اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة السيرة النبوية بدء الوحي للشيخ : راغب السرجاني
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد:
فمع الدرس الرابع من دروس السيرة النبوية: الفترة المكية.
أعيد فأذكر بأن هدف ومنظور هذه المجموعة: هو دراسة كيف نعيد بناء أمة الإسلام على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
دراسة السيرة من هذا المنطلق تعطيك أبعاداً مختلفة عن دراسة السيرة بالطريقة العادية التي ألفها الناس، تقرأ قصته من أول الميلاد إلى آخر لحظة من لحظات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس هذا هو المقصود من هذه المجموعة، فنحن أمام مشروع ضخم هو كيف نبني أمة؟
أنت عندما تريد أن تبني مبنىً كبيراً تعمل ما يسمى بدراسة الجدوى، تدرس طبيعة المكان، ومن الذي سيشتغل معك؟ ما هي التكاليف التي ستدفعها؟ ما هي المعوقات التي تقف أمامك؟
هذا الكلام أيضاً ينطبق على أمة الإسلام، لكن تخيل الفارق بين دراسة الجدوى لبناء مبنى ضخم، وبين دراسة الجدوى لبناء أمة كاملة، لابد في دراسة السيرة لهذا الموضوع أن نبحث في كل نقطة من زوايا السيرة، لماذا فعل ذلك؟ ومتى فعل؟ وما هي الظروف الموجودة حول الرسول صلى الله عليه وسلم التي اختار هذا الرأي لأجلها؟ وما هي الحكمة من وراء اختيار هذا الرأي، هذا الذي يجعلنا نبني الأمة كما بناها الرسول صلى الله عليه وسلم.
يعرف الناس السيرة من أولها إلى آخرها، يعرفون متى ولد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وكيف ولد؟ وكيف عاش الفترة التي نزل فيها الوحي عليه، وكيف بدأت الدعوة في مكة إلى أن هاجر من مكة، ثم موقعة بدر وأحد.. وهكذا كل الغزوات لدينا تفاصيل كثيرة جداً عنها، لكن نحن لا نبحث عن هذه الأشياء، نحن نبحث عن أشياء أخرى فيما وراء الأحداث، يعني: لماذا بدأ بفلان وفلان وفلان ولم يبدأ بغيرهم؟ لماذا دعا أبا بكر أولاً؟ لماذا تحدث إلى السيدة خديجة وزيد بن حارثة وعلي بن أبي طالب مع وجود أناس كثير؟ لماذا بدأ أبو بكر بدعوة هذا وهذا وترك الآخرين؟
لماذا جهر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة بعد مضي ثلاث سنين من نزول الوحي عليه؟ وماذا حصل بعد الجهر بالدعوة في مكة؟ هل حاربت الناس الدعوة لأنها ليست مقنعة أم أن الدعوة مقنعة، وإنما وقفوا أمامها لأسباب أخرى منعت الناس من دخول الدعوة؟ وهل هذه الأسباب تتكرر أم لا؟
ثم كيف وقف الرسول عليه الصلاة والسلام أمام هذه الأسباب؟ كيف عالجها؟ كيف آمنت مكة؟
لماذا اختار الرسول صلى الله عليه وسلم لهجرة أصحابه الحبشة، ولم يأمرهم بالذهاب إلى اليمن أو الشام أو مصر أو العراق؟
ولما فكر بعد ذلك في الذهاب إلى المدينة المنورة بعث مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه يعلم الناس، لماذا اختار مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه من بين الصحابة؟ لماذا لم يبعث أبا بكر أو عمر أو عثمان أو علياً أو غيرهم من الناس؟
لما خرج من مكة وذهب إلى الطائف لماذا لم يذهب إلى أي بلاد أخرى؟
كل هذه الأسئلة عندما نجيب عليها، ونفكر ونتدبر في هذه الأحداث سنخرج بقواعد في غاية الأهمية، هذا هو المقصود من هذه المجموعة: كيف نبني أمة؟ كيف يمكننا أن نضع قواعد لبنيان كالذي عمله الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ولا يمكن أن نقيم بنياناً قوياً إلا إذا قلدنا الرسول صلى الله عليه وسلم في كل موقف من مواقفه، لكن لابد من مراعاة الظروف التي اختار الرسول صلى الله عليه وسلم فيها هذا الرأي أو ذاك؛ لتكتمل لنا متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
الإسلام كدين وكشرع وطريقة بدأ على الأرض منذ لحظة نزول الوحي، ولذلك سنبدأ بالحديث من هذه النقطة، فهذا لا يمنع من أننا نرجع لتحليل بعض النقاط في حياة رسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة إذا كان لها علاقة في التمهيد للبعثة، لكن هذا لن يكون بالترتيب المألوف.
كانت لحظة نزول الوحي على رسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء لحظة عظيمة في تاريخ البشرية، بل إنها أعظم لحظة مرت في تاريخ الأرض ككل إلى يوم القيامة، كثيراً ما نسمع عن هذا الحدث المهيب، لكن القليل منا من يعطي لهذا الحدث قدره، فالله سبحانه وتعالى أرسل رسولاً إلى الإنسان، ما رأيك لو أنك تلقيت رسالة من زعيم دولة عظمى ووصلت إلى بيتك، يقول لك فيها: أنا أحبك، وخائف عليك، ومهتم بك، وعندي لك خير كثير. ما موقفك لو تلقيت رسالة بهذا الوعد من هذا الملك العظيم، ولله المثل الأعلى؟! يا ترى كيف سيكون اهتمامك بالرسالة؟
إن الله سبحانه وتعالى بعظمته وجبروته وقدرته وقوته أرسل رسولاً إلى هذا الإنسان البسيط الضعيف الذي يعيش على ظهر كرة معلقة في الفضاء، لا تكاد ترى في الكون الفسيح، هذا حجم الأرض بالنسبة لحجم الكون، فكيف سيكون حجم الإنسان بالنسبة لحجم الأرض؟ حجم الإنسان بالنسبة لحجم الكون شيء لا يتخيل، كذلك حجم الإنسان بالنسبة للملائكة. إن الناس لا يقدرون لهذا الحدث قدره؛ لأنها لا تعطي لله عز وجل قدره.
إن الله جل وعلا لا يحتاج إلينا ولا لغيرنا، لا تنفعه طاعة ولا تضره معصية، ومع ذلك من رحمته بنا وحبه لنا أرسل إلينا رسالة هداية وبشرى وإنذار، وهذه الرسالة نزل بها أشرف الملائكة جبريل عليه السلام، على أشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، بأشرف الكلام القرآن الكريم.
في لحظة الوحي هذه نزل الكلام الذي سيظل دستوراً في الأرض إلى يوم القيامة، هذا الحدث فيه تكريم للإنسان، كما قال ربنا: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70]، ومن أعظم صور التكريم أن أنزل له الوحي، ونزلت له الهداية من رب العالمين سبحانه وتعالى.
أحياناً لا يقدر الإنسان قيمته كإنسان، والله يقول: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70]، وأرسل له رسولاً من السماء إلى الأرض، وأتى معه بدستور كامل يوضح له كل نقطة في حياته، لكن الإنسان لا يقدر قيمته كإنسان، فأحياناً يقضي حياته في ترف وملذات وشهوات وأوقات ضائعة وطموحات تافهة، وأحياناً يظلم غيره ويؤذيه ويعذبه، هو لا يدري أنه إنسان مكرم يظلم إنساناً مكرماً، بل إن قيمة الإنسانية تنحدر إلى درجات هي أقل بكثير من درجات الحيوانية، لكن التفكر في لحظة الوحي يغير كثيراً من مفهوم الإنسان عن نفسه، وإخوانه من البشر، والأرض التي يعيش عليها.
الوحي عبارة عن رسالة من رب العالمين إلى الإنسان، رسالة لك ولي ولكل واحد على وجه الأرض، افعل ولا تفعل.
الوحي هداية ونور ودليل ليس مجرد تكاليف وقيود أبداً.
الوحي نعمة ورحمة من ربنا سبحانه وتعالى، الله عز وجل المطلع على كل شيء، العالم بكل شيء، الذي يدرك الماضي والحاضر والمستقبل يقول لك: من مصلحتك في هذه النقطة أن تفعل كذا، وإياك إياك أن تفعل كذا، فاتباعك للوحي فيه سعادة الدنيا والآخرة، ومخالفتك للوحي فيه شقاء الدنيا والآخرة.
تخيل نفسك تائهاً في الصحراء ولا تدري أين الطريق، وأنت على مشارف الموت، وفجأة وجدت دليلاً ليس فقط يأخذك لمكان فيه أكل أو شرب، لا، بل لأحسن مكان في الكون ولا يريد منك أي شيء، كل هذا من أجل مصلحتك، فهذا هو الوحي في وسط التيه الكبير الذي تعيشه البشرية يأتي ليأخذ بأيدي الناس إلى السعادة في الدنيا، والسعادة في الآخرة في الجنة.
يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي [طه:123-124] أي: من يعيش في التيه الذي اختاره بنفسه، فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:124-126] أي: أتاك الوحي فنسيته، وسمعت به ولم ترض أن تتبعه، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:126]، تداعيات ضخمة تحدث للإنسان بحسب فقهه لقيمة الوحي، الذي يتبع الوحي لا يضل ولا يشقى في الدنيا والآخرة، والذي يعرض عن الوحي يعيش حياة الضنك، ويحشر يوم القيامة أعمى.
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلاً، فقال: اسمع سمعت أذنك، واعقل عقل قلبك)، هذا دعاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بدأ يضرب له مثلاً يوضح له حاله وحال أمته، وحال الجنة وحال الدنيا بصفة عامة، يقول: (إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ داراً ثم بنى فيها بيتاً، ثم جعل فيها مائدة، ثم بعث رسولاً يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه، فالله هو الملك، والدار الإسلام، والبيت الجنة، وأنت يا محمد الرسول، فمن أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل ما فيها).
وفي رواية البخاري يقول: (فمن أطاع محمداً فقد أطاع الله، ومن عصى محمداً فقد عصى الله).
وفي رواية أحمد : (فمن اتبعه دخل الجنة، ومن لم يتبعه عذب عذاباً شديداً)، يعني: الوحي يدعونا إلى الجنة، ودخول بيت الرحمن، والأكل من مائدته سبحانه وتعالى في الجنة، فلو اتبعنا الوحي سندخل الجنة، وإن لم نتبعه فسنعذب عذاباً شديداً.
كل الناس يعلمون هذا، لكنهم لا يعطون للوحي قدره؛ لأنهم للأسف الشديد لا يعطون لله عز وجل قدره وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]، لو أن الناس عظموا ربنا سبحانه وتعالى وقدروه حق قدره لما عصوه، لكنهم ينسون، وهذا النسيان يقود إلى مهالك ضخمة في الدنيا والآخرة.
إذاً: الوحي رسالة من رب العالمين سبحانه وتعالى، ونحن نريد أن نفهم قصة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها على أساس أن حياة الرسول كلها من أولها إلى آخرها وحي: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، حتى النوافل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وحي، كما أن صيام رمضان وحي فإن صيام الإثنين والخميس والأيام البيض وحي، لكن الوحي قال: هذا فرض، وقال: هذا نافلة، كل نقطة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي، حتى فيما يختاره الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان مخالفاً لما أراد الله عز وجل من البشر، ينزل الوحي ليوضح مراد الله عز وجل، لتكون حياة الرسول من أولها إلى آخرها قدوة وأسوة للمسلمين: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
إذاً: نتعلم سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لخير الإنسان، ولخير المجتمعات، ولخير الأرض جميعاً، ولخير الآخرة.
كانت هناك مقدمات للوحي قبل أن ينزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء، من هذه المقدمات: الرؤيا الصالحة، فقد كانت تأتي مثل فلق الصبح، يعني: كان يرى الرؤيا فتقع تماماً كما رآها صلى الله عليه وسلم، فكان هذا نوعاً من إنباء بالغيب، وهذا أمر غريب، فهو وإن لم يكن تصريحاً بالرسالة، لكنه شيء لافت للنظر، وتمهيد لأمر عظيم.
وهل هذه هي المقدمة الأولى التي حدثت لرسول صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي أم أن هناك مقدمات أخرى؟
الحقيقة لم يكن هذا هو التمهيد الأول، بل وجدت أشياء أخرى، فقد سبقت هذا بعض الأحداث العجيبة جداً في مكة، أحياناً كان يراها صلى الله عليه وسلم وحده، وأحياناً أخرى يراها معه غيره، مثل: سلام الحجر عليه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم : (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن)، وهذا قبل البعثة وقبل نزول الوحي، ومؤكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف تفسير هذا الأمر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم تفاجأ بأمر الوحي، ولم يكن يعرف أنه سيكون رسول الله إلى الناس.
وأغرب من سلام الحجر حادثة شق الصدر، فقد ثبت في صحيح مسلم ومسند أحمد وصحيح ابن حبان (أن جبريل شق صدر رسول صلى الله عليه وسلم وهو غلام، واستخرج قلبه واستخرج منه علقة، وقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسل قلبه في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأم صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وأخبر أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أنه رأى أثر المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم.
وللعلم فهناك ممن لا يؤمن بالغيبيات ولا بقدرة الله عز وجل تنكر لهذه القصة، وهم في الحقيقة لا يؤمنون أن الله عز وجل قادر على هذا الأمر، ويقولون: لِمَ لمْ ينزع الله منه هذا الحظ من دون حاجة إلى ذلك؟ هذه حجتهم، وإلا فهم في الحقيقة ينكرون القدرة الإلهية، وإنما يقولون هذا حياءً، وقد التقيت مع أحد العلمانيين وتكلمت معه طويلاً في هذا الأمر، وهو ينكره تماماً، فقلت له: هذا في صحيح مسلم، فقال: لعله نقله بالخطأ. فهو ينكر أن يكون شق صدره في هذا العمق من التاريخ.
إذاً: هذا نوع من الإعداد والتربية والتهيئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه يقول له: أنت إنسان مختلف، تحدث لك أمور غريبة، وكل هذا من باب التمهيد، حتى إذا ما أتت الرسالة يكون لديه شبه تهيؤ لها، وأنها سبب تلك الأشياء الغريبة التي كانت تقع له، والآن هذا تفسير كل شيء: أنت رسول من عند رب العالمين سبحانه وتعالى.
وهذا نوع من الإعداد أيضاً لأهل مكة، ولأهل جزيرة العرب لما تعلم بهذه القصة تضع هذا الإنسان في وضعية تختلف عن كل الناس في جزيرة العرب، بل عن كل الناس التي خلقت قبل هذا.
الأهم من كل هذا أن هذا اختبار لإيمان المسلمين بقدرة الله عز وجل، المسألة مسألة إيمان، إذا كنت ستصدق بأن ملكاً يمكن أن ينزل من السماء إلى الأرض ثم يعود في لمح البصر، وأن الملائكة تحارب مع المسلمين، وتنزع قرى وجبالاً بأكملها، أو توزع الأرزاق على أهل الأرض في كل لحظة، إذا كنت تؤمن بكل هذه الأمور، وبكل هذه القدرات للملائكة، فلا بد أنك تؤمن بهذا الأمر البسيط بالمقارنة إلى غيره، فعملية جراحية ليست كرفع قرية كاملة أو جبل أو هذه الإمكانيات الهائلة للملائكة، مع العلم أن الملائكة لا تعمل هذه الأشياء بقدرة ذاتية فيها، أبداً؛ لكن لأن الله عز وجل يريد وهو قادر على تحقيق ما يريد.
أما من في قلبه شك فيصعب عليه أن يصدق هذه القصة.. أو غيرها، مثل: الإسراء والمعراج، وشق القمر.. أو غير ذلك من الأحداث التي حدثت في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها: معجزة القرآن الكبرى، فهو دليل لا يقاوم على إمكانية وقدرات الله سبحانه وتعالى.
ثم تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (ثم حبب إليه الخلاء)، أي: أن الله عز وجل هو الذي دفعه لذلك، كان يصعد صلى الله عليه وسلم كل سنة فترة معينة من الزمن -لعله شهر رمضان- يختلي بنفسه في غار حراء، يتفكر في خالق هذا الكون، كيف يمكن أن نعبد هذا الإله، والعرب بصفة عامة كانوا يعرفون أن الله عز وجل هو الذي خلق هذا الكون، وهو الذي خلقهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، لكن العرب كانوا يسجدون للأصنام، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله عز وجل، لكن الفطرة السليمة تأبى هذه الطريقة في العبادة، كيف يمكن للإنسان أن يسجد لحجر، أو يعتقد أي نفع أو ضر من وراء هذا الحجر؟ لذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ما سجد لصنم في حياته قط، وكان يعرف أن لهذا الكون إلهاً وخالقاً ورازقاً، ولكن لا يعلم كيف يعبده: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:7]، (ضالاً) بمعنى أنه لم يكن يعرف الطريق المناسبة لعبادة هذا الإله القدير الذي خلق السماوات والأرض والبشر وكل شيء.
إذاً: مر الرسول صلى الله عليه وسلم بمراحل مختلفة من التهيئة والإعداد قبل الرسالة، مثل: سلام الحجر عليه، وشق الصدر.. وأمور أخرى حدثت في طفولته صلى الله عليه وسلم، وحب الخلاء، ثم الرؤيا الصالحة التي استمرت حوالي ستة أشهر، وبعد ذلك جاءه جبريل في غار حراء.
فحياة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها (63) سنة، منها (40) سنة هي سنوات إعداد له ليكون رسولاً، وليتلقى الرسالة، ومنها ثلاثة وعشرون سنة فقط نبوة، وكل ما يريده ربنا منه جعله في (23) سنة، فكل المتغيرات التي يمكن أن تحصل في حياة الناس، وكل الثوابت التي لا يفرط فيها كانت في (23) سنة، لكن لابد أن تعرف أنك محتاج إلى وقت ومجهود وتربية وإعداد لمن سيحمل هم الأمة الإسلامية، ولا تستعجل، فهذا الرسول صلى الله عليه وسلم يتربى (40) سنة؛ من أجل أن يحمل هم الدعوة، فإذا كان هذا يحصل مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يوجد أي معنى للاستعجال في حياتنا، ولا بد أن نفهم هذا الدرس جيداً: التأني في التربية.
دخل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الغار في هيئة رجل، ودخوله على هذه الهيئة في الجبل ليس مفزعاً في حد ذاته، نعم، الرجل غريب، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعرفه، لكن ما سبب خوف الرسول صلى الله عليه وسلم من رؤية جبريل عليه السلام أول مرة؟
يقول صلى الله عليه وسلم: (دخل علي جبريل فقال: اقرأ)، هكذا بدون مقدمات، لم يعرف بنفسه، لم يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه، وإنما خاطبه وكأنه يعرفه، يقول له: اقرأ، والرسول لا يدري أي شيء يقرأ؛ لأنه أمي لا يعرف القراءة والكتابة، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم بأدبه الجم: (ما أنا بقارئ)، أي: أنا لا أستطيع أن أقرأ، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يمكنه أن يقول له: من أنت؟ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم بهت بدخول الرجل عليه فجأة بذلك السؤال، ثم إن هذا الرجل احتضنه بشدة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد)، والرسول صلى الله عليه وسلم ليس بالضعيف، بل قوي البنية، معنى ذلك أن هذا الرجل قوته هائلة، ثم أرسله وتركه، وقال له: (اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني)، كل هذا العنف في تبليغ الأمر، حتى يعلم أنه في حقيقة وليس في حلم، ثم قال له بعدما أطلقه في المرة الثالثة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5]، ثم اختفى بعدما قال له هذه الكلمات.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أبلغ العرب مطلقاً وأفصحهم، وبالتأكيد أنه عرف منذ اللحظة الأولى أن هذا ليس من كلام البشر، اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ [العلق:1-2]، هذه أول مرة ينزل فيها قرآن على الأرض.
أيضاً هذا الرجل الذي جاءه كان يتحدث عن الإله الذي يبحث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ زمن، يتحدث عن الإله الذي يخلق ويتكرم ويعلم.
كما أن الرجل لم يخبره عن أي شيء يريده منه، لم يخبره أنه سيصبح رسولاً، بل فقط قرأ عليه هذه الآيات التي لم تسمع من قبل على وجه الأرض ثم اختفى، وكان يغطه في كل مرة بشدة حتى يبلغ منه الجهد، حتى إنه قال من شدة الضمة: (يا خديجة لقد خشيت على نفسي).
كل هذه الأمور مجتمعة أدت إلى خوف الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ذهب يجري إلى بيته قاطعاً اعتكافه باحثاً عن الأمان، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها تصف هذا الموقف: (رجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: بهذه الآيات الخمس- يرجف فؤاده)، لماذا يحدث هذا الرعب الشديد والهلع الكبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟
أولاً: لإثبات بشرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنفس هذا الموقف حصل مع سيدنا موسى عليه السلام، فقد خاف وجرى، فهو بشر له أحاسيس البشر.
ثانياً: إثبات عدم انتظار رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر النبوة، لكنه خاف لما جاءه جبريل عليه السلام، ثم هي التهيئة والإعداد والتشويق للأمر العظيم الذي سيأتي، وبالفعل الرسول بعد هذا الأمر كان يخرج مراراً إلى الجبال لعله يقابل ذلك الرجل الذي جاءه في الغار، بعدما كان خائفاً أصبح مشتاقاً إلى قدوم جبريل عليه السلام.
حكى الرسول صلى الله عليه وسلم لـخديجة ما حصل معه في الغار، وكان يظهر منه الرعب والهلع، وقال لها الكلمات التي نزلت عليه، ثم قال: (يا خديجة لقد خشيت على نفسي).
وأغرب من كل ما سبق ردة فعلها رضي الله عنها، وهي بحاجة منا إلى وقفة طويلة؛ إذ من المتوقع والطبيعي أنها تخاف كعادة النساء، أو كعادة البشر بصفة عامة، أو على الأقل تتعجب، لكن الغريب أنها كانت على العكس من ذلك، فقد نظرت إلى الموضوع بمنتهى البساطة، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقص عليها أمراً عادياً، ليس هذا فقط بل قامت تقول له في يقين: (كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرئ الضيف، وتعين على نوائب الحق)، بعد كل هذه الأشياء كيف يمكن أن يضرك الله سبحانه وتعالى بشيء؟!
استنبطت السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها أن هذا الرجل صاحب الأخلاق الحميدة، وصاحب الآداب الرفيعة، لا يمكن أبداً أن يخزيه ربنا سبحانه وتعالى.
يلاحظ أن الذي لفت نظر السيدة خديجة هي معاملات رسول الله صلى الله عليه وسلم مع البشر، لم تشر إلى تعبده واعتكافه وتفكره، بل إلى علاقاته مع الناس، فهي المحك الحقيقي لتقييم الإنسان، وتكاد تكون هذه المعاملات الطيبة هي السبب في اقتناع الناس بمصداقية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا درس مهم أيضاً.
إذاً: كل نقطة وحركة وموقف في السيرة ليس فقط فيه درس، بل المئات من الدروس.
هذا هو المقياس الذي ينبغي للبشر كلهم أن يقيسوا عليه حياتهم، لابد من أخذ القدوة والأسوة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لتكون حياتنا كحياته مليئة بالروعة والجمال. (كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرئ الضيف، وتعين على نوائب الحق)، صلى الله عليك وسلم، فهدأت نفسه صلى الله عليه وسلم بعدما سمع كلام السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها، وهذا هو دور الزوجة الصالحة، أنها في المقام الأول سكن لزوجها، ليست مصدر إزعاج أبداً، يقول الله تعالى في كتابه الكريم: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا [الروم:21].
إذاً: أول مهمة وأعظم مهمة للزوجة: أنها سكن وطمأنينة وهدوء وابتسام، ورفع للروح المعنوية للزوج، وتسكين لفزعه، وتخفيف لآلامه، هذه هي الزوجة المسلمة لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا [الروم:21]، فهي نعمة من الله عز وجل، وآية من آياته سبحانه وتعالى.
لما سكن الرسول صلى الله عليه وسلم واطمأن لم تشأ السيدة خديجة أن تترك نفسها وزوجها للأوهام، بل قالت له: دعنا نذهب إلى ورقة بن نوفل ابن عمها، تعال نذهب إلى أهل العلم لنرى رأي الدين في هذا الأمر.
ذهبت خديجة إلى ورقة بن نوفل ولم تذهب لأي شخص آخر في جزيرة العرب، لم تذهب لكاهن، أو لخادم للأصنام، أو لحكيم من حكماء قريش، بل اختارت رجلاً كان قد تنصر، عنده علم من دين السابقين.
هذه كلمة لكل شاب مسلم: اختيار الزوجة الصالحة نقطة محورية في حياة الفرد المسلم، لا تتسرع، فهذه نقطة مهمة في بناء الأمة، لابد أن تكون زوجتك من نوعية خديجة ، انتبه لا تسع خلف المال أو الجمال أو الوضع الاجتماعي وتنس الدين، لا تقل: أنا سأعلمها الدين، تذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اظفر بذات الدين تربت يداك).
ويدل على مدى الجرم الذي كان عليه أهل الكتاب، أنهم كانوا يعرفون من كتبهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، وليس فقط من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يؤمنوا، لكن ورقة بن نوفل رحمه الله كان رجلاً صالحاً ورعاً، يعلم محمداً صلى الله عليه وسلم تاريخه وحياته وأخلاقه وصفاته، فلما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه القصة العجيبة التي حدثت في غار حراء، قال مباشرة ودون تردد: هذا الناموس -يقصد: جبريل عليه السلام- الذي أنزله الله عز وجل على موسى عليه السلام.
هنا يصرح ورقة بن نوفل بأمر خطير: أن هذا جبريل الذي كان ينزل على موسى عليه السلام، وجبريل لا ينزل إلا على الأنبياء.
إذاً: محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله.
أريد منك أن تتصور معي الموقف: كم من الأحاسيس والمشاعر التي كانت تتداخل في صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسمع هذا الكلام؟ هل هذا حلم أم حقيقة؟ حق أم باطل؟
النبوة ليست مقاماً يصل إليه أحد بالاجتهاد في العبادة، أو بالطريقة الفلانية، النبوة اختيار من رب العالمين سبحانه وتعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75]، تأمل معي موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يسمع هذا الكلام من ورقة ، أيكون الله عز وجل قد اختاره من بين كل الخلق ليكون نبي آخر الزمان؟!
لكن المشكلة: أن الرجل الذي جاءه في الغار لم يخبره بذلك، لم يقل له: إنه رسول، لكن على الناحية الأخرى ورقة يتكلم بيقين وثقة وتأكيد.
ثم قال له ورقة: (يا ليتني فيها جذعاً -أي: شاباً- إذ يخرجك قومك، فقال له رسول صلى الله عليه وسلم متعجباً: أو مخرجي هم؟)، لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم، يعرف أي شيء عن الأمم السابقة وقصص الأنبياء ومعجزاتهم؛ لأن تفصيلات الأمم الماضية لا يمكن أن تعرف إلا عن طريق الوحي.
يقول الله: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49].
لم يكن يعرف قصص الأنبياء، وقصص التكذيب والمعاناة الشديدة التي عاشها الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه مع أقوامهم، من أجل ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أو مخرجي هم؟)، لكن ورقة الحكيم العالم بقصص الأنبياء والمرسلين السابقين قال في يقين: (لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي).
وهذه قاعدة تخرج من فم ورقة بن نوفل رحمه الله.. قاعدة أصيلة لكل داعية: ما حمل داعية هذا الدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عودي، سنة من سنن الله عز وجل: تدافع الحق والباطل، صراع بين الدين وأعداء الدين، سنة باقية إلى يوم القيامة.
ثم يقول ورقة: (وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً)، وورقة بن نوفل لم يدرك ذلك اليوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد مات بسرعة، وإن كان قد صدق برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبل التصريح بالرسالة، والرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح الحاكم بإسناد جيد يقول: (رأيت له جنة أو جنتين)، يعني: أنه من أهل الجنة إن شاء الله.
مات ورقة بن نوفل بعد أن سطر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من بعده إلى يوم القيامة قاعدة أصيلة: (لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي)، فهذه رسالة إلى كل الدعاة، هذا هو الطريق.
فمثل ذلك الانقطاع صدمة للرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو لم يتيقن بعد، ويريد أن يزيل عنه الشك، فقد كان يتوقع أنه عندما يرجع إلى الغار سيجد جبريل مرة أخرى، أو يأتي له في أي مكان آخر، لكن تأخر جبريل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج مراراً إلى الجبال لعله يلتقي جبريل عليه السلام، وازداد شوق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرسالة التي يقول الله عنها: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5].
إن لم يكن الحامل لهذه الرسالة متشوقاً إليها فحملها سيكون صعباً جداً، بل لعله مستحيل، فارق كبير بين أن تبحث الدعوة عن رجل ليحملها، وبين أن يبحث الرجل عن الدعوة ليحملها!
عندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبلغ به الحزن مبلغه يأتيه جبريل عليه السلام فيقول له: يا محمد إنك رسول الله حقاً، فيسكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يختفي وهكذا إلى مجيء اليوم الذي سيبتدئ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم رحلة النبوة والتبليغ والتبشير والإنذار.
وكانت السيدة خديجة تطلب منه أحياناً أن يستريح ولو قليلاً، فيقول: (مضى وقت النوم يا خديجة)، الآن الرسول صلى الله عليه وسلم عرف كل شيء، عرف تفسير كل الأشياء الغريبة التي مرت به في حياته، من سلام الحجر عليه، وشق الصدر، والرؤيا الصادقة، والرجل الذي جاءه في غار حراء، وبدأ الرحلة الطويلة، رحلة الدعوة إلى الله عز وجل، رحلة النبوة، رحلة البشارة والإنذار، فقام الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآيات ولم يقعد إلى أن مات، قام وما ترك صغيراً ولا كبيراً، ولا سيداً ولا عبداً، ولا فرداً ولا قبيلة، إلا ودعاهم إلى الإسلام (مضى عهد النوم يا خديجة).
يعني: إذا أردت أن تقنع إنساناً بفكرة ما هل من الأفضل أن يحبك أولاً بقلبه قبل أن يسمع الفكرة؟ بمعنى آخر: الحب أولاً أم الحجة؟ كلا الاثنين مهم، القلب والعقل مطلوبان.
من الصعب جداً على الإنسان أن يقبل فكرة ما من إنسان يكرهه أو لا يحبه، غالباً ما يدخل معه في جدل عقيم وحوار طويل، ومناقشة قد لا تنتهي بخير، بينما على الناحية الأخرى هو يتقبل الكثير من الأفكار ممن يحب، مع أن هذه الأفكار قد تكون غريبة، وهذا واقع ملموس في حياتنا، لذا إذا كنت تريد من الناس أن تسمع كلامك لابد أن تجعلهم يحبونك أولاً.
إن فكرة الإسلام التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم صحيحة ومقنعة، إذا فكر فيها أي عقل سليم، ومع ذلك فالفكرة غريبة على أهل مكة، فقد مرت (600) سنة ليس فيها نبي، وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، لذا استغرب الناس فكرة التوحيد على بساطتها ووضوحها، واستبعدوا فكرة أن يوجد رسول من البشر، كما في الحديث: (بدأ الإسلام غريباً).
فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخاطب بدعوته كل أهل مكة، بل كل أهل الأرض أجمعين، فبدأ بأكثر الناس احتمالاً وقبولاً للفكرة دون تردد؛ من أجل أن يكونوا قاعدة قوية للدعوة نفسها، وحتى يساعدوه في أمر الدعوة، فأكثر الناس قبولاً لفكرته هم أكثر الناس حباً له، فكان هؤلاء هم الذين سيبدأ بهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يوجد شيء بالصدفة، كل شيء محسوب وعلى أساس ومنهج، وهذا المنهج لأهل الأرض أجمعين.
إذاً: الحب هو أول مرحلة من مراحل الدعوة.
فالسيدة خديجة أحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً لا يوصف، فكان هذا الحب هو الطريق لتصديق العقل.
أيضاً الحب وحده لا يكفي، لابد أن يقتنع العقل، قالت: (إنك لتصل الرحم وتحمل الكل..) إلى آخر الصفات، وهذه الصفات لا يمكن أن تكون في كذاب أو منافق، كذلك لا يمكن أن ربنا سبحانه وتعالى يخزي مثل هذا.
ثم الكلام الذي قاله الملك ليس من كلام العرب ولا من كلام البشر، مع أن الحروف عربية.
إذاً: هناك طاقة فوق إمكانيات البشر، وهذه الطاقة لابد أن تكون لله عز وجل، كل هذا دار في ذهن السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها، لكن لا أعتقد أبداً أنه كان سيدور بهذه السلاسة وهذه السرعة لو كان بينها وبين الرسول صلى الله عليه وسلم مشاكل وكراهية مستحكمة.
إذاً: الحب أولاً ثم الحجة ثانياً.
ثم ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أحب الرجال إلى قلبه، لو كانت السيدة خديجة هي أحب النساء إلى قلبه فإن أبا بكر الصديق هو أحب الرجال إلى رسول صلى الله عليه وسلم، كما صرح هو بذلك لما سئل عن أحب الرجال إليه؟ فقال: أبو بكر بدون تردد، وسيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه لم يخيب ظن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد نور الله عز وجل قلبه، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة -أي: تردد ونظر- إلا أبا بكر ما إن ذكرته له حتى آمن وما تردد فيه)، لم يفعل أحد من البشر مثل هذا الفعل إلا هو والسيدة خديجة رضي الله عنها ورضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.
فسرعة إيمان أبي بكر يحتاج إلى دراسة، نقول: إن الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان أقرب الناس إلى أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكثيراً ما يختار من الآراء ما يختاره الرسول صلى الله عليه وسلم حتى في غياب أحدهما عن الآخر، ولم يمش على الأرض من هو خير من الصديق إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
كان بين الصديق رضي الله عنه وأرضاه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم توافق عجيب في أمور كثيرة من أمور الأخلاق، أشهرها: الصدق، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الصادق الأمين، وأبو بكر هو الصديق رضي الله عنه وأرضاه، كذلك المروءة وخدمة الناس والتواضع والكرم والعفة، والبعد عن أماكن الفساد، كل هذه الأشياء أدت إلى سرعة إيمان الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، وكان بينهما حب كبير لدرجة أن زيد بن حارثة من بين كل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه ابنه، وكان معروفاً بين الناس بـزيد بن محمد وزيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه كان يحب الرسول صلى الله عليه وسلم حباً شديداً، بل فضله على أبيه وعمه، وكان لهذا قصة هي:
أن زيد بن حارثة خُطف من أبيه من قبيلة بعيدة عن مكة وبيع في سوق الرقيق، واشتراه حكيم بن حزام رضي الله عنه وأرضاه، ابن أخي السيدة خديجة رضي الله عنها ثم أهداه لها، ولما تزوجت الرسول صلى الله عليه وسلم أهدته زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، وأصبح زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومرت الأيام وعلم حارثة بن شرحبيل أن ابنه في مكة، فجاء إليها هو وعم زيد ، وقالا للرسول صلى الله عليه وسلم: (خذ ما شئت من المال نظير أن ترد زيداً إلينا، فقال لهما: وهل لكما فيما هو خير من الفداء؟ فقالا: وما هو؟ قال: أدعوه لكما فخيراه بيني وبينكما، فإن اختاركما فهو لكما بغير مال، وإن اختارني فما أنا بالذي يرغب عمن يختاره)، هذه الأخلاق كلها كانت قبل البعثة، صنع على عين الله عز وجل، صنع ليكون نبياً صلى الله عليه وسلم، عندها قال الرجلان: (لقد أنصفت وبالغت في الإنصاف، فجيء بـزيد وقيل له: من هذان؟ قال: هذا أبي حارثة بن شرحبيل وهذا عمي كعب ، فقال صلى الله عليه وسلم: قد خيرتك إن شئت مضيت معهما، وإن شئت أقمت معي، فاندفع زيد دون تردد وقال: بل أقيم معك!).
كانت مفاجأة مذهلة لوالد زيد وعمه، فقال حارثة والد زيد وهو يصرخ: (ويحك يا زيد أتختار العبودية على أبيك وأمك! فقال زيد بهدوء: إني رأيت من هذا الرجل شيئاً وما أنا بالذي يفارقه أبداً) يعني: هذا الرجل ليس ككل الناس، وصدق زيد ، فلا يوجد أحد كرسول الله صلى الله عليه وسلم.
(فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد زيد وذهب به إلى البيت الحرام، وقال أمام أبيه وعمه والناس جميعاً: يا معشر قريش! اشهدوا أن هذا ابني يرثني وأرثه)، وعادة التبني كانت سائدة في الجاهلية، وأصبح زيد يعرف في مكة بـزيد بن محمد صلى الله عليه وسلم.
ولما نزل الوحي كان زيد بن حارثة رضي الله عنه عمره ثلاثون سنة، والرسول أخبره عن الإسلام، وأريدكم أن تتخيلوا رجل يحمل هذا الكم من الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف ستكون ردة فعله؟ آمن زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، لكن لابد أن يعلم أن ترك الدين والدخول في دين آخر ليس بالأمر السهل، لابد أنه فكر وسأل نفسه: هل هذا الرجل الذي لم أجرب عليه كذباً قط، ولم يكذب على الناس هل يكذب على الله عز وجل؟ أنا أرى بعيني أن محمداً صلى الله عليه وسلم يعين الناس جميعاً وبدون مقابل، هل سيطلب لنفسه مصلحة ذاتية بعد أن بلغ عمره هذا المبلغ؟ هذا الرجل العظيم العفيف البعيد عن كل الموبقات والمعاصي والشهوات في فترة شبابه هل سيلعب بدين الناس وبعقيدتهم؟
وأيضاً دعوته ستجد معارضة ومحاربة، ولو كان يريد سيادة وشرفاً وظهوراً أكان يسلك هذا الطريق، أم أنه من الأسهل له أن يسلك الطريق التقليدي في مكة؟ يعني: طريق اللات والعزى وأشباههما، ما الشيء الذي يجعله يأتي بما يضع أمامه العقبات وتقوم عليه الدنيا؟
لابد أن كل هذه الأفكار جالت بذهن زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، ولا بد أن كل الإجابات كانت تفضي إلى نتيجة واحدة: وهي أن هذا الرجل صادق فيما يقول، وأنه رسول حقاً، ولا بد من الإيمان به دون تردد، فآمن زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه بقلبه أولاً وآمن بعقله أيضاً.
إذاً: آمنت خديجة رضي الله عنه وأرضاها، وآمن أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وآمن زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، بقي علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وله قصة جميلة ستأتي إن شاء الله.
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].
وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة السيرة النبوية بدء الوحي للشيخ : راغب السرجاني
https://audio.islamweb.net