اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة السيرة النبوية الدعوة سراً للشيخ : راغب السرجاني
فمع الدرس الخامس من دروس السيرة النبوية المطهرة المشرفة.
سبق أن وقفنا وقفة مع إسلام خديجة والصديق وزيد بن حارثة رضي الله عنهم، ولنا وقفات مع إسلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقصة إسلامه في منتهى الغرابة.
آمن هذا الطفل الصغير وعمره عشر سنوات، ووجه الغرابة أنه طفل يؤمن في هذه المرحلة الخطيرة من الدعوة، حيث بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته سراً في مكة، ثم يسر بهذا الأمر الخطير لطفل، وكيف لهذا الطفل أن يفهم هذه القضية الكبرى التي خفيت على بعض العقول التي كانوا يعتبرونها حكيمة في مكة؟!
كان علي بن أبي طالب كابن الرسول صلى الله عليه وسلم تماماً، بنفس منزلة زيد ، وكان يعيش مع الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته، لوجود أزمة اقتصادية في مكة في وقت ما، وأصبح صعباً على أبي طالب أن يرعى كل أولاده، فاقترح الرسول صلى الله عليه وسلم على العباس رضي الله عنه وأرضاه أن كل واحد منهما يأخذ طفلاً من أطفال أبي طالب ويقوم بكفالته، وكان من سعادة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أن يعيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره.
تأثر علي بن أبي طالب رضي الله عنه برسول الله صلى الله عليه وسلم كأي طفل يتأثر بأبيه، فكيف لو كان الأب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يمثل لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه كل شيء، كان علي بن أبي طالب يعتقد الصواب في كل كلمة يقولها الأب الحنون صلى الله عليه وسلم، كأي طفل يعتقد أن الصواب الكامل في أبيه، وأن كل مشاكل الدنيا حلها عند أبيه، وهذا ليس كالآباء، فهو أعظم أب في الدنيا.
إذاً: أول شيء: هو حب كبير في قلب علي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حب الطفل لأبيه الحنون.
ثانياً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم شاهد نبوغاً مبكراً وعبقرية ظاهرة في علي بن أبي طالب تطمئن الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول له سراً خطيراً كهذا، ونحن نتصور أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف أن يعرف طفل صغير كـعلي بن أبي طالب بأمر الرسالة، خصوصاً إذا كان هذا الموضوع يفترض أن يظل سراً لا يعرف، وإلى متى؟ لا نعلم، مدة سنة أو سنتين أو ثلاث.. إلى أن يأذن الله سبحانه وتعالى بجهرية الدعوة، لكن الظاهر أن علياً كان عبقرياً منذ طفولته، وأثبتت الأيام صدق ظن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان علي من أكثر الصحابة قدرة على استنباط الأحكام وعلى القضاء في الأمور، وكانت لديه فراسة عميقة إلى جوار العلم والفقه.
كان في اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم لمن يدعوه تنوع، وهذا يوضح لنا أن مجال الدعوة أوسع بكثير جداً مما قد نتخيل، فهؤلاء الأربعة الأوائل فيهم الرجال والنساء، فيهم السادة والعبيد، فيهم الكبار والصغار.. لا حدود لهذه الدعوة، أنت عليك فقط أن تنظر من تقابل ومن تعرف؟ ومؤكد أنك ستجد الذي يصلح لأن تكلمه في أمر الإيمان والالتزام بدين الله عز وجل.
فـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه آمن وهو في العاشرة، ليصبح بذلك أول الصبيان إيماناً، وتصبح السيدة خديجة أول النساء، وأبو بكر أول الرجال، وزيد بن حارثة أول الموالي رضي الله عنهم أجمعين، وهذا كله في اليوم الأول للدعوة.
ثم دعا الرسول صلى الله عليه وسلم بناته إلى الإسلام السيدة زينب وكانت في العاشرة من عمرها وهي الكبيرة، والسيدة رقية كان عمرها سبع سنين، والسيدة أم كلثوم كان عمرها ست أو خمس سنوات، فكلهن دخلن في الإسلام في هذا السن المبكر جداً، أما السيدة فاطمة رضي الله عنها وأرضاها فقد كانت صغيرة جداً وقت البعثة.
هذا كان الوضع في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم.
كان صلى الله عليه وسلم ينتقي رجلاً من رجال قريش، ثم يخبره سراً عن الإسلام، وكان يعلم أصحابه أن يفعلوا هذا، وقد ظلت الدعوة السرية فترة طويلة جداً بالقياس إلى عمر الدعوة الإسلامية، فالدعوة السرية امتدت حوالي ثلاث سنوات، والدعوة كلها (23) سنة.
قد يتصور البعض أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما وقف على جبل الصفا وقال للناس: (أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدّقي؟)، يظن أن هذه المقولة كانت في بادئ الدعوة، لا. بل كانت بعد ثلاث سنين كاملة من نزول الوحي.
وهي فترة كبيرة جداً أيضاً في حق مجتمع صغير كمكة، لكن لماذا هذا الوضع؟ ولماذا هذا التخفي؟
قد يتحمس المرء ويقول: دعوة الإسلام دعوة جميلة ومقنعة وعقلية، ولو وقف الرسول صلى الله عليه وسلم في وسط مكة وأعلن عنها لسوف يسلم أكبر عدد من الناس في أقل وقت ممكن، لكن هذا لم يحصل ولم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعرف أن دعوة الإسلام وإن كانت جميلة ومقنعة، إلا أنها ستتعرض إلى معارضة وحرب، ليس فقط من قريش، بل من العالم كله.
ثم لو أتى سائل يسأل: هل الرسول صلى الله عليه وسلم كان خائفاً على نفسه من قريش؟
سأقول له: لا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لكن كانت هذه هي الحكمة، كل خطوة في حياته صلى الله عليه وسلم كانت محسوبة، تستطيع أن تقول: إن السرية في الدعوة في هذه المرحلة لم تكن اختياراً نبوياً، ولكنها كانت أمراً إلهياً، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يعلمنا منهج التغيير في مثل هذه الظروف، كيف يمكن للأجيال التي ستأتي بعده أن تغير في غياب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ إذا توافقت الظروف مع ظروف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة كيف يتصرف؟
والله سبحانه وتعالى قادر أن يحمي الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يصل إليه أي أذى من قريش، ومع ذلك هو يريد أن يرسم الطريق الصحيح للمسلمين لإقامة هذا الدين، مهما اختلفت الظروف، ومهما كثرت المعوقات؛ ولهذا ربنا سبحانه وتعالى وضع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل الظروف التي من الممكن أن تمر بها أمته بعد ذلك، وعلّم الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يتعامل مع كل حدث؟ كيف يصل بدعوته إلى الناس في وجود أي معوق؟
اختلفت الظروف بعد ذلك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالتبعية سيختلف منهجه صلى الله عليه وسلم في إيصال دعوته للناس وفي تربيته للمؤمنين، سيأتي زمان بعد هذا يُعلن فيه البعض إسلامهم ويكتم المعظم، مثل إسلام سيدنا عمر وسيدنا حمزة رضي الله عنهما، وسيأتي زمان يعلن الجميع وتكون التربية في العلن، وذلك بعد الهجرة إلى المدينة المنورة، وسيأتي زمان سيدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه زعماء العالم إلى الإسلام، وهذا بعد صلح الحديبية، كل هذا سيحدث؛ حتى لا يأتي أحد من المسلمين ويستشهد بفعل من أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم والظروف مختلفة، وإلا فلماذا هذا التنوع في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ليعلمنا الحكمة الحقيقية في الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأقواله عند تشابه الظروف.
ومن هذا أخذ العلماء حكماً فقهياً مشهوراً وهو: أنه يجوز للجيش المسلم أن يفر من مثليه، وقد بوب له الفقهاء باسم: باب جواز الفرار من المثلين، كما يقول الله سبحانه وتعالى: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ [الأنفال:66]الفقهاء قالوا: لو أن العدد أكبر من الضعف، أي: مائة مقاتل يقابلهم ثلاثمائة أو أربعمائة مقاتل يجوز لهم القتال ويجوز لهم الفرار حسب ما يرى القائد، بل إن الإمام مالك رحمه الله قال: يجوز الفرار من المثل، وليس من المثلين، وقال: إذا كان العدو أعتد جواداً وأجود سلاحاً وأشد قوة، وغلب على ظن قائد المسلمين الهلكة، وأخذ في الحسبان العوامل الأخرى غير العدد... بل ذهب العز بن عبد السلام إلى أبعد من ذلك، فقال: إذا لم تحصل النكاية في العدو. أي: لو أنك تحارب عدوك وأنت متأكد أنك لا تستطيع أن تؤذي عدوك فلا تقاتله، قال: إذا لم تحصل النكاية في العدو وجب الانهزام؛ لما في الثبوت من فوات النفس مع شفاء صدور الكافرين، أي: أن النفس ستذهب والمسلمون سوف يموتون، والكفار لن يحصل فيهم أي أثر، بل سيزيد الكفر؛ لأن المسلمين قلوا.
ويقول العز بن عبد السلام: وقد صار الثبوت هنا مفسدة محضة ليس في طيها مصلحة. أي: أنه يأثم المسلم بإظهار نفسه إذا كان الاختفاء والانسحاب هو الألزم للمرحلة، وهذا إدراك لسلوك المسلم وسلوك الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذه المواقف.
النقطة الأولى: أن الفارق بين الحكمة في الحفاظ على النفس وبين الجبن خطوة، فمن الممكن أن يقول شخص: أنا أحافظ على نفسي؛ لأن المرحلة تريد هذا، فلا يقول كلمة حق ولا يجاهد، ولا يدعو إلى الله، ولا أي شيء أبداً في سبيل الله، بينما الدافع الحقيقي وراء هذا الركون أو القعود هو الجبن والخوف من مواجهة الباطل.
إذاً: كيف نفرق بين الحكيم الذي يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين الجبان الذي لا يريد أن يحمل هم الدعوة؟
أولاً: يرجع في ذلك إلى الدليل الشرعي من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك أن يكون موقفه هذا يشبه موقف الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أخذ بالسرية.
ثانياً: الورع والإيمان والتقوى الذي في قلب الإنسان، والله سبحانه وتعالى هو المطّلع على القلوب ويراك، وأنت أولاً وآخراً تتعامل مع الله سبحانه وتعالى.
ثالثاً: الرأي المشار إليه من قبل القائد والجماعة والشورى في هذه المرحلة، والشورى في غاية الأهمية.. وهكذا يمكن أن يخرج عامل الهوى، ونستطيع أن نفرق بين الحكيم وبين الجبان.
النقطة الثانية: أن الذي يُراعى هو مصلحة المسلمين والإسلام عموماً، وليس مصلحة الفرد، أي: أنه قد يهلك الفرد وتكون الهلكة محققة، لكن هذا في مصلحة المجموعة، هنا لا يُلتفت إلى الحفاظ على الفرد؛ لأننا نحافظ على الدين بصفة عامة، وعلى الأمة أو المصلحة العامة، أي: أنه سيأتي بعد ثلاث سنين من هذا الأمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم يجهر بدعوته، وستكون هناك خطورة حقيقية عليه، لكن المصلحة الأعم للدعوة أنه يُعلن، وسيأتي بعد فترة يبعث مصعب بن عمير إلى المدينة المنورة، وسيكون هناك خطورة حقيقية على مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه، ففي المدينة المشركين واليهود.. وغيرهم، لكن المصلحة المتحققة أعلى، فيُضحى بمصلحة مصعب بن عمير على حساب تحقيق مصلحة أكبر للدعوة، من الذي يحكم في النهاية؟ الشورى والقائد، ومن المؤكد أن الهوى سيدخل إذا لم تدخل الشورى أو القائد في الموضوع.
وقد يكون من الهوى أن يموت؛ لأنه لم يتحمل الظلم الواقع على المسلمين، ولا يستحمل أن الكفر له الغلبة، فيحاول أن يتخلص من الأمر بالتسرع في إعلان نفسه، أو التسرع بالقتال في سبيل الله، أو في إظهار أمر الدعوة في مكان لا يستقيم أن يُظهر فيه أمر الدعوة في هذه المرحلة، كل هذا قد يكون هوى في قلب الإنسان، والله سبحانه وتعالى يريد منك تصرفاً آخر، ولهذا نؤكد دائماً على الشورى والرجوع إلى قائد المسلمين.
ما السبب في أن الرسول صلى الله عليه وسلم أو أبا بكر يذهب لدعوة عثمان بن عفان ولم يذهب إلى الوليد بن المغيرة أو لـأبي جهل أو أمية بن خلف؟
من الواضح أن هناك قواعد دقيقة لهذا؛ لأننا لم نسمع أن اختيارهم كان خطأ، بل كل الذين اختاروهم وأسروا إليهم بالإسلام قبلوه.
وهذا شيء مهم: أنك تعرف من الذي لو عرضت عليه أمر الدين قَبِلَه في الغالب، بهذا ستوفر مجهوداً كبيراً، وفي نفس الوقت ستنجح، وتبني لك قاعدة قوية.
بالنظر إلى السابقين إلى الإسلام نستطيع أن نخرج بقواعد مهمة، وسبق أن ذكرنا قاعدة في دعوة المدعوين، وهي الحب أولاً، لكن هناك قاعدتان في غاية الأهمية أيضاً كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعملهما في اختيار الناس:
القاعدة الأولى: الحكمة النبوية العظيمة، (خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا).
الاختيار كان يقع غالباً على أصحاب الأخلاق الحسنة والأخلاق الحميدة، الذين يعظّمون الصدق والأمانة والكرم والشجاعة والعدل ومكارم الأخلاق، هناك كثير من الناس غير ملتزم بالإسلام، لكنه يحب الأخلاق الطيبة، هؤلاء لو التزموا بالدين سيكونون خير سند للدعوة، وبهؤلاء بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
القاعدة الثانية: التركيز على الشباب، نعم الدعوة موجهة لكل الأعمار، لكن التركيز على الشباب في الفترة الأولى كان واضحاً، لأسباب:
أولاً: أن الشباب لم يَطُل عليهم الأمد في الاستمرار على تقاليد معينة، ولم يعتادوا على عبادة الأصنام لسنوات طويلة، ولم يتمسكوا بالدفاع عنها، فأنت عندما تذهب للكلام مع غير الشباب، وتقول له: أنت لك (40) سنة أو (50) سنة تدافع عن قضية باطلة، كيف يمكن له أن يؤمن بكلامك؟ صعب، لكن الشباب أيسر بكثير، لم تتلوث عقولهم بأفكار خاطئة، ومن ثم يستطيعون تقبل الفكرة الإسلامية بسهولة.
ثانياً: أن الشباب بصفة عامة مولعون بالجديد، لذلك تجد أكثر المقلدين للموضات هم الشباب مهما كانت، حتى لو كانت لا تتوافق مع هواهم، لكن المهم أنها شيء جديد.
ثالثاً: أن الله سبحانه وتعالى أعطى الشباب حماسة عالية، وحمية ونشاطاً، لا يعترفون بالصعب، بل تستطيع أن تقول: لا يعترفون بالمستحيل، وحمل الإسلام صعب وشاق يحتاج إلى عزيمة الشباب، وليس معنى هذا أن الشيوخ ليس لهم مكان في حمل دعوة الإسلام، لكن فرصة إيمان الشباب وفرصة حركة الشباب للدعوة بعد الإيمان، وفرصة ثبات الشباب على الحق وتحديه للصعاب والمشاكل أكبر من فرصة الشيوخ، ومن المؤكد أيضاً أن الدعوة تحتاج إلى الشيوخ وحكمتهم بجانب حماسة الشباب.
كل هذا الكلام جعل التركيز الأول على الشباب ذي الأخلاق الطيبة والحسنة، فهؤلاء هم الذين يمكنهم أن يتحملوا الدعوة، سواء في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم، أو في الأزمان اللاحقة، أو في زماننا هذا وإلى يوم القيامة. هذه سنة من سنن الله عز وجل في التغيير.
ولنا وقفة مهمة مع حركة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان الصديق إيجابياً بدرجة لا يمكن وصفها، كان يتحرك بالدعوة وكأنها أُنزلت عليه، لم تكن الدعوة عنده مجرد تكاليف من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يحب الإسلام ويريد من الناس جميعاً أن يعرفوه، وفي نفس الوقت كان يحب كل الناس، وهذا الحب للدين وللناس نتج عنه حماسة دعوية على أعلى مستوى، ففي أول تحرك له أتى بمجموعة وليس فرداً، أتى بالأسماء الذين سأذكرهم، وأريدك أن تقف عند كل اسم وتتأمل صاحب هذا الاسم وتاريخ وقصة حياته، لتعرف ميزان الصديق عند الله عز وجل.
الاسم الأول: عثمان بن عفان . قف وفكر في سيرة عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وفي تجهيز جيش العسرة جيش تبوك، وشراء بئر رومة، وتوسعة المسجد النبوي، وخلافة المسلمين (12) سنة، حياة طويلة من الإنفاق والجهاد والدعوة والعلم والصيام والقيام وقراءة القرآن.
فـعثمان بن عفان حسنة من حسنات الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
الاسم الثاني: الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه.
الاسم الثالث: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه.
ولن أفصل في سيرة هؤلاء؛ فكل واحد منهم يعتبر علماً ومنارة من منارات الإسلام.
الاسم الرابع: طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه.
الاسم الخامس: عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه.
فهؤلاء الخمسة جميعهم من العشرة المبشرين بالجنة، وهؤلاء لم يغيروا طعاماً أو شراباً، أو سكناً، وإنما غيروا ديانة وعقيدة، فمكة لها مئات السنين وهي تعيش في الشرك، فما ذلك الإقناع الذي كان عند الصديق حتى أقنع هؤلاء الخمسة العمالقة بأمر الإسلام؟ ما مقدار الصدق الذي في قلب الصديق رضي الله عنه وأرضاه حتى يهدي الله عز وجل على يده هؤلاء الخمسة العظام.
الغريب أن هؤلاء الخمسة لم يكونوا من قبيلة بني تيم، قبيلة الصديق رضي الله عنه باستثناء طلحة بن عبيد الله فـعثمان أموي، والزبير أسدي، وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف من بني زهرة، لكن من المؤكد أن علاقات الصديق كانت بهم قوية جداً ووثيقة قبل الإسلام، ليس من المعقول أن يتعرف عليهم بالصدفة وفي وقت إسلامهم، وإنما من المؤكد أنهم كانوا يحبونه حباً عظيماً، وبعد هذا يأتي الإقناع وتأتي الحجة.
ثم لو نظرنا إلى أعمار هؤلاء فـالزبير بن العوام رضي الله عنه كان عمره (15) سنة، وعندما تسمع اسم الزبير بن العوام تعتقد أن عمره (40) أو (50) سنة.
وكان عمر طلحة بن عبيد الله (16) سنة.
وسعد بن أبي وقاص خال رسول الله صلى الله عليه وسلم له تاريخ طويل وجهاد وفتوح وكان عمره حين أسلم (17) سنة.
أما عثمان بن عفان فقد كان كبيراً بالنسبة لهم، كان عمره حين أسلم (28) سنة.
كذلك عبد الرحمن بن عوف كان عمره حين أسلم (30) سنة.
كل هؤلاء أخذوا قرار تغيير الدين والارتباط بالإسلام وتحمل المشاق الضخمة في هذه السن المبكرة!
فـالزبير وطلحة وسعد لو كانوا في زماننا فلا يزالون في المرحلة الثانوية، فهل أولادنا في المرحلة الثانوية عندهم من الوعي والإدراك وتحمل المسئولية والقدرة على الفهم والتفكير مثل هؤلاء؟ هل عندهم من القدرات التي كانت عند شباب الصحابة؟
والله إننا لنحزن عندما نرى أن بعض الشباب في هذه المرحلة العمرية الثمينة جداً فرغت عقولهم تماماً من كل ما هو ثمين أو قيم، ولو بحثت في عقولهم لم تجد إلا بعض الأغنيات والمسلسلات والمباريات، وقصات الشعر والفيديو ورسائل الموبايل.. مع أن كثيراً منهم نشئوا في بيوت مسلمة، ومن آباء وأمهات مسلمين، وربما نشئوا في بيئة إسلامية صالحة، لم يكونوا في بيوت كافرة كبيت الزبير بن العوام أو طلحة بن عبيد الله أو سعد بن أبي وقاص.
إذاً: أين المشكلة؟!
نعم. هناك دور كبير جداً راجع لفساد الإعلام والتعليم، لكن نحن أيضاً علينا جزء كبير، لعلنا لم نعط الشباب الوقت الكافي من حياتنا، أو أننا نستصغر عقولهم وأفكارهم، فينتهي من الثانوية والجامعة والجيش ويتزوج، وهو لا يزال أيضاً صغيراً، والبلوغ العقلي عندنا (40) سنة! وعند ذلك لا يعتمد على نفسه، ولا يعتمد عليه مجتمعه.
هذا الشيء في الحقيقة يحتاج منا إلى وقفة كبيرة جداً، الشباب إمكانيات هائلة، لو وقفت مع الشباب وأعطيتهم وقتاً وتربية وجهداً ستأخذ منهم كما أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم من الزبير وطلحة وسعد.. وغيرهم.
قد نتخيّل أن الصديق بعد هذا المشوار الطويل الضخم الذي أسلم فيه على يديه خمسة من أعظم عظماء الإسلام قد أخذ قسطاً من الراحة، لا، بل إنه في اليوم الثاني مباشرة أتى بمجموعة ثانية من العمالقة في الإسلام:
أول اسم في اليوم الثاني: أبو عبيدة بن الجراح، أمين هذه الأمة، فهو حسنة من حسنات الصديق رضي الله عنه.
الاسم الثاني: عثمان بن مظعون رضي الله عنه من كبار الصحابة، ومن أوائل المهاجرين إلى الحبشة.
الاسم الثالث: الأرقم بن أبي الأرقم ، وهذا الاسم يحمل معاني كثيرة.
الاسم الرابع: أبو سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنه وأرضاه، زوج أم سلمة ، وكلاهما من أوائل من أسلم.
أما قبائلهم: فـأبو عبيدة بن الجراح من بني الحارث بن فهر.
و عثمان بن مظعون من بني جمح.
و الأرقم بن أبي الأرقم وأبو سلمة بن عبد الأسد من بني مخزوم، اثنان من بني مخزوم القبيلة التي تتنازع لواء الشرف مع بني هاشم، كما لو كان أتى باثنين من عُقر دار الأعداء.
أيضاً هناك شيء غريب وهو أن بعض هذه الأسماء كانت لها علاقة مباشرة بالرسول صلى الله عليه وسلم، فغريب أن يقوم الصديق ويدعوهم إلى الإسلام، لماذا لا يتركهم للرسول صلى الله عليه وسلم؟
فمثلاً الزبير بن العوام رضي الله عنه هو ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابن السيدة صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها.
وأبو سلمة بن عبد الأسد ابن عمة الرسول صلى الله عليه وسلم، ابن السيدة برة بنت عبد المطلب .
وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه خال الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهؤلاء الثلاثة كان من المفروض أن يترك الصديق أمر دعوتهم للرسول صلى الله عليه وسلم؛ بحكم قرابتهم منه، لكن الصديق يشعر بأن الدعوة دعوته؛ ولهذا فإنه لا يضيع الوقت ولا الفرص، ولو كل واحد منا شعر بأن الإسلام دينه ومسئوليته، وشعر بالغيرة الحقيقية على دين الإسلام سوف يحاول أن يوصله إلى قلب كل واحد يراه، حتى لو لم يعرفهم. فهؤلاء هم المخلصون الذين نريد أن نقلدهم.
لم يترك الصديق رضي الله عنه بيتاً؛ لأنه لم يكن يعاني من المرض الذي يعاني منه دعاة اليوم، يعلمون الناس الإسلام ولا وقت لأهلهم وهم أحوج الناس إليهم، لذا رجع الصديق رضي الله عنه إلى بيته وكلّم امرأته السيدة أم رومان رضي الله عنها، وكلّم أولاده: السيدة أسماء وسيدنا عبد الله بن الصديق رضي الله عنه فآمنا، أما السيدة عائشة رضي الله عنها فقد ولدت في الإسلام، والابن الأكبر عبد الرحمن تأخر إسلامه إلى عام الحديبية.
أيضاً أعتق الصديق غلامه عامر بن فهيرة رضي الله عنه، بعد أن دعاه إلى الإسلام فأسلم، فأعتقه في سبيل الله، ودعا الصديق بلال بن رباح رضي الله عنه إلى الإسلام فأجاب، ثم اشتراه وأعتقه في سبيل الله.
حركة دائمة ونشاط لا يتخلله فتور من الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
أعتقد أن المسألة ليست مجرد حركة، فهناك كثرة من المسلمين ومن الدعاة تتحرك في سبيل الله، لكنها تنفر الناس من دين الله عز وجل، فهم يتحركون وعندهم صدق في الحركة، لكن الأسلوب أو الهيئة أو الطريقة لا تناسب الوضع والشكل الذي كان عليه الصديق رضي الله عنه وأرضاه، لدرجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول لبعض المسلمين: (يا أيها الناس! إن منكم منفرين) أي: بعض الدعاة ينفرون الناس من الإسلام عكس المطلوب تماماً، فما الذي جعل الناس تستمع لكلام الصديق رضي الله عنه؟
أولاً: كان الصديق -كما يقول طلحة بن عبيد الله - رجلاً سهلاً محبباً موطأ الأكناف، أي: ليّن الجانب، وببساطة ليس بالفظ ولا بالغليظ.
هذه أول سمة: أن تكون لين الجانب مع الذي تدعوه، واترك العنف.
ثانياً: كان تاجراً ذا خلق واستقامة، وهذا شيء في منتهى الأهمية. المال فتنة، وكثير من التجار يخسرون الناس بسبب التجارة، لكن الصديق كان عكس هذا تماماً، كان يكسب الناس بسبب التجارة.. كان تاجراً صدوقاً، بل تاجراً صديقاً، كريماً رحيماً، فيه رأفة وأدب وخلق حسن، فكيف يمكن أن يكون حب الناس لإنسان يتصّف بهذا، يعطي الناس ولا يأخذ منهم؟
ثالثاً: يقول طلحة : وكنا نألفه ونحب مجالسه؛ لعلمه بأخبار قريش وحفظه لأنسابها. أي: أن الصديق كان عالماً بعلم زمانه وهو علم الأنساب، والطبقة المثقفة في مكة كانت تحب أن تجلس معه وتسمع منه الأنساب، أي: أن الصديق ما كان يكتفي بالبسمة فقط أو المال، وإنما كان يعطي علماً أيضاً، وكان من أدبه رضي الله عنه أنه كان لا يطعن في أنساب أحد، مع علمه بكل نقيصة في كل نسب، فهذا من حسن خلقه رضي الله عنه وأرضاه، كيف لا يستجيب الناس لدعوته وهو بهذه الصفات؟
إذاً: هذه الدعوة لم تأت من فراغ، ولم تكن مصادفة أن يستجيب هذا العدد العظيم من عمالقة الإسلام للصديق رضي الله عنه.
إذا أردت أن تكون داعية فادرس سيرة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهو من خير الدعاة بعد رسول الله.
وهنا نقف وقفة مع أنفسنا ونسأل: أتى الصديق بهؤلاء ونحن بمن أتينا؟
أجب على هذا السؤال بينك وبين نفسك، وليس بالضرورة أن تأتي بغير المسلمين إلى الإسلام، أو برجال أمثال عثمان والزبير لكن أين الحركة للدين؟ هل وصلت دعوتنا إلى المسلمين غير الملتزمين بالإسلام بنفس حمية وحماسة الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟ هل أتينا إلى المسجد بمسلم لا يعرف طريق المساجد؟ هل دفعنا بمسلم إلى قراءة القرآن بعد أن هجره السنوات الطوال؟ هل شرحنا لمسلم حال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وقد نسيهم أو تناساهم؟ هل هذّبنا من أخلاق أبنائنا وأصحابنا وشركائنا وزبائننا وجيراننا؟ هل وصلنا بالدعوة إلى كل من نعرف؟ هل..؟ هل..؟
أسئلة كثيرة جداً لمجالات من العمل لا تحصى ولا تعد، أبواب الدعوة لا حصر لها، المهم أن يتولد في القلب شعور بأنك أنت وحدك الذي تحمل هم الإسلام كله على كتفك، تشعر أنك أنت المسئول، وأن القضية قضيتك، وأن المهمة مهمتك.
هذا هو الدرس الذي نأخذه من الصديق، ولو استمعنا للقصة لمجرد التمتع بها لن نفهم الغرض من هذه المجموعة من الدروس: كيف نبني أمة؟
فمثلاً: المفاضلة في قانون الله تعالى تكون بالتقوى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] وهي شيء مكتسب، فلكي تتحول من غير تقي إلى تقي فالطريق واضح في الدين، كذلك الأخلاق الحسنة هي شيء مكتسب، نعم لها جذور فطرية، والإنسان يكون مجبولاً على الكرم والصدق، لكن في النهاية الأخلاق الحميدة شيء مكتسب، تستطيع إذا أردت أن تتحول من كاذب إلى صادق، أو من خائن إلى وفي، أو من جبان إلى شجاع.. وهكذا، وعندها يمكن التفضيل بين واحد وآخر على أساس التقوى وعلى أساس الأخلاق.
أيضاً كذلك تستطيع أن تسبق غيرك بالكفاءة.
إذاً: هذه أمور تستخدم للمفاضلة بين الناس: التقوى، الأخلاق، الكفاءة، وجميعها أمور مكتسبة، لكن لا يجوز التفرقة والمفاضلة بين الناس على أشياء لا دخل لهم فيها، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستخدم القواعد الإلهية ولا يستخدم القواعد الظالمة التي اخترعها الناس، فلم يكن هناك فرق بين الأحرار وبين العبيد، فالكل أولاد آدم عليه السلام، والكل سواسية، بل قد يسبق العبد الحر في مجال الأخلاق والتقوى والكفاءة؛ ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم وجه دعوته للعبيد كما وجهها للسادة سواء، وهذا كان مستغرباً في البيئة المكية القديمة، وإلى الآن هو أمر مُستغرب، أنا أريد منك أن تتخيل أن الوزير جالس بجوار العسكري في نفس الدعوة، بل قد يُقدّم عليه إذا كان أكفأ وأقدر على إدارة الأمور، فلم يعط قانوناً ولا دستوراً للإنسان حقه مثل ما فعل الإسلام، فنحن نرى في الأوائل الذين أسلموا تباينات عجيبة، كما رأينا من الأشراف من الصديق رضي الله عنه وأرضاه وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام وعثمان بن عفان وسعيد بن زيد كل هؤلاء من أشراف مكة، كما رأينا هؤلاء رأينا أيضاً العبيد والموالي، رأينا بلالاً وعامر بن فهيرة وزيد بن حارثة.. وغيرهم، وليس هذا إلا في دين الإسلام.
أيضاً لم يكن هناك فرق بين الغني والفقير، المال لا يصلح للمفاضلة بين الناس، فالله عز وجل يرزق من يشاء بغير حساب، الأوائل الذين أسلموا كان فيهم الأغنياء واسعو الثراء كـالصديق وعبد الرحمن بن عوف وعثمان وكان فيهم أيضاً شديدو الفقر كـعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وسمية بنت خياط وخباب بن الأرت.. وغيرهم، لم يكن هناك أي فرق بين الغني والفقير.
لكن هنا معلومة هامة، وهي على عكس ما يتخيل كثير من الذين يدرسون السيرة، فهم يعتقدون أن غالبية المسلمين كانوا من الفقراء البسطاء، لكن عندما نأتي نحلل شخصية كل مسلم من المسلمين الأربعين الأوائل سنجد أن الفقراء كانوا (13) والأغنياء كانوا (27)، أي أن (70%) من المسلمين الأوائل كانوا من الأغنياء، ولم تكن هناك ثورة من الفقراء على الأغنياء، كما يحب بعض الاشتراكيين أن يصوروا من ذلك؛ ليأخذوا سنداً شرعياً لاشتراكيتهم، فالوضع كان خلاف هذا تماماً، الأغنياء سعوا إلى هذا الدين القويم الرائع، وضحوا بثرواتهم، وعرّضوا أنفسهم للفقر الشديد، وليس أبلغ من الأمثلة الإسلامية الرائعة كـالصديق ، فقد كان يملك أربعين ألف درهم عندما أسلم، وعندما هاجر كان يملك خمسة آلاف درهم صرفها على الهجرة، أي: أنه أصبح فقيراً بعدما أسلم، ومصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه كان من أغنى أغنياء مكة، ومن أنعم شبانها، ثم أصبح من أشدها فقراً وحاجة، ولم تكن هناك ثورة من الفقراء على الأغنياء، أو عملية تقسيم للثروات على شعب مكة أبداً، لم يكن هناك أي فرق بين الغني والفقير، المهم التقوى.
لم يكن هناك أيضاً فرق بين العرب وغير العرب، أين الذنب في ولادتي، سواء ولدت في مصر أو باكستان أو إندونيسيا أو نيجيريا أو أمريكا أو أي مكان من الأرض؟ المهم التقوى والأخلاق والكفاءة.
دعوة الإسلام ليست دعوة قومية، حتى في هذه البيئة التي تفتخر بعربيتها، فقد ضمت هذه الدعوة بلالاً من الحبشة، وصهيباً الرومي ، وبعد سنين ستضم سلمان الفارسي ، وستدخل بعد ذلك كل العرقيات من فرس ورومان وسلاجقة وأتراك وأكراد.. وغيرهم كثير، سيدخل كل هؤلاء إلى دين الإسلام، وكل منهم سيخدم الإسلام في مكانه، لا فرق بين عربي ولا عجمي إلا بالتقوى.
كذلك لم يكن هناك فرق بين الرجل والمرأة، ومن يتكلم على أن الإسلام ظلم المرأة لا بد أن يراجع التاريخ وقوانين الإسلام، فانظر إلى مدى الانقلاب الذي أحدثه الإسلام في حياة أهل مكة، كيف نقل الإسلام في يوم وليلة أهل مكة من رجال يستحقرون النساء، ويستقلون شأنهن، ويهمّشون أدوارهن، ولا يعطونهن شيئاً من الميراث، بل يرث الرجل زوجة أبيه إذا مات الأب، كيف تحولوا من هذا الوضع إلى الوضع الجديد الذي تدعى فيه نساء مكة إلى الإسلام كما يُدعى الرجال؟ لدرجة أن ربع الرعيل الأول في هذه المرحلة الحرجة من الدعوة كن من النساء، وفي ظل هذا التكتم الشامل والسرية التامة يعظّم الرسول صلى الله عليه وسلم من قيمة النساء ومن قيمة عقولهن، ويثق في إدراكهن لخطورة الموقف، ويعلم عن يقين احتياج الدعوة لهن، لا بد أن يقفن بجانب الأزواج، ويربين الأبناء، ويقمن بالدعوة في أوساط النساء.
الفارق بين حياة الجاهلية بقوانينها الظالمة وأحكامها الجائرة، وبين العدل المطلق الذي جاء به الإسلام كان مجرد لحظات، نزل الأمر الإلهي قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:2]فقام الرسول صلى الله عليه وسلم لينذر الرجال والنساء، قام ليحكم الأرض بقانون السماء، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (إنما النساء شقائق الرجال).
أيضاً لم يكن هناك أي فرق بين قبيلة وقبيلة أخرى، وهذا أيضاً مستغرب جداً في المجتمع القبلي، وهذا المجتمع طالما حدثت فيه حروب بين القبائل على أتفه الأسباب، وبعد الإسلام رأينا القبائل المختلفة تجلس سوياً ويضع بعضهم يده في يد الآخر، ويؤلف الله عز وجل بين قلوبهم حتى يحاربوا غيرهم، وإن كانوا من نفس قبائلهم، فتجد الهاشمي يحارب الهاشمي الذي ليس على دينه، ويضع يده في يد المخزومي إن كان مسلماً مثله، فالقبلية مرفوضة في دين الإسلام.
إذاً: الدعوة الإسلامية كانت إعلاناً لحقوق الإنسان، وهي والله أعظم بآلاف المرات من الإعلان الذي أتى بعد ذلك بثلاثة عشر قرناً من الزمان أو أكثر، كان إعلاناً من رب العالمين أن الناس سواسية كأسنان المشط، بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم حياته بهذا الإعلان الرباني لحقوق الإنسان، وأنهى حياته في خطبة الوداع بنفس الإعلان: (كلكم لآدم، وآدم من تراب) هذه هي قواعد الإسلام.
مثال ذلك: إسلام عمرو بن عبسة رضي الله عنه وأرضاه بعد أكثر من ثلاث سنين من الدعوة، وكان من قبيلة سُليم، وكان مع الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من (60) صحابياً، لكن انظر إلى الحوار الذي سوف يدور بين عمرو بن عبسة رضي الله عنه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم.
يقول عمرو بن عبسة كما جاء صحيح مسلم : (فتلطّفت حتى دخلت عليه مكة، فقلت له: ما أنت؟ فقال: أنا نبي، فقلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله، فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله ولا يشرك به شيء، قلت له: فمن معك على هذا؟ قال: معي حر وعبد، يقول عمرو بن عبسة : ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به) فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يكشف أوراقه كلها أمام عمرو بن عبسة رضي الله عنه، ولا يريد أن يقول له على جميع المسلمين قبل أن يستوثق منه، بالذات أن عمراً ليس من مكة، فهو بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم مجهول، فلا يستطيع أن يخبره في هذا الوقت، ومع الأخذ بالاعتبار أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان قال له: إن عددنا (60)، كان أكثر إقناعاً له؛ لأنه سيرى أن عدد الذين آمنوا بهذه الدعوة كبير، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم آثر الحرص والحذر على الدعوة في ذلك الوقت، وهذا شيء كان في ذهن الرسول صلى الله عليه وسلم في كل خطواته في أثناء المرحلة السرية، وأيضاً بعد المرحلة السرية.
آمن عمرو بن عبسة رضي الله عنه وأرضاه، ولما آمن أراد أن ينضم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، فقال له صلى الله عليه وسلم: (إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا) لأن الموقف صعب، ولا يوجد أحد يحميه في داخل مكة، وسوف يُضطهد فيها أشد الاضطهاد، فهنا يضحي صلى الله عليه وسلم بالنصرة التي ستأتي من وراء عمرو بن عبسة ببقائه في مكة، ويضحي أيضاً بالعلم الذي قد يحصّله عمرو ببقائه في مكة، في نظير أن يؤمِّن حياته ويحفظه لمرحلة قادمة قد تكون الدعوة أحوج إليه، وأعاده مرة أخرى إلى قبيلة سُليم، وقال له: ادع إلى الله هناك، وأتى عمرو بن عبسة بنصف قبيلة سُليم بعد ذلك.
إذاً: عمرو بن عبسة أخذ بقواعد الأمان، وبدأ يدعو في قبيلته حيث الحماية المتوافرة له في ذلك المكان، لم يضح أبداً بحياته في هذه المرحلة الخطيرة من مراحل الدعوة، كل هذه التدابير لا تنفي مطلقاً إيمان رسول الله صلى الله عليه وسلم التام بالقدر، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، ولكنه يأخذ بالأسباب، ويعلمنا كيف نأخذ بها في كل مرحلة من مراحل الدعوة.
أخذ سيدنا علي بن أبي طالب أبا ذر الغفاري ليعرفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي أيضاً كان في منتهى الحرص، كان يقول لـأبي ذر : إن رأيت شيئاً أخاف عليك منه قمت كأني أريق الماء، أي: أتبول، وفي رواية: كأني أصلح نعلي، فأخذه وذهب به لمقابلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت الحرام أثناء الطواف ليلاً، لم يذهب به إلى دار الأرقم فهو لم يطمئن إليه بعد، وأبو ذر من قبيلة غفار المشهورة بقطع الطريق، فهو فعلاً أمره غير مأمون إلى أن يستوثق تماماً من إيمانه، فعندما ذهب أبو ذر يكلم الرسول صلى الله عليه وسلم سأله أولاً: من أين أنت؟ فقال أبو ذر : من غفار هنا الرسول صلى الله عليه وسلم شعر بالقلق، يقول أبو ذر : (فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجهي، فقلت في نفسي: كره أن انتميت إلى غفار) يعني: عرف الرسول صلى الله عليه وسلم أن أبا ذر من قبيلة خطيرة، ومع ذلك وضح له أمر الإسلام، لكن لم يعرفه على خبيئة من خبايا المسلمين الموجودة في مكة؛ حرصاً وحذراً، وحساً أمنياً راقياً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولعل سائلاً يقول: ما سبب اختيارهم لدار الأرقم بن أبي الأرقم بالذات؟ ولماذا لم يختاروا بيت الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحد الصحابة الآخرين؟
نقول: أولاً: الأرقم لم يكن معروفاً بإسلامه، فلم تتم مراقبة بيته من قريش، فالرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة الذين عُرفوا بالإسلام لا تصلح بيوتهم لهذا الأمر.
ثانياً: الأرقم من بني مخزوم، وبنو مخزوم هي القبيلة المتنازعة دائماً مع بني هاشم، وأكثر الناس كراهية لبني هاشم في مكة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يجتمع في عُقر دار عدوه، وذلك لم يخطر أبداً على أذهان زعماء أهل مكة.
ثالثاً: الأرقم كان بيته بعيداً عن القوم، لم يكن في قلب المدينة، أي: أنه لم يكن هناك أحد يمشي من جوار البيت، ولم تكن هناك بيوت أخرى يمكن منها مراقبة بيت الأرقم بن أبي الأرقم.
رابعاً: الأرقم كان عمره (16) سنة، شاب صغير لن يشك فيه أحد من أهل مكة، وأهل مكة قد يعتقدون أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعقد جلساته في بيت أحد من كبار الصحابة، مثل أبي بكر الصديق أو عثمان أو عبد الرحمن بن عوف لكن في بيت هذا الشاب الصغير. هذا احتمال بعيد جداً عن أذهان قريش.
كيف استطاع الأرقم أن يأخذ المهمة الضخمة هذه مع أنه كان من قبيلة بني مخزوم؟ وكان زعيم قبيلة بني مخزوم أبو جهل ، ومن المعروف أن أبا جهل فرعون هذه الأمة، أعتى أهل قريش على المسلمين، فلو اكتشف أمر الأرقم بن أبي الأرقم لا بد أن نهايته القتل، فرضي الله عن الأرقم ورضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.
وأيضاً أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ابنه علي بن أبي طالب وهو يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يعلّق على هذا الموضوع، ومن المؤكد أن بعض العائلات الأخرى رأت أولادها يصلون أو يقرءون القرآن، لكن مع كل هذه المشاهدات ومع هذا الإدراك لأمر الإسلام لم تعترض قريش في هذه المرحلة، بل لم تعر ذلك أي اهتمام.
بعض الأحيان يتعجب الواحد من أفعال قريش، لماذا سكتت عن أمر الإسلام في ذلك الوقت؟ ولماذا آذت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاربته هذه المحاربة الشرسة بعد أن أعلن دعوته في مكة؟
الحقيقة أن قريشاً كان فيها قبل هذا رجال على نفس هذا النهج، مثل أمية بن أبي الصلت وزيد بن عمرو بن نفيل وكانوا على الحنيفية، وورقة بن نوفل وكان نصرانياً.. فهؤلاء لم تكن تعمل لهم أي حساب وظنت أن المسلمين مثلهم، لكن أن يجاهر بدعوتهم، ويدعو إلى تسفيه الأصنام والقوانين الوضعية التي وضعها أهل مكة وأنزلوها منزلة كلام الله عز وجل، فهذا ما لا تريده قريش.
فمبدأ قريش واضح وهو: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، أما أن يأتي دين يتدخل في كل صغيرة وكبيرة في منظومة الأرض وفي حياة الإنسان والمجتمع، فهذا ما ترفضه قريش بالكلية.
إذاً: في هذه المرحلة ترك القرشيون المسلمين دون تعرض، ولكن في المرحلة القادمة وبعد ثلاث سنوات من الدعوة السرية سيجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوته في وسط مكة، وسيعلن توحيده لله رب العالمين، وسيعلن نبذه للأصنام والأوثان.
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44]. وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة السيرة النبوية الدعوة سراً للشيخ : راغب السرجاني
https://audio.islamweb.net