اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة السيرة النبوية نصر بدر للشيخ : راغب السرجاني
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فمع الدرس الثامن من دروس السيرة النبوية في العهد المدني.
في الدرسين الماضيين تكلمنا على أحداث كثيرة من أحداث غزوة بدر، وخرجنا من الدرسين بعدة صفات للجيش المنصور، أهمها: أنه جيش مؤمن بالله عز وجل، مؤمن برسوله صلى الله عليه وسلم، مؤمن باليوم الآخر، يعمل بصدق للوصول إلى الجنة، يتعاون فيه القائد مع الجنود لخدمة الأمة الإسلامية، لا ينعزل فيه القائد عن جيشه ولا الحاكم عن المحكومين، تترسخ فيه الشورى كمبدأ أصيل من مبادئ الحكم والوصول إلى قرار، يعد العدة المادية من سلاح وخطة وتدريب بقدر ما يستطيع، جيش حاسم غير متردد، نشيط لا فتور فيه، متفائل لا إحباط فيه، جريء شجاع لا يهاب الموت بل يطلبه؛ هذه بعض صفات الجيش المنصور.
ما زالت هناك صفات مهمة، وكلها واضحة في أهل بدر: الوحدة والألفة والتماسك والترابط بين أفراد الجيش الواحد، وبين أفراد الأمة الواحدة، فإنه لا يوجد نصر من غير وحدة. هذه قاعدة، لكن الوحدة في الجيش المنصور لا بد أن تكون وحدة عقائدية، بمعنى: أن الرابط الرئيسي بين المسلمين هو الإسلام، لا قبلية ولا لون ولا عنصر ولا وضع اجتماعي ولا أي شيء من متعلقات الدنيا، فالوحدة في الله والأخوة في الله هما اللتان تنفعان فعلاً.
انظر إلى أهل بدر! جيش قوي متماسك، مع أن تركيبته عجيبة خاصة في هذا التوقيت، قبل الإسلام كان الرباط الأساسي في الجزيرة -ولعله الوحيد- هو رباط القبلية، حتى قالوا كلمتهم الفاسدة: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، ليس من المهم في أيام الجاهلية أين الحق أو العدل، لكن المهم أن هذا من قبيلتي سواء كان ظالماً أو مظلوماً لا فرق، فجاء الإسلام ليغير المقاييس الباطلة التي كانت الجاهلية تحكم بها، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال الكلمة نفسها لكن بتعديل كبير جداً في المفهوم والتصور. قال لأصحابه: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، وهذا الحديث في البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه، فتعجب الصحابة، وقالوا: (يا رسول الله! ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ قال صلى الله عليه وسلم: تمنعه من الظلم؛ فإن ذلك نصره).
وهكذا فإن أخي هو المشترك معي في العقيدة، ليس مهماً ما هي قبيلته أو بلده، أنصره بالعدل والحق فقط، ولو ظَلَم أشترك مع غيري كي أرده عن ظلمه، وأكبر ظلم في الدنيا هو الإشراك بالله عز وجل: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]؛ لذلك رأينا التلاحم والتناصر والوحدة بين الطوائف المختلفة من أهل بدر، هذه الطوائف لم يجمعها إلا شيء واحد فقط هو الإسلام، فقد حاولوا أن يردوا الظلم الذي ارتكبه غيرهم، حتى لو كان الظالمون الآباء والأبناء والأقارب والعشيرة.
إن جيش المسلمين في بدر كان فيه المهاجر الذي من قريش، والأنصاري الذي من الأوس والخزرج، وفرع قريش بعيد جداً عن فرع الأوس والخزرج، فقريش من العدنانيين، والأوس والخزرج من القحطانيين، فرعان مختلفان تماماً، ومع ذلك لأول مرة في تاريخ العرب يكونون جيشاً واحداً، والذي جمعهم هو الإسلام؛ هذه نقطة من أهم نقاط بناء الأمة الإسلامية.
إن هذا الجيش لم يكن من كل القبائل فقط، بل كان فيه العربي وغير العربي، فـبلال كان في هذا الجيش مع أنه حبشي، ولم يشعر مطلقاً بالغربة في هذا الجيش الذي يغلب عليه العرب، ولم يشعر العرب في داخل الجيش بأن هناك عنصراً غريباً في داخل الجيش من الحبشة، بل التعاون والتلاحم بينهم كان على أكبر مستوى. تعالوا لنرى قصة قتل أمية بن خلف .
كان أمية بن خلف خائفاً من أن يشترك في غزوة بدر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أن المسلمين سيقتلونه، وكان أمية بن خلف صديقاً لـعبد الرحمن بن عوف أيام الجاهلية، كان عبد الرحمن بن عوف يمشي في أرض بدر قبل انتهاء المعركة بقليل، وقد وضح أن النصر حليف المسلمين، حاملاً في يديه مجموعة أدراع استلبها من القتلى المشركين الذين قتلهم، والسلب: هو ما يكون على القتيل المشرك، وهو من حق المسلم الذي قتله، فرأى أمية وابنه واقفين في منتهى الرعب، فلما رأى عبد الرحمن صرخ: هل لك فيَّ تأخذني أنا؟ فأنا خير من هذه الأدراع التي معك، ما رأيتك اليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن؟ فرمى عبد الرحمن بن عوف بالأدراع وأخذ أمية بن خلف وابنه، واسم ولده علي بن أمية .
أخذ عبد الرحمن يمشي بهما في أرض بدر، فمر عليهم بلال بن رباح رضي الله عنه فلما رأى بلال أمية بن خلف تذكر الذكريات المؤلمة فإن أمية هو الذي كان يعذب بلالاً في مكة، فصرخ بلال : رأس الكفر أمية بن خلف ! لا نجوت إن نجا. لكن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أخذ الموضوع ببساطة، وقال لـبلال : أي بلال ! أسيري، فكان بلال لا يقول إلا كلمة واحدة: لا نجوت إن نجا، فرأى عبد الرحمن بن عوف أن بلالاً يأخذ الموضوع بجد ولا يسمعه، فقال له: أتسمع يا بلال ؟! هذا أسيري، فقال بلال : لا نجوت إن نجا، وكان عبد الرحمن يمنع بلالاً من الوصول إلى أمية ، فنادى بلال إخوانه من الأوس والخزرج صارخاً: يا أنصار الله! رأس الكفر أمية بن خلف . لا نجوت إن نجا، فجاء الأنصار وأحاطوا بـأمية بن خلف وابنه وبـعبد الرحمن بن عوف ، فلم يستطع عبد الرحمن أن يفعل شيئاً، وما هي إلا لحظات حتى تحققت نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقتل أمية بن خلف وابنه على يد الأنصار رضي الله عنهم وعلى يد بلال ، وهكذا انتصر الأنصار -الأوس والخزرج- لأخيهم في الله بلال بن رباح الحبشي رضي الله عنهم أجمعين، ومع أن عبد الرحمن بن عوف ضاعت من يده ثروة كبيرة إلا أنه كان يقول: يرحم الله بلالاً ! ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري.
وقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه خاله في يوم بدر، كان اسمه العاص بن هشام بن المغيرة .
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يبحث عن ابنه عبد الرحمن بن أبي بكر ليقتله، وكان مشركاً يقاتل في صف المشركين، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يشبه أبا بكر بإبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ لأن ابتلاءات أبي بكر كانت قريبة من ابتلاءات إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقد وصل الأمر إلى أنه كان سيذبح ابنه كما فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لكن بلاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام أشد: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)، أراد إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يذبح ابناً باراً به مؤمناً أصبح بعد ذلك نبياً، لكن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يريد أن يذبح ابناً مشركاً، لكن هذا أيضاً صعب جداً، فإن ولدك مهما صنع فيك لا تحب له الأذى، فضلاً عن أن تؤذيه بنفسك، لكن أبا بكر كانت حياته كلها للإسلام، والأوسي والخزرجي والحبشي والرومي إخوانه في الله؛ لأنهم مسلمون، لكن ابنه ليس من أهله؛ لأنه مشرك، فيا له من إيمان في منتهى العمق! والحمد لله لم يستطع أبو بكر الوصول إلى ولده عبد الرحمن رضي الله عنه؛ لأن عبد الرحمن بعد ذلك أسلم وحسن إسلامه.
ورأى مصعب بن عمير رضي الله عنه في نهاية موقعة بدر أخاه أبا عزيز بن عمير أسيراً في يد أحد الأنصار، فقال مصعب للأنصاري: شدَّ يديك به؛ فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديه منك، فتعجب أبو عزيز وقال لأخيه مصعب : أهذه وصاتك بي! فقال مصعب رضي الله عنه يلخص سبباً من أهم أسباب النصر: إنه -أي: الأنصاري- أخي دونك، سبحان الله! هذا هو رباط العقيدة والألفة والمحبة والتعاون والتناصر في الله عز وجل، ثم يأتي من يقول: إن هذا الفعل يدل على التجرد من مشاعر الإنسانية، فإن مصعب بن عمير لا يشعر بأخوته لأخيه من الدم، فنقول: بل هذا هو منتهى الرقي في المشاعر الإنسانية، كل المشاعر موجهة لله عز وجل، إذا كان الإنسان يعيش لقضية ما، فإنه يكرس لها كل جهده ومشاعره وطاقاته، ويصبح متجرداً تماماً لهذه القضية، فإذا كانت هذه القضية هي إرضاء رب العالمين سبحانه وتعالى، فهذه من أبلغ وأعظم المشاعر التي يتحلى بها الإنسان، وإننا الآن نتحدث عن يوم حرب ونزال ومفاصلة، وليس حديثنا عن أيام دعوة، فإن العلاقة في أيام الدعوة مختلفة تماماً مع الرحم، لكن الآن هناك مفاصلة كبرى كما ترون.
ولن يفهم كل الناس هذه المشاعر المتجردة لله؛ لأن القليل من الناس هم الذين قدم يصلون إلى هذا المستوى الراقي من الحس والفكر، فهذا الجيش كان عظيماً فعلاً.
وأيضاً من صفات هذا الجيش: أنه كان كفؤاً وبقدر المسئولية فعلاً، فقد تكون القضية سليمة، لكن المحامي فاشل؛ ولذلك نخسر القضية، وربما تكون الغاية نبيلة والمدافع عنها ضعيفاً، فلا نصل إلى الغاية، فالمسألة مسألة أمانة، جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فسأله عن الساعة فقال له: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)، وهذه مشكلة ضخمة تواجهها الأمة الإسلامية الآن، فالأمر في هذا العصر لا يوسد إلى أهله، بل يوسد إلى من عنده واسطة أو قريب أو صاحب أو ابن فلان أو فلان، فالأمر يجب أن يوسد إلى من يستطيع فعلاً أن يؤديه على أفضل وجه، وهذا لا بد أن يجمع بين الصفتين، كما قال الله عز وجل: إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]، والقوي: الكفء في مجال العمل فإن كان الفرد في الجيش لابد أن يكون عسكرياً جيداً، وإن كان في الزراعة فلا بد أن يكون فاهماً في أمور الزراعة، كذلك في التجارة وفي الصناعة وفي التعليم وفي الإدارة، وفي أي مجال يكون محترفاً في مجاله فعلاً، بل يكون مبتكراً ومخترعاً ومتحمساً للإبداع.
والأمين: هو الذي يعلم أن الله عز وجل يراقبه؛ فيرعى الأمانة، ولا يغش ولا يدلس ولا يضيع وقتاً ولا يبخل برأي ولا يدخر معونة، يكون أميناً كما وصفه الله عز وجل.
وفي موقعة بدر وسد الأمر إلى أهله، والكفاءة رأيناها في كل المقاتلين، احترافية في الأداء، مهارة في المناورة، قوة في النزال، دقة رأي وبعد نظرة، عسكريون على أعلى مستوى وفي منتهى الأمانة، يعرفون أن الله ينظر إليهم في كل لحظة؛ لأن إيمانهم عالٍ جداً، وأخلاقهم لا تسمح بأي تفريط؛ لهذا السبب رفض الرسول عليه الصلاة والسلام في بدر أن يستعين بمشرك.
ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو خارج إلى بدر، ويذكر أن هذا الرجل له جرأة ونجدة، ففرح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (جئت لأتبعك وأصيب معك، فقال صلى الله عليه وسلم: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع؛ فلن أستعين بمشرك)، سبحان الله! مع قوة الرجل وبأسه ونجدته، ومع احتياج المسلمين إليه، إلا أنه قد يفتقر إلى الأمانة، فهو لا يؤمن بأن الله عز وجل يراقبه فقد يخدع المسلمين، فرفض صلى الله عليه وسلم الاستعانة بأي مشرك في غزوة بدر؛ فهذه قاعدة: ألا يستعين المسلمون بالمشركين، لها بعض الاستثناءات، وهي موجودة في كتب الفقه، لكن الأصل ألا يستعين المسلمون بمشرك ولو كان كفؤاً.
وأكمل الرسول صلى الله عليه وسلم الطريق إلى بدر، وجاء إليه نفس الرجل بعد قليل، وقال له كما قال أول مرة؛ فقال له صلى الله عليه وسلم: (تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع؛ فلن أستعين بمشرك)، ثم جاء له مرة ثالثة فقال له صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة، فقال له الرجل: (نعم. أؤمن بالله ورسوله؛ فقال صلى الله عليه وسلم: فانطلق)، فهذا معنى في غاية الأهمية: توسيد الأمر إلى أهله، وأهله هم الأكفاء الأمناء، وقد يكون الرجل أميناً وتقياً وورعاً، لكنه ليس كفئاً؛ هذا أيضاً لا ينفع.
رد الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر بعض المسلمين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رأى أن قدرتهم القتالية ضعيفة، مع علمه التام بأمانتهم، ورغبتهم الصادقة في القتال، ورد مجموعة من صغار السن؛ لضعف بنيتهم، وضآلة أجسامهم، كـعبد الله بن عمر والبراء بن عازب رضي الله عنهم، وغيرهما من الصغار، وفي نفس الوقت قبل بعض صغار السن الآخرين؛ لكفاءتهم العسكرية والجسدية، كـعمير بن أبي وقاص ، ومعاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ بن عفراء ، كانوا صغاراً في السن، لكن عندهم قدرة قتالية، فقبلهم صلى الله عليه وسلم.
فلابد من كفاءة وأمانة، ومن دون هاتين الاثنتين لا يوجد نصر.
موضوع صغار السن هذا سيأخذنا إلى صفة أخرى من صفات الجيش المنصور.
من الممكن أن الصغير والكبير ينصران الإسلام، لكن التاريخ يقول: إن معظم محطات التغيير الرئيسية كانت معتمدة اعتماداً شبه كلي على الشباب، وراجعوا محاضرات الفترة المكية.
عملت بحثاً في أعمار المشاركين في غزوة بدر، وهناك كثير لا نعرف أعمارهم، لكن الذي أحصيته من هؤلاء يكفي أن يكون عينة صادقة تعبر عن حال الجيش، فإن متوسط العمر في الجيش كان اثنين وثلاثين سنة، وهناك أناس أكبر وأناس أصغر، فالمواقع القيادية في بدر كلها كانت للشباب، كان حامل راية المهاجرين علي بن أبي طالب ، وعمره خمسة وعشرون سنة، وحامل راية الأنصار سعد بن معاذ ، وعمره اثنان وثلاثون سنة، وحامل الراية العامة للجيش كله مصعب بن عمير ، وعمره سبعة وثلاثون أو ثمان وثلاثون سنة، كما أن شهداء بدر متوسط عمرهم تحت الثلاثين سنة، فالشباب يا إخواني! طاقة هائلة، والتركيز عليهم في موقع الذب وفي غيرها من المواقع الفاصلة كان في منتهى الوضوح، والنصر جاء على أيديهم في بدر وفي غيرها، وليس معنى هذا أننا لسنا محتاجين لحكمة الشيوخ، لا، بل نحن محتاجون لكل الطاقات، الصغير والكبير، الرجل والمرأة من المؤسف جداً أن يكون شباب الأمة الذين يجيء معظم النصر على أيديهم يكون مشغولاً ببعض الأمور التافهة التي لا تصلح لطفل فضلاً عن شاب. وراجعوا محاضرة: كلمة إلى شباب الأمة.
إذاً: نحن في درس هذا اليوم وفي الدرسين الذين مضيا ذكرنا عدة صفات للجيش المنصور، تعالوا نجمعها وتعرف عليها، فإنها إذا تجمعت في أي جيش لانتصر؛ لأن هذه سنن، وسنن الله سبحانه وتعالى لا تبديل لها.
الصفة الأولى: الإيمان بالله عز وجل، وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ هذه أهم صفة، وأي منهج لا يقوم على الكتاب والسنة؛ لن يكون من ورائه إلا كل خزي وذل وهزيمة.
الصفة الثانية: الإيمان باليوم الآخر، وطلب الجنة، وحب الموت في سبيل الله، والزهد في الدنيا.
الصفة الثالثة: الوحدة بين المسلمين، والصف المتآلف المتحاب، ولا بد أن يكون هذا الحب لا يقوم على روابط قبلية أو عرقية، ولكن في الأساس يقوم على رباط العقيدة والدين.
الصفة الرابعة: الإعداد الجيد من خطة ومال وسلاح وجهد وتخصص وعلم.
الصفة الخامسة: الشورى، والشورى لا تكون إلا فيما لا نص فيه، ولا يجوز للمسلمين أن يجتمعوا على مخالفة الشرع، بل يتشاورون فيما لا نص فيه، وبدون شورى فإن النصر بعيد، بل مستحيل.
الصفة السادسة: الحسم وعدم التردد: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159]، والتسويف وتأجيل الأعمال علامة على التردد والضعف، وطبعاً هذا يؤخر النصر، بل أحياناً يمنعه.
الصفة السابعة: الاعتماد على الشباب، والاهتمام بهم، والارتقاء بأفكارهم، والثقة في قدراتهم وإمكانياتهم.
الصفة الثامنة: توسيد الأمر إلى أهله، وأهله هم الأكفاء الأمناء.
الصفة التاسعة: مشاركة القائد لشعبه وعدم الترفع عليهم، والاختلاط بهم، والتضحية معهم.
أما الصفة العاشرة والأخيرة: فهي روح الأمل والتفاؤل واليقين في نصر الله عز وجل لهذه الأمة؛ هذه كانت الصفة العاشرة من صفات الجيش المنصور، فتلك عشر كاملة.
وهذه الصفات العشر تحتاج لدروس ومحاضرات ودورات ومناهج، وتحتاج لوقت وجهد كي تزرع وتكون منهج حياتنا، وإن صفة واحدة من هذه الصفات إذا فقدت؛ قد يفقد معها النصر تماماً، حتى لو تحققت التسع الصفات الباقية، فمن غير إيمان لا يوجد نصر، ومن غير وحدة لا يوجد نصر، ومن غير أمانة لا يوجد نصر.. وهكذا، وسيتضح هذا جلياً في أحد.
إذا حقق المسلمون هذه الصفات العشر؛ أنعم الله عليهم بنعمة عظيمة جداً، وهي نعمة الثبات.
فلا أحد يستطيع أن يضمن أنه سيثبت، ولكي تكون أهلاً للثبات لابد أن تستوفي الصفات العشر للجيش المنصور مثلما ذكرنا، فإنه لا نصر من غير ثبات؛ ولهذا تجد أن الله يذكر في سورة الأنفال الثبات كثيراً، سواء بنفس اللفظ أو بمعناه، تجد مثلاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ [الأنفال:15]، كذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الأنفال:45]، وعند الحديث عن المطر قال: وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال:11]، وعند الحديث عن الملائكة قال: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:12]، فالثبات هبة من الله عز وجل، لا يلقاها إلا من قدم الصفات العشر مكتملة، فإذا ثبت المسلمون في أرض المعركة؛ أنزل الله عليهم سبحانه وتعالى النصر من عنده.
نزول النصر يحتاج منا إلى وقفة مهمة وطويلة، فالنصر يأتي من حيث لا يتوقع المسلمون، بل أحياناً يأتي من حيث يكره المسلمون، أي: يأتي النصر بطريقة يعترف الجميع أنها ليست من طرق البشر، ولا يستطيعونها؛ وما ذلك إلا لكي ينسب المسلمون النصر إلى الله عز وجل، ولا ينسبوه إلى أنفسهم أبداً.
فبعض المسلمين كرهوا هذا اللقاء مع الجيش المكي في بدر: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ [الأنفال:5]، وكانوا يتوقعون في هذه الموقعة موتاً محققاً للمسلمين: كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ [الأنفال:6]، لكن سبحان الله! أتى النصر من حيث لا يتوقع المسلمون، بل ومن حيث يكرهون.
وإذا أتى النصر أتى بطريقة لا يقدر عليها البشر عموماً؛ حتى لا يدعي أحد أنه بفضل قوته وعدده وخطته انتصر، كما ذكرنا قبل ذلك.
وفلسفة النصر في الإسلام تؤكد أن النصر من عند الله عز وجل، لكنه لا ينزل عشوائياً، بل ينزل على الذين ثبتوا في أرض القتال.
تعالوا نرى كيف نزل النصر في يوم بدر!
الكيفية التي تم بها النصر يا إخواني! تتلخص في قوله تعالى في سورة الأنفال: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126]، فهذا أسلوب قصر نفى تماماً أن يأتي النصر إلا من طريق واحد: من عند رب العالمين سبحانه وتعالى.
تعالوا نرى جنود الرحمن في يوم الفرقان.. تعالوا نرى الجنود التي حققت النصر العظيم.
سنعد عشرة من جنود الرحمن سبحانه وتعالى في يوم الفرقان، أول جنوده سبحانه الملائكة.
مَن مِن قادة الأرض يستطيع أن يحسب في حساباته عدد الملائكة المقاتلين في الجيش؟ لا المسلمون ولا الكفار يستطيعون أن يحسبوا هذه الحسبة، وهذا شيء معترف به من الجميع، فهو بيد الله عز وجل وحده، فإن جيوش الملائكة قاتلت في بدر، ونزلت كذلك في الأحزاب، والله سبحانه وتعالى قال: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا [الأحزاب:9]، ونزلت كذلك في حنين قال: وَأَنزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا[التوبة:26]، ولا يستبعد أن تنزل في معركة قديمة أو حديثة أو مستقبلية، فهم جنود من جنود الرحمن سبحانه وتعالى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم:6].
والملائكة خلق عجيب، وقوة خارقة غير متخيلة، فقد رفع جبريل عليه السلام قرية لوط عليه السلام إلى السماء على طرف جناحه، حتى سمع أهل السماء أصوات الناس ونباح الكلاب، ثم قلبها، فـجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا[هود:82]، سبحان الله! ملك واحد يرفع قرية كاملة إلى السماء، وملك يريد أن يطبق على الأخشبين -جبلين حوالي مكة-.
هؤلاء الملائكة شاركوا في غزوة بدر، ليس ملكاً ولا اثنين، بل جيشاً من الملائكة، يقول الله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ[الأنفال:9]، مردفين: أي يتبع بعضهم بعضاً، ومعنى ردف لكم: أي ردء لكم ومعين لكم، فهذه ألف من الملائكة في المرحلة الأولى من مراحل القتال، وبعد ذلك تطور الأمر، انظروا إلى قوله تعالى في موقعة بدر: وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران:123-125]، مسومين: أي معلمين بعلامات.
قال الربيع بن أنس رحمه الله -من التابعين- مفسراً هذه الآيات: أمد الله عز وجل المسلمين بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف. وقد يقول قائل: كان يكفي ملك واحد، فلماذا هذه الأعداد المتزايدة؟
الجواب: الله سبحانه وتعالى عرفنا الحكمة من وراء هذه الأعداد، قال تعالى: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ[الأنفال:10]، تخيل أن الرسول عليه الصلاة والسلام يبشر المسلمين بأعداد من الملائكة، بل تخيل المسلمين عند سماعهم لهذه الآيات، فكلمة واحد غير كلمة عشرة، وغير كلمة ألف، وغير كلمة خمسة آلاف، والجميع يعرفون أن ملكاً واحداً يكفي، فنزول خمسة آلاف من الملائكة بشرى كبيرة للمؤمنين، أضف إلى ذلك أن هذا العدد الكبير من الملائكة الذي اشترك في بدر هم مجموعة منتقاة من أفضل الملائكة، فالملائكة هم درجات.
روى البخاري عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه -من أهل بدر- قال: (جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين -أو قال كلمة نحوها، يعني: من أحسن المسلمين، أو من أعظم المسلمين- قال جبريل : وكذلك من شهد بدراً من الملائكة).
أضف إلى ذلك أن جبريل وهو أفضل الملائكة على الإطلاق شارك في بدر بنفسه، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: (هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب) وفي رواية ابن إسحاق : (أبشر أبا بكر
! أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع)، والنقع التراب.إني أريد منك أن تعيش معي في أرض بدر، تخيل أن جبريل جاء من بعيد راكباً على فرس يجري، وهو ممسك بلجام الفرس، والتراب يتصاعد من حول الفرس، وخلفه ألف من الملائكة الفرسان ترفع سيوفها وعليها أدوات الحرب، كتيبة ملائكية حقيقية، وبعدها كتيبة والثانية والثالثة والرابعة والخامسة.
يا ترى! كيف كان شعور المسلمين والرسول صلى الله عليه وسلم يشرح لهم أن الملائكة دخلت أرض الموقعة لتقاتل معهم؟
يا ترى! هل سيخاف المسلمون في موقف كهذا؟ هل من الممكن أن يهتزوا أو يجبنوا وهم يعرفون أن هناك جيشاً ملائكياً كاملاً يحارب معهم؟!
هذا هو قول الله سبحانه: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ[الأنفال:10].
ولم يعرف المؤمنون في بدر عن أمر الملائكة عن طريق الرسول عليه الصلاة والسلام، بل هم رأوا بأنفسهم آثار الملائكة في أرض بدر، بل إن منهم من رأى الصورة التي تمثل بها الملائكة في أرض بدر، بل إن من المشركين من رأى الملائكة في الصورة التي تمثلوا بها، فقد تمثلوا في صورة بشر.
روى مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما رجل من المسلمين يومئذ -يعني: يوم بدر- يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وهو يقول: أقدم حيزوم), وحيزوم: اسم فرس الملك، (فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع).
يعني: صار مكان الضربة لونه أخضر، فكانوا يعلمون بأن ضربات الملائكة في يوم بدر تبقي أثراً أخضر على أجساد المشركين، فجاء الأنصاري، وحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: (صدقت، ذلك مدد من السماء الثالثة)، يا ألله! ملائكة من السماء الثالثة، وملائكة من سماء أخرى وأخرى، فهم فعلاً مجموعة منتقاة من الملائكة من مختلف السماوات.
وروى الإمام أحمد عن أبي داود المازني رضي الله عنه -وهو أيضاً ممن شهد بدراً- قال: إني لأتبع رجلاً من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي؛ فعرفت أنه قد قتله غيري.
ويروي الإمام أحمد أيضاً عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: جاء رجل من الأنصار قصير بـالعباس بن عبد المطلب أسيراً كان العباس في ذلك الوقت مشركاً، وخرج مستكرهاً للقتال مع أهل مكة، لم يكن يريد القتال، لكنه لا يزال على دين الكفار، وكان العباس رضي الله عنه وأرضاه فارساً شديداً، أسره أنصاري قصير كما يقول سيدنا علي بن أبي طالب ، وصف الأنصاري بالقصر تعبيراً عن استغرابه من أسر هذا القصير للعباس بن عبد المطلب الفارس العظيم، فلما جاء العباس مع الأنصاري قال العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح -شعره منحسر من على جانبي الرأس- من أحسن الناس وجهاً على فرس أبلق -الأبلق: الذي بين السواد والبياض- ما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسكت! فقد أيدك الله تعالى بملك كريم).
إذاً: المؤمنون والمشركون عرفوا أن الملائكة تقاتل في بدر، والملائكة جنود من جنود الرحمن سبحانه وتعالى.
الجندي الثاني من جنود الرحمن في بدر هو جندي عجيب يقال له: الرعب، يلقيه الله عز وجل في قلوب الكافرين، روى البخاري ومسلم -رحمهما الله- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، وفي رواية أحمد يقول: (ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر)، يعني: قبل أن يصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى العدو بمسيرة شهر يكون العدو قد أصيب بالرعب، ومعلوم أن الرعب يدخل في قلوب كل الناس، هذا شيء معروف، لكن العجيب أن يدخل الرعب في قلوب القوي من الضعيف، وأن يدخل الرعب في قلب الكثير من القليل، وأن يدخل الرعب في قلب من هو مدجج بالسلاح من الأعزل الذي لا يملك سلاحاً، هذا هو العجيب، وهذا الذي نراه دائماً مع جيوش المؤمنين، يقول سبحانه وتعالى في غزوة بدر: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [الأنفال:12]، تخيل! سيلقي الله عز وجل بنفسه الرعب في قلوب الذين كفروا، وقد رأينا جيش مكة كيف كان مرعوباً من أوله إلى آخره، مع أنه ألف بعدة المحارب، والمسلمين ثلاثمائة بعدة المسافر، لكن ماذا تفعل لمن ألقى الله عز وجل الرعب في قلبه؟ وهذا واقع نراه إلى الآن، كم رأينا طفلاً صغيراً يمسك بحجر ويقف أمام دبابة غير خائف، والجندي داخل الدبابة لا يستطيع الخروج.
كم رأينا من طائرات وصواريخ تقصف كي تقتل رجلاً أعزل ولعله قعيد على كرسي!
كم رأينا من فرق مسلحة بأقوى الأسلحة والأقنعة والأعداد والسيارات تذهب لتقبض على واحد لا يملك مسدساً أو خنجراً أو أي سلاح!
وكثيراً ما نستغرب لماذا يحصل هذا؟ لكن لا نستغرب ونذكر أن الرعب جندي من جنود الرحمن سبحانه وتعالى.
الجندي الثالث: عكس الرعب، وهو الطمأنينة والسكينة والأمان الذي يصل إلى حد النعاس، يلقيه الله عز وجل في قلوب الذين آمنوا، والقلوب بين أصابع الرحمن، فكما ألقى الله عز وجل الرعب في قلوب الكافرين، ألقى السكينة في قلوب المؤمنين حتى اطمأنوا وثبتوا، وستجد حديثاً عن السكينة في كل المواقع التي حصل فيها النصر، في بدر والأحزاب وصلح الحديبية وحنين وهكذا.
يقول الله تعالى عن غزوة بدر: إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [الأنفال:11].
الجندي الرابع من جنود الرحمن: المطر، فالله القادر أن ينزل المطر هنا أو هناك، وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ [الشورى:28]، والله هو الذي يقدر أن ينزل المطر هيناً لطيفاً على منطقة، وينزله وابلاً شديداً على منطقة مجاورة تماماً، ويكفينا أن نتذكر قول الله عز وجل: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال:11].
الجندي الخامس من جنود الرحمن: التقليل والتكثير في الأعداد، معنى هذا: أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعل الشخص يرى الأعداد التي أمامه مختلفة عن الواقع، يراها أكثر أو يراها أقل بحسب ما يريد هو سبحانه وتعالى، وهذا الكلام له أثر عجيب في القتال.
تعالوا نرى قصة الأرقام في بدر:
جيش المسلمين في هذه الموقعة ثلاثمائة وأربعة عشر تقريباً، وجيش الكفار ألف، والله سبحانه وتعالى يريد للموقعة أن تتم، ولا يريد لأي فريق أن يقرر الهروب، أو عدم الدخول في صدام؛ لأن الله سبحانه وتعالى يدبر المكيدة للكافرين: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]؛ ولكي يصمم كل فريق على القتال لابد أن يشعر أن الفريق الثاني ضعيف وقليل، ومن ثم يتجرأ عليهم ويقرر القتال، هذا كان قبل القتال.
ومع أن المخابرات المكية حصرت الجيش المسلم، وعرفت أن العدد الواقعي هو ثلاثمائة تقريباً، كما قال عمير بن وهب ، إلا أن الله عز وجل قلل أعداد المسلمين جداً في نظر أبي جهل ؛ حتى دفعه دفعاً للقتال، فقال أبو جهل : إنما هم أكلة جزور، يعني: مائة فقط أو أقل؛ مما جعله يتحمس جداً لقتال المسلمين، ودفعه دفعاً للحرب.
إذاً: الكفار رأوا المسلمين قليلين.
والمسلمون أيضاً رأوا الكفار قلة، مع أن المخابرات الإسلامية حصرت الجيش الكافر، وعرفت أن عدده ما بين التسعمائة والألف كما قال صلى الله عليه وسلم، وذلك في أول القتال، ولكي يشجع رب العالمين سبحانه وتعالى المسلمين على القتال دون تردد؛ أراهم أن المشركين قلة، وهم في الأصل ألف، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر، حتى قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟
ألف واحد نزلوا في التقدير إلى سبعين!!
تخيل! عندما يرى المسلم الكفار سبعين بدلاً من ألف، سبعين، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: فقال لي -يعني: صاحبه- لا، بل مائة. فسبحان الله!
فالمسلمون يشاهدون الكفار مائة، والمسلمون يعرفون أنفسهم أنهم ثلاثمائة، وهذا شجعهم جداً على القتال.
إذاً: كل فريق يرى الفريق الآخر قليلاً، وهذا ما قاله الله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال، قال: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً [الأنفال:44]، حتى يتم القتال، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [الأنفال:44]. هذا كان قبل القتال.
ثم بدأت المعركة، وتم ما يريده سبحانه وتعالى من حدوث القتال، فحصل تغيير آخر مهم في عملية الإحصاء والعدد.
أما المسلمون فما زالوا يرون الكافرين قلة، وبالتالي فالمسلمون متحمسون تماماً للقتال؛ لأنهم يرون أنهم أكثر من الكفار بثلاثة أضعاف، وأما الكفار فقد حدث لهم تغير عجيب بعد بدء القتال، فقد دخل في روعهم أن المسلمين ضعف المشركين يعني: ألفين، ودخل في قلوبهم الرعب من المسلمين، وبالتالي انهزموا نفسياً ثم واقعياً، وهذا الحديث تجده في القرآن في سورة (آل عمران) تعليقاً على غزوة بدر، قال تعالى: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ [آل عمران:13]، يرونهم مثليهم: ضعف عدد المشركين، (رأي العين): يرون هذا الأمر بأعينهم ليس وهماً، وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ [آل عمران:13]، ذكر الله هذه الآيات في كتابه ليس لمجرد التاريخ لغزوة بدر، بل ذكر ذلك عبرة لأولي الأبصار.
فهذه الآيات تفهمنا أشياء كثيرة، منها كيف أن أعداء الأمة مرعوبون من المسلمين المتمسكين بشرع الله عز وجل؛ لأنهم في الغالب يرونهم أكثر من عددهم الحقيقي بكثير، وهذا الذي يجعلهم يتخذون قرارات نحن نرى أنه مبالغ فيها، لكنهم معذورون فيها؛ لأنهم يرون المسلم اثنين، ويرونه ثلاثة، ويرونه عشرة وقد يرونه أكثر. فهذا جندي حقيقي من جنود الرحمن، التقليل والتكثير من الأعداد.
الجندي السادس من جنود الرحمن في بدر: هو الفرقة بين الكافرين بدون أي تدخل من المسلمين.
لا شك يا إخواني! أن فرقة الكافرين تضعف صفهم، وأحياناً يسعى المسلمون إلى إحداث هذه الفرقة بين الكافرين؛ لأجل توهين قوتهم، مثلما فعل الرسول عليه الصلاة والسلام في غزوة الأحزاب لما قال لـنعيم بن مسعود رضي الله عنه: (خذل عنا)، لكن هناك أوقات تحصل فيها الفرقة بين الكافرين من غير أن يفعل المسلمون شيئاً، هذه الفرقة جندي من جنود الرحمن، يرسله رب العالمين سبحانه وتعالى لإضعاف الصف الكافر، فقد رأينا انسلاخ الأخنس بن شريق بثلاثمائة من الكفار قبل موقعة بدر، أي: قبل أن يرى المسلمين أصلاً، ورأينا الصراع بين قادة المشركين وانقسام الصف، والتراشق بالألفاظ والاتهامات، ورأينا كل واحد يبحث عن مصلحة خاصة، وكل هذا في أرض القتال، في مكان لابد أن يكون فيه وحدة، وهذا الشيء يحصل دائماً في صف الكافرين إن وجد المسلمون الذين يستحقون النصر، لكن إن لم يكن المسلمون على هذه الصورة فإننا نجد أن الكفار يتوحدون، وتتفق آراؤهم، وتزداد قوتهم، والأمر في النهاية يعود إلينا نحن، فإن كنا على خير فرق الله عز وجل بين عدونا، وإن كنا غير ذلك جمع الله عز وجل عدونا، فتكون لهم الغلبة علينا؛ حتى نعود إلى ديننا وإلى ربنا سبحانه وتعالى.
إذاً: هذا هو الجندي السادس من جنود الرحمن سبحانه وتعالى: الفرقة بين الكافرين.
الجندي السابع من جنود الرحمن سبحانه وتعالى: جندي غريب جداً، اسمه جندي البركة، وهو تضخيم النتيجة للفعل البسيط، يعني: تعمل شيئاً لا يؤدي في الأصل إلى نتيجة كبيرة، فإذا بالله عز وجل يبارك في هذا العمل ويضخم أثره؛ حتى تصبح النتيجة هائلة.
مثال ذلك: أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم بدر حفنة من حصباء من التراب، فاستقبل بها قريشاً ورماها في وجوههم وقال: (شاهت الوجوه)، فما من أحد من المشركين إلا أصاب عينه ومنخريه وفمه من تلك القبضة، والحديث في صحيح مسلم ، وفي ذلك أنزل الله عز وجل: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]، نعم. الرسول صلى الله عليه وسلم رمى: (إِذْ رَمَيْتَ)، ولكن لو رمى بالتراب وجوههم ألف مرة فلن يصيب عيون الكافرين جميعاً إلا إذا أراد الله عز وجل للتراب أن يصيبهم، وفعل الرمي هذا لا يؤدي في المعتاد إلى النتيجة الضخمة التي حدثت؛ لذلك ينفي ربنا سبحانه وتعالى الرمي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه هو الذي أخذ التراب ورماه، لكن الذي أخذه إلى مرماه الحقيقي هو الله عز وجل.
أيضاً في قصة قتل أبي جهل فرعون هذه الأمة وقائد المشركين، وهو واحد من أبرز فرسان المشركين، وأكثر المشركين جرأة على المسلمين وأمنعهم، كان محاطاً بفرقة عسكرية قوية لحمايته، ومع ذلك قتل بطريقة عجيبة، فلو قتله فارس محترف من فرسان المسلمين، مثل الزبير بن العوام ، أو علي بن أبي طالب ، أو طلحة بن عبيد الله لكان هذا أمراً مفهوماً عندنا، لكن قتله تم بطريقة عظيمة، وليس لها إلا تفسير واحد: هو جندي البركة، وذلك أن الله عز وجل بارك في فعل ضعيف؛ ليحقق نتيجة هائلة قوية ألا تحدث هذه النتيجة، تعالوا نسمع القصة التي يحكيها عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه في قتل أبي جهل ، والقصة في البخاري . يقول: إني لفي الصف يوم بدر، إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن عن يمينه وشماله طفلان: معاذ بن عمرو بن الجموح وعمره ثلاث عشرة سنة، ومعوذ بن عفراء عمره أربع عشرة سنة، يقول عبد الرحمن بن عوف : فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سراً من صاحبه: أي عم! أرني أبا جهل فقلت: يا ابن أخي! فما تصنع به؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده! لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده -لن يفارق ظلي ظله- حتى يموت الأعجل منا.
يا الله! هذا الكلام يخرج من طفل عمره ثلاث عشر سنة أو أربع عشرة سنة، ولا يريد قتل أي واحد حصين في الجيش الكافر، بل يريد قتل زعيم الجيش الكافر المحمي بكتيبة عسكرية، فهذا الكلام عجيب وغير منطقي، حتى قال عبد الرحمن بن عوف : فتعجبت لذلك، ثم قال: وغمزني الآخر فقال لي مثل هذا، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه.
تعالوا نترك عبد الرحمن بن عوف ونسمع من الطفل معاذ بن عمرو بن الجموح رضي الله عنه وعن أبيه وهو يحكي هذا الموقف. الموقف في رواية ابن إسحاق وفي رواية ابن سعد في الطبقات يقول: سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة -أي الغابة كثيفة الأشجار- وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه؛ لأنها أهم شخصية في الجيش المكي، يقول معاذ : فلما سمعته جعلته من شأني فصمت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطمت قدمه بنصف ساقه، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطير من تحت مرضخة النواة حين يضرب بها. الله أكبر! ضربة من سيف معاذ أطارت ساق أبي جهل !
ليس من الطبيعي أبداً أن معاذاً يفكر في قتل أبي جهل ، وليس من الطبيعي أن معاذاً يقدر على الوصول إلى أبي جهل وهو داخل كتيبة عسكرية قوية تحميه، وليس من الطبيعي أن أبا جهل لا يستطيع أن يرد ضربة معاذ ، وليس من الطبيعي أن ضربة معاذ تطير ساق أبي جهل هكذا بلحمها وعظمها، بل من الصعب بتر ساق بضربة واحدة، هذا يحتاج إلى فارس محترف متمكن مفتول العضلات، فصعب جداً أن نفهم أن هذا الأمر يأتي من طفل عمره ثلاث عشرة أو أربع عشر سنة، لكن هذا حصل وليس هذا فقط، بل بعد أن ضرب معاذ بن عمرو بن الجموح رضي الله عنه وعن أبيه أبا جهل ، جاء معوذ بن عفراء الطفل الثاني الذي كان ينافسه على قتل أبي جهل وضرب أبا جهل ضربة أثبتته. انتهى، ولم يبق فيه إلا رمق بسيط جداً من الحياة، ثم جاء عبد الله بن مسعود واحتز رأسه، لكن من هو الذي قتل فعلاً أبا جهل ؟ الذي قتله معاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ بن عفراء ، وأسرع الاثنان إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقالا له: أنا قتلته، أنا قتلته، فقال صلى الله عليه وسلم: (أرياني سيفيكما! فنظر إلى السيفين فوجد الدماء على كلا السيفين؛ فقال صلى الله عليه وسلم: كلاكما قتله).
الشاهد في هذا: أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يمكن لأي فارس من الفرسان الكبار أن يقتل أبا جهل ويكون الأمر طبيعياً، لكنه يريد أن يرينا جندياً من جنوده، يبارك في فعل صغير ويجعله كبيراً، وهذه هي البركة الإلهية، فعل صغير تكون له نتائج كبيرة جداً.
وهذا ليس مجرد توفيق فقط، بل هو أعلى من التوفيق؛ لأن التوفيق شيء ممكن يحصل في المعتاد، والله سبحانه يمكن أن يوفق البعض ولا يوفق الآخرين، لكن هنا نتكلم في موضوع البركة الإلهية، أن هذا الشيء في المعتاد لا يمكن أن يحصل، لكن الله سبحانه وتعالى بقدرته يكتب له الحدوث.
فالذي حمل السيف وضرب هو معاذ ، لكن الذي سبب لهذا السيف أن يقوم بهذه المهمة المستحيلة هو رب العالمين سبحانه وتعالى، ولا يكون ذلك إلا لمن استوفى الصفات العشر للجيش المنصور. هذا هو الجندي السابع.
الجندي الثامن: وهو الرؤى والأحلام، يراها أهل الحق فتبشرهم، ويراها أهل الباطل فتحبطهم وتفشلهم، وهذا الكلام ليس دجلاً ولا شعوذة، بل له شواهد كثيرة في التاريخ، سواء في السيرة أو في الفتوح الإسلامية أو في كل المعارك التي مرت بأمتنا.
تعالوا بنا نتكلم في غزوة بدر في البداية عن رؤيا لبعض الكافرين، والرؤيا قد تصيب الإنسان بالكآبة والحزن والإحساس بالفشل، وتوقع الهزيمة في نفسه، فيكون لها رد فعل سيئ جداً على نفسية المحارب.
هذا جهيم بن الصلت بن المطلب من عائلة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن كان مشركاً، رأى أن رجلاً أقبل على فرس حتى وقف ومعه بعير له، ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام وأمية بن خلف ، وفلان وفلان وفلان، فعد رجالاً ممن قتل يوم بدر من أشراف قريش، وانتشرت الرؤيا في مكة، وكان ذلك قبل الخروج إلى بدر، ولما سمع أبو جهل هذه الرؤيا جن جنونه، وقال: هذا أيضاً نبي من بني عبد المطلب، سيعلم غداً من المقتول إن نحن التقينا.
لكن لا شك يا إخواني! أن هذه الرؤيا كان لها أثر سيئ على المشركين، وإلا لما انتشر خبرها بهذه الصورة حتى يصل إلى أبي جهل .
الرؤيا الثانية كانت من عاتكة بنت عبد المطلب عمة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكانت مشركة في ذلك الوقت، واختلف بعد ذلك في إسلامها، لكن الراجح أنها لم تسلم، رأت عاتكة قبل أحداث بدر رؤيا خوفتها، فأرسلت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب عم الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لتحكي له الرؤيا، وكان العباس مشركاً في ذلك الوقت، فقالت له: يا أخي! والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني، وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة. تكتم علي ما أحدثك؟ قال لها: وما رأيت؟ قالت: رأيت راكباً أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته: ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، يعني يدعو آل قريش للخروج إلى المصارع في ثلاثة أيام. قالت: ثم كرر هذا النداء في مناطق مختلفة حول الكعبة، ومن على جبل أبي قبيس، ثم أرسل صخرة فأقبلت تهوي، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارتضت -أي: تفتتت- فما بقي بيت من بيوت مكة إلا دخلته منها فلقة، قال العباس : والله إن هذه لرؤيا، فلا تذكريها لأحد، ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة ، وكان صاحبه، فذكر العباس له الرؤيا وقال له: لا تذكرها لأحد، فأخبر الوليد بن عتبة أباه عتبة بن ربيعة بالرؤيا وقال له: لا تقل لأحد،
وهكذا انتشر الأمر في قريش، حتى وصل إلى أبي جهل وكان العباس في ذلك اليوم ذاهباً ليطوف بالبيت الحرام، فلقيه أبو جهل مع المشركين، فقال له أبو جهل : يا بني عبد المطلب! متى حدثت فيكم هذه النبية؟ فأراد العباس أن ينكر فقال له: وما ذاك؟ قال أبو جهل : تلك الرؤيا التي رأت عاتكة ! قال العباس : وما رأت؟ قال أبو جهل : يا بني عبد المطلب! أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم، قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا إلى مصارعكم في ثلاث، فسنتربص بكم يا بني عبد المطلب! هذه الثلاث، فإن يك حقاً ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء؛ نكتب عليكم كتاباً أنكم أكذب أهل بيت في العرب، وكانت هذه فرصة لـأبي جهل ليشمت في بني عبد المطلب؛ فإن الصراع طويل جداً بين بني مخزوم -قبيلة أبي جهل - وبين بني هاشم قبيلة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسبحان الله! مر يومان، وفي اليوم الثالث وأبو جهل يستعد للشماتة في بني عبد المطلب جاء ضمضم بن عمرو الغفاري الذي بعثه أبو سفيان وهو يصرخ: يا معشر قريش! اللطيمة! اللطيمة! أموالكم قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث، فنفر كل أهل قريش، وتحققت رؤيا عاتكة .
أريد منكم أن تتخيلوا نفسية الجيش وهو خارج للقتال وهو على الأقل يشك -إن لم يكن متيقناً تماماً- أنه يخرج إلى مصارعه.
وراجعوا التاريخ فإنكم ستجدون كسرى رأى رؤيا قبل القادسية، كذلك رستم قائد الفرس، كان لها أكبر الأثر على الفرس، كذلك رأى هرقل ، ورأى قائد الجيش الروماني في اليرموك، والكلام كثير جداً في هذا الموضوع ومتكرر.
وعلى الجانب الآخر جيش المؤمنين في ليلة بدر، رأى الرسول صلى الله عليه وسلم رؤيا في منامه، أن الكفار أقل من العدد الذي أحصوه قبل ذلك، وذكر ذلك للصحابة فاستبشروا كثيراً، وثبتتهم هذه الرؤيا، قال سبحانه وتعالى: إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الأنفال:43]، فحدث أثر إيجابي حقيقي نتيجة هذه الرؤيا، والأثر هذا سيكون عكسياً لو كانت الرؤيا مختلفة، وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ ، ورؤيا الأنبياء غير رؤيا عامة البشر، لكن الرؤيا لها تطبيق في حياة الناس إن كانت تبشر بخير، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة).
وعلى الناحية الثانية الرؤيا السلبية كان لها أثر كبير جداً على المشركين؛ فالرؤى والأحلام جندي من جنود الرحمن سبحانه وتعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر:31].
الجندي التاسع من جنود الرحمن وهو من أعجب الجنود، هذا الجندي هو أبو جهل ، فـأبو جهل هو الذي دفع المشركين دفعاً إلى حتفهم، دفعهم للخروج من مكة، ودفعهم للقتال حتى مع إفلات القافلة، ودفعهم للقتال حتى مع اعتراض الجميع في أرض بدر، وقهر أمية بن خلف للخروج ليموت، وقهر عتبة بن ربيعة للقتال ليموت، ولم ير ما رآه جميع أهل قريش، بل طمس على بصيرته وأعان على هلاكهم.
وكما دفع فرعون جنده للدخول في البحر ليهلكوا فعل ذلك أبو جهل ، ولو تعقل لما قتل هذا العدد الهائل من قادة الكفر وأئمة الضلال، ولو تعقل لما كان يوم الفرقان، ولو تعقل لما حدثت الآثار المجيدة التي سنتكلم عنها إن شاء الله في الدرس القادم لغزوة بدر.
وما كان لـأبي جهل أن يتعقل، فما هو إلا جندي من جنود الرحمن سبحانه وتعالى شاء أم أبى، فالله عز وجل لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، حتى لو كان أبو جهل يساعد المسلمين على تحقيق مراد الله سبحانه وتعالى.
الجندي العاشر والأخير جندي أغرب من أبي جهل وأعجب، هذا الجندي هو إبليس نفسه، فالشيطان اجتهد كل الاجتهاد ليدفع المشركين دفعاً إلى القتال، ولم يكتف بالوسوسة، بل تمثل لهم في صورة سراقة بن مالك سيد بني كنانة؛ ليجيرهم من بني بكر، وخرج معهم كذلك بصورة سراقة بن مالك ، ودخل معهم أرض بدر، وثبت للقتال معهم حتى رأى الملائكة فعرفهم، فقد كان يعبد الله معهم قبل أن يكفر، فلما عرف أن الموضوع خرج من يديه قرر الهروب، ورآه أحد المشركين الحارث بن هشام ، وهو يهرب، وكان يظن أنه سراقة بن مالك فأمسكه وقال له: إلى أين يا سراقة ؟ ألم تكن قلت: إنك جار لنا لا تفارقنا؟ فقال له إبليس: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:48]، وفرّ بنفسه حتى ألقى نفسه في البحر، وأنزل الله سبحانه وتعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ [الأنفال:48]، في صورة سراقة بن مالك ، فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:48]، وطبعاً هذا شيء متوقع، فالشيطان يعد الناس ويمنيهم، ثم يتركهم عند الأزمات، واللوم لا يقع على الشيطان فقط، بل يقع أيضاً وبصورة أكبر على من اتبعوه، وهذا كلام الشيطان نفسه، واسمع كلام ربنا سبحانه وتعالى في سورة إبراهيم، قال: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم:22]، أي: لن أنفعكم ولن تنفعوني، إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم:22].
نعم، هذا الكلام والحوار سيكون يوم القيامة، لكنه بالتأكيد يحصل في الدنيا كثيراً، فكم دفع الشيطان أناساً إلى نهاياتهم، ثم تبرأ منهم وتركهم.
قد يكون الشيطان سبباً من أسباب نصر المسلمين، ومن المؤكد أن الشيطان لو عرف أن النصر سيكون حليف المسلمين في بدر؛ لما دفع قريش للحرب، لكن لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى.
هذا كان الجندي العاشر من جنود الرحمن سبحانه وتعالى، فتلك عشرة كاملة، وجنود الله أكثر من هذا بكثير: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [الفتح:4]، ففي الغزوات الآتية سنتعرف على جنود أكثر وأكثر.
نقول: إن كل كلامنا الذي مضى يصب في معنى واحد مهم، وهو المعنى الذي ظهر لنا في كل كلمة من كلمات درس هذا اليوم، هذا المعنى قوله تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:10]، وبهذا نفهم الآية التي جاءت في سورة الأنفال: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ [الأنفال:17].
فالمسلمون يحملون السيوف ويقاتلون، لكن جنود الرحمن العجيبة هي التي حققت النصر، مع اعتراف الجميع بأن الناصر هو الله عز وجل، وهو الذي أكمل لهم هذا النصر العظيم.
وسأختم كلامي هذا اليوم ببيان فهم الصحابة لنصر بدر، وسأختار كلمتين لاثنين من الصحابة الكرام.
الكلمة الأولى: لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه في مسند الإمام أحمد رحمه الله، قال فيها تعليقاً على قتل المشركين الثلاثة الذين قتلوا في أول مبارزة في بدر. قال: فقتل الله تعالى عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة ، مع أن علي بن أبي طالب كان من الذين اشتركوا في قتل هؤلاء الثلاثة، إلا أنه لا ينسب ذلك لنفسه أبداً، بل ينسبه لله تعالى، قال: فقتل الله تعالى عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة .
الكلمة الثانية: لـعبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه، وهي في مسند الإمام أحمد بن حنبل وفي الصحيحين، قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فشهدت معه بدراً، فالتقى الناس، فهزم الله العدو. فهذا الفهم هو الذي حقق لهم النصر.
وحين نعرف أن النصر لا يكون إلا من عند الله، فإننا سنجده قريباً إن شاء الله.
ونسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة السيرة النبوية نصر بدر للشيخ : راغب السرجاني
https://audio.islamweb.net