، فإذا قامت الساعة يقال لهم: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ وهو عذاب جهنم؛ لأنه جزاء شدة كفرهم، فهم في عذاب أدنى وفي عذاب أكبر، والعذاب الأدنى في البرزخ وفي الدنيا، والعذاب الأكبر يوم القيامة.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , قصة مؤمن آل فرعون للشيخ : أحمد فريد

https://audio.islamweb.net