إسلام ويب

رمضان عامل بناء عظيم للأمة، فعلى الأمة ألا تضيع هذا العامل الهام جداً، بل تقوم باستغلال هذا العامل استغلالاً صحيحاً؛ ليؤدي مفعوله، وتظهر نتائجه، فالأمة في أشد الحاجة إلى إعادة بنائها البناء الصحيح المتكامل، وفق شرع الله عز وجل؛ حتى تستعيد سيادتها وقيادتها لسائر الأمم، فهي الأمة المستحقة لأن تسود العالم وتقوده.

دور رمضان في بناء الأمة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فأهلاً ومرحباً بكم في هذا الجمع المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.

وبعد:

كما تعلمون فنحن وأمة الإسلام جميعاً نعيش لحظات عظيمة من السعادة؛ لأننا نقترب من حدث جليل، حدث يفيض على أمة الإسلام كل عام باليُمن والبركات والخير والرحمة، حدث ينتظره الكبير والصغير، ينتظره الرجل والمرأة، ينتظره الغني والفقير، ألقى الله عز وجل محبته في قلوب المؤمنين جميعاً، حتى في قلوب الأطفال، نحن ننتظر شهر رمضان، ونحن نرى إلى أي حد تكون سعادة الأطفال برمضان، وهم لا زالوا لا يعرفون صياماً ولا قياماً ولا ثواباً ولا حسنات، نرى انتظار الناس لرؤية الهلال وإلى أي حد تكون الفرحة في القلوب عندما نعلم أن رمضان غداً.

شهر رمضان يا إخوة عظيم جداً في ميزان الإسلام، فتعالوا نرى وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الحدث الجليل، روى الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما حضر رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد جاءكم شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه).

هناك أحداث ضخمة حصلت وستحصل في هذا الشهر، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تغييرات كونية هائلة:

أولاً: (تفتح فيه أبواب الجنة).

ثانياً: (وتغلق فيه أبواب الجحيم).

ثالثاً: (وتغل فيه الشياطين).

إذاً: فيه فرص لعمل الخير، ودخول الجنة، والنجاة من النار، والانتصار على الشياطين، فرص كبيرة جداً في رمضان، وهو شهر رحمة من الله عز وجل، يعود فيه المؤمن إلى ربه، ويهدم فيه المؤمن كل ما بناه إبليس وأتباعه في شهور طويلة، ثم هو هدية من الرحمن عز وجل، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث: (فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم)، وأنا في رأيي أن نترك تحديد ليلة القدر بثلاث وثمانين سنة كما تقول الناس، إنما الأمر في تقدير الله عز وجل، والأمر للتعظيم والتبجيل والتكريم، والموفق لخير هذه الليلة هو من وفقه الله عز وجل، وليس كل الناس ستعرف ليلة القدر، وليس كل الناس ستستغل ليلة القدر.

إذاً: الموفق هو من بذل وتعب وسهر وقدم لإدراك تلك الليلة، هو من اشتاق إليها اشتياقاً حقيقياً، ننتظر ليلة القدر، هو من كان قبل رمضان يحسب الحسابات كم بقي من الأيام على مجيء رمضان، هو من ظل أثناء رمضان يخشى أن ينتهي الشهر الكريم، عنده استعداد كبير لحدث كبير.

نسأل الله عز وجل أن يبلغنا رمضان، وأن يوفقنا فيه إلى صالح العمل، وأن يهبنا فيه رحمة ومغفرة وعتقاً من النار.

حديثي معكم اليوم عن رمضان ليس حديثاً تقليدياً لن أتحدث عن أحكام رمضان، ولن أتحدث عن فضائل رمضان، ولن أتحدث عن آداب رمضان، ولكن سأتحدث معكم اليوم عن دور رمضان في بناء الأمة الإسلامية، حديثي معكم اليوم من القلب، وأسأل الله عز وجل أن يصل أيضاً إلى القلب.

الأمة الإسلامية يا إخواني صرح عظيم هائل، وبناء الأمم بصفة عامة أمر شاق مهول، فما بالكم لو كنا نبني خير أمة أخرجت للناس: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].

ما بالكم لو كنا نبني الأمة الشاهدة الوسط: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]، هذا البناء الضخم يحتاج إلى مجهود عظيم وتفكير عميق وإمكانيات هائلة، كما أنه يحتاج إلى أساس متين قوي يستطيع أن يحمل فوقه البناء الهائل، فأي عمارة ضخمة تحتاج إلى أساس متين، والله عز وجل وضح لنا في شرعه كل شيء، وضح لنا كيف يكون الأساس لهذا الصرح العظيم، صرح الإسلام.

روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس) ها هو البناء يبنى على أساسات وأعمدة خمسة: (شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان) ، خمسة أعمدة رئيسية منها: صوم رمضان، هذا أمر في غاية الأهمية.

الإسلام دين واسع جداً، دين يشمل كل أمور الحياة، يشمل عقيدة وصلاة وصوماً وحجاً وعمرة، يشمل زكاة وصدقة واعتكافاً وقياماً، ويشمل علوماً مختلفة وآداباً عديدة، وفضائل جمة، يشمل بيوعاً ومعاملات وتجارة وزراعة وصناعة، يشمل حروباً ومعاهدات وأحلافاً، ويشمل حدوداً وقوانين وتشريعات، يشمل الطعام والشراب، يشمل الزواج والأسرة والتربية، أبواب الإسلام واسعة جداً، فهو دين شامل كامل متكامل، لكن من كل هذه الأبواب الضخمة اختار الله عز وجل خمسة أمور فقط جعلها أعمدة الإسلام، والتي يبنى عليها كل هذا الصرح الضخم، من هذه الأعمدة رمضان.

إذاً: قضية رمضان ليست قضية شهر جميل مر على المسلمين سعدوا به لحظات، وحزنوا لفراقه لحظات، ثم ينتظرونه إلى العام القادم، أبداً، رمضان أمر بنائي لهذه الأمة، شهر رمضان عمود أساس من الأعمدة التي تحمل الإسلام فوقها، تخيل فلو أن هذا العمود غير موجود، أو أن هذا العمود مغشوش أو هش، أو أن به خللاً في التصميم أو خللاً في التطبيق ماذا ستكون النتيجة؟ سينهار البناء بالكلية، عمود واحد فقط ينهار بسببه هذا البناء الضخم بالكلية، وينهار البناء إذا كان هذا العمود غير موجود.

إذاً: الأمر في غاية الأهمية، إذا كنا نريد بناءً قوياً صلباً لهذه الأمة فلا بد أن يكون أساسه متيناً، ومن ثم لا بد أن يكون صيام رمضان على أعلى درجات الإتقان، حتى يحمل فوق الصرح المهول الإسلام، بهذه العزيمة وبهذا الفكر ومن هذا المنطلق نريد أن ندخل إلى رمضان، نريد أن ينتهي رمضان وقد أصبحنا مؤهلين لحمل الصرح العظيم والأمانة الكبيرة، القضية ليست فقط قضية الصيام، القضية قضية بناء أمة، أو قل: بناء خير أمة.

كيف يبني رمضان أمة الإسلام؟ لكي نفهم الأمر من أساسه فلنعد إلى جزئية تاريخية لطيفة: متى فرض رمضان على المسلمين؟ عندما نراجع النقطة هذه سنعرف كيف أن رمضان يبني أمة المسلمين، فرض رمضان على المسلمين في شهر (2) شعبان سنة (2هـ) بالضبط.

إرهاصات ما قبل فرض صيام رمضان ودورها في بناء الأمة

عندما كنت أراجع الأحداث التي تمت في شهر شعبان سنة (2هـ) اكتشفت أنه قد حدثت في هذا الشهر أمور كثيرة من أعظم الأمور التي مرت في تاريخ المسلمين، أذكر أنني أحصيت لكم منها أربعة أمور في دروس السيرة النبوية، وهي أمور في غاية الأهمية، وكلها حدثت في شهر شعبان سنة (2هـ) وهذه الأمور هي:

أولاً: فرض الصيام في رمضان، هذا الموضوع الذي نتكلم فيه في هذا النهار.

ثانياً: فرض الزكاة، الزكاة كانت مفروضة في مكة، لكن من دون تحديد للنصاب والأحكام المختلفة، فحدد ذلك في شعبان سنة (2هـ).

ثالثاً: فرض القتال على المسلمين بعد أن كان مأذوناً به فقط، قال الله عز وجل: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا [البقرة:190]، نزلت في شعبان.

رابعاً: تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة في النصف من شعبان سنة (2هـ).

هذه أحداث في غاية الأهمية وكلها حدثت في شهر واحد في شهر شعبان سنة (2هـ) لماذا؟ لأنه في شهر رمضان (2هـ) سيحدث أمر هام جداً يحتاج إلى كثير إعداد وإلى عظيم تربية، ستحدث غزوة بدر الكبرى، في (17) رمضان سنة (2هـ).

إذاً: هذه الأمور الأربعة هي لإعداد الجيش المجاهد الذي سيدخل في المعركة الفاصلة، هذه الأمور الأربعة شرعت لبناء الأمة المجاهدة، الأمة التي يرجى لها أن تنتصر على غيرها من الأمم، الأمة التي تقود غيرها لا تقاد بغيرها، الأمة التي تسود غيرها لا تساد بغيرها.

رمضان وتنقية الصف المسلم

من الأمور الإعدادية البنائية لصيام رمضان، يا ترى ما هو الذي سيعمله رمضان في إعداد الجيش المجاهد، أو في إعداد الأمة المجاهدة، أو في إعداد الأمة الرائدة؟ رمضان في تصوري سيفعل ثلاثة أشياء: تنقية، وتميز، وتربية، ماذا يعني هذا الكلام؟

أولاً: رمضان وتنقية الصف المسلم، رمضان سيعمل تنقية للصف المسلم، رمضان سيزيل الشوائب من الصف المسلم، كثير من الناس يتسمى بأسماء إسلامية ومحسوب على أمة الإسلام وهو لا يحمل همها، كثير من الناس أسلموا رغباً أو رهباً، أو ولدوا هكذا مسلمين ولم يكن لهم اختيار ولم يكن لهم رغبة حقيقية في الإسلام، والأمور في حالات السلم والرخاء قد لا تكون شديدة الوضوح، ولكن في وقت الجهاد والجد والحرب ولقاء الأعداء لا بد أن يكون الصف ثابتاً، ولا يثبت في أرض الجهاد إلا صادق الإيمان، لا بد من انتقاء المسلمين الصالحين للثبات وللجهاد، لا بد من انتقاء المسلمين الصالحين لدخول بدر الكبرى، وانتقاء الصالحين كذلك لدخول ما شابه بدراً الكبرى، الكل يقول: أنا مسلم ثابت؛ لكن أين الصادقون؟ وأين الكاذبون؟ لا بد من اختبار وامتحان، ورمضان هو اختبار هام يحدث خلاله وبعده تنقية للصف المسلم من الشوائب، الذي سيفشل في الامتحان لا تبن عليه حساباتك، الذي يثبت في رمضان سيثبت إن شاء الله في غيره، ولكي يكون الاختبار حقيقياً لا بد أن يكون صعباً، يا ترى ما هي صعوبة رمضان؟ صعوبة رمضان ترجع إلى أمور: منها: أنه فرض، وطبيعة الناس أنها تنفر من الفروض والتكليفات.

ومنها: أنه شهر كامل متصل، والأعذار فيه محدودة، وليس لك بديل إلا بعذر مقبول شرعاً.

قد يأتي رمضان في الحر، قد يأتي في وقت تزدحم فيه الأعمال عليك، قد يأتي في وقت تكثر فيه مشاغلك وهمومك، شهر كامل متصل محدد لا يصلح الذي قبله ولا الذي بعده بدلاً عنه، وأيضاً هو صعب؛ لأنه خروج عن المألوف، شهوة الطعام والشراب والجماع، هي شهوات مزروعة في داخل كل إنسان، في رمضان ستخرج خروجاً تاماً عن المألوف ستجوع ستعطش ستتعب ستنهك، ولكن يجب أن تصبر، وأصعب من كل ذلك أن تصوم صياماً حقيقياً كما أراد الله عز وجل، ليست المسألة في رمضان مسألة طعام وشراب وشهوة فقط، ولكن الأمر أكبر من ذلك، الاختبار أصعب من ذلك، على سبيل المثال: ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).

وفي رواية أيضاً في البخاري وأبي داود وأحمد : (من لم يدع قول الزور والعمل به، والجهل) ، أي: الجهل على الناس، أو صفات الجهل بصورة عامة: (فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).

إذاً: لا بد أن تدرك أنك في رمضان ستدخل في اختبار صعب، إن نجحت فيه كنت مؤهلاً لحمل الأمانة ولبناء الأمة، وإن فشلت فليس لك مكان في الصرح العظيم، ليس من المعقول لفرد مسلم مؤمن يدخل في اختبار عظيم كاختبار رمضان أن يقضي الساعات الطوال أمام التلفاز مثلاً، أو في حل (الفوازير) في الجرائد والمجلات، أو حتى في الطعام والشراب الحلال في وقت الإفطار، ليس من المعقول أن يقضي المسلم الواعي الأوقات الطويلة في لعب الكوتشينة والطاولة وما شابه ذلك، بحجة أنه يسلي نفسه، ليس من المعقول أن يذهب الصائم إلى عمله متأخراً ويخرج منه مبكراً، ويقضي نصف نهاره نائماً، والسبب أنه صائم.

اعلم أخي المسلم! أن رمضان اختبار لتنقية صف المسلمين، من الذي يختبرك؟ إنه الله عز وجل: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].

رمضان اختبار دقيق، فكل لحظة وكل ثانية هناك تقييم رباني أو تقويم رباني لأدائك في رمضان، يا ترى كم ستأخذ في المائة في امتحان رمضان؟ يا ترى لو أنت مستشعر فعلاً أن الله عز وجل يراقبك في امتحان رمضان ماذا ستفعل في رمضان؟

إذاً: ربنا ينقي الصف المؤمن الثابت في رمضان، فانتبه انتبه أن تكون من المطرودين، أو أن تكون مليئاً بالشوائب، فرمضان فرصة عظيمة لإثبات الوجود، فرصة عظيمة لبناء الأمة الإسلامية، وقد يقول شخص لي: أنت تقول: الأمة الإسلامية، الأمة الإسلامية، هل أنا الذي سأصنع الفارق مع بناء الأمة الإسلامية؟ أقول له: نعم يا أخي أنت الذي ستصنع الفارق، الأمة وإن كانت كلمة كبيرة إلا أنها مجموعة أفراد، الأمة هي أنا وأنت وأخي وأخوك وابني وابنك، وأختي وأختك، وبنتي وبنتك، هذه هي الأمة، وبعد ذلك لو لم يكن هناك أهمية لهذا لدى الأمة، فليكن له أهمية عندك أنت شخصيًا: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38].

إذاً: أول شيء نعرفه عن رمضان أنه اختبار دقيق يراقب الله عز وجل فيه أفعال العباد، فينتقي الصالحين ويطرد الفاسدين، وبذلك تحدث التنقية للصف المسلم، الأمة التي تبنى على أكتاف عناصر صالحة ستكون أمة قوية إن شاء الله.

هذه هي الوسيلة الأولى من وسائل رمضان لبناء الأمة: التنقية للصف المسلم.

رمضان والتميز

الوسيلة الثانية من وسائل رمضان لبناء الأمة الإسلامية: هي التميز.

إلى أي حد جميل أن يشعر المسلمون بالتميز عن غيرهم، وبالهوية الإسلامية، كان المسلمون في السنة الأولى في المدينة المنورة يصومون يوم عاشوراء مع اليهود، وكان فرضاً على المسلمين، روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم فرأى اليهود تصوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: يوم صالح نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه، فلما فرض شهر رمضان قال: من شاء صامه - أي: يوم عاشوراء -، ومن شاء تركه) .

الآن بعد فرض صيام رمضان ستتميز الأمة الإسلامية عن غيرها، ستصوم شهراً خاصاً بها، من المؤكد أنها ستشعر بالعزة لهذا التميز، وأيضاً في نفس الشهر الذي فرض فيه صيام رمضان وهو شهر شعبان سنة (2هـ) ستحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، تميز جديد.. قبلة واحدة لكل المسلمين، وليست لأحد إلا للمسلمين، وهذا الشعور بالتميز وبالهوية الإسلامية أداة حتمية من أدوات النصر والتمكين؛ فالأمة التي تشعر بأنها تبع لغيرها أمة لا تسود ولا تقود، والأمة التي ألفت أن تقلد غيرها وتتبع سننهم وتسير على مناهجهم وتعمل بعاداتهم ومعتقداتهم هي أمة لا تستحق القيام، أمة منهارة، أما أمة الإسلام الحقيقية فهي أمة متميزة لها هويتها الخاصة، ولها شكلها المعروف، ولها سماتها الأصيلة، ولها صفاتها المحددة.

وهكذا فإن رمضان يشعر المسلمين بالتميز عن غيرهم، وهذا من شأنه أن يعلي الهمم ويقوي من العزائم ويربط على القلوب.

إذاً: هذه كانت الوسيلة الثانية من وسائل رمضان لبناء الأمة الإسلامية: التميز عن غيرها من الأمم.

رمضان والتربية

الوسيلة الثالثة الهامة جداً من وسائل رمضان لبناء الأمة الإسلامية: التربية، هذه التربية في الحقيقة ستأخذ منّا وقتًا؛ لأنها نقطة في غاية الأهمية.

فالصف المسلم الذي يؤهل لقتال في بدر أو فيما شابه بدراً يحتاج لنوع خاص جداً من التربية، ورمضان يقوم بهذه المهمة، ليس أي شخص يا إخوة يستطيع أن يجاهد، ليس أي شخص يستطيع أن يضحي، ليس أي شخص يستطيع أن يثبت، رمضان إن صمته كما أراد الله عز وجل لك أن تصومه رباك لتكون أهلاً لهذه المهمة، رباك لتكون أهلاً لحمل الأمانة، رباك لتكون حجراً راسخاً في صرح الأمة العظيم.

التربية على الاستجابة الكاملة لأوامر الله عز وجل

يا ترى ما هو الشيء الذي يربيه رمضان فينا؟ رمضان يربي فينا سبعة أشياء، ولا ينبغي أن يمر علينا رمضان من غير أن نكون قد زرعنا هذه الأشياء في نفوسنا، وبركات رمضان لا تحصى ولا تعد، لكن أحصيت منها سبعاً في هذه المحاضرة:

أولاً: رمضان يربي فينا الاستجابة الكاملة لأوامر الله عز وجل بصرف النظر عن حكمة الأمر، يعني: أن الله عز وجل يحب من عبده أن ينصاع له دون جدل، وأن يطيعه دون تردد، أحياناً يظهر الله عز وجل الحكمة من الأمر، وأحياناً يخفيها، ولكن في كل الحالات على المؤمنين أن يطيعوا: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36].

لماذا رمضان هو الذي سنصومه وليس رجباً أو شعبان؟ لماذا من الفجر إلى المغرب وليس من الفجر إلى العصر أو إلى العشاء أو من الشروق إلى الغروب؟ لماذا كفارة الجماع في نهار رمضان ستين يوماً متواصلة؟ ولماذا ليست ثلاثين أو خمسين أو تسعين؟ وهكذا أسئلة بلا إجابات، ومقصود ألا يكون لها إجابات، الغرض تربية المؤمنين على الطاعة لله عز وجل ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، قد ندرك بأفهامنا القاصرة طرفاً من الحكمة، لكن ليست كامل الحكمة.

سمعت أستاذاً في الجامعة يقول: إنما شرع الصيام للشعور باحتياج الفقراء وجوعهم، وأنا أشعر باحتياجهم وأعطيهم فما الداعي لصيامي؟ لذلك كان يفطر في نهار رمضان، لم يستفد بتربية رمضان، لم يفقه العبرة من الصيام.

ورئيس راحل لدولة عربية شقيقة كان يقول: الصيام يضعف الأفراد ويقلل من الإنتاج؛ ولذلك فهو يفطر في نهار رمضان ويحض شعبه على الإفطار، فتن بعقله ولم يدرك البعد التربوي العميق في صيام رمضان.

إذاً: هذه واحدة من تربويات رمضان، يعني: لا ينفع بعد صيامك رمضان أن تسمع حكماً من أحكام الله عز وجل ثم تجادل، أو تسمع حكماً من أحكام الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تجادل: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، فنحن نتعلم التسليم في رمضان.

التربية على كف الشهوات والتحكم فيها

ثانياً: رمضان يربي المسلمين على كف شهواتهم، أو قل على التحكم في شهواتهم، إلى أن تجعل في مكانها الصحيح، تدريب عظيم على عمل نبيل، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) (لحييه) هما العظمان في جانب الفم، وبين هاتين العظمتين اللسان والفم، فيشمل ذلك الكلام، والطعام، والشراب، وما بين الرجلين: الفرج، فما هو دور رمضان في هذا الأمر؟ رمضان يدرب المؤمن تدريباً عظيماً على حفظ هذه الأشياء جميعاً.

استمع إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام أحمد بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه) ، لاحظ الصيام منع الطعام: (ما بين لحييه)، والشهوات: (ما بين رجليه)، (ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه - أي: جعلته يسهر في قيام الليل- فيشفعان) ، تدريب عظيم على التحكم في الشهوات.

ومعلوم أن المؤمن يمتنع في رمضان عن أمور هي في أصلها حلال ولكن حرمت في نهار رمضان فقط، وهي حلال سائر العام، بل هي حلال في ليل رمضان: الطعام بأنواعه، والشراب بأنواعه، والجماع مع الزوجة، فالذي يستطيع أن يمنع نفسه من أمور حلال اعتاد عليها سيكون أقدر بعد ذلك على منع نفسه من أمور حرام، لا شك أنه سيكون أقدر على منع نفسه من الطعام الحرام، والشراب الحرام، والعلاقات المحرمة، وهكذا.

وهذا سؤال هام: ما هو دور التحكم في الشهوات في بناء الأمة المجاهدة؟ ما هو دور التحكم في الشهوات في بناء الفرد الصالح للانتصار والتمكين؟ يا ترى لماذا الفرد المجاهد يحتاج أن يتدرب جيداً في مدرسة الصيام؟ ما هي علاقة الجهاد بالصيام؟

الجهاد يا إخوة مشقة شديدة، وستأتي على الأمة المجاهدة أوقات لا تجد فيها طعاماً ولا شراباً ولا زوجة، ومن كان معتاداً على الصيام فهو على الجهاد أقدر من غيره.

في غزوة تبوك كان الطعام سائر اليوم لا يعدو حفنة تمر، وانقطع عنهم الماء فترة طويلة جداً.

وفي غزوة ذات الرقاع تقطعت أحذيتهم من السير الطويل، وبدءوا يسيرون على الرمال الملتهبة، حتى اضطروا إلى ربط رقاع من الأقمشة على أقدامهم.

وفي غزوة خيبر قل الطعام جداً في أيديهم، حتى ذبحوا الحمر الأهلية وطبخوها وهموا بأكلها، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم منعهم من ذلك وحرمها عليهم، فتنة كبيرة جداً، لا يثبت فيها إلا الصائمون الذين اعتادوا الصيام في أيام الرخاء، فمنّ الله عليهم بالثبات في أيام الشدة.

كانوا يغيبون في الثغور مدداً طويلة تصل أحياناً إلى شهور بل سنوات، نعم حددها عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد ذلك بأربعة أشهر، ولكن ذلك عندما يكون هناك جيش بديل يستطيع أن يرسل هذا ويأتي بذلك، ولكن قد يحتاج الجهاد كل الطاقة فيمكثون في الثغور إلى ما شاء الله.

نحن رأينا في موقعة تستر الفارسية لما تكلمنا عن فتوح فارس، كيف أن المسلمين في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه حاصروا تستر ثمانية عشر شهراً متصلة سنة ونصفاً، هذا يحتاج إلى تدريب، والمؤمن في رمضان يشعر بهموم أمته ويستشعر هذه الأمور وهو صائم، فيصبح صيامه تدريباً عملياً على الجهاد، ويكون صادقاً مع الله عز وجل، ومع نفسه في إعدادها ليوم يعز الله عز وجل فيه الإسلام.

الأمر الآخر في علاقة الصيام بالجهاد هو أن الجهاد سيفتح بلاداً كثيرة، وستقع السلطة في أيدي المؤمنين، وسيباشرون أمور الناس، وإن لم يكن المؤمن مؤهلاً تربوياً للتحكم في شهوته فسيقع في كثير من المحظورات لا محالة؛ لكون السلطة في يده والغلبة في صفه، قد يعتدي على حرمات غيره في الطعام والشراب، قد يعتدي على حرماتهم في النساء، وهذا كما ترون كثير الحدوث في الجيوش العلمانية، وما أحداث البوسنة منا ببعيد، لكن المسلم المدرب في مدرسة الصيام، الذي درب شهراً كاملاً على التحكم في شهوته يسيطر على هذه الأمور، كما كان يسيطر عليها وهو صائم باختياره، فهذا يساعد على أن يسير الفتح الإسلامي والتمكين الإسلامي في الطريق المشرق الذي رسمه رب العالمين سبحانه وتعالى، فنعطي القدوة الحسنة، ولا نظلم الناس شيئاً.

والصيام بصفة عامة سواء في رمضان أو في غير رمضان يقوم بهذا الدور التربوي، دور التدريب على التحكم في الشهوات، انظروا إلى النصيحة النبوية الغالية من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامة الشباب، وذلك فيما روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)، فالصوم حماية للشباب من الوقوع في الزلات والأخطاء، ووقاية لهم من الشيطان: (ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)، من أجل ذلك حث الله سبحانه وتعالى على كثرة الصيام سائر العام، ولكن من رحمته لم يجعله فرضاً عليهم إلا في رمضان، من ذلك: صيام الإثنين والخميس، صيام الأيام البيض: ثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر من الشهر العربي، صيام عاشوراء وتاسوعاء، صيام التسع الأوائل من ذي الحجة وبالذات يوم عرفة، صيام ستة أيام من شوال، وهكذا يصبح المؤمن مدرباً سائر العام على التحكم في شهوته، والتحكم في فطرته تحكماً سليماً، وما أنفع ذلك في بناء الأمة الإسلامية.

إذاً: رمضان يربي الناس على الاستجابة الكاملة لأوامر الله عز وجل دون تردد.

وعلى التحكم في الشهوات إلى أن تجعل في مكانها الصحيح الذي أراده الله عز وجل.

التربية على التحكم في الأعصاب عند الغضب والقدرة على كظم الغيظ

ثالثاً: الذي يربيه رمضان في المؤمنين: التحكم في الأعصاب والقدرة على كظم الغيظ، وهذا أمر من أعظم الأمور في بناء الأمة الإسلامية؛ لأن الفرد المتسرع منفلت الأعصاب لا يصلح لبناء الأمة.

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به)، يعني: الصيام وقاية وحماية للإنسان: (فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل، فإن سابه أحد أو قاتله)، إلى هذه الدرجة يا إخوة السباب بل والقتال: (فليقل: إني صائم، إني صائم) ، تأمل إلى أي حد يربي الصيام على التحكم في الأعصاب، وعلى عدم انفلات اللسان، وعلى كظم الغيظ، وعلى العفو عن الناس، وكلها صفات أساسية في الأمة المجاهدة.

في مجال الحروب المسلمون من أعدائهم، لذلك يجب عليهم أن يتعاملوا مع أسراهم بالسمت الإسلامي على الرغم من العداوة بينهم، لا سباب ولا تعذيب ولا إيذاء: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان:8].

بل إنهم في الحرب ذاتها لا يجوز لهم أن يتجاوزوا في قتالهم إلى قتال المدنيين مثلاً، أو إلى قتال النساء والأطفال والمعاقين وغير ذلك، كل هذا مع أن في قلوبهم غضباً شديداً منهم، فهم يحاربون دولة محاربة لهم، ولكن الحرب في الإسلام لها ضوابط شرعية معروفة، ولن يقدر على هذه الضوابط إلا هادئ الأعصاب الذي لا يتسرع في قرار، ولا ينتصر لشهوة داخلية.

الإسلام دين راق جداً يدرب جنوده على حسن معاملة الآخرين، حتى في حال العداوة والكراهية: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة:8]، فالصيام يقوم بهذا التدريب بصفة مستمرة، فتستفيد الأمة من هذا حتى في أوقات السلم، فتجدها يغلب عليها هدوء الأعصاب، والتحكم في اللسان، وكظم الغيظ، كل هذا من تربية الصيام.

إذاً هذا الشيء الثالث اللي رمضان يربيها فينا.

التربية على الإنفاق في سبيل الله

رابعاً: الذي يربي رمضان عليه الأمة: الإنفاق في سبيل الله.

روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة) ، فهل يمكن لأمة بخيلة شحيحة أن تمكن وتسود؟ أبداً، الجهاد يحتاج إلى إنفاق وإلى بذل وعطاء، والبناء يحتاج إلى إنفاق وإلى بذل وعطاء.

مدرسة الصيام تعلم الناس الإنفاق والعطاء وانتظار الأجر من رب العالمين، فنفس الصائم تسخو بالخير على غيره، هذه ظاهرة ملحوظة فعلاً، فسهل جداً على الصائم أن يعطي، فنحن نرى ونلاحظ ظاهرة إطعام الفقراء في رمضان كثيرة جداً ومنتشرة في كل مكان، الفقراء هم الفقراء والمتصدقون هم المتصدقون، ومعدل الإنفاق في سبيل الله يرتفع جداً في رمضان، فالله عز وجل يربي عباده على ذلك في هذا الشهر الكريم، ويحض الميسورين على إطعام المساكين وإفطار الصائمين، بل هناك ملحوظة عجيبة جداً وهي أن هذا التهذيب الرباني يمتد في رمضان ليشمل الغني والفقير، قد يفهم أن الغني هو الذي يعطي فقط، ولكن وجدنا أن الفقير يعطي أيضاً، فهذه بركات مدرسة الصوم، فقد فرض الله عز وجل على كل المسلمين غنيّهم وفقيرهم زكاة الفطر، زكاة الفطر يا إخوة مفروضة على كل المسلمين على الغني وعلى الفقير، وهكذا يشعر الفقير أنه فرد فعال في المجتمع له دور إيجابي بحسب قدرته، صحيح أن صدقة الفطر شيء يسير، لكنها تشعره بأن له القدرة على العطاء، وقد تدرب كل المسلمين في هذه المدرسة، وأثبت الفقراء في ذلك نجاحاً عظيماً، على سبيل المثال: في غزوة تبوك كان الجميع الغني والفقير ينفق في سبيل الله، حتى الفقراء الذين يمتلكون قليلاً من التمر كانوا يأتون بهذا القليل، كان الواحد منهم يأتي بالحفنة من التمر حتى سخر منهم المنافقون الذين لا يفقهون هذه المشاعر النبيلة، قال الله عز وجل في حقهم: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:79].

إذاً: هذه تربية رمضانية عالية المستوى لا تتأتى إلا للصائمين.

التربية على الوحدة والأخوة والألفة بين المسلمين

خامساً: الذي يربيه رمضان فينا: التربية على الوحدة والأخوة والألفة بين كل المسلمين، كل المسلمين في كل بقاع الأرض سيصومون في وقت واحد، ويفطرون في وقت واحد، سيصومون من الفجر ويفطرون في المغرب، المسلمون كل المسلمين في مصر والسودان والكويت والعراق، وأفغانستان وباكستان، وفي البوسنة وأمريكا وإنجلترا، وفي نيجيريا والصومال، أي بقعة على الأرض بها مسلم ستشهد صياماً في وقت واحد وبكيفية واحدة، وبفرحة واحدة، فأي وحدة وأي ألفة وأي أخوة! لا فرق بين غني ولا فقير، ولا بين حاكم ولا محكوم، ولا بين عربي ولا أعجمي.

ثم في داخل كل قطر وفي داخل كل مدينة وفي داخل كل شارع إفطارات جماعية في كل مكان، روح اجتماعية راقية جداً تسري في قلوب المسلمين في شهر رمضان.

لقد سافرة كثيراً وشاهدت المسلمين من كل الأقطار تختلف العادات والتقاليد، لكن الكل يجتمع في رمضان، صلة الرحم تزداد في رمضان، بر الوالدين يزداد في رمضان، الزيارة في الله تزداد في رمضان، التواد بين الجيران يزداد في رمضان، جو عام جميل يربي المسلمين على أن يكونوا يداً واحدة.

ثم صلاة القيام (التراويح) في كل مساجد العالم يصطف المسلمون بأعداد كبيرة، الواحد يلتصق بأخيه، يشعر بدفء الأخوة، ودفء المسجد، ودفء الإسلام، تخيل أمة يرتبط أفرادها بمثل هذا الشعور هل يمكن أن تسقط؟ هل يمكن أن تنهار؟ أبداً، من سنن الله عز وجل أن المسلمين إذا اجتمعوا انتصروا، وإذا تفرقوا انهزموا وتشتتوا: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4]، وهذه تربية رمضان.

التربية على الشعور بآلام ومشاكل الآخرين من المسلمين

سادساً: الذي يربيه رمضان فينا: الشعور بآلام ومشاكل الآخرين، المؤمن الذي يشعر بألم الجوع والعطش لفترة معينة سيدرك أن هناك إخواناً له في الدين في الصومال وفي بنغلاديش وفي السودان وفي العراق وفي غيرها من البلاد يعانون نفس الألم، ولكن بصورة دائمة فهم لا ينتظرون مغرباً ولا إفطاراً، فالمسلم الذي يشعر بهذا الشعور لا بد وأن يتحرك قلبه إليهم، وهذه بداية أمل ولا شك، إذا شعر المسلمون بآلام غيرهم من المسلمين في الأقطار الأخرى فسيحدث التكافل، والتعاون والنصرة.

اسمع للحديث الرائع الذي رواه البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه) إنه اشتباك أصابع يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعضها تدل على العلاقة التي يريدها ربنا سبحانه وتعالى منا، فرمضان يربينا على هذه العلاقة، من غير هذه العلاقة لا يوجد نصر ولا يوجد تمكين.

التربية على التقوى

سابعاً: الذي يربيه رمضان فينا هو لب الصيام وهو الغاية الرئيسية منه التقوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].

فرمضان يزرع فينا التقوى، ما هي التقوى؟ التقوى هي وصية الله عز وجل إلى خلقه: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131].

وهي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، فيما رواه الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن).

والتقوى: هي أن تتقي غضب الله عز وجل في السر والعلن، إذا كنت في بيتك وقد غلقت عليك الأبواب ولا يراك أحد وأنت صائم، وبجوارك الطعام الشهي والماء العذب وأنت جائع عطشان، ومع ذلك لا تقرب الطعام ولا الشراب مخافة الله عز وجل، فهذه هي التقوى.

وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: ليست بقيام الليل ولا بصيام النهار، ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله عز وجل.

عندما تعود من عملك متعباً منهكاً وتسمع أذان العصر فتنزل وتصلي في الجامع مع تعبك الشديد؛ لأجل الحسنات المضاعفة فهذه هي التقوى.

عندما تواجه في شغلك أو في بيتك أو في الشارع من يجهل عليك ويسبك بل ويقاتلك فتقابل جهله بالحلم، وتقابل أذاه بالعفو، وتقول: إني صائم، فهذه هي التقوى.

عندما تضبط المنبه قبل الفجر بساعة أو ساعتين؛ لكي تقوم تناجي ربك في جوف الليل ولا يراك أحد إلا الله، ولا يسمع بك إلا الله، فهذه هذ التقوى.

عندما تشعر بالفقراء والمساكين والمحتاجين فتخرج من جيبك لهذا أو لذاك وتخفي صدقتك فلا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك، تفعل ذلك رغبة في الجنة، وخوفاً من النار، فهذه هي التقوى.

عندما تكون حريصاً كل الحرص على أن تعرف رأي الدين في أمر من الأمور، وتتبع كلام الله عز وجل وكلام رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم دون أي جدل ولا تردد، فهذه هي التقوى.

وقال أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه: تمام التقوى أن يتقي العبد الله عز وجل، حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال؛ خشية أن يكون حراماً.

وسئل أبو هريرة رضي الله عنه عن التقوى؟ فقال لسائل: هل أخذت طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوك عدلت عنه، يعني: تجنبته، أو جاوزته يعني: قفزت من فوقه، أو قصرت عنه يعني: وقفت ولم أعبر، قال أبو هريرة : ذاك التقوى.

فالشوك هو الذنوب والمعاصي وهو ما حرم الله عز وجل، يقول الشاعر:

خل الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى

واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى

يا ترى ما هو الذي سيحصل لو أن الأمة أصبحت أمة تقية؟ سينجو الفرد، ليس فقط الفرد الذي سينجو، بل ستنجو الأمة جميعاً، وقوله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]، هذا ليس للأفراد فقط، بل للأمة جميعاً، يجعل الله عز وجل للأمة مخرجاً من همومها ومشاكلها ومصائبها، يرزق الله الأمة من حيث لا تحتسب، وترفع عنها الأزمات الاقتصادية، ويكثر الخير في أيدي الناس، ويهابها أهل الأرض جميعاً، أمة تقية: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120]، ويقول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128]، فأمة يكون الله عز وجل معها، من يكون عليها؟ لا أحد.

إذاً: التقوى ثمرة من ثمرات رمضان، ورمضان فرصة حقيقية للأمة أن تبني نفسها من جديد، وفرصة للصالحين أن يزدادوا قرباً من الله عز وجل، وفرصة للعصاة أن يعودوا إلى ربهم، وفرصة لرفع البلاء، وفرصة للنصر على الأعداء، وفرصة للسيادة والتمكين، وفرصة لبناء الأمة، ورمضان تنقية للصف المسلم، وتميز للمسلمين وعزة بالهوية الإسلامية، وتربية وأي تربية.

نصائح عملية في رمضان وبيان مدى علاقتها ببناء الأمة

أخيراً: نصائح عملية.

كيف تخرج الأمة من رمضان أقوى وأشد وأعز وأكرم؟ عددت لكم من الوصايا عشراً إن قمنا بها كنا إلى التقوى أقرب.

سأذكر بإيجاز شديد، وأسأل الله عز وجل أن يجمعني معكم في لقاء آخر نفصل فيه كل وصية، وقبل أن أذكر هذه الوصايا أود أن أشير إلى أنه من الأفضل أن تكتب هذه الوصايا في ورقة، وتنظر فيها كل يوم قبل أن تنام، يعني: مثل ورد المحاسبة، اجعل لك جدولاً مكوناً من عشرة خانات أفقيه، وثلاثين خانة رأسية، في الخانات الأفقية ضع الوصايا العشر، وفي الخانات الرأسية ضع أيام الشهر، ثم حاسب نفسك كل يوم قبل أن تنام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم.

المحافظة على الصلاة بأركانها وشروطها وواجباتها وسننها

الوصية الأولى: الصلاة، نصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت، فمن أواخر ما قال صلى الله عليه وسلم: (الصلاة! الصلاة وما ملكت أعمالكم).

نريد أن تكون الصلاة متقنة، فتدرب على إتقان الصلاة في رمضان، وإن شاء الله يستمر هذا الإتقان بعد رمضان.

فالصلاة في المسجد للرجال، وفي أول الوقت في البيت للنساء، وصلاة النوافل على القدر الذي تستطيع: السنن القبيلة والبعدية، صلاة الضحى، صلاة الوتر، صلاة الحاجة، صلاة الاستخارة.

وانتبه أن يفوتك الفجر في المسجد، فرمضان فرصة فأنت تقوم تتسحر وتسهل عليك الصلاة في المسجد، فعود نفسك على صلاة الفجر في رمضان؛ حتى تستمر على ذلك بعد رمضان.

اهتم بالخشوع في الصلاة، اهتم بالتدبر في معاني ما تقرأ من القرآن، اهتم بالدعاء عند السجود، اهتم بختم الصلاة بحيث تخرج من الصلاة في أجمل صورة، فهذا الشهر فرصة نتعلم فيه شيئاً ينفعنا في دنيانا وأخرانا.

إذاً: الوصية الأولى: الصلاة.

الاهتمام بالقرآن والإكثار من تلاوته خلال شهر رمضان

الوصية الثانية: قراءة القرآن، رمضان شهر القرآن، فلا بد أن تختم مرة واحدة قراءة، والسماع أيضاً هام جداً في السيارة أو في البيت، لكن من الأفضل أن تختم ولو مرة واحدة بالقراءة؛ لأن النظر في المصحف عبادة.

كان الإمام الشافعي رحمه الله يختم القرآن ستين مرة في رمضان. ذكر ذلك ابن حجر العسقلاني في ترجمة الشافعي رضي الله عنه، جعل الله عز وجل لهم بركة في الوقت، ختمة في الصباح وختمة في المساء، أنا لا أطلب منك أن تختم القرآن ستين مرة، لكن اقرأ كثيراً وحاول أن تختم ثلاث أو أربع مرات على الأقل، حاول أن تقرأ الجزء الذي سيقرؤه الإمام في الليل في صلاة التراويح قبل أن تذهب إلى الصلاة، هذا سيساعدك على تدبر المعاني في المساء، وعلى متابعة الإمام، وعلى تأكيد الحفظ لو كنت حافظاً، وعلى سهولة الحفظ بعد ذلك إن كنت تنوي أن تحفظ القرآن.

والحرف من القرآن بعشر حسنات، والله عز وجل يضاعف لمن يشاء، ووقت رمضان ثمين جداً لا تضيع ثانية أو ثانيتين، هذه تساوي عشرة أو عشرين حسنة، فخسارة أن تضيع هذا الوقت الثمين.

إذاً: الوصية الثانية: قراءة القرآن، اختم على الأقل مرة واحدة قراءة.

الحرص على صلاة القيام (التراويح)

الوصية الثالثة: القيام (التراويح)، احرص على التراويح من أول ليلة في رمضان، احرص على الصلاة في مسجد يصلي الإمام في التراويح بجزء من القرآن، وبهذا تختم القرآن كله قائماً، وهذا أجر كبير جداً وتربية عظيمة جداً، احرص على الصلاة في مسجد جامع كبير؛ لأن الصلاة وسط الجموع الكبيرة تلقي الخشية في القلب، وتزيد من الخشوع، لكن لا تشد الرحال كثيراً ولا تسافر مسافة طويلة لكي تصلي، بل احرص على الصلاة في مسجد قريب من البيت؛ لأن هذا أوفر في الوقت، وهو أيضاً أبلغ في الدعوة إلى الله عز وجل؛ لأنك سترى ناساً تعرفهم وستكون فرصة للتناصح وللدعوة إلى الله، أيضاً حاول أن تختار مسجداً يكون صوت الإمام فيه جميلاً وخاشعاً، ويا حبذا لو كان فيه درس مفيد بين الصلوات.

ونصيحة في هذه النقطة: ليس هناك داع للوقفة ساعة وساعتين بعد الصلاة، الوقت ثمين جداً، الساعة التي تذهب لا تعود.

الإكثار من الصدقة

الوصية الرابعة خاصة بالمال: أكثر من التصدق قدر ما تستطيع، لا يمر عليك يوم دون تصدق ولو بشيء قليل: (اتقوا النار ولو بشق تمرة).

احرص على أن تفطر الصائمين إذا كان ذلك ممكناً، أكثر من الصدقة وخاصة قبل العيد، تذكر الفقراء الذين تعرفهم وخاصة أرحامك أقرباءك وجيرانك.

احرص على ألا يدخل العيد على أحد من معارفك وهو في ضائقة وأنت مستطيع.

تذكر أمراً مهماً جداً وهو الزكاة: زكاة المال، هناك ناس كثير جداً تدفع زكاتها في رمضان، وهذه عادة في منتهى الجمال، من ناحية: لن تنسى الزكاة، ومن ناحية أخرى: ستضاعف الأجر، ومن ناحية ثالثة: ستسعد الفقراء في وقت هام جداً.

تذكر أيضاً زكاة الفطر، لو تستطيع أن تدفع زكاة الفطر عن الفقراء في الحي الذي أنت فيه فهو خير، لكن أعلمهم بذلك، حتى يرفع الإثم عليهم.

انتبه تؤخر زكاة الفطر عن صلاة العيد.

التقارب بين المسلمين عوامل ومظاهر

الوصية الخامسة: رمضان فرصة عظيمة للتقارب بين المسلمين، احرص على المشاركة في موائد جماعية، حاول أن تعزم أصحابك وأقرباءك، لكن لا تتكلف في الطعام، وحاول أيضاً أن تلبي كل دعوة.

صلة الرحم في غاية الأهمية: الأم والأب والإخوة والأعمام والأخوال.

أيضاً رمضان فرصة رائعة لإصلاح ذات البين، لا تقوم الأمة وقد فسد ذات بينها: (فساد ذات البين الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين) إن فشل المسلمون في إصلاح ذات بينهم في هذا الشهر الذي سلسلت فيه الشياطين، فكيف يكون حالهم في بقية العام؟! فرصة عظيمة للبناء لا تضيعها.

إمساك اللسان

الوصية السادسة: أمسك عليك لسانك، خطأ كبير جداً أن ينفلت اللسان بحجة الصيام، الأصل في رمضان ألا تغضب ولا ترفث ولا تجهل، وهذا هو الأصل أيضاً في بقية السنة، ولكن في رمضان يجب أن يكون حرصك أكبر، فرمضان فترة تدريبية هامة، لا تنطق إلا بخير، يجب ألا تختفي الابتسامة اللطيفة الهادئة عن وجهك، اشغل لسانك بذكر الله عز وجل، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالإصلاح بين الناس، وبالدعاء، إياك والغيبة والنميمة، وإياك ورفع الصوت، وإياك والجدل، وإياك ثم إياك والكذب، وإياك وسوء الألفاظ: (ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش ولا بالبذيء).

التحذير من مشاهدة التلفاز

الوصية السابعة: إياك والتلفاز؛ التلفاز يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، فهو في منتهى الخطورة، تتنافس القنوات الفضائية وغير الفضائية في جذب المشاهد، والمشاهد مسكين يلهث بين قناة وأخرى، لو كان الوقت الذي يقضى أما التلفاز في رمضان لا لك ولا عليك فقد خسرت خسراناً كبيراً، فهذا وقت ثمين جداً قد ضاع منك، فما بالك لو كنت تشاهد أموراً نهى الله عنها، أنا لا أدري في الحقيقة ما هي العلاقة بين الشهر الكريم العظيم الجليل رمضان -الذي جعله الله عز وجل طريقاً للتقوى- وبين زيادة ساعات مشاهدة ما حرم الله عز وجل عبر القنوات، سواء في وقت الإفطار أو في وقت الصيام.

انتبه الشياطين مصفدة في رمضان، واستمرارك في فعل الآثام دليل على فساد النفس، واحرص على أن تكون سليم الفطرة في رمضان وفي غير رمضان.

الدعوة إلى الله عز وجل

الوصية الثامنة: احرص على دعوة غيرك إلى الخير في رمضان، الدعوة إلى الله من أهم الأمور، جاء في الحديث: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).

القلوب بصفة عامة تكون أكثر رقة في رمضان، وأكثر انصياعاً لكلام الله عز وجل فاستغل هذه الفرصة.

يا أخي! لا تذهب إلى الصلوات الجماعية وصلاة التراويح والفجر بمفردك، احرص على أن تصطحب غيرك ممن لم يتعود على هذه المكارم، لا داعي للتقوقع داخل أصدقائك الملتزمين، انفتح على غيرك من الناس، لعلك تخرج من رمضان بواحد أو اثنين كنت سبباً في هدايتهم.

الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان

الوصية التاسعة: احرص على سنة الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، فالاعتكاف فرصة تتخلص به من عوالق الدنيا، وتتفرغ لله عز وجل، قلل من الكلام في الاعتكاف قدر ما تستطيع، في النهار قرآن وذكر وصلاة ودعاء، وفي الليل تراويح وتهجد ودعاء وابتهال واستغفار، وفرصة تهاجر إلى الله عز وجل، لو تستطيع أن تأخذ إجازة من غير أن تضر بمصالح شغلك فهو خير، وفر إجازاتك في العشر الأواخر، إذا لم يكن ممكناً العشر فاعتكف بضعة أيام في العشر أو اعتكف يومين، أو اعتكف بضع ساعات أو حتى ساعة انقطع لله فيها، وسترى كيف يكون حالك بعد الاعتكاف.

التوبة من سائر الذنوب والمعاصي

الوصية العاشرة والأخيرة في هذه المحاضرة وهي وصية في غاية الأهمية: رمضان أعظم فرصة للتوبة من ذنوب العام، حتى من ذنوب العمر، نعم، إنه فرصة لفتح صفحة جديدة مع الله عز وجل، فرصة لأن تجعل صفحتك يوم القيامة بيضاء نقية.

روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر).

وأيضاً روى البخاري ومسلم حديثاً مبشراً جداً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) ، اللهم اغفر لنا ذنوبنا جميعاً.

فرصة أن تجلس مع نفسك تحصي أعمالك قبل أن تحصى عليك، تذكر أعمالك بالأمس، تذكر الشهر الذي فات، تذكر السنة التي فاتت، تذكر جيداً فإن وجدت خيراً فلتحمد الله عز وجل، وإن وجدت غير ذلك فسارع بالتوبة، فباب التوبة مفتوح على مصراعيه في رمضان، ابدأ بداية جديدة مع الله عز وجل: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].

إذاً: رمضان ركن من أركان الإسلام، تستطيع أن تبني فوقه إسلاماً قوياً وأمة قوية.

أتمنى يا إخواني لو تكتبون هذه الوصايا، والذي لم يكتب أتمنى أن يسمع الشريط من جديد ويكتبها.

كذلك حاسب نفسك كل يوم قبل أن تنام: ماذا عملت في الصلاة؟ وماذا عملت في القرآن؟ وماذا عملت في القيام؟ وماذا عملت في الصدقة؟ وماذا عملت في صلة الأرحام؟ وفي إصلاح ذات البين؟ وماذا عملت في لسانك؟ وماذا عملت في دعوتك؟ وماذا عملت في الاعتكاف؟ وأخيراً ماذا عملت في ذنوبك التي فاتت؟ يا ترى هل تبت منها أم أضفت إليها ذنباً جديداً؟

حاسب نفسك يا أخي قبل أن تحاسب، وارقب يوماً لا شك أنه قادم، واحذر من ليلة يكون صبحها يوم القيامة. بهذه المشاعر، وبهذه العزيمة، وبهذه التربية، وبهذا الإعداد سيكون رمضان عامل بناء حقيقي للأمة الإسلامية. فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , رمضان وبناء الأمة للشيخ : راغب السرجاني

https://audio.islamweb.net