إسلام ويب

لليهود طبيعة ممقوتة ذكرها الله سبحانه في كتابه، فقد وصفهم الله سبحانه بالغدر والخيانة ونكث العهود، ومع ذلك حاول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه التعامل معهم بالحسنى والصبر والحكمة، فقد كانت قوة المسلمين لا تسمح لهم بالمواجهة معهم، فظل المؤمنون يترقبون مرحلة جديدة يعلون فيها دين الله عز وجل وينصرون نبيه صلى الله عليه وسلم، ويزيلون فيها قوة اليهود ويدكون معاقلهم.

كيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود داخل المدينة وخارجها

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.

هذا هو الدرس الرابع من دروس السيرة النبوية في العهد المدني.

في الدروس السابقة تحدثنا عن الظروف التي بدأ فيها صلى الله عليه وسلم إنشاء دولته، وتحدثنا عن علاقته مع الطوائف المختلفة التي عاصرت هذا القيام، سواء كانوا مسلمين من أوس وخزرج ومهاجرين .. وغيرهم، أو كانوا مشركين.

وفي الدرس السابق تحدثنا عن مشركي قريش كفار مكة، وكيف كادوا لأمة الإسلام، وكيف خرج صلى الله عليه وسلم من الأزمة بنجاح، وبتدبير متقن معروف وبخطوات ثابتة، وترك لنا تشريعاً يستطيع المسلمون أن يخرجوا به من كل أزمة مشابهة.

اليوم حديثنا مع أمر في غاية الأهمية والخطورة، وهو موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من اليهود الذين كانوا في داخل المدينة، تعلمون أنه في داخل المدينة تعيش ثلاث قبائل كبرى لليهود: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، وفي شمال المدينة المنورة ووادي القرى تعيش مجموعة ضخمة أخرى من اليهود متجمعة أساساً في منطقة خيبر، كيف تعامل صلى الله عليه وسلم مع هذه الطوائف والقبائل المختلفة من اليهود؟

طبيعة اليهود وكيفية تعاملهم مع المسلمين

حتى نعرف تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود لابد أن نأخذ خلفية عن طبيعة اليهود، وخلفية عن إستراتيجية اليهود في التعامل مع المسلمين، ملخص تعامل اليهود مع المسلمين مذكور في قول الله عز وجل: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82]، رأينا في الدرس الماضي المكائد والمؤامرات من قريش الكافرة في حربها ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن حرب اليهود أشد، وعداوة اليهود أشد، ومكر اليهود أشد؛ ولذلك بدأ بهم رب العالمين سبحانه وتعالى في قوله: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ [المائدة:82].

لنر طريقة تعامل المنهج الإسلامي مع اليهود، وطريقة تناول التشريع الإسلامي لقضية اليهود.

قبل أن يهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة كان هناك إعداد نفسي ومعنوي للصحابة؛ من أجل أن يعرفوا إلى أين سيذهبون بعد ذلك، مع أنه مدة فترة مكة لم يعلم المسلمون أنهم سيرحلون ويهاجرون إلى المدينة المنورة، حيث تجمعات اليهود الكبيرة، لكن هذا إعجاز ظاهر في كتاب رب العالمين سبحانه وتعالى، فكثير من الآيات القرآنية ذكرت اليهود في فترة مكة، والآيات المكية التي تحدثت عن اليهود وعن بني إسرائيل أكثر من أن تحصى، إن هذا المنهج جميل نريد أن نقف عنده وقفة، فنقول: إن ربنا سبحانه وتعالى كان يوسع الأفق عند المسلمين، فقبل أن تعرف أنك ستلتقي مع اليهود، وقبل أن تعرف أنه سيكون لك دولة في مكان ما، فإن الله سبحانه وتعالى يوسع لك الأفق، ويعرفك بما هو موجود في الأرض الآن، تجد آيات يستغربها المحلل لها، إلا أن يفقه المنهج الإسلامي الرفيع الذي أوحى به رب العالمين سبحانه وتعالى إلى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم.

تجد مثلاً آيات في القرآن المكي عن الروم، وآيات في القرآن المكي عن اليهود، تجد الرسول عليه الصلاة والسلام يخبر الصحابة عن ملوك العجم، يخبرهم عن قيصر وكسرى والمقوقس، يعرف زعماء العالم في زمانه، مع أن المسلمين في فترة مكة كانوا مضطهدين ومشردين وليست لهم دولة ولا شوكة، وكانوا مأمورين رضي الله عنهم أجمعين في فترة مكة المكرمة بالكف عن المشركين، يعني: احتمالية قيام دولة كانت بعيدةً جداً في الحسابات المادية، ومع ذلك فإن رب العالمين سبحانه وتعالى كان يعلمهم كيف يدور العالم حولهم، وهذا منهج حياة لابد أن نأخذ به، لا نقول: إننا دولة إسلامية بسيطة أو مجموعة من الملتزمين البسطاء القلة، لا داعي إلى معرفة أحوال العالم، وحقيقة أنك تحزن جداً عندما تجد شباباً كثيرين لا يعرفون عن أحوال الدنيا شيئاً، لا يعرفون ما الذي يحصل في فلسطين، وما الذي يحصل في الشيشان، وما الذي يحصل في كشمير، والعراق، والسودان، وما الذي يحصل بين الهند وباكستان، وما الذي يحصل بين أمريكا وروسيا، وما الذي يحصل بين أمريكا والصين، فالعلاقات الدولية الكثيرة المعقدة المتشابكة التي حول المسلمين لابد أن يفقهها المسلمون؛ لأنه سيأتي يوم من الأيام يستفيدون من هذه الأمور، فتظهر قوى وتندثر أخرى، وقد يؤثر ذلك سلباً أو إيجاباً على المسلمين.

تحدث القرآن المكي كثيراً عن بني إسرائيل، قبل أن يعرف المسلمون أنهم سيذهبون إلى المدينة المنورة، وقد ترك القرآن المكي انطباعات إيجابية كثيرة عن اليهود، وهذا الغرض معروف، وسنتكلم عنه بعد قليل.

كان يتحدث القرآن المكي عن بني إسرائيل دائماً بلفظ بني إسرائيل، لم يذكر كلمة اليهود أبداً؛ لأن كلمة اليهود استحدثت بعد ذلك في بني إسرائيل، جاءت هذه الكلمة بعد أن خالفوا كثيراً، لكن في الفترة التي كانت قبل المخالفة، وكانوا فيها أتباعاً لموسى عليه السلام ومن بعده من الأنبياء، كان يطلق عليهم في القرآن الكريم: بنو إسرائيل.

وإسرائيل هو نبي الله يعقوب عليه السلام، فنسبة هؤلاء إلى نبي تعطي لهم تشريفاً وتكريماً وتعظيماً، فترفع قيمة بني إسرائيل في قلوب المسلمين.

أيضاً تكررت كلمة (أهل الكتاب) ثلاثين مرة في القرآن كاملاً، منها آية واحدة فقط في القرآن المكي، وجاءت في قوله تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46]، فلفظة: (أهل الكتاب) تضم اليهود والنصارى، وجاء فيها الأمر بالمخاطبة بالتي هي أحسن.

وتحدث رب العالمين سبحانه وتعالى في كثير من الآيات عن موسى عليه السلام، وتكرر ذكر موسى عليه السلام في القرآن (136) مرة، منها (122) مرة في القرآن المكي، تركيز وتكثيف كبير جداً على قصة موسى عليه السلام، ومعظم قصة موسى مع فرعون، وليس عن مخالفات بني إسرائيل الكثيرة، وإن كان هذا موجوداً.

إجمالاً: ذكر رب العالمين سبحانه وتعالى أنه أعطى بني إسرائيل كثيراً وكثيراً، حتى قال سبحانه وتعالى في القرآن المكي: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان:32]، وهناك آيات كثيرة تشبه هذا المعنى.

ووصف رب العالمين سبحانه وتعالى بني إسرائيل بأنهم صبروا، قال سبحانه وتعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف:137].

إذاً: ذكر بني إسرائيل بهذا اللفظ فقط، والتركيز على قصة موسى مع فرعون، والتحدث عن صبر بني إسرائيل، وخطاب الأمر للمسلمين بالتعامل مع أهل الكتاب الذين منهم اليهود بالتي هي أحسن: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46]، كل هذا أدى إلى انطباع إيجابي للمسلمين عن اليهود، وفي الأخير فإن اليهود أهل كتاب، ويؤمنون بالإله الواحد، ويؤمنون بالرسل وبالكتب السماوية، ويتوقعون ظهور نبي.

من الطبيعي جداً في الحسابات المادية عند المسلمين أنه ما إن يسمع اليهود فكرة الرسالة والنبوة سيؤمنون بها؛ لأنهم يؤمنون بفكرة الرسول صلى الله عليه وسلم أساساً، فهذا كان شيئاً متوقعاً؛ من أجل ذلك فإن الله سبحانه وتعالى ترك هذه الانطباعات الإيجابية للمسلمين؛ حتى يعطي الفرصة للمسلمين أن يتحاوروا ويتناقشوا ويتجادلوا بالتي هي أحسن مع اليهود؛ فيكسبوا قلوب اليهود إلى دولة الإسلام، ولا شك أن في هذا نصراً كبيراً للدعوة، واستنقاذاً لعدد ضخم من البشر من النار، كان هذا في أول الأمر.

لكن في نفس الوقت فإن الله سبحانه وتعالى في القرآن المكي ذكر بعض الأمور التي تركت انطباعاً سلبياً عند المسلمين عن اليهود، مثال ذلك: عندما يتحدث ربنا سبحانه وتعالى عن اتخاذ قوم موسى عليه الصلاة والسلام للعجل من دون الله عز وجل: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ [الأعراف:148] هذا في القرآن المكي.

فعرف الصحابة أن الذين عبدوا العجل هم أجداد هؤلاء الذين يعيشون في المدينة، قبلوا أن يسجدوا للعجل من دون الله لما تأخر عنهم موسى عليه السلام مدة أربعين يوماً، والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم منذ ثلاث عشرة سنة في مكة لم يفكروا مطلقاً بأي صورة من الصور في أي عمل فيه شرك، فبمجرد ما إن فهموا حقيقة العبودية لله عز وجل أصبحت حياتهم كلها مستقيمة لله، فكان بالنسبة لهم تصور غريب جداً أن هناك أناساً يؤمنون برسول وإله، ويكون تعاملها مع قضية العبودية بهذه الصورة.

أيضاً رأينا في القرآن المكي قول الله عز وجل: قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا [الأعراف:129] فكيف يكون سوء الأدب إلى هذه الدرجة مع موسى عليه السلام الذي يجله الصحابة وما رأوه؟! وغير هذا كثير جداً في الآيات الكريمة، وراجع القرآن المكي وانظر قصة بني إسرائيل، فإنك ستجد قصة القرية التي كانت حاضرة البحر، وكذلك ستجد قول الله عز وجل: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138]، وستجد: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ [الإسراء:4] فاليهود قوم يحدثون فساداً في الأرض، وقد قال رب العالمين: (مرتين) فربنا سبحانه وتعالى العليم بهم قال: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [الإسراء:8].

يعني: قد يرجعون مرة أخرى، فهل سيعودون مرة أخرى للفساد في المدينة أو لا؟ القضية تحتاج إلى إجابة.

بهذه المشاعر دخل الصحابة الكرام ومعهم رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة، واليهود أهل كتاب مثلنا، وأتباع نبي مثلنا، ويؤمنون بإله واحد مثلنا، ومع ذلك فهم على حذر؛ لأنهم قوم سيئو الأدب مع الأنبياء، متمردون على طاعة الله، متحايلون على الشرع، مختلفون بعد العلم، ناكرون للجميل، كافرون بالنعمة .. وهكذا.

إذاً: فهناك انطباعات إيجابية عند المسلمين، وفي نفس الوقت هناك انطباعات سلبية، هناك نظرة متوازنة، فعندهم أمل كبير في إسلام اليهود، لكن في نفس الوقت يعيشون على حذر تام من مكر اليهود.

ذكر ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود لتأليف قلوبهم

عندما دخل الرسول عليه الصلاة والسلام المدينة حاول أن يرقق قلوب اليهود، وأراد إشعارهم بأنهم فريق واحد من المؤمنين، فعمل شيئين بوحي من رب العالمين سبحانه وتعالى.

الأمر الأول: هو اتجاه القبلة ناحية بيت المقدس، ثبت في البخاري ومسلم أن الرسول عليه السلام توجه إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً من بداية دخوله المدينة حتى قبيل بدر بقليل كما سنرى إن شاء الله في الأحداث.

وهذه القبلة الواحدة تعطيهم انطباعاً واضحاً أنهم فريق واحد يتجهون إلى قبلة واحدة، فنحن وهم نعبد إلهاً واحداً، ونؤمن بالأنبياء السابقين جميعاً.

بقيت جزئية واحدة فقط، وهي أن اليهود يؤمنون برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو مذكور عندهم في الكتب المقدسة لاسيما التوراة والإنجيل، وعندهم علامات وبشارات كثيرة تؤكد أنه هو النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم.

الأمر الثاني: صيام يوم عاشوراً.

لما دخل الرسول عليه الصلاة والسلام المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه، فقال صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه صلى الله عليه وسلم، وأمر المسلمين بصيامه).

فالمسلمون واليهود يصومون يوماً واحداً في السنة، وهذا اليوم فيه تعظيم لموسى عليه السلام، بل وتقليد له، فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو النبي الخاتم وأتباعه المؤمنون يقلدون موسى عليه السلام في صيامه لهذا اليوم الذي نجاه الله عز وجل فيه، فكل هذا تقريب للقلوب، ومحاولة لاكتساب قلوب اليهود، فنحن لسنا أعداء لليهود، فكلنا نعبد إلهاً واحداً.

قصة إسلام عبد الله بن سلام وموقف يهود بني قينقاع من إسلامه

بدأ صلى الله عليه وسلم في دعوته لليهود، وجمع اليهود مرة ومرتين وثلاثاً، كان يجمع القبائل بعضها مع بعض أحياناً، وأحياناً يخاطب الأفراد صلى الله عليه وسلم.

وجاء إليه أناس من بني قينقاع ومن بني النضير ومن بني قريظة، وأول من جاء إليه عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه، كان اسمه الحصين بن سلام رضي الله عنه قبل أن يسلم، وسماه الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله وهو من بني قينقاع، لما سمع بقدوم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة أراد أن يختبره ليعرف أهو الرسول المذكور في التوراة أو غيره؟ فذهب إليه وقال له: (إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه؟ ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أول أشراط الساعة: فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الشبه في الولد، فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبقت كان الشبه لها، قال: أشهد أنك رسول الله، ثم قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، فإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك) يعني: يكذبونني، يقولون: أنت تقول كلاماً ليس موجوداً في التوراة، (فجاءت اليهود، ودخل عبد الله البيت -يعني: اختبأ داخل البيت- فقال صلى الله عليه وسلم: أي رجل فيكم عبد الله بن سلام ؟ قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا، وأخيرنا وابن أخيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال صلى الله عليه وسلم: أفرأيتم إن أسلم عبد الله ؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك، فأعاد عليهم ذلك مراراً، فقالوا مثل ذلك. قال: فخرج عبد الله إليهم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقال اليهود: شرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه).

وفي رواية: (أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه قال لهم: يا معشر اليهود! اتقوا الله، فوالذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله جاء بحق، قالوا: كذبت، فأخرجهم صلى الله عليه وسلم).

وهنا وضحت الرؤية تماماً أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، فاليهود كلهم يعرفون تمام المعرفة أنه رسول، ومع ذلك ينكرون.

أسلم عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه، وأسلم بعد ذلك مجموعة قليلة جداً من اليهود، أما عموم اليهود فقد ظلوا على كفرهم. هذا كان موقف بني قينقاع.

موقف بني النضير وبني قريظة من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم

كان من بني النضير حيي بن أخطب وهو مشهور، وأخوه أبو ياسر بن أخطب ، وبنو النضير قبيلة قوية جداً، فيها الكثير من أشراف اليهود، منهم: سلام بن أبي الحقيق وسلام بن مشكم ، وكعب بن الأشرف .

تحكي أم المؤمنين السيدة صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها وأرضاها قصة قدوم حيي بن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقول: إن حيي بن أخطب وعمها أبا ياسر بن أخطب ذهبا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام في الصباح. تقول: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، قالت: فأتيا كالين -كسلانين- يمشيان الهوينا، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب : أهو هو؟ أي: يا ترى أهو الرسول الذي جاء في التوراة؟ قال: نعم. والله هو، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم. قال: فما في نفسك منه، قال: عداوته -والله- ما بقيت. سبحان الله! وفوق ذلك يحلف ويقول: عداوته -والله- ما بقيت.

بذلك وضح حيي بن أخطب منهج اليهود في التعامل مع الدين الإسلامي الجديد، وهو المنهج الذي ظل سارياً عند اليهود إلى يومنا هذا إلا من رحم الله تعالى.

وهكذا فإن بني النضير بكاملهم لم يسلم منهم واحد.

كذلك بنو قريظة لم يسلم منهم أحد، وهذا موقف عجيب جداً يحتاج إلى وقفة وتحليل ودراسة لطبيعة هؤلاء البشر الذين يتعاملون مع رسول يعلمون أنه رسول بهذه الصورة، لكنك عندما تراجع قصتهم مع سيدنا موسى عليه السلام، فإنك تستطيع أن تفهم لماذا عملوا هكذا مع رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.

المعاهدة النبوية مع اليهود وأسبابها

رفض اليهود جميعاً الإسلام تقريباً؛ لذلك قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوم بمعاهدة بين المسلمين واليهود.

ومن المهم جداً أن ندرس ظروف هذه المعاهدة وبنودها؛ لكي نستطيع أن نقارن بين واقعنا الذي نعيشه الآن، وبين ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

عقد الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المعاهدة وحافظ عليها، وفي نفس الوقت هو الذي أجلى بني قينقاع، ثم بني النضير، وهو الذي قتل بعد ذلك رجال بني قريظة، ولنا فيه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في كل خطوات حياته.

فلابد أن نعرف متى عاهد؟ ومتى حارب؟ ومتى قبل من اليهود بعض البنود في المعاهدة؟ ومتى لم يقبل منهم أن يمكثوا في المدينة المنورة يوماً واحداً؟ هذه أمور تحتاج منا إلى بحث دقيق.

قد يكون في قرارة نفس واحد منا غيظ وحقد كبيرين على اليهود؛ لأنهم علموا أنه الرسول الحق، ومع ذلك لم يتبعوه، والدين الإسلامي والشرع الإسلامي لا يظلم الناس شيئاً، فليس معنى قيام دولة إسلامية أن تهضم حقوق أهل الكتاب، والعلاقة بين المسلمين وبين أهل الكتاب واضحة جداً في كتاب ربنا سبحانه وتعالى، لخصها الله عز وجل في سورة الممتحنة، قال سبحانه وتعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة:8-9].

فالإسلام قفزة حضارية هائلة، فالعالم اليوم بالكاد يتحدث عن قبول الآخر وعن الاعتراف به وسماعه، لكن الإسلام يتجاوز هذه المسألة إلى ما هو أعظم منها، العالم الآن قد أصبح في طفولة حضارية، والإسلام منذ (1400) سنة نزل بما هو أعظم وأعلى وأسمى من ذلك، نزل بالإحسان إلى الأخ والبر به والعدل معه والرحمة به وهكذا.

فليس معناه أن الرسول عليه الصلاة والسلام يكره أهل الكتاب على الدخول في الإسلام، مع أنه كان يتفطر حزناً صلى الله عليه وسلم على يهودي أو نصراني يموت على غير الإسلام، ومع ذلك لا يستطيع أن يكرهه؛ لأن هذا ليس من شرعنا، قال تعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256].

فالرسول صلى الله عليه وسلم قرر أن يعقد معاهدة مع اليهود، واعلم أن فرصة الدعوة ما زالت موجودة، فلم يكن هناك تاريخ عدائي يذكر بين المسلمين واليهود وقتئذ، نعم، هم كذّبوا الآن، ولكن قد يفتح الله عز وجل قلوبهم إن شاء الله في المستقبل، والرسول عليه الصلاة والسلام ما كان ييئس مطلقاً من دعوة إنسان، فقرر أن يعمل معهم معاهدة.

بنود المعاهدة النبوية مع اليهود

إن بنود المعاهدة مع اليهود تستخلص منها قواعد المعاهدات في الإسلام، وأصوله، وهذه المعاهدة بهذا الوصف توضح مدى التجني على السيرة النبوية، الذي قام به من شبّه المعاهدات الحديثة في زماننا مع اليهود بالمعاهدة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود في زمانه، وشتان بين المعاهدتين.

تعالوا بنا لنرى بنود معاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم:

أولاً: أن اليهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وهذا البند يوضح لنا حقيقة كبرى، قال تعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256] فللمسلمين دين ولليهود دين، وفي هذه المعاهدة تعريف كل اليهود الموجودين في داخل المدينة المنورة بأسماء قبائلهم، يعني: يهود بني النجار، يهود بني حارثة، يهود بني ساعدة، يهود بني عوف .. وهكذا.

ثانياً: أن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم. أي: الذمة المالية لهم محفوظة تماماً من قبل زعيم الدولة في ذلك الوقت صلى الله عليه وسلم، فليس معنى أننا عاهدناهم، وأن الزعامة في الدولة والرئاسة في الدولة للمسلمين أن يؤخذ حقهم، أو أن تؤخذ ممتلكات لهم، بل لهم حرية التملك ما داموا في عهدهم مع المسلمين في داخل الدولة الإسلامية.

وفي نفس الوقت فيها نوع من تميز المسلمين عنهم، فلا تعني هذه المعاهدة أن الأمور ستتميع، ويصبح الاقتصاد الإسلامي ممزوجاً بالاقتصاد اليهودي، لا، ليس للمسلمين دخل بحياتهم، بل لهم حياتهم المستقلة التي يعتزون بها.

ويدخل الرسول صلى الله عليه وسلم في المعاهدة هذا البند؛ لأن الاقتصاد في تلك اللحظة كان معظمه في أيدي اليهود.

ثالثاً: أنه في وقت الحرب يتغير هذا الأمر، فإذا حدث حرب أو حصار على المدينة المنورة، فالجميع بحق المواطنة يدافع عن المدينة المنورة، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب. أي: ما دام المسلمون واليهود يعيشون في بلدة واحدة، لزم الجميع الدفاع عن البلد إذا حصل غزو خارجي.

رابعاً: أن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين أي: إذا حصل حرب تجتمع النفقة من الطرفين للدفاع عن البلد. وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأن النصر للمظلوم، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.

كلها أمور تحفظ لليهود شأنهم في داخل الدولة التي يتزعمها محمد صلى الله عليه وسلم.

خامساً: هناك بند خطير جداً وفي منتهى القوة: يقول صلى الله عليه وسلم: (وأنه لا تجار قريش ولا من ناصرها) وهذا بند خطير.

فهذه المعاهدة مكتوبة، وقع عليها الرسول عليه الصلاة والسلام ووقع عليها اليهود، وهو أنه إذا دهم يثرب أي عدو فعلى الجميع أن يتعاون في صده، حتى ولو كان هذا العدو قريشاً، ولم يكن بين قريش واليهود خلافات قبل ذلك، بل كانت العلاقات الدبلوماسية بينهم جيدة.

فاليهود بهذه المعاهدة قرروا أن يقاطعوا قريشاً؛ لأنهم يتوقعون أن قريشاً تهجم على المدينة المنورة، لكن لمعرفة الرسول عليه الصلاة والسلام أن اليهود أهل خداع ومكر وغدر وخيانة، صرح في المعاهدة باسم قريش؛ لئلا تقول اليهود في يوم من الأيام: إن قريشاً مستثناة من هذه المعاهدة، واعلم أن أي معاهدة مع اليهود لابد أن تكون كل كلمة فيها مكتوبة بمنتهى الوضوح، فقوله: (وأنه لا تجار قريش ومن ناصرها)، يعني: إذا هجمت قريش على المدينة فعلى اليهود أن يساعدوا المسلمين في حربهم لا قريشاً في حربها ضد المسلمين، وسنرى مخالفة اليهود لهذا البند في بني قريظة، ونفهم من خلفيات غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني قريظة، عندما عاونت قريشاً على المسلمين في يوم الأحزاب، فنحن نلاحظ أن هناك قوة وصلابة في المعاهدة من طرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كان يملي الشروط على اليهود.

سادساً: قال صلى الله عليه وسلم: (وألا يخرج من اليهود أحد إلا بإذنه صلى الله عليه وسلم)، وهذا مثل نظام الجوازات في الوقت الحاضر، لا أحد يغادر الدولة إلا بإذن من السلطة نفسها، فليس لقبائل اليهود في داخل المدينة المنورة أن يخرجوا لحرب أو سفر أو لأمر من الأمور إلا بإذن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم قد يشعلون نار الفتن خارج المدينة؛ فتجر هذه الفتن الويلات على المدينة المنورة بما فيها من اليهود والمسلمين.

إذاً: تأشيرة الخروج والسماح بالسفر كانت في يد الرسول صلى الله عليه وسلم، وانظر إلى الفرق الرهيب بين هذه المعاهدة وبين المعاهدات التي عقدت في فلسطين مع اليهود.

سابعاً: أهم بنود هذه المعاهدة: قوله صلى الله عليه وسلم: (وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو شجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم).

لو حصل خلاف بين المسلم وأخيه، أو حصل خلاف بين المسلمين واليهود، فالحكم لله عز وجل ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فانظر يا أخي المسلم إلى مدى القوة، ومدى النصر والبأس الذي حققه صلى الله عليه وسلم بهذه المعاهدة، أبعد هذا كله يشبهون المعاهدات الحديثة بهذه المعاهدة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود؟!

الفوائد التي نتعلمها من المعاهدة النبوية مع اليهود

نتعلم من هذه المعاهدة أن الإسلام دين ينظم كل أمور الحياة، فها هو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي علم المسلمين الصلاة والصيام والقيام والقرآن وبناء المساجد يقف بكل صلابة ورجولة وقوة وحكمة وسياسية بارعة، ويعقد مع اليهود معاهدة كانت يد الله عز وجل فيها هي العليا، وقد حصل المسلمون من هذه المعاهدة اتقاء شر اليهود، والتعاون على البر وليس على الإثم، والاعتراف من قبل اليهود بدولة المسلمين الناشئة، وهي مع ذلك لها احترام وعزة ورأي.

كما أن هذه المعاهدة فيها تخذيل قوة اليهود عن معاونة قريش، وهذا نجاح كبير جداً، فها هو الرسول عليه الصلاة والسلام فصل بين الحزبين: حزب قريش وحزب اليهود، وأي مخالفة بعد ذلك سيدفع اليهود ثمنها، والحكم والمرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

قبل اليهود ولهم من العمر مئات السنين في داخل يثرب بزعامة الرسول صلى الله عليه وسلم على المدينة المنورة، فأي فضل وخير وعظمة ونصر وتمكين في هذه المعاهدة التي تمت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين اليهود؟!

الفرق بين المعاهدة النبوية مع اليهود والمعاهدات الحديثة معهم

البون شاسع بين المعاهدة النبوية مع اليهود والمعاهدات الحديثة التي يروق لبعض المسلمين أن يشبهوها بمعاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم معهم، ففي معاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود لم يخالف شرع الله عز وجل، ولم يقدم تنازلاً واحداً مخلاً بالدين، وقد بيّنا أن أهم شرط في العهود مع أهل الكتاب: ألا ينقض أمر من أمور الدين، وعندما أقر العدو على امتلاكه لأرض من أراضي المسلمين فإن هذا إخلال واضح بالدين، وهذا الإخلال قد حصل في كثير من المعاهدات مع اليهود في زماننا هذا، وهو إخلال واضح في الشرع لا يقبل أبداً في معاهدة إسلامية.

ومن مخالفة الشرع أن يعقد الصلح في وقت تعين الجهاد، إذ لا تجوز المعاهدة في وقت تعين الجهاد؛ لأن من الأسباب التي تجعل الجهاد فرض عين نزول العدو في الأرض الإسلامية، كنزول اليهود في أرض فلسطين الآن.

من مخالفة الشرع أيضاً: الإقرار بالظلم، ومعاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم فيها: أن النصر للمظلوم، فلا يجوز عقد معاهدة يكون من جرائها أن يزج في السجون آلاف من المجاهدين، أو يكون من جرائها إقصاء عدد هائل من المجاهدين عن الأرض الإسلامية، أو يكون من جرائها مصادرة الديار والأموال والأراضي.. وما إلى ذلك.

في معاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم: أن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، واليهود في هذا الوقت ظلموا كل الجيران الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين والمصريين.

إذاً: فهذه كلها مخالفات شرعية لا تجوز في معاهداتنا مع اليهود وغيرهم.

في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وفي عهده كان الخروج من المدينة لا يتم إلا بإذنه، لكن الآن لا يخرج أحد من الفلسطينيين من فلسطين إلا بإذن من اليهود.

أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم العهد على اليهود ألا يجيروا قريشًا القوة الأولى في الجزيرة في ذلك الوقت، لكن هل أمن المسلمون شر أعدائهم بهذه المعاهدات الحديثة؟ هل اشترط المسلمون على اليهود ألا يعاونوا عدواً يضرب بلداً من بلدان المسلمين؟ هل اشترطوا عليهم ألا يعاونوا أمريكا مثلاً في ضرب العراق أو سوريا أو إيران أو السودان .. أو غيرها من بلاد العالم الإسلامي؟ كل هذا لم يحدث، لكن أهم ما في الأمر أنه عند الاختلاف من يحكم بيننا؟ في معاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم كان الحكم هو الله عز وجل ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وهذا مصرح به في المعاهدة، ووقع عليه اليهود، أما الآن فالمرد إلى الأمم المتحدة، أو قل: إلى أمريكا، ثم بعد ذلك من أعطى فلسطين لليهود؟ إنها الأمم المتحدة، هي التي أنشأت قرار التقسيم وأعطت جزءًا كبيراً جداً من فلسطين لليهود، وبعد ذلك أعطتها لهم كلها.

فالواقع يا إخواني! أن المعاهدات في العصر الحديث مختلفة اختلافاً بيناً حقيقيًا عن المعاهدة التي عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا وجه للمقارنة أبداً.

أسباب موافقة اليهود على المعاهدة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم

نقف وقفة مع موافقة اليهود على هذه البنود التي في المعاهدة، مع أنهم قوة لا يستهان بها، فاليهود أعداد كبيرة، ولديهم سلاح وقلاع واستقرار وتاريخ ومال، وأشياء كثيرة جداً وقوية، والدولة الإسلامية ما زالت في طور الإنشاء ولم يعترف بها أحد بعد، فلماذا قبل اليهود بهذه الدنية في هذه المعاهدة؟ ولماذا سلموا رقابهم هكذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين مع قوتهم؟

أولاً: من طبيعة اليهود الجبن الشديد، والله سبحانه وتعالى ذكر ذلك في أكثر من موضع في كتابه الكريم: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الحشر:13].

وقال: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة:96].

فالجبن الشديد شيء داخلي فطري في اليهود، وهذا لابد من معرفته جيداً في تعاملنا مع اليهود.

ثانياً: لو أن هذا الجبن الشديد قوبل بجبن أكبر، فإن الكفة ستكون في صالح اليهود، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقف في صلابة وقوة وبأس واضح، والمؤمنون معه على قلب رجل واحد، وما ذلك إلا لوحدتهم.

فالقوة التي وقف بها الرسول عليه الصلاة والسلام هو الثبات على المبدأ، وتسابق الصحابة بشتى طوائفهم أوس وخزرج ومهاجرين من مكة المكرمة .. وغيرهم، وكل هؤلاء يسمعون ويطيعون لقائد واحد بمنهج واحد، وكل هذا كان له أثر كبير في إيقاع الرهبة في قلوب اليهود.

ثالثاً: الفرقة الشديدة بين فرق اليهود، فنحن نتكلم على اليهود وكأنهم فريق واحد، لكن بني قينقاع غير بني النضير وغير بني قريظة وكل فرقة لها مع الفرقة الأخرى عداوات، قال الله في كتابه: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ [الحشر:14]، وفي ظاهر الأمر تظن أن دولة اليهود موحدة، لكن الله يقول: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [الحشر:14].

فبنو قريظة كانت تحالف الأوس، وبنو قينقاع وبنو النضير كانا يحالفان الخزرج، وعندما تقوم حرب بين الأوس والخزرج تقوم حرب بين بني قريظة وبين بني قينقاع وبني النضير .. وهكذا.

إذاً: بينهم شقاق وخلاف كبير جداً، والرسول عليه الصلاة والسلام يعلم ذلك الأمر، وقال هذه الكلمات في معاهدته بقوة، وهو يعلم أن اليهود لن يجتمعوا أبداً على قلب رجل واحد بنص كلام رب العالمين سبحانه وتعالى.

رابعاً: المصالح، فاليهود قبلوا بهذه التنازلات حفاظاً على مصالحهم، هم لا يريدون الدخول في مواجهة مع الأوس والخزرج؛ وذلك لأن الأوس والخزرج هم الذين يشترون منهم ما يبيعونه، فلو حصل حرب مع الأوس والخزرج ضاعت التجارة اليهودية، والتجارة والمال هما عصب حياة اليهود، فهم يحرفون الكتاب ويخونون العهود ويغيرون المواثيق من أجل حفنة من المال، والله عز وجل يقول عنهم في كتابه: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [النساء:161].

خامساً: الرهبة والجلال الذي يقع في قلوب الكافرين عند لقاء المؤمنين، وهذا شيء ليس له أدلة في يدك، بل هو شيء رباني وجندي من جنود الرحمن، قال الله عز وجل: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الحشر:2]، بدون أي مبررات مادية يقع الرعب في قلوب الكافرين عند لقاء المؤمنين، بشرط أن يتحقق الإيمان في قلوب المؤمنين، فالله عز وجل وعد أن ينصر من نصره: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].

وقال صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، قبل أن يلتقي الرسول عليه الصلاة والسلام مع عدوه بشهر يكون العدو مرعوباً، مع أن الفارق في القوة كبير جداً، وهو لصالح العدو، هناك فارق في القوى المادية والأعداد والعتاد والحصون والقلاع والتاريخ والسلاح، أمور كثيرة في صالح العدو، ومع ذلك يقع الرعب في قلوبهم؛ لأن الله عز وجل هو الذي يضعه في قلوبهم: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الأحزاب:26].

إذاً: لهذه الأسباب جلس اليهود على طاولة المفاوضات مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ودب الرعب في قلوبهم، وقبلوا بهذه البنود.

في أزمان أخرى إذا رأيت بأس اليهود وقوتهم على المسلمين فاعلم أن المسلمين خالفوا شرع ربهم سبحانه وتعالى؛ ولذلك هانوا على الله عز وجل، فهانوا بعد ذلك على اليهود وعلى غيرهم من الناس، تجد خمسة ملايين يهودي يملون قراراتهم على مليار وأكثر من المسلمين، وهذا ميزان مقلوب, وليس هذا لقوة اليهود، وإنما هو لضعف المسلمين، فلابد أن يعود المسلمون إلى دينهم؛ ليحكموا حكماً صحيحاً في ضوء الشرع الحكيم.

موقف اليهود بعد عقد النبي صلى الله عليه وسلم المعاهدة معهم

هناك شيء مهم في موضوع المعاهدات: وهو أنه لابد للحق من قوة تحميه، فإذا كنت معاهداً لليهود فلابد أن تكون لك قوة تحميك، ليس من الحكمة مطلقاً أن تعاهد اليهود دون أن يكون لك قوة مخوفة لليهود، حتى ولو كانت كل البنود شرعية؛ لأن من طبيعتهم التمرد والمخالفة ونقض العهود، فإذا لم يكن معك قوة فما أيسر المخالفة عندهم، وانظر إلى قول الله عز وجل: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:100].

فلو افترضنا أن اليهود خالفوا مخالفة صريحة للمعاهدة ماذا ستعمل؟ هل ستكتفي بالشجب والإدانة والصراخ والولولة ولطم الخدود؟ لا؛ لأن هذا كله لا ينفع مع موازين القوى العالمية.

إذاً: المعاهدات مع اليهود تحتاج إلى رجولة، وتحتاج إلى قوة وشجاعة، فلابد أن ترجع إلى معاهدة الرسول عليه الصلاة والسلام ماذا فعل؟ ولابد أن تعرف إذا خالف اليهود ماذا تفعل؟ وكيف تتصرف؟

فماذا فعل اليهود بعد هذه المعاهدة؟ مع وفاء المسلمين بالعهد إلا أن اليهود بدءوا يتحرشون بالمسلمين، وكعادة اليهود يتحرشون دائماً بالمسلمين بصورة غير مباشرة، أي: يدفعون غيرهم للعمل دون أن يكون لهم ظهور واضح في الأمر.

تأثير اليهود فكرياً على المسلمين والمشركين في المدينة

أولاً: التأثير الفكري على المسلمين وعلى مشركي المدينة، فهناك أناس يفكرون في الإسلام ويريدون أن يدخلوا فيه، فبدأ اليهود في إثارة الشبهات، كما هو معروف الآن بالإعلام اليهودي، فالإعلام اليهودي في هذا الوقت الحاضر أداة من أكبر أدوات الحرب لديهم.

كذلك نفس هذا النظام كان يعمل أيام الرسول عليه الصلاة والسلام، على سبيل المثال: يعلنون أمام الأنصار أن هذا ليس هو الرسول الذي في كتبهم، ولسان حالهم: نحن أدرى بكتبنا، كان معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه في حوار مع اليهود. قال لهم: يا معشر يهود! اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم. يعني: كانوا يقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث الله عز وجل رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم كفروا به كما رأينا، فـمعاذ بن جبل يقول لهم متعجباً: كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته، فما الذي غيركم؟ فقال رجل من أشراف بني النضير اسمه سلام بن مشكم : ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله عز وجل قوله سبحانه وتعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89].

الشيء الآخر في التأثير الفكري: أنهم فكروا في خطة في منتهى الخبث، فكروا أن يؤمنوا قليلاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يتركوه ويقولوا: لما دخلنا معه وجدنا أنه على باطل؛ فيهتز المسلم الجديد ويتردد الذي يفكر في الإسلام.

وقال الله عز وجل في ذلك: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72].

ثم إنهم بدءوا يكذبون القرآن الكريم، على سبيل المثال: القرآن الكريم ذكر أن الجنة للمؤمنين، وأن النار لمن كذب وكفر، قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6].

فاليهود يقولون: نحن سندخل النار فترة محدودة جداً من الزمن قيل في بعض الروايات: سبعة أيام، وفي بعض الروايات: أربعين يوماً وبعد ذلك نخرج من النار، ويدخل الله عز وجل المسلمين النار أبد الآبدين، فأنزل الله عز وجل قوله: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة:80]، ودعاهم صلى الله عليه وسلم إلى تمني الموت، فيموت أكذب الفريقين، فرفضوا ذلك. قال ابن عباس : لو تمنى اليهود الموت لماتوا.

وقال الله عز وجل في ذلك: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:94-95].

فهم يعلمون أنهم إذا تمنوا الموت أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليعرف من هو أكذب الفريقين فإنهم هم الذين سيموتون؛ لأنهم يعلمون أنهم هم الأكذب؛ ولذلك لم يفعلوا.

وقس على هذا الأمر أحداثاً كثيرة؛ حتى إنهم في النهاية أنكروا نبوة سليمان عليه السلام، وذلك لأن الله عز وجل ذكر في كتابه أنه نبي، فأنكروا نبوته واتهموه بالسحر، وطعنوا في أنبيائهم للطعن في القرآن الكريم، والآيات التي نزلت في ذلك كثيرة، وليس المجال للتفصيل فيها.

إذاً: من أهم وسائل حرب اليهود للمسلمين هو التأثير الفكري عن طريق الحرب الإعلامية التي فعلوها، وإثارة الشبهات عند المسلمين، أو عند من يفكر في الإسلام.

تأثير اليهود الاقتصادي على أهل المدينة

ثانياً: التأثير الاقتصادي، فقد ذهبوا إلى الأنصار الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمروهم ألا ينفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل في ذلك: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:37] أي: يكتمون التوراة، فهم يبخلون بالمال، ويأمرون الأنصار بالبخل بمالهم، وبذلك يؤثرون سلباً على اقتصاد المسلمين.

محاولة اليهود التفرقة بين المسلمين من الأنصار في المدينة

ثالثاً: محاولة التفرقة بين الصف المسلم، وفك الرباط القوي الذي صنعه صلى الله عليه وسلم بين الأوس والخزرج، وقام بهذه المحاولة رجل يهودي كبير في السن اسمه شاس بن قيس . قال كلمة هي في الحقيقة حكمة، قال: يا معشر يهود! تعلمون والله أنه لا مقام لكم في يثرب إذا اجتمع أبناء قيلة. وأبناء قيلة: هم الأوس والخزرج؛ وذلك لأنه لو حصل هذا الاجتماع فإنه ستتوطد قوة الرسول عليه الصلاة والسلام داخل المدينة المنورة، وفي هذا إيذاء لليهود، فهم يكرهون الرسول عليه الصلاة والسلام.

كذلك اليهود تجار سلاح، وكانوا يربحون أموالاً طائلة من الحرب بين الأوس والخزرج.

فالرسول صلى الله عليه وسلم وحد الأوس والخزرج الآن، فلا يوجد هناك حرب، وستضيع قوة كبيرة جداً من القوى الاقتصادية عند اليهود، وهي قوة تجارة السلاح، فبعث شاس بن قيس شاباً وقال له: اجلس في مجلس فيه الأوس والخزرج واذكر يوم بعاث، وذكرهم بأشعار يوم بعاث، فتتحرك فيهم النخوة والحمية والقبلية والجاهلية فيصطرع القومان، وبالفعل ذهب ذلك الشاب وعمل هذا العمل، وجلس يقول تلك الأشعار بجانب هذا وهذا، ودخل الشيطان بين الأوس والخزرج، مع أنهم من عمالقة الإيمان حقيقة، لكن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق، وقام واحد من الأوس وواحد من الخزرج فتصارعا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها جذعة، أي: نرجع مرة أخرى إلى يوم بعاث ونجعلها حرباً جديدة، فغضب الفريقان جميعاً الأوس والخزرج، وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة -مكان يدعى الحرة الآن- السلاح السلاح، فخرجوا إلى الحرة في لحظة من لحظات الضعف التي دخل فيها الشيطان فيها إلى قلوب الأوس والخزرج، وكادت أن تقوم مهلكة عظيمة بين الفريقين.

كان الرسول عليه الصلاة والسلام جالساً وسط مجموعة من المهاجرين، فلما وصله النبأ الخطير قام مسرعاً يجر ثوبه حتى وصل إلى الأنصار وقال كلمات تختلف تماماً عن الكلمات التي قالها الرسول عليه الصلاة والسلام في حل المشكلة القديمة التي دارت قبل ذلك بين مشركي الأوس والخزرج ومؤمني الأوس والخزرج، والتي هيج هذه المشكلة عبد الله بن أبي ابن سلول .

ففي الحدث السابق ذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقبلية، وذكرهم بالتحدي لقريش، لكن في هذا الحدث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر المسلمين! الله الله) ذكرهم برابطة الإسلام وذكرهم بالله عز وجل: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟)، علمهم أن دعوى الفرقة بين المسلمين دعوى الجاهلية، هكذا عرفها صلى الله عليه وسلم، فدعوى القومية: أنا أوسي وأنت خزرجي من دعوى الجاهلية، ثم قال: (بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع عنكم الجاهلية واستنقذكم بها من الكفر، وألف بين قلوبكم؟) فالحوار مختلف تماماً، يذكرهم برب العالمين سبحانه وتعالى، ويذكرهم بالإسلام، يذكرهم بقال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن نوعية المخاطب مختلفة، وشتان بين الخطاب لمجموعة مختلطة من المشركين مع المؤمنين، والخطاب لمجموعة خالصة من المؤمنين.

وعرف القوم أنها نزغة من نزغات الشيطان، وكيد من أعدائهم، فبكوا في لحظتهم وتأثروا جميعاً في لحظة واحدة، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، كأنه لم يحصل شيء.

مرت المشكلة بسلام، ولم يحدث أذى في داخل الصف المسلم، لكن ظهرت خطورة اليهود على المسلمين، وأنزل الله عز وجل في شاس بن قيس قوله سبحانه وتعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [آل عمران:98-99].

وأنزل سبحانه وتعالى أيضاً قولاً في الأوس والخزرج. قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:100-101].

وتتوالى الآيات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:102-103].

فهذه محاولات مستمرة من اليهود للتفريق بين المسلمين، ولحصار المسلمين اقتصادياً، ولتشكيكهم في دينهم، وكل هذه محاولات مكثفة متكررة، ومع ذلك كان رد فعل المسلمين هو كظم الغيظ، ومحاولة تجنب الصدام قدر المستطاع، حيث نزل التوجيه الرباني للمسلمين بذلك، قال سبحانه وتعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:109] فنحن نرى هنا مخالفة واضحة من اليهود، وهذه المخالفة لم تصل إلى درجة القتال والإخراج من الدين، ولم تصل إلى درجة مظاهرة الكفار على إخراج المسلمين من ديارهم؛ لذلك كان المطلوب من الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت أن يعفو ويصفح، ويصل بدعوته إلى اليهود، وإلى أولئك المكذبين الجاحدين، فاستمرت الدعوة الإسلامية إليهم، واستمرت محاولات تجنب الصدام بين المسلمين.

وفي نفس الوقت كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعرف أن قوة المسلمين ما زالت في طور الإنشاء، وقوة اليهود كبيرة، ولعل الدخول في معركة مع اليهود في ذلك الوقت ليس في مصلحة الأمة الإسلامية، فكان الصبر هو الحل.

اتهام فنحاص ربنا عز وجل بالفقر ورد ابي بكر الصديق عليه

إن الصبر والحكمة من الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته شجع اليهود على تجاوزات أكبر، من ذلك ما حدث عندما دخل الصديق رضي الله عنه وأرضاه بيت المدراس، وهو بيت كبير يعلم فيه اليهود التوراة، ويقوم فيه بالتعليم حبر من أحبار اليهود اسمه فنحاص ، ومعه آخر يساعده اسمه أشيع ، فدخل أبو بكر على اليهود وهم يعلمون التوراة بطريقتهم، بتحريفها وتزويرها وتبديلها، وبإنكار نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما دخل الصديق وسمع هذا الكلام قال لـفنحاص ومن معه: يا فنحاص ! اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة، فقال فنحاص لـأبي بكر : والله يا أبا بكر ! ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير! -أعوذ بالله يعني: لسنا محتاجين إليه وإنما هو الذي يحتاج إلينا- وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا! وإنا عنه لأغنياء، وما هو عنا بغني، ولو كان عنا غنياً ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطينا، ولو كان عنا غنياً ما أعطانا الربا. تخيل معنى الكلمات، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245]، فهو يقول: إن هذا نوع من الربا، ألست تعطي الله أموالاً وهو يضاعفها لك، فهذا ربا، فكيف ينهى عن الربا ويأخذه؟ فانظروا إلى مدى اعوجاج هذا الخبيث، هذا هو فنحاص ، كلام يعبر عن نفسية ممزقة تماماً، هي نفسية فنحاص ومن كانوا على دينه.

لم يجد أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه كلاماً يرد به عليه، فرد بيديه وضرب فنحاص ضرباً شديداً في وجهه حتى اختفت معالم وجهه، وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي له الموقف، وكان تصرف أبي بكر على غير ما اتفق عليه المسلمون، إذ كان المسلمون مأمورين بالعفو والصفح وعدم الإيذاء.

فجاء فنحاص يشتكي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ما فعله أبو بكر به، وقال له: انظر ما صنع بي صاحبك، فقال صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر الصديق : (ما حملك على ما صنعت؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله! إن عدو الله هذا قال قولاً عظيماً، إنه زعم أن الله فقير وأنهم أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، وضربت وجهه، فأنكر فنحاص وقال: ما قلت ذلك، فأنزل الله عز وجل: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [آل عمران:181]).

وهكذا أنزل الله آيات تصدق قول الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وكشفت ما قاله فنحاص عليه لعنة الله، وأنزل الله عز وجل في حق الصديق رضي الله عنه وأرضاه قوله: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:186] مع أن الغضب هنا كان لله عز وجل وليس للناس، ومع أن العقاب الذي فعله الصديق يعتبر مناسباً للحدث؛ لأنه اعتبر أن الدفاع الذي فعله كان مناسباً للجريمة التي فعلها فنحاص ؛ لأن فنحاص سب الله عز وجل سباً وقحاً وجرح دين المسلمين، وهذا مخالف للعهد، وكان الصديق يستطيع قتل فنحاص ، فقد قال لـفنحاص كما في إحدى الروايات: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت رأسك يا عدو الله! فاكتفى الصديق بهذا الأمر.

إذاً: مع كل هذا إلا أن الله عز وجل أمر المسلمين بالتعقل والصبر، حتى وإن كانت الجريمة قد تمت؛ لأن الدخول في حرب في هذا التوقيت لعله يفتح على المسلمين أبواباً كبيرة من الفتن، ولعله يؤدي إلى تداعيات لا يتحملها موقف المسلمين في هذه اللحظة.

فيا ترى! هل سيستمر رد فعل المسلمين على كل هذا الإيذاء والتعدي على حرمات رب العالمين سبحانه وتعالى، بمجرد الصبر وتحمل الأذى، وعدم الدخول في صدامات أو صراعات؟ لا شك أن هذه مرحلة، وأن المسلمين بتغير الظروف سيغيرون هذه المرحلة، وستتغير التكليفات التي عليهم.

وسنرى إن شاء الله في اللقاءات القادمة كيف تغيرت الظروف، وأدت إلى تغيرات إستراتيجية كبرى في رد فعل المسلمين لأي إيذاء يقع على الأمة الإسلامية.

إن كل ما قلناه عن العهد المدني من السيرة النبوية إلى الآن كان في ستة شهور، أما الآن فالمدينة المنورة تتوقع هجوماً من قريش، تعاوناً منهم مع المشركين في داخل المدينة المنورة، وتتوقع تعاوناً من قريش مع اليهود الذين كذبوا ورفضوا الدخول في الإيمان، وتتوقع هجوماً من الأعراب، وكل هذه ظروف قد تحدث بين يوم وليلة، فيا ترى! ماذا سيكون رد فعل المسلمين، مع أن القاعدة التي تحكم تعاملات المسلمين مع المشركين بشتى أنواعهم هي: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ؟

فكيف سيعرض المسلمون عن المشركين مع هذا الإيذاء المستمر؟ وهل ستتغير القاعدة ويصبح هناك صدام ولقاء وحرب وقتال؟هذا ما سنعرفه إن شاء الله في اللقاء القادم.

أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة السيرة النبوية اليهود والدولة الإسلامية للشيخ : راغب السرجاني

https://audio.islamweb.net