إسلام ويب

يعتبر الضلال الفكري من أخطر الأفكار والأمراض فتكاً بالمسلمين وخاصة بالشباب منهم، وقد نتج عنه كثير من الفتن، وأريقت بسببه كثير من الدماء، وقد وجد هذا الانحراف عند كثير من الفرق المنحرفة في عقائدها والتي ظهرت في الأمة، ووجد عند بعض أتباعها في هذا العصر، وكل ذلك بسبب البعد عن منهج أهل السنة والجماعة، والجهل بالقواعد والموازين التي تقي المسلم من هذا الفكر الخبيث، وعدم الرجوع إلى العلماء الراسخين في العلم.

بيان كون نعمة الهداية والتوفيق من الله تعالى وضرورة التعرف على الحق وأهله

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وارض اللهم عن صحابته والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضله ورحمته.

أما بعد:

فإن الله عز وجل كتب على الخلق وقدر في سابق قدره الاختلاف والفرقة، إلا من هداه الله ووفقه، كما قال سبحانه: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ [هود:118-119]، نسأل الله أن يتغمدنا برحمته، فإنه لولا توفيق الله ما اهتدينا، كما كان الصحابة يقولون في أنشودتهم:

والله لولا الله ما اهتديناولا تصدقنا ولا صلينا

وطريق الهداية هو توفيق من الله عز وجل، ولذلك يجب على المسلم دائماً أن يسأل ربه الهداية والتوفيق، والسداد والاستقامة على دين الله؛ لأنه مهما بلغ الإنسان من العقل والذكاء والفطنة والمعلومات والثقافة والعلم، فإن ذلك وحده لا يكفيه ما لم يوفقه الله ويهده، وإلا فنحن نرى أن كثيراً من المشركين في جميع العصور وفي عصرنا -والآن قد اطلعنا على كثير من الشرك؛ بسبب اختلاط الأمم ووسائل الإعلام- من يعبد أخس المخلوقات، فبعضهم قد يعبد قرداً، وبعضهم قد يعبد الحية، وآخر قد يعبد البقرة، وآخرون يعبدون أحياناً أموراً وسخة، أترون أنه ليس لهم عقول؟ لهم عقول، لكن ليست عقول هداية ومستقيمة، أتظنون أن عباد الأوثان هؤلاء ليس فيهم أذكياء؟ ليس فيهم من عنده ثقافة؟ أترون أنهم كلهم أغبياء وجهلة حتى في الأمور الدنيوية؟ لا، لكن الله عز وجل قدر عليهم الضلالة، وما نفعتهم عقولهم إلا في أمور معاشهم في أمور دنياهم، وأما أمور الدين فهي توفيق من الله عز وجل.

ومن هنا فإن الضلال مسلك خطير يحصل للإنسان بأسباب عدة، منها: وساوس الشيطان وشبهاته وإضلاله، ومنها: هوى النفوس واتباع الشهوات والشبهات، ومنها: الجهل بدين الله وشرعه، ومنها: قرناء السوء ودعاته، ودعاة الضلالة، وأصحاب السبل ودعاته الذين حذر منهم النبي صلى الله عليه وسلم، وبين أن في كل طريق وفي كل سبيل من سبل الضلالة داعية يقول للناس: هاهنا طريق الحق، وهكذا دعاة الباطل لا يقولون: تعالوا إلى جهنم، أو تعالوا للباطل، أو تعالوا للفساد والإعراض والبدع، وإنما يلبسون على الناس، فيزعمون أنهم يدعون الناس إلى الجنة وإلى الحق وإلى السنة، فيلبسون الحق بالباطل، ومن هنا ليس العبرة بالدعاوى.. وغير ذلك من أسباب الضلال، لكني سأقف بعض الوقفات التي أرى أنها مفيدة لشبابنا في هذا الوقت، والتي أرى أنها موازين شرعية قررها الله في كتابه وقررها الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته، وهي سبيل المؤمنين وسبيل السلف الصالح، هذه القواعد والمسلمات هي بإذن الله تعتبر المعالم والموازين التي إذا استمسك بها الشاب المسلم صارت بعد توفيق الله من أسباب سلامته من الضلال، وقبل أن نعرف هذه القواعد والموازين لابد أن نعرف أن الحق بين وواضح لمن طلبه، لكن من قصر في طلبه فإنه يعمى عليه الحق، ولو كان مثل الشمس في بيانها ووضوحها، ولذلك سمى الله هذا الوحي في القرآن هدى وفرقاناً ومبيناً، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم بالواضحة وبالبيضاء، فقال: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)، وهذا الحق البين الواضح الهدى المبين الفرقان الصراط المستقيم.. وغير ذلك من الأوصاف، قد يعمى على الإنسان إذا فرط في معرفته، ولم يتعرف على ثوابت الدين، أو على الموازين الشرعية، أو لم يقتد بالقدوة، وهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة ثم التابعون، ولم يسلك طريق النبي صلى الله عليه وسلم وطريق الصحابة والتابعين، وسبيل المؤمنين التي هي الواضحة، وهي أصول الدين وقواعده وثوابته ومسلماته التي رسمها النبي صلى الله عليه وسلم في منهاج السنة والجماعة، فهذه الأصول بينة لمن طلبها، أما من قصر وفرط وتهاون في طلبها، حتى وإن عاش بين المسلمين، أو في أسرة من أهل السنة، أو عاش في مجتمع سني، وقصر في تثبيت الحق وطلبه في نفسه، فإنه يقع في الضلالة والغواية؛ لأنه فرط.

قواعد وموازين تبعد صاحبها عن الضلال وتحفظه منه بإذن الله

معرفة إكمال الله عز وجل لدين الإسلام

من هذه الموازين التي أشير إليها بإجمال دون الدخول في التفاصيل، أولاً: يجب أن نعرف أن الله عز وجل قد أكمل الدين: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، ومعنى: أكمله، أي: لا يحتاج الناس إلى زيادة أو نقص؛ لأن الدين قد كمل، وكل مسلم يأخذ من الدين بقدر استطاعته، ولذلك الله عز وجل ركب هذا الدين عقائده وفرائضه وواجباته وسننه ومستحباته ومنهياته على قدر فطرة الإنسان، ولا يحتاج الإنسان بعد ذلك إلى زيادة أو إلى نقص، ولو نقص عليه شيء من الاعتبارات الإيمانية والروحية فهو كنقص الماء والطعام عليه، فإذا نقص من اتباع الدين وفرط وأعرض وجد آثار ذلك في نفسه، فوجد الشقاوة وعدم الأمن، ووجد الاضطراب والقلق، وكذلك إذا زاد فيه وجد الغلو والتشدد والتنطع الذي يؤدي به إلى مرحلة تجعله يصادم الحياة، ولذلك الدين لا إفراط فيه ولا تفريط، وإنما هو وسط وكامل: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، ويتفرع عن هذه القاعدة، أعني: أن الدين كامل: أن الناس لا يحتاجون إلى أن يقرروا شيئاً ويقولون: هذا من الدين، أو أن ينزعوا شيئاً منه ويقولون: هذا لا يحتاجه الدين! إن الإنسان يعمل بقدر استطاعته، ولا نستطيع أن نقول: إنه يجب على كل إنسان أن يعمل بكل الدين؛ لأن الله قال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، فالناس قدرات ومواهب تختلف بعضها عن بعض، لكن يجب على كل مسلم أن يعمل من الدين ما يستطيع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، والدين من حيث هو كامل يفي بحاجة الإنسان، سواء كان هذا الإنسان من أرقى الناس في مواهبه أو أدنى الناس في مواهبه، فالدين يفي بحاجتهما في دنياهما وآخرتهما.

حفظ الله عز وجل لدين الإسلام

ثانياً: حفظ الله لهذا الدين، لكن قد يقول بعض الناس: إن التشريع قد تم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الناس قد فرطوا من بعده وأحدثوا كذا وكذا، فنقول: إنه مهما حدث من الأحداث والفتن فإن الله قد تكفل بحفظ هذا الدين، وما حدث من أناس أنهم قد ابتدعوا في الدين أو أعرضوا أو أخلوا، فإن هذا الإخلال أو الإعراض أو الابتداع ليس من الدين، ولا يعني ذلك أن الدين قد ضاع، فالدين لا يضيع منه شيء في جزئية أو كلية؛ لأنه محفوظ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، ولذلك ختم الله النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولولا أن الدين محفوظ لاحتجنا إلى نبوة، والذي تكفل بحفظ الدين هو الله عز وجل، فحفظ مصادره، وحفظ الطائفة القدوة التي تبقى متمثلة للدين إلى قيام الساعة، والذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من عاداهم إلى أن تقوم الساعة)، قوله: (ظاهرين)، أي: العلماء، لأن العلماء هم ورثة الأنبياء، وهم دائماً على رأس الظاهرين من أهل الحق ومن أهل السنة والجماعة، ولا يمكن أن تكون هذه الأمة ظاهرة وأهل الحق ظاهرين بلا علماء، وإلا إذا قادهم الجهلة لم يعودوا ظاهرين.

وحفظ الله لدينه يقتضي صلاحيته لكل زمان ومكان، وإن حصل أن الناس وقع عليهم حرج أو عنت في بعض أمور الدين أو تقصير فهذا من تفريطهم وليس نقصاً في الدين، وهذا كما يحصل في المسلمين اليوم، فكثير من الأمور ينسبون النقص فيها والتقصير والذلة والخذلان إلى دينهم، وهذا غلط، فالدين لا يمكن أن يكون هو السبب؛ لأن الدين كامل ومحفوظ، وإنما السبب هو في عدم استمساك الناس بالدين، وتقصيرهم وإعراضهم وتشددهم وتنطعهم، وكل هذا موجود في المسلمين.

حرمة الابتداع في الدين

ثالثاً: أنه لا يجوز الابتداع في الدين، وهذه قاعدة شرعية قررها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث متواترة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وقال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وقال: (كل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة)، فعلى هذا كل ما أحدث عند المسلمين أو عند بعض المسلمين هو خلاف لأهل الحق (الطائفة المنصورة)؛ لأنهم لم يبتدعوا ولم يحدثوا ولن يحدثوا بإذن الله، والعصمة لمجموعهم لا لأفرادهم، وكل ما أحدث في الدين من الاعتقادات أو الأحكام أو الأقوال أو الأفعال أو الاتجاهات أو الأحزاب أو الفرق أو المواقف فهو من البدع.

وأيضاً: كل ما لم يكن على أصول أهل السنة والجماعة فهو من المحدثات، سواء من الأقوال أو الأفعال أو الأفكار أو المعتقدات أو الأساليب أو الوسائل وغير ذلك مما لا يستقيم على أصول الشرع.

ولذلك يعتبر الناس الذين ابتدعوا وأحدثوا أموراً في الدين، سواء من البدع الاعتقادية أو بدع العبادات أو بدع الأعمال هم من أهل الأهواء، سواء قصدوا أو لم يقصدوا، وأيضاً بابتداعهم يلزمهم أن الدين ناقص، وإلا فلماذا يأتون بدين من عندهم؟! إن هذا يسمى استدراك على الدين، وأهل العلم يقولون: كل من قال ببدعة أو فعل بدعة أو اعتقد بدعة، فهو مستدرك على الدين، وكأنه يرى أن الله لم يكمل الدين، فجاء بشيء من عنده لم يشرعه الله، وهذا يعني: أنه شرع ما لم يشرعه الله، وكأنه رأى أن في الدين نقص يحتاج إلى زيادة وتشريع، سواء في الاعتقاد أو الأقوال أو الأعمال، وكما أن الابتداع يكون في العبادات أو الأحوال أو الأحكام يكون في مناهج وأصول وقطعيات هذا الدين، وهذا كما هو حاصل عند الفرق.

أسباب الضلالة والابتداع في الدين

الجهل بالكتاب والسنة

إن من أعظم أسباب الابتداع والضلالات التي حدثت في الأمة، سواء كان ضلالاً فكرياً أو اعتقادياً أو في الأعمال: الجهل بمصادر الدين، يعني: الجهل بالكتاب والسنة، والجهل بالكتاب والسنة أنواع: جهل بالأدلة نفسها، فكثير من أهل الأهواء والبدع لا يحيط بأدلة القرآن والسنة، أو يحفظ قليلاً من أدلة السنة ويبقى عليه الكثير، ومن هنا إذا تكلم في شيء من أمور الدين تكلم بغير علم؛ لأنه يجهل الأدلة، وأحياناً قد يكون الخلل في مصدر التلقي، أي: في مصدر الدين، أو الخلل في فهم النصوص، أو الخلل في الاستدلال بها، وهو الذي عليه جميع أهل الأهواء قديماً وحديثاً، بمعنى: أنه قد يعرف الآية أو الحديث، لكن لا يعرف كيف يستدل بهما، وهذا أخطر ما يكون على المسلمين اليوم؛ لأن الأدلة أمامهم معروضة، والآن كل شاب وكل طالب علم يستطيع أن يستعرض الأدلة خلال دقائق من خلال الوسائل الحديثة، لكن كيف يسقط الدليل على القضية، أو كيف يحكم على القضية من خلال الدليل، أو كيف ينزل الدليل على المسائل، أو كيف يسقط الأدلة على الأحداث والوقائع؟ إن هذا أمر لا يدركه إلا الراسخون في العلم، ولذلك ترون الآن كثرة الخلط وكثرة الآراء الشاذة، والاضطراب والتناقض والتعارض في الآراء، وترك سبيل العلماء والقدح فيهم وفي آرائهم وفتاويهم، كل ذلك بسبب أن الأكثر يأخذ النصوص الشرعية فيطبقها كما يشاء، ويحكم بها كما يشاء، ولا يفرق بين الناسخ والمنسوخ، أو بين المطلق والمقيد، أو بين العام والخاص، ولا يرد الأدلة بعضها إلى بعض، ولا يفسر القرآن بالقرآن، ولا يفسر الآية بالحديث، ولا يفسر الحديث بأعمال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله، ولا يفسر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بأفعال الصحابة، وكل ذلك لا يعرف، وهذا كإنسان عنده مادة خام ولا يعرف كيف يفصلها، فربما قد يكسرها فيؤدي ذلك إلى إعدامها أو إتلافها، وكذلك الذين يتناولون الاستدلال الآن ليسوا بعلماء، بل ولا يعرفون منهج الاستدلال، وهذا حال أكثر الناس اليوم، بل أكثر طلاب العلم يخبطون ويربطون؛ لأنهم لا يعرفون كيف يستدلون، ولذلك وقعنا في كوارث من الأفكار الخطيرة جداً، والتي تعتبر مخلة بالدين وبثوابته ومسلماته، ومخلة بأمن الأمة واستقامتها؛ لأن أكثر الناس لا يعرفون منهج الاستدلال، ومنهج الاستدلال يقوم أولاً على الإحاطة بالنصوص، والعالم الراسخ لابد أن يحيط بأكثر النصوص، فإذا استدل استحضر الأدلة بمجموعها، وعرف الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، وما يترتب على الحكم في هذه القضية، وعرف النص الذي له سبب والذي ليس له سبب.. إلى آخره، بينما الذي ليس عنده هذا الحس وهذا الإدراك لو عرف النصوص فلابد أن يقع في الخطأ في الاستدلال.

الاعتماد على الرأي والهوى في التعامل مع الأدلة الشرعية

من أسباب الضلالة والابتداع في الدين: الاعتماد على الرأي والهوى والمزاج، وهذا وقع فيه كثير من المسلمين اليوم، فيكون له هوى وتوجه ومزاج في قضية معينة، ويأتي بالدليل كما يشاء فيخضعه لرأيه ولا يخضع هو للدليل، وهذا ما عليه أكثر الناس اليوم، إذ إنه يخضع الدليل لرأيه ولا يخضع هو للدليل، ولا يكون رائده الحق، وإنما رائده أن ينتصر لما يراه هو، لذلك كان من أسباب الخلل والضلال: الاعتماد على الرأي والعقل وعلى وجهات النظر والعاطفة، وعدم التجرد للحق، ثم نضيف إلى هذا: الهوى والغرور واتباع المتشابه والإعراض عن الدين، سواء كان إعراضاً جزئياً أو كلياً.

الكذب والمراء والغلو والتعصب وعدم الرجوع إلى العلماء ومشاورتهم

كذلك الكذب والمراء والغلو والتعصب وعدم الرجوع إلى العلماء، وترك سبيل المؤمنين الذي توعد الله من خالفه بقوله: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]، فسبيل المؤمنين هو سبيل أهل الحق، أهل السنة والجماعة، والذي يمثله العلماء في كل عصر من العصور إلى قيام الساعة، إلى أن يرث الأرض ومن عليها، إلى أن ينزل عيسى عليه السلام فيخضع للموجود عنده من العلماء وعلى رأسهم المهدي ، ويقول: أنتم الذين تعملون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً: عدم الرجوع إلى أهل الرأي والمشورة والعلماء والراسخين في العلم.

ترك القدوة وعدم التثبت والإعراض عن الحق

من الأسباب كذلك: ترك القدوة وعدم التثبت في الأمور.. إلى آخره، وجماع ذلك كله الإعراض، أي: الإعراض عن الدليل وعن الحق وعن الهدى، واتباع الهوى والمزاج، ولا تظنون أنه لا يتبع الهوى إلا الفاسق أو الفاجر أو الكافر، بل الحق أننا لو تأملنا التاريخ لوجدنا -في هذا عبرة- أن أغلب الذين أنشئوا البدع أو الأهواء أو الافتراق في الأمة هم من المتدينين، بل كلهم متدينون، وكل أصل الفرق متدينون، ما نعرف فاسقاً أو فاجراً رفع راية فرقة فتبعه الناس، والذي يعرف ذلك فعليه بالدليل، وعلى سبيل المثال: الذين أسسوا مذهب الشيعة والرافضة متدينون.

وكذلك الذين أسسوا مذهب الخوارج متدينون، بل ووصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (تحقرون صلاتكم عند صلاتهم، وصيامكم عند صيامهم).

والذين أسسوا مذهب القدرية متدينون ومشهورون بالزهد والورع.

والذين أنشئوا مذهب المعتزلة متدينون ومشهورون بالزهد والورع.

وكذلك الذين أنشئوا مذاهب التصوف هم من أشهر العباد والنساك في تاريخ الأمة؛ وأنا أقول هذا لأن بعض الشباب عندما تجد عنده فكراً منحرفاً يقول لك: يا أخي! أنا سمعت من فلان، وحسبك منه ورعه وتقواه، فنقول له: لكن ليس كل من حمل هذه الصفات يكون مؤهلاً بأن يكون قدوة؛ لأنه قد يكون منحرفاً في الاستدلال أو الاتباع أو الأفكار، بل وقد يكون صاحب هوى وإن تدين، فلذلك يجب أن يتنبه الشباب إلى أن كثيراً من أصحاب رايات الأهواء الآن هم من المتدينين، بينما أهل النفاق مفروغ منهم، وكذلك العلمانيون مفروغ منهم، ولا يمكن أن يكون هناك متدين يقتدي بالعلمانيين، ويرى أنهم قدوة في الدين؛ لأن هذا لا يعقل ولا يتصور أصلاً.

ولذا فمن هنا يأتي الخطر من الغلو في الدين أو التفريط في الدين، وذلك من قبل أناس يتدينون، فالمرجئة وأصحاب الإرجاء هم علماء وفقهاء متدينون، لكنهم أخطئوا في جانب التساهل في الدين، فنشأ عنهم مذهب المرجئة والإرجاء.

وعلى العكس من ذلك: الخوارج أصحاب التكفير والغلو فيه هم من المتدينين، بل أشد الناس تديناً، ومع ذلك صدرت عنهم مواقف خطيرة ضد الأمة، فاستحلوا دماء العشرة المبشرين بالجنة، فالذين قتلوا الزبير وطلحة وعثمان وعلي رضي الله عنهم جميعاً متدينون، بل الأعجب أنهم قتلوهم تديناً احتساباً لله.

ولذا فيجب أن نفهم مصادر الأفكار، وكيف تكون هذه المصادر؟ ومن نأمن ومن لا نأمن؟ وأن الأمان لا يكون إلا للعلماء الراسخين مهما كان وضعهم، ولابد أن يكون للأمة مرجع، والمرجع لابد أن يكون قدوة في جميع أحواله، ولابد أن يكون من الراسخين في العلم، ولابد أن يكون من أهل الاعتدال والوسطية، فلا إفراط ولا تفريط.

خطورة الغلو والحدة في إطلاق الأحكام على المخالفين

أختم حديثي بالوقوف على مسألة، أرى أنها مهمة وخطيرة في مجتمعنا اليوم خاصة على الشباب، وهي التي أوقعت طوائف من الشباب في تاريخ الأمة القديم والحديث في الاستعجال والتهور باسم التدين والغيرة؛ وهي مسألة: الحدة والغلو في إطلاق الأحكام، سواء على الأشياء أو المواقف أو الناس أو المؤسسات أو الدول، بمعنى: الغلو في المواقف تجاه المخالفين.

هذه النزعة هي التي أنشأت فرقة الخوارج، هذه الفرقة التي يعد أصحابها أهل غيرة وعاطفة وتدين، وأغلبهم من الشباب الأحداث، بل وبعضهم طلاب علم، فقد كان بعضهم من تلاميذ الصحابة كـابن عباس.. وغيره، لكنهم غلوا تجاه المواقف، ولم يرجعوا إلى أهل العلم الراسخين، فيردوا الأمر إلى أهله كما قال الله عز وجل في كتابه: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، فيجب على الأمة أن تأخذ بهذا الأصل.

لذا فأقول: إن نزعة الغلو وجدت في طوائف من شباب الأمة حتى في الوقت المبكر، فنشأت عنها فتن هي سبب في وجود هذه الفرقة في الأمة إلى يومنا هذا وإلى قيام الساعة، ولذلك تعجبون عندما حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الأهواء والفرق والسبل والخروج عن الجماعة، والخروج عن سبيل العلماء، والخروج عن الولاة، بل وحذر من أمور كثيرة من باب هذه الفتن، وبين أن الأمة ستفترق وذكر الفرق إجمالاً، لكن لم يذكر فرقة على التفصيل إلا فرقة الخوارج ، وليس معنى ذلك: أنهم أضل الفرق، بل يوجد من الفرق من هم أضل منهم، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر أهل الأهواء والبدع ما أمر بقتال أحد منهم إلا الخوارج ، حتى قال: (فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإن لمن قتلهم الجنة)، وقال: (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)، وهم مسلمون يصلون ويصومون، بل أحسن الناس عبادة كما وصفهم ابن عباس لما رآهم وحاورهم، وسمع لهم دوي كدوي النحل من كثرة الذكر وتلاوة القرآن، ووجوههم مصفرة من السهر، وهم رهبان بالليل فرسان بالنهار، ومع ذلك قاتلهم الصحابة احتساباً، ولما علم علي رضي الله عنه أن الذين قتلهم هم الخوارج سجد لله شكراً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال هؤلاء؛ لأنهم أخطر أهل الأهواء، مع أن الباطنية والجهمية أخطر منهم ضلالاً وكفراً، بينما هؤلاء مسلمون وليسوا بكفار، ومع ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم وتوعدهم فيما لو أدركهم ليقتلنهم قتل عاد، ولعل أحدهم يقول: إن سبب ذلك هو الغلو والتشدد في الدين، لكن هناك غيرهم غلاة ومتشددون، بل إن العباد والرهبان الذين هم في صوامعهم متشددون أشد منهم، وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، بل أمر بعدم قتالهم، والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتالهم لأنهم يقتلون المسلمين، وإذا لم يقتلوا فإنهم سيقتلون، وولي الأمر إذا لم يأخذ على أيديهم، ويعالجهم العلماء بالحكمة والحوار والإقناع كما فعل ابن عباس وعلي بن أبي طالب فلابد أن يقتلوا الناس، وبالتالي ستقع الفتن والمشاكل التي لا نهاية لها.

وأول من استحل الخوارج دمه هو الخليفة الثالث عثمان بن عفان ثم تجارت بهم الأهواء كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حتى كفروا الحاكم، أي: علي بن أبي طالب ، ولما كفروه قالوا: إذاً من بايعه فهو كافر، ومن لم يكفره فهو كافر، وبالتالي كفروا الصحابة وقالوا: إنهم مداهنون، بل كفروا من لم يكفر الصحابة، وذلك كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (تتجارى بهم الأهواء).

وقد أردت من هذه المقدمة أن أقول: إن من أخطر الأفكار عندنا الآن: أفكار الغلو، إذ هي من حيث الخطورة العقدية ليست أخطر من العلمنة والنفاق والإعراض، وما نراه اليوم من هجوم على الدين لا شك أنه خطير، لكن من حيث الخطورة العاجلة والتي تهدم الأمن؛ لأنه إذا انهدم الأمن ضاع الدين والدنيا جميعاً، ولم يبق للناس دين ولا دنيا، ولذا نجد في بعض البلاد المجاورة أن الأمن فيها متوسط لم ينهدم كاملاً، ومع ذلك تجد الناس يصلون في المساجد ومعهم أسلحتهم الخفيفة أو الثقيلة، وهذا نتيجة لضعف الأمن، فكيف إذا اختل الأمن بأكمله؟! إن الخوارج حينما يخلون بالأمن، وحينما يستحلون قتال المسلمين، ويستحلون قتال الآخرين، فسيهلكون الحرث والنسل، لذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، مع أن العلمانيين والكفار وكثيراً من أهل الأهواء والبدع أخطر منهم من حيث الخطورة العقدية، لكن من حيث الخطورة العاجلة التي لا تبقي ولا تذر، فتقضي على الدين والدنيا معاً، فإن فكر الخوارج أخبث الأفكار؛ لأنه يؤدي إلى إزهاق النفوس، وبالتالي يحدث الخلل في الأمن.

قواعد وضوابط التكفير

لو عدنا للوراء قليلاً، قبل خمسين سنة أو أقل من أربعين أو خمسة وأربعين سنة إلى ثلاثين سنة، ظهر التكفير والهجرة بمثل الأفكار التي ظهر بها اليوم بعض الشباب، نتيجة الحدة ضد الدولة، والحدة ضد المشايخ، والحدة ضد المخالفين، فاستحلوا الدماء ووقع منهم ما وقع، ثم تفرقوا في الأرض وصاروا ينشرون التكفير، وبدأت بوادر التكفير تظهر في المجتمعات الإسلامية كلها، حتى عندنا ظهر التكفير بسبب هذه البذور والضغوط.

إن مشاكل الأمة كثيرة جداً، سواء من أهل البدع أو الأهواء أو الفسق أو الفجور أو التكفير وغيرها، لكن هذه المشاكل الكثيرة لا تبرر التكفير والغلو، ولا علاج لمثل هذه المصائب بالعنف، وما عرف في تاريخ الأمة أن العنف علاج على الإطلاق، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا وحذر منه.

ومع ذلك فأقول: إن من أخطر ما يكون من الضلالات على شبابنا اليوم هو الغلو؛ لأن النفاق ظاهر، والعلمنة ظاهرة، وكثيراً من مظاهر الفسق بينة وواضحة، لكن الغلو يأتي باسم الدين، فيأتي تارة باسم الغيرة، وتارة يأتي باسم الجهاد، ومرة يأتي باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلذلك هو أخطر على شبابنا اليوم، ومن هنا انتشرت ظاهرة التكفير بغير ضوابط، ولذا فسأذكر قواعد في التكفير أرجو أن ينفعني الله وإياكم بها:

التفريق بين الأقوال والأفعال والمواقف الكفرية وبين تكفير الأعيان

القاعدة الأولى: التفريق بين الأقوال والأفعال والمواقف الكفرية وبين تكفير الأعيان، والسلف رغم كثرة ما وقفوا ضد البدع والكفريات يندر تكفيرهم للمعين، سواء كان دولة أو شخصاً، وعلى سبيل المثال: وقوف الإمام أحمد ضد جحافل الكفر الذين دعوا للكفر بقوة السلطة، ففي عهد المأمون يفرضون الشرك على الناس بالقوة، فتصدى لهم أهل السنة ، فادخلوا السجون والمعتقلات، ووقف لهم الإمام أحمد في وقفته المشهورة، وهو يعرف أن المأمون على رأس السلطة التي تفرض الكفر، ويعرف أن ابن أبي دؤاد أكبر شيخ للجهمية يفرض الكفر، ومع ذلك ما كفرهما أبداً، بل كان يصلي وراء المأمون ويدعو له، وكان خصمه ابن أبي دؤاد الذي يقول أمام أحد الخلفاء عن الإمام أحمد : اقتله ودمه في ذمتي، فكان يحرض الخليفة على قتل الإمام أحمد ، ومع ذلك ما كفره الإمام أحمد ، بل ما كفر من الناس إلا من أعلن ردته، أما بمجرد القول أو الفعل الذي يحتمل فإنه لا يكفر أحداً، وكذلك بقية الأئمة رحمهم الله تعالى، فهذا الشافعي حاور كثيراً من عتاة وزنادقة الضلالة ولم يكفر أحداً، وقال في حفص الفرد كلاماً مجملاً لا يدل على أنه كفره بعينه، وهكذا أخذ علماؤنا إلى اليوم لا يكفرون أحداً من الأعيان، أو يكفرون دولة بعينها، ففي هجوم الصليبيين على بلاد المسلمين، فاستعان بعض ولاة المسلمين بالصليبيين، ومع ذلك قال العلماء: هذا كفر، لكنهم ما كفروا أحداً بعينه، بل كان هؤلاء العلماء والقضاة تحت سلطة هؤلاء الولاة، فهل يعني ذلك: أن هؤلاء العلماء كانوا مداهنين؟ لا؛ لأنهم يعلمون أن تكفير المعين خطير جداً، بل وما يترتب على ذلك من أمور عظيمة.

وعليه فالكفر حينما يطلق على الناس هو نوعان: كفر يتعلق بالكفار الخلص، وهذا لا خيار فيه، بل ولا أحد يشك فيه، ككفر اليهود والنصارى والمشركين وأهل الردة، فهذا ليس بمحل نقاش، لكن يبقى المسلم الذي كان أصله الإسلام سواء كان شخصاً أو مؤسسة أو فرقة أو طائفة أو حزباً أو عامياً أو متعلماً أو عالماً أو دولة لا يجوز تكفيره، حتى وإن وقع في الشركيات والكفريات إلا بتطبيق شروط التكفير، وانتفاء موانعه.

كون الكفر شعباً وأنواعاً وجزئيات

القاعدة الثانية: أن الكفر شُعَبٌ، منه يخرج من الملة ومنه ما لا يخرج، وكذلك جزئيات الكفر، فمنه ما يخرج من الملة ومنه ما لا يخرج، كالحكم بغير ما أنزل الله أصله كفر، لكن هل كل حكم بغير ما أنزل الله كفر؟ لا، وكذلك مظاهرة المشركين ومعاونتهم ضد المسلمين أصلها كفر، لكن هل كل صورها كفر؟ لا، فمنها ما هو من صغائر الذنوب، ثم إذا حدث مثل هذا من بعض علماء المسلمين، أو من بعض دعاتهم، أو من بعض أفرادهم، أو من بعض أهل الرأي والمشورة، أو من بعض أحزابهم، أو من بعض طوائفهم، أو من بعض فرقهم، أو من بعض دولهم، فهل بعد ذلك كفر يخرج من الملة أم لا؟ ثم إن حدث أيضاً من بعض المسلمين معاونة المشركين على المسلمين، أو خذلان المسلمين، أو تطبيق أنظمة مخالفة للشرع.. أو نحو ذلك من الكفريات، فهل يعد ذلك كفراً أم لا؟ أولاً: ليس كل من فعل ذلك يحكم بكفره؛ لأنه قد تكون صورة الفعل ليست كفراً عند أهل العلم.

ثانياً: أنه لو صار ذلك كفراً أو ردة فلا يعني ذلك كفر المعين؛ لأن التكفير يكون من الراسخين في العلم، وإذا حكموا على المعين بالكفر فلابد أن تكون هناك شروط معينة لإطلاق الكفر عليه، لأنه لا يجوز أن نحكم على المسلم إذا اعتقد كفراً أو قال كفراً أو فعل كفراً أو وقف موقفاً كفرياً بالكفر حتى نطبق عليه الشروط، ومنها: أن نعرف أنه غير جاهل، فإن كان جاهلاً يبين له الحق وتقام عليه الحجة، ويقوم بذلك الراسخون في العلم، وأيضاً: أن نتأكد أنه غير متأول، لأن التأول يصرف الكفر عن الإنسان وعن الهيئة وعن الجماعة وعن الدولة، وكذلك: نتأكد أن الأمر عنده ليس فيه إكراه؛ لأن الإكراه يلجئ المسلم إلى أن يقع في أمور كفرية وهو لا يعتقد ذلك، كما أنه أحياناً قد يكون غير معتقد لما يفعل، فقد يفعله عن هوى ولا يدري أنه مخرج من الملة.

فإذاً: الإكراه والالتباس والجهل والتأول كلها تصرف حكم الكفر على الآخرين.

ثم مما يجب أن يعلمه جميع المسلمين: أن المسلمين ليسوا بمكلفين بمتابعة أفعال الخلق والحكم عليهم فيها، لكن يجب علينا أن ننكر المنكر، وأن نكره الكفر ونعلن العداء له، بينما الحكم على الأشخاص فلم يتعبدنا الله به، إذ هذا من مهمة العلماء الراسخين، وإذا قصروا فالأمر راجع إلى منهجهم، وأن الله سيحاسبهم يوم القيامة عن ذلك، مع أنه لا يمكن أن يكون التقصير مطلقاً أبداً؛ لأن ذلك يتنافى مع حفظ الله للدين، لكن شبهات يقولها بعض الناس: ما دام أن العلماء قد قصروا إذاً يتكلم من هب ودب، لا، فالصحيح أنهم في جملتهم لم يقصروا، نعم، منهم من قصر ومنهم من لم يقصر، لكن الناس قصروا في اتباع العلماء وفي الالتفاف حولهم.

فإذاً: يجب أن نحذر من غوائل هذه الأفكار الحادة، وأن نحذر من الغلو في الدين، وبدأ شره يفتك في مجتمعنا ويستهدف دينه ودنياه وأمنه، وهذا أمر خطير يجب أن نتناصح فيه، وأن نناصح الذين وقعوا فيه وهم لا يشعرون، فوقعوا فيه وهم قصدوا الحق لكنهم ما وفقوا له، وأغلب من وقع من شبابنا في مثل هذا الغلو والأفكار هم ممن أرادوا الحق ودفعتهم الغيرة لذلك، لكن من غير ضوابط شرعية، ومن غير رجوع لأهل العلم الراسخين فيه، لذا فيجب أن نحفظ أنفسنا وأن نناصح مثل هذه الفئة، وأن نلحقهم بالعلماء وطلاب العلم ليحاوروهم وليبينوا لهم وجه الحق، فينقذوهم من الضلالة، بل ينقذوهم مما يؤدي إلى تحطيم المسلَّمات التي نحن عليها في هذا البلد بحمد الله تعالى، هذا البلد بلد السنة، ولا يعني ذلك: أننا نزكي أنفسنا، بل عندنا تقصير وخلل، لكن هل علاج الخلل والتقصير بهذه الأساليب التي تؤدي إلى الفتك بأمن الأمة، وتؤدي إلى تحريض عدوها عليها، وإلى فرح العدو من الداخل والخارج؟ لا، فهذا ليس حلاً، وإنما الحل بما أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك بالمناصحة والصبر، قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون بعدي أثرة فاصبروا..)، إلى متى نصبر؟ هل حتى نملك السلاح أو نتدرب على القتال؟ جاء الجواب منه عليه الصلاة والسلام بقوله: (حتى تلقوني على الحوض)، متى؟ يوم القيامة، ومعنى قوله: (أثرة)، أي: أناس يأكلون أموالكم ويأخذون حقوقكم، ولا يعني هذا الخذلان أو التخاذل، بل لابد من النصيحة والصبر والدعاء، ولذا قال في الصبر على ولاة الأمر وجورهم: (وإن أخذ مالك وإن ضرب ظهرك)، أي: لابد أن تصبر، وإذا وقعت في الخروج والفتنة فقد أهلكت حقك وحق الناس.

إذاً: يجب الصبر على الجور وعلى الظلم، وعند الفتن، وضرورة الاستمساك بالحق، وعدم اللجوء إلى القتال والفتنة، وعدم اللجوء إلى الخروج ومنازعة ولاة الأمور وإن كانوا ظلمة أو فجاراً، وهذه أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام هي وصايا ثمينة لنا، فلو أن أهل الغلو أخذوا بهذه الوصايا وعملوا بما عمل به مشايخهم وعلماؤهم من الصبر والمصابرة والنصح بالتي هي أحسن، وأخذ الأمور بالحكمة والمداراة بدون مداهنة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، وأصلحوا أنفسهم وبيوتهم وأسرهم وأحياءهم، وأصلحوا أحوالهم وسعوا إلى إصلاح الأمة، لكان الأمر خيراً من التصادم والإخلال بالأمن، واستعمال أساليب العنف باسم الجهاد! أو باسم إنكار المنكر! فأي جهاد هذا وأي إنكار هذا؟! إنها محادة لأصول الدين، ومحادة لقواعد الشرع، ومحادة لمنهج السلف، وقلب للمفاهيم والحقائق، والذين يقولون بذلك عندهم شبهات وعندهم أدلة، لكن هل شبهاتهم صحيحة؟ هل أدلتهم صحيحة؟ إن ذلك يحتاج منا إلى أن نعرضه على الشرع لا على أنفسنا، وأن نعرضه على مناهج العلماء ومشايخنا الأحياء والأموات، فهم القدوة وأصحاب الأمر أولاً وأخيراً، والدنيا كلها تتمنى أن يكون عندها مشايخ مثلكم، وأن يكون عندهم عشر ما عندنا، وقد سمعت من البلاد التي زرتها كأوروبا وآسيا وإفريقيا، وأسمع من جميع أهل السنة، أنهم يتمنون ولو واحداً من مشايخنا يكون عندهم، وهذه نعمة يجب أن نحافظ عليها لا أن نقضي عليها، فنكون مثل الذين يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الكافرين، نسأل الله العافية.

نسأل الله للجميع التوفيق والسداد، ونعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

تعريف الغلو وبعض أمثلته

السؤال: نريد تعريفاً مبسطاً للغلو مع بعض الأمثلة؟

الجواب: الغلو: هو الزيادة في الدين عما شرعه الله، ويكون سببه التدين؛ لأنه إذا كان سببه غير التدين فلا يعتبر غلواً، ومن الأمثلة على الغلو ما وقع من بعض الصحابة رضوان الله عليهم عندما قال أحدهم: أما أنا فأقوم الليل ولا أنام، وقال آخر: وأما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأما أنا فلا أتزوج النساء، فاعتبر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك كله من الغلو في الدين، وذكر صلى الله عليه وسلم أنه يقوم وينام، ويصوم ويفطر، ويتزوج النساء، فهذه بعض مظاهر الغلو، وهناك مظاهر للغلو كثيرة.

تصحيح موقف الشباب تجاه المشايخ والعلماء

السؤال: ألا ترى يا شيخ أن من أسباب عزوف الشباب عن العلماء قلة رؤية مواقفهم في إنكار المنكرات، واكتفاء دورهم بتهدئة الشباب؟

الجواب: أولاً: أنا أعتب على كثير ممن يتصورون هذه التصورات؛ لأنهم ما تثبتوا في الأمور، ثم أنه لا يلزم أن نرى مواقف المشايخ؛ لأن مشكلتنا -وأرجو أن تعوا كلامي جيداً- أن كلاً منا يرى أن يكون المشايخ على مزاجه هو، فالطبيب يرى أن المشايخ يجب أن يحلوا مشكلاته هو، والمهندس يرى أن المشايخ يجب أن يحلوا مشكلاته هو، وإذا لم يحلوا مشاكلهم فهم مقصرون، وكذلك الشاب الذي هو مغرم بالأنشطة الصيفية والأنشطة المدرسية، يريد أن يرى المشايخ معه يقفزون ويظهرون على خشبة المسرح، والشاب الذي يهوى الأرصفة يريد من المشايخ أن يزوروه إلى الأرصفة وينصحونه، والذي يهوى الإنترنت يريد أن يكون المشايخ من هواة الإنترنت، والشاب الذي له هواية في نوع معين من الأنشطة وأعمال البر يقول: لماذا لا نرى المشايخ؟!

ثانياً: أن المشايخ لهم منهجهم وسمتهم، فهم يعالجون العمومات، ولو دخلوا في الجزئيات لغرقوا؛ لأنهم لا يستطيعون أن يعملوا كل شيء، وليس كل ما نطلب منهم يستطيعونه؛ لأنه لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

فإذاً: المشايخ لهم منهجهم الحق، والحق نشهد به أنهم في جملتهم يناصحون وينكرون، ولهم مواقف كبيرة وعظيمة، فأحياناً قد يكون موقف الواحد منهم يعدل مواقف المئات، بل آلاف بل عشرات آلاف من الشباب؛ وأنا أجزم بهذا لأني أرى ذلك بعيني، لكنهم لا يعلنون ذلك؛ لأن إعلان ذلك رياء، بل وربما قد يؤدي إلى الفتنة؛ لأنهم يواجهون أناساً عندهم استعداد للمواجهة، وعندهم قوة كلمة وقوة إعلام وقوة سلطة.. إلى غير ذلك، بل يواجهون أناساً يفرضون كلامهم بوسائل الفرض المعنوية والمادية، ومع ذلك فالمشايخ يعملون ويجتهدون ويناصحون ويواجهون بكلام لا يستطيعون أن يقولوه للناس، ولو أعلنوا كل ما قالوه وما فعلوه لصارت من الفتنة ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، لكن اتقوا الله في مشايخكم، فهم الذين يقومون على مصالح الأمة الكبرى، ويسعون إلى معالجة أي قضية تهم الأمة، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، وانظروا مثلاً إلى الشيخ عبد الله المطلق حفظه الله، فهو يريد أن يجلس إليكم مع أنه مكره، فاتصلوا عليه وانظروا أنه سيتجاوب معكم، لكن مع ذلك فالعلماء هم بشر، فأحياناً قد يسئمون، وأحياناً قد يحدث منهم ردود أفعال، وأحياناً قد يحدث منهم شيء من الخطأ في التقدير، أو قد تحدث منهم زلات، فهم بشر يعانون مثلما تعانون، إلا أنهم يتصدون لمشاكل أكبر مما تتصدون له أنتم، كما أنهم ينكرون المنكرات -يعلم الله أنهم ينكرون- بأساليبهم وبمناهجهم الخاصة، وكثير منهم إذا بالغ لا يقول: أنكرت، ولا يقول: سأنكر؛ لأنه يعرف أنه إذا قال: أنكرت، فسد جهده، وإذا قال لك: سأنكر، أشغلته وتابعته، وكأنك تريد أن تفرض عليه أن يفعل ما تريده أنت، وهم في جملتهم يختلفون، فبعضهم يقتنع بشيء ويعمل به، بينما الآخر لا يقتنع به ولا يعمل به، وبعضهم قد يكون متحمساً مثلك، بينما بعضهم لا يكون متحمساً مثلك، وإنما له وجهة نظر معينة، وليس عنده استعداد ليقنع كل واحد.

فإذاً: المشايخ مهما وقع منهم من تقصير أو احتجاب عن الناس، إلا أنهم مع ذلك أفضل الأمة وأزكاها، وقائمون بواجباتهم حسب ما يستطيعون، وجهودهم مبذولة وأعمالهم ظاهرة في الجملة، ونقول: في الجملة؛ لأن بعض الناس يأخذ موقفاً لشيخ من المشايخ فيحكم به على الجميع، كأن يأخذ زلة لشيخ من المشايخ فيحكم بها على الجميع، وهذا ليس بمنهج صحيح، وإما أن يسقط جميع المشايخ كما يفعل الناقدون الذين هم أهل التجريح والغيبة!

ثالثاً: أنا أجزم من خلال معرفتي القاصرة -فكيف لو أعرف كل شيء- أن (90%) مما يقوله الناس في المشايخ من الشائعات والكذب والبهتان لا أصل له من الصحة، و(10%) من المشايخ لهم فيها أعذار لو أتيح لهم سيعتذرون، وهم طائفة مظلومة تحاكم غياباً، فنحاكمهم في مجالسنا، ونحاكمهم في منتدياتنا، ونحاكمهم في إعلامنا، ونحاكمهم في جرائدنا، ونحاكمهم في مدارسنا، وهم مع ذلك طرف يتولاه الله، بل أظن ذلك أعظم لأجرهم إن شاء الله، ولا تظنون أني أبالغ فيهم، فأنا لا أقدسهم، بل أعلم أن لديهم تقصيراً، لكن هل إذا قصروا فيعني ذلك أننا أفضل منهم؟! إن كانوا قصروا فنحن أكثر منهم تقصيراً، وإن كانوا زلوا فنحن أكثر منهم زلات، وإن كانوا قد تجاوزوا فنحن أكثر منهم تجاوزات، وإن كانوا ما بذلوا جهدهم قاعدين كما يقال، فنحن أكثر منهم قعوداً.

إذاً: فما الذي جعلنا نتعالى على مشايخنا؟! إن هذه الهجمة التي بدأها العلمانيون ثم صارت سمة للمتدينين للمشايخ وتجريحهم في المجالس لا تبرأ به الذمة، ولو كانت عندهم عيوب فيجب أن نسترها ونسددهم ونناصحهم فيها، يعني: أننا لا نبرئهم من العيوب، لكن هل السبيل لعلاجها هذه الثرثرة في المجالس وشحن القلوب ضدهم؟ لا، فإن هذه فتنة ويتولى كبرها كل من ساهم فيها، وكل من لم يدافع عن المشايخ فهو مُسْهم في هذه الفتنة، فدافعوا عن مشايخكم، واستروا عيوبهم؛ لأن عيوبنا أكثر، ومن قال: إنه ليس فيهم عيوب؟! ومن قال: إنهم معصومون! لا، فهم بمثابة الآباء، بل إن حاجتنا إليهم أكبر من حاجتنا إلى آبائنا؛ لأنهم هم الممسكون بزمام الأمور، فبأيديهم مقاليد مصالح الأمة العظمى، فإذا اختل منهجنا نحوهم وتركناهم فقد تركنا السبيل، فيجب أن ندافع عنهم وأن نغض عن أخطائهم، بل يجب أن نناصحهم فيها إن عرفنا أن فلاناً منهم قد أخطأ أو تجاوز، وقبل ذلك لابد أن نتثبت، ثم إذا تثبتنا نصحناه بأدب وحكمة، أما بهذه الطريقة، أعني: طريقة الكلام على العلماء، فهي فتنة تؤدي إلى شحن القلوب ضدهم، وإذا شحنا القلوب ضد مشايخنا فمن الطبيعي أن تشحن قلوبنا ضد بعضنا البعض، وعند ذلك تقع الفتنة التي غالباً سيهلك الجميع فيها، نسأل الله العافية والسلامة.

رابعاً: أن المسألة قد تعدت من أن تكون مجرد ظاهرة، بل صارت منهجاً حاداً يؤذن بشر عظيم، أعني: استهداف المشايخ والعلماء، قد قلت: إنهم بمثابة الآباء، لذا فأنت لو علمت من أبيك أخطاء وتجاوزات، فهل من الحكمة أنك تتحدث عن أخطاء أبيك في المنابر والمجالس وعند الناس؟! وهل سيؤيدك الناس على منهجك؟! إذاً: فكيف بمشايخ الأمة عندما نشيع أخطاءهم ولا نشيع حسناتهم على الأقل؟! وإن كان المسلم قد ابتلي بإشاعة أخطاء المشايخ، فلماذا لا يذكر الجوانب الحسنة إن كان منصفاً وعادلاً وكان قصده الغيرة على الدين؟ إذا كان قصده وجه الله -كما يزعم بعضهم- فلماذا لا يعدل؟ أما لهم حسنات؟! هذا في المشايخ والولاة وأهل الرأي والمشورة وكل المؤثرين وكل من لهم قدر واعتبار، سواء كان شرعياً أو غير شرعي، فيجب أن ننصف إذا تكلمنا عنهم، وإلا فهي الحالقة التي تحلق الدين، والتي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الضلال الفكري للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

https://audio.islamweb.net