اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة السيرة النبوية يوم بدر للشيخ : راغب السرجاني
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فمع الدرس السابع من دروس السيرة النبوية في العهد المدني.
تحدثنا في الدرس السابق عن مقدمات الغزوة العظيمة غزوة بدر، وذكرنا فروقاً هائلة بين صفات الجيش الذي ينصره رب العالمين سبحانه وتعالى، والجيش الذي يفتقر إلى أي تأييد، الجيش المنصور جيش مؤمن بالله، ويعمل لله عز وجل بكل ذرة في كيانه، والجيش المهزوم جيش كافر أو فاسق أو منافق أو عاص لا يعمل إلا لمصالحه الذاتية ولأهوائه الشخصية، لا يهمه إلا صورته أمام الناس.
الجيش المنصور جيش متفائل يوقن بنصر الله عز وجل له، والجيش المهزوم جيش محبط فاقد للأمل.
الجيش المنصور جيش حاسم غير متردد، والجيش المهزوم جيش متردد جبان لا يقوى على أخذ قرار.
الجيش المنصور يطبق الشورى فيما لا نص فيه، والجيش المهزوم جيش يطبق الديكتاتورية ليس فيه إلا رأي الزعيم فقط، ولا ينظر مطلقاً إلى آراء الشعب.
كانت صفات الجيش المنصور موجودة بكاملها في جيش المدينة المؤمن، وكانت صفات الجيش المهزوم موجودة بكاملها في جيش مكة الكافر، ولم تكن هذه فقط صفات الجيوش المنتصرة والمهزومة، فلا تزال هناك صفات أخرى كثيرة، سنتعرف عليها اليوم من خلال الحديث عن يوم الفرقان يوم بدر.
قام صلى الله عليه وسلم بعملية استكشافية بنفسه هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، واستطاعا أن يعرفا مكان جيش مكة، لكن لم يستطع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعرف أعداد القوم ولا قادتهم، فأرسل فرقة استكشافية ثانية كان فيها علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أجمعين، وأمسكت الفرقة غلامين من جيش العدو، وأحضروهما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم في استجوابهما. قال: (أخبراني عن قريش. قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى قال: كم القوم؟ قالا: كثير، قال: ما عدتهم؟ قالا: لا ندري، قال صلى الله عليه وسلم: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: يوماً تسعاً ويوماً عشراً، قال صلى الله عليه وسلم: القوم فيما بين التسعمائة والألف)، فاستطاع أن يحدد بالضبط العدد الحقيقي لجيش مكة؛ لأنهم كانوا يعلمون أن الجمل يكفي مائة تقريباً للأكل، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد والحارث بن عامر وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وعمارة بن الوليد).
إذاً: كل قادة مكة موجودون في جيش مكة الذي خرج إلى بدر، فأقبل الرسول عليه الصلاة والسلام على المؤمنين وقال لهم: (هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها).
ولنا وقفة مهمة مع إيجابية الحباب رضي الله عنه، قد يتخيل الواحد منا أن أي واحد من الصحابة إذا رأى الرسول عليه الصلاة والسلام عمل شيئاً لا يقول رأيه؛ لاحتمال أن يكون وحياً، حتى ولو لم يكن وحياً لا يقول، والرسول صلى الله عليه وسلم أحكم البشر وأفضل العالمين، ومن المؤكد أن رأيه البشري أحسن من رأي الآخرين، لكن هذا التصور لم يكن عند الصحابة، بل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كان عندهم إيجابية رائعة، فلو رأى الصحابي شيئاً ويعتقد أن هناك ما هو أولى منه يذهب ويدلي برأيه، حتى لو لم يطلب منه ذلك؛ لأنه يدرك أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر، ويجري عليه في الأمور التي ليس فيها وحي ما يجري على عامة البشر من اختيار صحيح مرةً وخطأ مرةً أخرى، أو على الأقل يختار خلاف الأولى في أمر من الأمور.
وهكذا أدرك الحباب أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، وهكذا يفتح الرسول عليه الصلاة والسلام المجال الواسع لكل فكر وإبداع وإضافة، وبهذا تشارك كل عقول المسلمين لخدمة الأمة الإسلامية، فلو كان رأي الحباب خطأً فإن الرسول صلى الله عليه وسلم سيعرفه الرأي الصحيح، ويكون قد تعلم شيئاً، أو على الأقل قاتل وهو مقتنع بوجهة النظر الأخرى.
وهذا يرجعنا إلى مبدأ الشورى من جديد، ويرينا كيف نستفيد من طاقات المجتمع؟ وكيف يمكن أن نستغل المواهب الهائلة التي وزعها الله على خلقه بحكمة عجيبة؟ فلو كان هناك كبت لآراء الجنود لما عرف الرسول عليه الصلاة والسلام المكان المناسب في بدر، وهذا سيكون له ضرر على الأمة كلها لا على الرسول صلى الله عليه وسلم فقط.
فالشورى أمر حتمي لأمة تريد النهوض، فإنه بعد النزول في المكان الذي حدده الحباب رضي الله عنه قام الصحابة بالإشارة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر اختلف فيه الرواة، وهو بناء العريش أو مقر القيادة؛ لكن سواء تم بناء هذا العريش أو لم يتم، فإن الثابت حقيقة أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم ينعزل عن جيشه أبداً في موقعة بدر، فمع أنه القائد الأعلى للجيش قاتل معهم بنفسه، بل كان أقربهم إلى العدو. روى الإمام أحمد بن حنبل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (لما حضر البأس يوم بدر اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أشد الناس صلى الله عليه وسلم، ثم يقول علي بن أبي طالب : ما كان أحد أقرب إلى المشركين منه).
فهذا كلام في منتهى الأهمية؛ لأنه يثبت لنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان مشاركاً لجيشه ولشعبه، ويعيش معهم في كل قضاياهم.
أولاً: النعاس الذي غلب المسلمين في ليلة بدر بعدما وصلوا وعسكروا في المكان.
ثانياً: المطر الذي نزل في نفس الليلة، فالنعاس كان أمره عجيباً، كان المسلمون على بعد خطوات من الجيش المكي الكبير، ومع ذلك يصلون إلى حالة من السكينة وهدوء الأعصاب، فينامون بأمان تام في أرض بدر، ومعلوم أن الشخص لما يكون منشغلاً بشيء مهم لا يستطيع أن ينام بمنتهى الأمان وهو في وسط بيته، فما بالك بشخص نائم في أرض المعركة وهو منشغل بها، فمن الممكن أن تكون نهايته فيها؟
لكنه هدوء أعصاب عجيب، لا يفكر في عدد الأعداء، ولا يفكر في طريقة القتال، ولا يفكر في سيناريو المعركة، ولا يفكر في أولاده وزوجته، ولا يفكر في تجارته ولا حتى في نفسه، بل نائم في منتهى الراحة، ففي هذه الليلة نام الجميع إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ظل طوال الليلة يصلي ويدعو الله عز وجل أن ينصر هذا الجيش المؤمن.
على الناحية الثانية كان جيش مكة حيران لا يعرف النوم، فغداً موقعة مرعبة بالنسبة لهم، بالإضافة إلى أنه ليس مقتنعاً بالحرب أصلاً، وعلى ماذا يحارب، من أجل هبل واللات والعزى، أم من أجل القائد الزعيم أبي جهل ، أم من أجل القافلة؟ فالقافلة قد تجاوزت الخطر، وأبو سفيان عبر بها إلى بر الأمان فعلام القتال؟ فقد يموت المشرك غداً، أو يصبح أسيراً أو جريحاً أو هارباً ومطارداً، فيا لها من نفسية مضطربة مريضة! وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].
كذلك المطر في ليلة بدر كان عجيباً جداً، فمنطقة بدر كلها عبارة عن واد صغير، فسحابة واحدة صغيرة قد تغطي الوادي كله، فنزول المطر في ليلة بدر على أرض بدر فقط غريب جداً، فقد نزل هيناً لطيفاً خفيفاً على المسلمين ونزل وابلاً شديداً معوقاً على الكافرين، شرب المسلمون واغتسلوا وتماسك الرمل في معسكرهم تحت الأقدام، فثبتت الأقدام، وذهبت عنهم وساوس الشيطان، وقد جاء الشيطان إلى بعضهم بسبب الجنابة وقلة الماء وقال لهم: كيف ستصلون؟ كذلك آية التيمم لم تكن قد نزلت بعد، فقال الله عز وجل: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال:11].
أما الكفار فقد أحدث المطر مخاضة كبيرة عندهم، منعت التقدم وأعاقت الحركة، وليس لأحد طاقة بحرب الله عز وجل.
لكن الغريب أن الكفار أيضاً كانوا يدعون الله، وعلى رأس الذين كانوا يرفعون أيديهم بالدعاء أبو جهل ، كان يقول: اللهم أقطعنا للرحم، وأتانا بما لا نعرفه، فأحنه الغداة. ويستخدم نفس الكلمة التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: فأحنه الغداة، اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم. إن دعاء أبي جهل هذا يدعو إلى العجب والحيرة، فكتب السيرة تنقل لنا كثيراً مواقف في فترة مكة تثبت بما لا يدع أي مجال لشك أن أبا جهل كان يعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على حق، ويعرف أنه نبي، ويعرف أن القرآن معجز ويعرف أن الملائكة تحرس النبي صلى الله عليه وسلم، عرف ذلك بوضوح في أكثر من موقف، ومع ذلك فهو الآن يدعو وبصوت يسمعه الجميع أن ينصر الله عز وجل الأحب إليه!
فتفسير دعاء أبي جهل يحتمل أمرين في رأيي، الأمر الأول: أنه يصنع نوعاً من التحفيز المعنوي لجنوده، فكثير من جنود الباطل يحسون بالضعف؛ لتفاهة قضيتهم، ولشعورهم المستمر أن المسلمين معهم قوة كبيرة أكبر من قوة البشر، فيقوم القائد الكافر بإيهام جنوده أنهم على حق، وأن مهمتهم سامية، وأنهم يعملون للخير، ليس خيراً لهم فقط، بل يعملون لخير المجتمع والوطن، بل والعالم، فقد يقنعهم كما كان يفعل أبو جهل بأن ما يقومون به من قتال هو جزء من الدين، وأنهم متدينون ومخلصون ومتبعون للآلهة، وهذه محاولة دنيئة لإضلال القوم، كما قال الله في حق فرعون: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى [طه:79]، وقال فرعون نفسه: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29]، فيحاول أن يقنعهم أن كل الإجرام الذي يقوم به هو وأمثاله من الطواغيت ما هو إلا خير وهدى ورشاد وإصلاح، وهذا الأمر نراه كثيراً سواء في الطواغيت القدماء أو في الطواغيت المعاصرين، فكلهم يقولون: إنهم مصلحون.
الأمر الثاني: أن الطاغية حينما يستمر في إقناع الناس أياماً عديدة أنه مصلح ومتدين وأخلاقه عالية، يصدق نفسه أنه على خير، وقد كان من قبل يخدعهم بالباطل وهو يعرف أنه على باطل، كذلك البطانة التي من حوله تقنعه أنه على حق، وأنه عبقري ومصلح ومؤدب وخيِّر وطيب ورحيم؛ فيصدق الطاغية نفسه ويصدق أعوانه الذين من حوله، فيصبح مقتنعاً أنه على صواب، وهذه مرحلة في منتهى الخطورة تدل على عمى البصيرة، فلا يرى الحق من الباطل، ولا يستطيع أن يميز الصواب من الخطأ، ففي المرحلة الأولى كان يميز الصواب من الخطأ، لكنه كان يعمل الخطأ لهوى في نفسه أو لمصلحة أو هدف، أما الآن فإنه لم يعد يستطيع أن يرى: وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [الأعراف:198]، فعلى العيون غشاوة تحجب الرؤية تماماً: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:7]، وفي الآذان عازل يمنع السمع كلية: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [النمل:80]، فهو ميت فعلاً، وعلى قلوبهم أغلفة سميكة تمنع وصول أي موعظة أو عبرة: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [الأنعام:25].
إذاً: الطواغيت والمجرمون يمرون بمرحلتين، المرحلة الأولى: مرحلة الخداع للآخرين حتى يحقق مصلحة معينة، وفي هذه المرحلة يستطيع أن يميز بين الحق والباطل، لكنه يختار الباطل لهوى في نفسه.
المرحلة الثانية: مرحلة الطمس على البصيرة، وفيها لا يستطيع أن يميز الحق من الباطل، وبالتالي يفتقد أي إمكانية للهداية، ومن البديهي أن الذي يدخل هذه المرحلة لا يكون إلا من عتاة الإجرام، وأصحاب التاريخ الطويل في الصد عن سبيل الله، وهذا التحليل يفسر لنا كلمات كثيرةٍ، نسمعها من طواغيت ومجرمين ومعذبين لغيرهم، وناهبين للمال، وهاتكين للأعراض ومستبيحين للحرمات، ومع ذلك يتكلمون عن الفضيلة والشرف والأمانة والإصلاح!
وأحياناً يكون المقاتل في حالة عصبية شديدة، ويطلق السهام في كل مكان بدون تركيز، وهذا يضيع الذخيرة على المسلمين، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول لهم: لا تطلقوا هذه السهام إلا عندما يقتربون ويصبحون في مرمى السهام بعد ذلك ابدءوا في ضربهم، في رواية البخاري يقول: (واستبقوا نبلكم) أي: حافظوا على الذخيرة، ولا تقوموا بإهدار هذه السهام، ثم يقول: (ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم) لا ترفعوا السيوف من أغمادها إلا بعد أن يقترب الجيش تماماً.
إن هذا التكتيك النبوي يحتاج منا إلى وقفة؛ حتى نعرف صفة مهمة من صفات الجيش المنصور، فمن صفات الجيش المنصور: الإعداد الجيد والأخذ بكل أسباب النصر المادية، والعمل بكل ما هو متاح في اليد لتحقيق النصر، وقد رأينا كيف حصلت المخابرات الإسلامية على أخبار جيش مكة، ورأينا الموقع العسكري المتميز الذي نزلوا فيه، ورأينا التوجيهات العسكرية الحكيمة، ورأينا الصفوف والترتيب، وسنرى أيضاً مهارة القتال وقوة الضربات والشجاعة والإقدام والاحترافية في الحرب، فهو إعداد في منتهى الروعة، إذ الجيش كله يتكون من فرسين وسبعين جملاً، وعدة المسافر ليست عدة المحارب، لكن هذه هي الإمكانيات التي في استطاعتهم، والرسول عليه الصلاة والسلام أعد كل ما في استطاعته؛ لذلك ليس غريباً أن تجد في سورة الأنفال قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال:60].
فهل هذا الموقف يحصل في الجيش الآن بين جندي وعقيد أو حتى رائد أو نقيب؟ لن أقول لك: لواء أو مشير. هل هذا من الممكن أن يحصل؟ لكن هذا الحدث حصل في التاريخ مع الرسول عليه الصلاة والسلام، حصل مع قائد الدولة بكاملها، كشف عن بطنه وقال: (استقد)، خذ حقك. اضرب، لكن سواداً اعتنقه وقبل بطن الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حملك على هذا يا سواد ؟ قال: يا رسول الله! قد حضر ما ترى -أي: حضر أمر القتال والحرب- فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك) فدعا له صلى الله عليه وسلم بخير.
ولم يمت سواد في بدر، لكنه لفت أنظارنا إلى صفة أصيلة من صفات الجيش المنصور، هذه الصفة هي تلاحم القائد مع شعبه وانصهاره فيه، فالجيش المنصور لا فرق فيه بين قائد وجندي، والأمة المنصورة لا فرق فيها بين حاكم ومحكوم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار في بيعة العقبة الثانية: (أنا منكم وأنتم مني)، وقد رأينا هذا الأمر قبل ذلك في مكة، وفي قصة بناء المسجد النبوي، ورأيناه الآن في كل خطوات بدر، وسنراه كثيراً من أول لحظات الخروج من المدينة إلى بدر، فقد كان الصحابة يتناوبون على الإبل لقلة عددها، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام وهو قائد الجيش يتناوب في الركوب مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومرثد بن أبي مرثد رضي الله عنه، وفي رواية: مع أبي لبابة رضي الله عنه.
وأثناء السفر قال الصحابيان للرسول صلى الله عليه وسلم: نحن نمشي عنك، فانظر إلى رد الرسول عليه الصلاة والسلام: (ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما)، فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم يريد أجر المشي في سبيل الله، وهذا التصرف يزيد من حماسة الجند، وذلك عندما يجد القائد معه في كل خطوة من مشاكله وتعبه وسعادته وحزنه، ليس هناك ترفع ولا كبر ولا ظلم ولا كراهية، أما الآن في بعض الدول الإسلامية يكون هناك ألف حاجز بينك وبين الزعيم لابد أن تجتازها، حتى تستطيع أن تصل إليه، بل من المستحيل غالباً أن تتجاوز التسعمائة حاجز الأخيرة.
فهذه مشكلة لو حصلت في أمة ليس من الممكن أن تنتصر أبداً، ولتراجعوا معي سيرة زعماء الأمة الذين حصل في زمنهم نصر وتمكين وعزة، فإنك ستجد اختلاطاً كاملاً من القائد مع الشعب، كـصلاح الدين الأيوبي ، وقطز ، وعبد الرحمن الناصر ، وموسى بن نصير ، ويوسف بن تاشفين .. وغيرهم كثير.
فلتراجعوا تاريخ الأمة، فإنكم ستجدون هذه الأشياء واضحة مثل الشمس، وعلى النقيض تماماً كل لحظات الانهيار والتردي في حالة الأمة تكون مصحوبة بعزلة الحاكم عن الشعب.
روى الترمذي وأبو داود عن أبي مريم الأزدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ولاه الله عز وجل شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم احتجب الله عنه دون حاجته وخلته وفقره).
فكانت هذه نقطة بداية مهمة للمعركة، وكانت نقطة لصالح المسلمين، حدث هذا في أول دقيقة من دقائق المعركة، فكان توفيقاً كبيراً من رب العالمين، فقد رفع معنويات المسلمين وأحبط معنويات الكافرين، وحرك الغيظ في قلوب زعماء مكة، ونهض ثلاثة منهم يطلبون المبارزة من المسلمين، فقد كان من عادة الناس في الحروب القديمة أن يتبارز أفراد قلائل في بداية المعركة كنوع من الاستعراض، ثم يبدأ بعد ذلك الهجوم الشامل في الجيش كله؛ لذلك قام عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة وهم من أشداء فرسان مكة.
والعجيب الذي يلفت النظر هو قيام عتبة بن ربيعة ، فقد كان عتبة بن ربيعة من الحكماء المعدودين في قريش، ومن أصحاب الرأي السديد في أمور كثيرة، وكان يدعو قريشاً أن تخلي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين العرب ولا يقاتلوه، وكان يقول: إن هذا الرجل ليس بشاعر ولا بكاهن ولا بساحر ولا بكاذب، وكان يرفض فكرة القتال في بدر بعد إفلات القافلة، وكان إلى آخر لحظة يجادل المشركين في قضية القتال، حتى نظر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من بعيد قبل بدء المعركة، وهو يركب جملاً أحمر، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا)، لكن القوم لم يطيعوه وأصروا على القتال، وللأسف الشديد دخل عتبة معهم المعركة ولم يرجع كـالأخنس بن شريق ، والأعجب من ذلك أنه خرج مع من خرج للمبارزة، فقد كان عتبة مصاباً بمرض خطير مرض الإمعية، فهو حكيم في الرأي، لكن يسير مع الناس حيث ساروا، إذا أحسن الناس أحسن، وإذا أساءوا أساء، كان ضعيف الشخصية مهزوزاً متردداً، وهذا الذي أرداه فأصبح من الخاسرين، وأمثال هؤلاء نراهم كثيراً في الواقع، فمن الناس من يكون ذا رأي حكيم وسديد، ويكون عندنا آمال عريضة في أنه يغير من حوله، لكنه يمشي مع التيار، وتكون الكارثة.
خرج الفرسان الثلاثة يطلبون القتال، فخرج لهم ثلاثة من شباب الأنصار، لكن الفرسان المشركون قالوا: لا حاجة لنا بكم إنما نريد أبناء عمنا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: قم يا عبيدة بن الحارث وهو ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم- ثم قال: قم يا حمزة ! وهو عم الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم قال: قم يا علي بن أبي طالب وهو ابن عم الرسول عليه الصلاة والسلام، فكلهم من الأقربين، مع أن القتال خطير، لكن القائد وعائلته يعيشون حياة الناس تماماً، ويتعرضون لكل مشاكل الأمة، فيكونون في أوائل المضحين والمجاهدين، وبدأت المبارزة، واختلفت الروايات فيمن بارز من؟ لكن رواية أحمد وأبي داود تقول: إن علي بن أبي طالب بارز شيبة ، وإن حمزة بارز عتبة ، وإن عبيدة بن الحارث بارز الوليد بن عتبة .
والتقت السيوف واحتدم الصراع، وبدأت الدماء تسيل، ثم بدأت الجثث تتساقط في دقائق معدودة، وانتهت الجولة الأولى من الصراع لصالح المسلمين مرة أخرى، علي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب قتلا شيبة وعتبة ، سبحان الله! سقط عتبة في أرض بدر ولم تنفعه حكمته، وأصيب عبيدة والوليد بإصابات بالغة، فأسرع علي وحمزة إلى الوليد بن عتبة وقتلاه، وحملا عبيدة إلى معسكر المسلمين، فكان سقوط أربعة قتلى للمشركين في أول المعركة.
اشتعلت أرض بدر بالقتال، هجوم شامل كاسح في كل المواقع، صيحات المسلمين ترتفع بشعارهم في ذلك اليوم: أحد أحد، أحد أحد، صليل السيوف في كل مكان، الغبار غطى كل شيء، هذا الصدام المروع حدث لأول مرة بين المسلمين والكافرين، معركة بين الحق والباطل.
إن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم عجيب جداً لا يمكن أبداً أن يفهمه علماني ولا كافر أو فاسق؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يحفز الناس كالمعتاد في كل الحروب على الدفاع عن حياتهم، بل يحفزهم على فقد حياتهم، يقول: (لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً) .. إلى آخر الحديث، والذي يرى نفسه أنه يعيش للدنيا لو قتل يكون قد فقد كل شيء، لكن الذي يفهم ما معنى الجنة سيكون للقتل عنده معنى آخر، فالجنة حلم كبير عند المسلمين، وهي ليست في الدنيا، إنما تأتي الجنة بعد الموت، فالموت هو الحاجز الوحيد بين الشهيد الذي يقتل في أرض الجهاد وبين الجنة، كما أن الشهيد يدخل الجنة بغير حساب.
إذاً: لو جاء الموت لأصبحنا من أهل الجنة، فليت الموت يأتينا، وهكذا يصبح الموت المكروه عند عامة البشر أمنية، بل أسمى الأماني لمن فقه حقيقة الجنة. (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله عز وجل للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض) والحديث في البخاري .
وأيضاً في البخاري : (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض لأضاءت الدنيا وما فيها، ولملأت ما بينهما ريحاً -أي: ما بين السماء والأرض، أو ما بين المشرق والمغرب- ولنصيفها -أي: الخمار الذي على رأسها- على رأسها خير من الدنيا وما فيها)، سبحان الله!
فمن كان عنده يقين في ذلك يشتاق إليه؛ لذلك فإن الجيش المنصور جيش يحب الموت، يقول خالد بن الوليد رضي الله عنه: جئتكم برجال يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة.
وقد تحدث الرسول عليه الصلاة والسلام يتكلم عن الأمة المهزومة التي ليس لها وزن في العالم، فأخبر أن أهم صفة فيها صفة الوهن: (قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، أي: كراهية الموت في سبيل الله.
فلو حصل في الأمة كراهية الموت، فإنها ستقع، وعلى العكس لو أحبت الأمة الموت في سبيل الله وهبت النصر ووهبت الجنة.
يذكر أن إسحاق رابين رئيس وزراء إسرائيل الهالك قال في تعليق على اتهام اليهود له بعدم القدرة على السيطرة على حماس والجهاد، قال: أتحدى أي جهاز مخابرات في العالم أن يقاوم أناساً يريدون أن يموتوا!
فالمؤمن القوي يحب أن يموت، ويخاف ألا يموت، ويخاف أن ينكشف أمره فلا يموت، فكيف يمكن أن تحاربه؟!
فيا ترى! هل أحد منكم يريد أن يموت أو يبحث عن الموت، أو يكون مستعداً للموت؟! هل أحد منكم كتب وصيته؛ لأنه يحلم بيوم يموت فيه في سبيل الله؟
إن لم تكن هذه القضية في بالك ولا تبحث عنها فأنت لا تعرف الجنة.
إن طلب الموت في سبيل الله ليس فيه كآبة ولا حزن، إنما الكآبة أن تقف يوم القيامة تنتظر الحساب سنوات وأنت ترى حولك الشهداء يدخلون الجنة من غير حساب، فلا عذر لك يا أخي المسلم أن تقول: أين الجهاد؟ وأين القتال؟ فالمسألة مسألة صدق في النية تريد أو لا تريد، فإن كنت تريد فستأخذ أجر الشهادة وتدخل الجنة وإن مت في بيتك وسط أهلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) وإن كنت لا تريد فلن تأخذ أجر الشهادة حتى لو فتح لك ألف باب للجهاد، فالمسألة مسألة صدق، وانظر إلى الجنة كيف أثرت في الصحابة يوم بدر، فهذا عمير بن الحمام رضي الله عنه سمع الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض).
فماذا أعددنا لهذه الجنة؟! وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13].
لما سمع عمير بن الحمام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك قال متعجباً: عرضها السماوات والأرض؟!
فإن الواحد منا يكافح سنين حتى يكون عنده بيت أو سيارة أو بعض الأموال أو بعض السلطات، وكل هذا لا يمثل أي وزن في الأرض، فما بالك بالجنة التي عرضها السماوات والأرض؟ فإنه لا يستبعد أن يكون ملك أحدنا في الجنة قدر مجموعة شمسية أو أكثر؛ فـعمير يتعجب من جنة عرضها السماوات والأرض، فقال صلى الله عليه وسلم في منتهى الإيجاز: (نعم)، وتلقى عمير بن الحمام رضي الله عنه الكلام بمنتهى بيقين لا جدال فيه ولا محاورة، فقال عمير : (بخ بخ -كلمة تقال للتعجب- فقال صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على قولك: بخ بخ؟ فأسرع عمير يقول: لا والله يا رسول الله! ما قلتها إلا رجاء أن أكون من أهلها، فقال صلى الله عليه وسلم: فإنك من أهلها)، يا الله! عمير يخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة وهو ما زال يمشي على أرض بدر! لم يستطع عمير أن يعيش لحظة واحدة على الأرض، كان يمسك في يديه بعض تمرات يتقوى بها على القتال، فتذكر ثمار الجنة وطيورها وشرابها وحوض الرسول عليه الصلاة والسلام فيها، فألقى بالتمرات على الأرض وقال كلمة عجيبة، قال: (لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة).
يعني: أكل التمرات في بضع دقائق حياة طويلة؟! فألقى بنفسه وسط الجموع الكافرة فاستشهد ودخل الجنة، يقيناً دخل الجنة؛ لأن هذا كلام الرسول عليه الصلاة والسلام (لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة) ثم قالها تصريحاً لـعمير : (فإنك من أهلها).
إن أهل الدنيا وطلابها يظنون أن عمير بن الحمام خسر شبابه ومات فلم يستمتع بحياته، إن المقاييس ليست كذلك.
روى الترمذي عن كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق بشجر الجنة) يعني: ترعى أرواحهم من ثمار الجنة قبل قيام الساعة.
سبحان الله! كانت لديه أمنية حلوة أن يموت وعمره لا يتجاوز (16) سنة، رآه الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يختبئ منه، فأشفق عليه من القتال ورده فبكى عمير ؛ لأنه ستضيع عليه فرصة الموت في سبيل الله، فرق له صلى الله عليه وسلم لما رآه يبكي وسمح له بالجهاد، فجاهد واشتاق بصدق للشهادة، فاستشهد ودخل الجنة.
هكذا فهم عمير بن أبي وقاص الجنة وهو لم يكلف إلا منذ سنتين أو ثلاث سنوات، فهم ما يعجز عن فهمه الأشياخ والحكماء والعباقرة، فيا له من منهج تربوي إصلاحي واقعي لا يرقى إليه أي منهج من المناهج!
وهذا عوف بن الحارث رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! ما يضحك الرب من عبده؟ قال: غمسه يده في العدو حاسراً) يعني: من غير درع، وهذا فيه دلالة على قوة البأس وعدم الخوف من الموت، ومعلوم أن هذا التصرف يلقي الرهبة في قلوب العدو، هنا ألقى عوف درعه وقاتل حاسراً حتى استشهد رضي الله عنه ودخل الجنة.
إن موضوع الجنة لم يكن غائباً أبداً عن أذهان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم؛ لذلك انتصروا.
إن الجيش الإسلامي قبل أن يأتي إلى بدر كان يبحث عن الجنة، وفي أرض بدر كذلك كان يبحث عن الجنة، وبعد بدر كذلك يسأل عن الجنة.
فقبل الخروج إلى بدر أراد سعد بن خيثمة وأبوه خيثمة رضي الله عنهما الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر، لكن كان تحت رعايتهما بنات كثيرات، فلابد أن يخرج واحد منهما، ويقعد الآخر لرعاية البنات، لكن الاثنين يريدان أن يخرجا للقتال، يطلب الاثنان الجنة بصدق، فلم يتنازل أحد منهما، فقررا أن يعملا قرعة، فخرج سهم سعد بن خيثمة ، فتحسر أبوه حسرة حقيقية، فقال لابنه في توسل: يا بني! آثرني اليوم -أي: اتركني أخرج- فضلني على نفسك، لكن سعداً رضي الله عنه وأرضاه رد بجواب يفسر سبباً من أسباب الجيش المنصور، قال في أدب: يا أبي! لو كان غير الجنة لفعلت، لا أستطيع.
وخرج سعد بن خيثمة بهذه الروح الصادقة وقاتل رضي الله عنه حتى استشهد، ودخل الجنة التي يريد.
واللطيف في الأمر أن أباه خيثمة خرج في أحد بعد بدر بسنة، واستشهد أيضاً!
وهذه أم حارثة بن سراقة رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله عن ابنها حارثة بن سراقة استشهد في بدر وهو شاب صغير، مات مقتولاً، وفي مثل هذا الموقف تطيش عقول وتضطرب أفئدة ويتزلزل رجال ونساء، لكن أم حارثة أتت تسأل عن شيء محدد، قالت: (يا رسول الله! قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى تر ما أصنع؟ فقال لها الرسول عليه الصلاة والسلام: يا أم حارثة ! إنها جنان، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى)، الله أكبر! حارثة بن سراقة رضي الله عنه وأرضاه في الفردوس الأعلى؛ لأنه مات شهيداً في سبيل الله، والشهيد كما ذكر صلى الله عليه وسلم من يموت مقبلاً غير مدبر محتسباً صابراً، هذه صفات الشهداء الذين في الجنة، وهذه كلها كانت موجودة في حارثة ، لذلك بلغ الفردوس الأعلى، واستراحت أم حارثة وتقبلت أمر موت ابنها الشاب بسهولة شديدة، وصبر واحتساب، بل وبسعادة رضي الله عنها؛ لأنه من يحب أحداً يحب له الخير أيضاً، وليس هناك خير أفضل من الجنة.
وإياكم أن تظنوا أن الغرب والشرق من أصحاب المال والسلطة والجاه والملك يعيشون في سعادة، أبداً، من يفقد منهم ماله ينتحر، ومن يموت له ابن أو حبيب يكتئب وينعزل عن المجتمع، ومن يتعرض لمصيبة تكون هذه نهاية الدنيا عنده، ومن وجد نفسه فقيراً أو من عائلة صغيرة، أو يعيش في وضع اجتماعي صغير يعيش معقداً حاقداً على المجتمع، حاسداً لكل الأغنياء، وقد يكون سارقاً وقاتلاً ومرتشياً وفاسداً، ويعيش حياة الإجرام، ولا يوجد عنده بديل.
روى الحاكم -وقال: صحيح على شرط مسلم - عن أنس رضي الله عنه وأرضاه: (أن رجلاً أسود أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني رجل أسود - أي: رجل فاقد لكل مقومات الوجاهة في الدنيا ومتاعها - منتن الريح قبيح الوجه لا مال لي، فإن أنا قاتلت هؤلاء حتى أقتل فأين أنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: في الجنة، فقاتل الرجل حتى قتل، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم بعدما استشهد، ووقف بجانبه، يعلم الصحابة ويعلمنا - ويقول: قد بيض الله وجهك - ألم يكن يقول: إني رجل أسود؟! - وطيب ريحك وأكثر مالك)، ومعلوم أن أقل أهل الجنة ملكاً له عشرة أمثال الدنيا، فالجنة فيها سلوى وتعويض لكل مؤمن فقد أي شيء، وفيها الجزاء لكل من تعب أو سهر أو بذل أي مجهود للإصلاح.
الجنة صبّرت أم حارثة ، وشجعت عمير بن الحمام، وعمير بن أبي وقاص وسعد بن خيثمة ، وحارثة بن سراقة .. وغيرهم وغيرهم.
الجنة جعلت الحباب بن المنذر يقول رأيه؛ لكي يفيد المسلمين ويدخل الجنة بعد ذلك.
الجنة جعلت المكروه محبوباً وجعلت الموت مطلوباً، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (ألا مشمر للجنة؟ ألا مشمر للجنة؟ -أي: هل هناك من يريد الجنة- فإن الجنة لا خطر لها -يعني: لا مثيل لها- هي -ورب الكعبة- نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة كثيرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة في مقام أبداً، في حبرة ونضرة، في دور عالية سليمة بهية، فلما سمع الصحابة ذلك قالوا: يا رسول الله! نحن المشمرون لها؟ قال: قولوا: إن شاء الله).
وهكذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الجهاد وحض عليه، وأعطاهم شيئاً عملياً يدخلون به الجنة.
والحديث في صحيح ابن حبان وسنن ابن ماجه .
فعندما تملأ الجنة حياتنا بهذه الصورة، وتصبح هدفاً واضحاً في تفكيرنا، وحين نأخذ قراراً أو نعمل عملاً أو نقول كلمة أو نضحك ضحكة أو نسافر أو نقعد أو نحب أو نكره، عندما تصبح الجنة محركاً لكل حياتنا، فإننا سنرى نصراً مثل نصر بدر، وتمكيناً وعزة وسيادة مثل الذي حصل في بدر تماماً بتمام.
ونسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة السيرة النبوية يوم بدر للشيخ : راغب السرجاني
https://audio.islamweb.net