اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , حقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد:
من الأسئلة التي وردت تقول أخت سائلة: الإلهيات والسمعيات هذا التقسيم ناشئ عن ماذا؟ وما الفرق بينهما؟
الشيخ: هذا تقسيم حادث، وهو اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح، لكن بين المصطلحين شيء من العموم والخصوص.
أولاً المقصود بالسمعيات كل قضايا الدين التي الطريق إليها هو الوحي فقط، مثل: ثوابت الدين، علل الشرع الخفية، ومثل مسائل الغيب، جميع مسائل الغيب المتعلقة بذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته، وتتعلق بالإيمان بالملائكة والكتب والرسل، وأخبار القيامة، وأخبار الساعة، فكل ما جاء وثبت في الكتاب والسنة بالنصوص من الأمور التي لا تُدرك بالحواس تسمى سمعيات، والطريق إلى معرفتها هو الوحي المسموع.
أما الإلهيات التي وردت في الكتاب والسنة فيدخل فيها ما تكلم به الناس في حق الله عز وجل بحق أو بباطل، لا سيما ما تكلم فيه الفلاسفة وأهل الكلام، وأغلبه من التخرصات التي لا أصل لها، هذه تسمى الإلهيات، من باب أنها تنصب على الكلام حول الإله، وهو الرب عز وجل.
المقدم: هل مرادهم أن الإلهيات مرجعها إلى العقل، وأن السمعيات مرجعها إلى السمع؟
الشيخ: غالباً يستعملون مصطلح الإلهيات ويقصدون به ما تقرره عقولهم وفلسفاتهم في الجانب الإلهي، وهذا هو الغالب، لكن أحياناً يدخلون ما ورد في الكتاب والسنة في الإلهيات بالتبع، وهذا هو السائد في الدراسات الأكاديمية في الجامعات، ومراكز البحث العلمي، غالباً يدرجون قضايا العقيدة تحت الإلهيات، وعلى هذا فإنهم أحياناً يعممون كل مسائل الاعتقاد تحت مسمى الإلهيات من باب التغليب.
المقدم: ما هو موقف أهل السنة لهذا المصطلح؟
الشيخ: هذا عند أهل السنة يندرج تحت مسمى الألفاظ المجملة، وموقفهم منها: أن المعنى الصحيح يُثبت، ونقول: إن قُصد بالإلهيات ثوابت الدين الواردة في الكتاب والسنة وعند السلف الصالح فلا حرج، خاصة فيما يتعلق بالله عز وجل، وإن قُصد بالإلهيات تخرصات المتخرصين من الفلاسفة والمتكلمين وسائر الذين يتكلمون بمجرد الآراء في الأمور الغيبية فهذا لا نُقره ولا نسميه إلهيات، وكذلك السمعيات تندرج تحت القاعدة نفسها.
المقدم: أيهما أسبق بمعرفة الله العقل أم النقل مع التفصيل في ذلك؟
الشيخ: هذه الأسبقية تختلف، هناك الأسبقية الاعتبارية والأسبقية الزمنية، ولعل السائل يقصد الأسبقية الزمنية، نقول: هذا راجع إلى مفهوم هذا المصطلح، فإن قُصد به معرفة مجملات الحق فهذه أسبق من حيث إن الإنسان مفطور عليها حتى قبل أن يبلغ، والإنسان منذ أن يُدرك عنده مُدركات فطرية صحيحة، فهذه أسبق من الناحية الزمنية، كذلك نستطيع أن نقول: آدم كان مفطوراً على الحق، ثم نزل عليه الوحي، فهذا أسبقية زمنية نسبية أيضاً.
أما إن قُصد بالأسبقية الاعتبارية: أيهما أقوى وأجدر وأصدق وأولى بالاعتبار الدلالة الشرعية أم الدلالة العقلية؟ فلا شك أنها الدلالة الشرعية التي هي شرع الله الذي جاء من عنده سبحانه، والوحي المعصوم الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا شك أن له الاعتبار الأول من الناحية الاعتبارية، أي: من ناحية التقدير والاحترام والتقديم الاعتباري والاستدلالي.
المقدم: وهل هناك تعارض بين العقل والنقل؟
الشيخ: لا أبداً، ليس بينهما تعارض، إلا أنه لا بد أن نقيد فنقول: العقل السليم الذي هو عقل الفطرة لا يتعارض مع الشرع أبداً؛ لأن الشرع دين الله ووحيه، وأوامره ونواهيه وخبره، والعقل السليم هو نعمة من الله عز وجل يقوم ويتأسس على احترام الشرع بالضرورة، فمن هنا العقل السليم يعتبر الشرع هو المرجعية، وهو المقدم في الاعتبار، فهو لا يتعارض مع النقل، بل يؤيده ويسعى إليه.
المقدم: ما حكم قول: ربك يقطع من هنا ويوصلها من هنا؟
الشيخ: هذه من العبارات التي تدرج على ألسنة العامة، فليس فيها حرج، بمعنى أنها من باب الخبر وليست من باب الوصف والتسمية لله عز وجل، ويقطع بمعنى يفعل، ولا أظن أن فيها حرجاً، فمعناها صحيح إذا كان على المعنى الذي نفهمه، وهو أن الله عز وجل يقدر الخير والشر، ويُنقص الله عز وجل الإنسان من جانب ويعوّضه من جانب آخر.
المقدم: الناس الذين لا يبتلون ولا تصيبهم مصائب هل يعني ذلك أنهم غير محبوبين من الله عز وجل؟
الشيخ: إن ذكر النصوص التي تدل على أن المؤمن يُبتلى، ليس هذا لازماً، لكنه هو الغالب بالنسبة للمؤمنين، فغالباً أن المؤمن يُبتلى بأنواع الابتلاء، لكن مع ذلك قد يدفع الله عز وجل عن المؤمن البلاء بأسباب: مثل: صلة الرحم، كثرة الدعاء، كثرة اللجوء إلى الله، الاستعانة بالأسباب والتي من أهمها الدعاء، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح: (أنه لا يرد القضاء إلا الدعاء) فمن هنا قد يكون الإنسان القريب من الله عز وجل الذي يُكثر اللجوء إلى الله، والذي يعظّم الله عز وجل في قلبه، ويحب الله ويخشاه ويرجوه، فيكون هذا سبباً لدفع البلاء عنه، لكن الأغلب أن المؤمن يُبتلى.
المقدم: هل نأمر الذين يقرءون ويكتبون بدراسة الكتب الشرعية، سواء كان فرض عين أو فرض كفاية؟
الشيخ: نعم، الضروريات والأولويات في دين المسلم يجب أن يتعلمها، إن كان قارئاً فيقرأ كما هو السائد اليوم، وأغلب المسلمين الآن خاصة في بلادنا -ولله الحمد- أغلبهم قراء، فهؤلاء يجب عليهم أن يتعلموا ثوابت الدين وضرورياته، كيف يعرفون ضوابط الدين وضرورياته؟ بسؤالهم أهل الذكر وأهل العلم، ويبقى ما بعد ذلك وهو التعمق في العلم والتوسع فيه والفقه في الدين.
مجملات النصوص تأمر بطلب العلم والفقه في الدين، وأنها هي المطلب الأسمى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) وعلى المسلم دائماً أن يسعى إلى التفقه في الدين بقدر استطاعته، لكن يبقى درجة التفقه: ما الذي يجب على هذا ولا يجب على هذا؟ ما الذي يتعين عليه أن يتعلم من العلوم الشرعية أو غيرها من فروض الكفاية؟ هذا بحسب أحوال الأشخاص وقدراتهم ومواقعهم في خدمة الأمة، وحسب الاستعداد عندهم والميول والإمكانات.
المقدم: ما صدق قول العامة: إنه إذا مات لهم ميت رأوه في المنام وطمأنهم على نفسه مثلاً فهل يكون صادقاً؟ وما ضابط الرؤيا لتمييز هذا القول؟
الشيخ: على أي حال رؤيا الأموات ثبتت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ما الصادق منها من الكاذب؟ هذا أمر لا ينضبط بضابط دقيق إلا بسؤال أهل الذكر؛ لأن كثيراً من الرؤى تختلط بالأحلام، والرؤى لها علامات:
أولاً: أن يكون فيها وضوح، وألا يكون فيها إلا أشياء توافق الشرع، وأنها غالباً تكون مبشرة، وتكون موعظة واضحة، لكن إذا كانت الأحلام تتعلق بهموم الإنسان اليومية وارتبطت بالأموات أو لم ترتبط فالغالب أن هذه انعكاسات الحياة التي يعيشها الإنسان في اليقظة، وإذا كانت الأحلام والرؤى يظهر فيها ما يخالف الشرع كأن تؤيد بدعة أو معصية، أو توقع الإنسان في وسواس أو أوهام أو تشاؤم.. أو نحو ذلك، فهذه تكون في الغالب من عبث الشياطين.
المقدم: وأحياناً يؤخذ منها حكم شرعي؟
الشيخ: الرؤيا لا يؤخذ منها حكم شرعي، وإنما الرؤيا تؤيد الحكم الشرعي أو تنبه عليه، كأن أكون مثلاً: ليس عندي بصيرة بحكم شرعي من الأحكام، فيوفق الله رؤيا مني أو من غيري يكون فيها تبصير بهذا الحكم الشرعي، لكن يستحيل أن تكون الرؤيا الصادقة تخالف الشرع.
أخيراً أقول وأظنه هو مغزى السؤال: كون الناس الأحياء يرون أمواتهم فهذه رؤى وأحلام، والأصل فيها أنها ثابتة شرعاً، لكن ليس كل ما يراه الناس في أحوال الأموات يكون صادقاً.
المقدم: ذكرت يا شيخ أهل الذكر، من هم أهل الذكر في تأويل الرؤى في هذا الزمان؟
الشيخ: تأويل الرؤى في الحقيقة له عدة ضوابط:
أولاً: أن الرؤيا غالباً موهبة مثل: موهبة الخط وموهبة الحفظ، وهذه الموهبة إذا توافر لها الفقه في الدين زادت وانضبطت.
ثانياً: هذه الموهبة إذا توافر لها إحاطة بعلم الرؤى وقواعده من أصحاب الخبرة من علماء السلف وغيرهم، فإنها تزداد وتنضبط.
ثالثاً: إذا توافر للرؤيا تجارب مع بُعد نظر وحكمة عند المفسِّر، فهي غالباً تكون أقرب للصواب، لكن ليس من لوازم تفسير الرؤيا الفقه في الدين أو العلم الشرعي بالضرورة، ولا أيضاً أن تكون هذه الضوابط موجودة جميعاً، لكن أقول: أصل تفسير الرؤى موهبة، وهذه الموهبة تزداد وتصقل مع الأسباب التي ذكرتها.
تأتي مسألة مهمة حول الرؤى وهي: أنه قد تختلط الموهبة أحياناً بما نسميه المؤثرات على الإنسان التي تجعله أمام الناس يفسّر الرؤى وهو ليس بمفسِّر، ويبدو له أنه مفسِّر وهو ليس بمفسِّر، وهو أن يقوم بتفسير الرؤى عن طريق الجن والقرناء، من حيث يشعر المفسِّر أو لا يشعر؛ وذلك أن الله عز وجل جعل مع كل إنسان قريناً، وهذا القرين إذا وجد في الإنسان مدخلاً يستخف به منه استخف به، ومن ذلك تفسير الرؤى، فمثلاً: بعض الرقاة تجده في مجلس فتُعرض عليه رؤيا، فربما يكلم شخصاً آخر ويقول: فلان الآن على الحالة الفلانية وهو غائب، فيتصلون به فيخبرهم أنه على الحالة الفلانية التي ذكرها الراقي، هذه أحياناً تكون لها علاقة بالرؤيا، وأحياناً لا تكون لها علاقة بالرؤيا، وتكون عبارة عن حدس ينقدح في ذهن المفسِّر من خلال عوامل مساعدة مثل: القرين، وأحياناً الجن، والجن قد يعبثون بمفسري الرؤى وهم لا يشعرون.
المقدم: هناك فئة من الناس تُهاجم أهل الخير، سواء كانوا من العلماء أو المؤسسات الدينية أو المراكز الصيفية أو الدور النسائية، وليس لهم شغل شاغل إلا هذا الأمر، هل من نصيحة لمثل هؤلاء، وهم كتاب الصحف والمنتديات؟
الشيخ: على أي حال هؤلاء فئات:
الفئة الأولى: هم مرضى قلوب، ونسأل الله السلامة، بمعنى أنهم أصحاب شهوات وأصحاب شبهات، ومن الذين عندهم نزعة نفاق ونزعة إعراض عن الدين، أو أصحاب أهواء، بمعنى أنهم ينتمون إلى فرق أو أحزاب.. أو غيرها، فهؤلاء لا شك أن ميزانهم مختل، فيصنّفون أهل الحق بتصنيفات عديدة تتضمن السخريات، وتتضمن التقاط الأخطاء والزلات، والانتقائية في نقد الأشخاص، وعدم الإنصاف.. إلى آخره.
الفئة الثانية: ممن ينتسبون إلى الخير مع الأسف، وربما أن السائل يقصد هؤلاء أو لا يقصدهم، لكنه واقع وموجود أن هناك فئة من المحتسبين -إن صح التعبير- أو الغيورين على كثير من مسائل الدين تسوءهم بعض الأخطاء التي يقع فيها الناس أو الجماعات أو الأحزاب، فيضخّمون هذه الأخطاء، وتدخل عليهم أوهام فيسيئون الظن كثير من أهل الخير وبالدعاة، ويفسّرون الأقوال والتصرفات بأسوأ التفسير، ثم يقفون من أهلها مواقف سلبية، وربما يحذّرون منهم، ثم أعظم من هذا أنهم إذا وجدوا بعض الأخطاء والتجاوزات التي توجد بطبيعتها في البشر في الجمعيات والمؤسسات الخيرية، ودور التربية التطوعية.. وغيرها، إذا لاحظوا هذه الأخطاء عمموها وجعلوها وسيلة للتحذير من هذه الجمعيات والمؤسسات الخيرية، وهذا نوع من الوسواس، أو نوع مما نسميه المبالغة أحياناً في علاج الأخطاء، وهذا ناتج غالباً عن قصور نظر، أو عن ردود أفعال، ولعله وإن كان السائل لا يقصد هؤلاء فإني أحب أن أنتهز الفرصة مع إخواني المشاهدين لأقول: إن هذا مع الأسف مرض، وأنا يسعدني جداً أن ننقد مؤسساتنا الخيرية وأهل الخير، وننقد العلماء والدعاة بالأسلوب المنهجي الشرعي، وواجب علينا أن نفعل ذلك، وأن نقبل الرأي الاجتهادي في هذا الأمر بالأسلوب المنهجي والشرعي الذي يتوخى النصح والإشفاق والرفق والتثبت، وعدم التشهير، وأيضاً عدم التعميم، وأن يتوخى دفع المفسدة، أي: أن كثيراً ممن يسلكون هذا المسلك الآن أوهموا بعض الغافلين أن مثل هذه المؤسسات تتضمن أشياء خطيرة، وأنها خطر على المجتمع وعلى الأمة، إلى هذا الحد وكأنها قنبلة، وهذا نسف لبذور الخير التي بدأت تظهر عندنا الآن، وإن كان العقلاء من المسئولين والدعاة يعرفون أن هذا بعيد عن العدل والإنصاف، لكن هذا أحدث إرجافاً عند بعض شبابنا الناشئ، وأحدث تخوُّفاً، وأنا اعبتره نوعاً من الوسواس في تعميم الأخطاء، وإساءة الظن بجميع عمل الخير والأخيار؛ بسبب وجود هذه الأخطاء.
إذاً: هذا المنهج خطير.
المقدم: ذكرت يا شيخ أن هناك من الأخيار أحياناً من ينقد الأخيار، لكن يضخّم هذه الأخطاء، أي: أن هناك من الناس ممن نشاهده أحياناً في الساحة، سواء عندنا هنا في البلاد أو في البلاد الأخرى من يتحامل على جهات شرعية معينة، أو على دعاة بأعيانهم، أو على أحزاب إسلامية مثلاً في دول أخرى، ويضخّم هذه الأخطاء، بينما تجد المنافقين أو المنحلين أو المنحرفين أو التقريبيين يأخذون راحتهم بلا نقد..؟
الشيخ: أو ينقدون، لكن نقد غير مكافئ، أي: أنه قد يوجد من يعمل هذا وذاك، وأنا أقول: يجب أن ننقد ونناصح، وهذا أمر لا نختلف عليه، لكن نختلف على الأسلوب والمنهج في هذا.
المقدم: الإشكال يا شيخ الآن بعضهم يلبّس على الناس يقولون: لماذا تجعلون العلماء فوق النقد؟ من قال: إن العلماء فوق النقد؟
الشيخ: هؤلاء يعتبرون دفاعنا عن العلماء ادعاء للعصمة لهم، وهذا من التلبيس على الناس، وأنا أدّعي أنه لا يوجد بيننا في هذه البلاد من يعتقد العصمة للعلماء أبداً، نعم يوجد عند أهل الأهواء من يعتقد العصمة لشيوخهم، ويتحمسون له ويبثونها حتى في الفضائيات الآن، لكن عندنا أهل السنة والجماعة لا يوجد، إلا ما يمكن أن يكون من باب اللازم، فمثلاً عامتنا يسوءهم نقد العلماء، فإذا عبّروا عن فطرتهم في استنكارهم لنقد العلماء قال الناس: إذاً أنتم تعتقدون لهم العصمة، لا، لا يعتقدون لهم إلا الحق والكرامة، فعامة المسلمين بفطرتهم يريدون لعلمائهم أن يبقوا على عزتهم وكرامتهم، فالنقد أحياناً يكون جارحاً وأحياناً يكون نقداً غير مناسب، ومن هنا يستثير ردة الفعل فيدّعي المقابل أو يدّعي الخصم عدم الخطأ من العلماء، لكن نقول: إن علماءنا ليسوا معصومين.
المقدم: لذلك يا شيخ الذي أغاظ هؤلاء العامة على مثل هذا الطرح، أن الذي يطرح ليس بكفء أصلاً أن ينقد هذا العالم؛ لجهله وبعده عن العلم الشرعي، فمثلاً يا شيخ: الآن نقاش العلماء واجتهاداتهم وردود بعضهم على بعض منذ عهد الصحابة وإلى عصرنا هذا موجود، ولم يستنكر أحد من العامة، لكن أن يأتي شخص لا يتصل بالعلم الشرعي، ثم بعد ذلك ينقد عالماً جليلاً من العلماء، هنا يتعرض لنقد العامة.
الشيخ: نعم، أحسنت، وهذا خلل في جميع الموازين من الجانب الشرعي لمن يعتبر الشرع، أيضاً من لا يعتبر الشرع لو أخذنا هذا بالموضوعية والإنصاف لاعتبرنا أن هذا خلاف المنهج العلمي، وخلاف الموضوعية والإنصاف أن تستهدف العالم وأنت لست بعالم.
المقدم: كيف أحمي أبنائي وبناتي من الأفكار المنحرفة؟
الشيخ: هذا في الحقيقة سؤال جاد، وأحس أنه في ذهن كل مسلم في كل بلد، وهذا في الحقيقة هاجس جميع المسلمين في كل الدنيا، كيف نحمي أجيالنا؟
الآن أدرك المسلمون في كل مكان أن أجيالهم مستهدفة، استهدفت استهدافاً مقنناً ومرتباً بوسائل فتّاكة، وحينما ننظر إلى ضماناته سبحانه وتعالى لحفظ الدين وكمال الدين وبقاء الدين إلى قيام الساعة، وبقاء طائفة من الأمة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من عاداهم، وحينما ننظر إلى واقع الأمة في الأزمات ينتج عنها ظواهر صحية تعيدها إلى الحق ومصادر الحق.
إذاً: أقول: الأسباب موجودة، وكل إنسان له ظروفه وبيئته، والسائل لا أدري أين يعيش وفي أي بيئة؟ لكن الله عز وجل أمرنا بأن نتقيه ما استطعنا، وأن نسدد ونقارب، فليبحث كل منا عن الوسائل الواقية في بيئته لأبنائه وأجياله، لكن هناك أمور عامة تتعلق بهذه الوسائل:
أولاً: تربيتهم في البيت، وتعهدهم بوسائل التربية على احترام ثوابت الدين، وعلى المحافظة على فرائض الإسلام، وتعليمهم أركان الدين وأركان الإسلام وأركان الإيمان، هذه أمور سهلة وميسورة لكل مسلم.
ثانياً: تربيتهم على الأخذ عن المصادر النقية: كتاب الله سبحانه وسنة النبي صلى الله عليه وسلم كل بقدر استطاعته.
ثالثاً: توفير الوسائل الصالحة، ونجد بحمد الله الآن مع كثرة شيوع الوسائل الفتاكة التي عبثت بعقول كثير من المسلمين وقلوبهم وأخلاقهم، وعقائدهم، إلا أنه ومع ذلك الآن تزداد وسائل الحماية، وأقصد بالذات الوسائل الإعلامية، مثل: الفضائيات والنت.. وغيرها، تزداد الآن الوسائل البديلة التي إذا صدقنا مع الله عز وجل نجدها متوافرة لدينا، فنحفظ أجيالنا بقصرهم على الوسائل المأمونة، مثل: قناة المجد وفقها الله لكل خير، وكذلك القنوات الأخرى وهي كثيرة، وتزداد شهرياً ولله الحمد إذا لم يكن أسبوعياً، ثم كذلك المحاضن التي توافرت في جميع بلاد المسلمين وتزداد الآن، وهي المؤسسات الخيرية والتربوية والتعليمية، ومحاضن تحفيظ القرآن ودروس العلم.. وغيرها، وأهم ما ينبغي هو حجب الأجيال قبل أن تعقل وتفقه في الدين عن المصادر غير النقية، سواء كانت مرئية أو مسموعة أو مقروءة.
المقدم: هل هذا ممكن يا شيخ؟
الشيخ: نعم ممكن: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]، لكن قد تتفاوت ظروف الأسر والأشخاص، وبعض الأسر قد تكون ابتليت ببيئة أقرب إلى الانحراف والانغماس، ومع ذلك انتشال هذه الأسرة ممكن بالتشاور والتعاون وطرح القضايا أمام أهل الفكر والرأي عبر الوسائل الآن، وأنا أرى كثيراً من دعاتنا الراشدين -ولله الحمد- الآن لهم إسهام كبير جداً في طرح حلول ومشكلات لمثل هذا السؤال، فليتبعوا هؤلاء ويتابعوا برامجهم، وليكونوا على صلة بالمأمونين، كذلك ما من بيئة الآن في بيئة المسلمين إلا يوجد عندهم مجال للتشاور في المسجد، وفي المركز الإسلامي، وفي العمل، حتى في البلاد الأجنبية التي زرناها وفيها أقليات مسلمة بعيدة وغريبة نجد عندهم وسائل التشاور والتحصين لأجيالهم موفورة، لكن تحتاج المسألة إلى شيء من الجدّية والصبر.
المقدم: ننتقل إلى مقدمات حول دعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وإلى تلك الصحف والكتب التي تحدثت عن دعوة الشيخ، سواء كانت بإنصاف أو أحياناً بظلم لهذه الدعوة، بداية دعني أسألك: ما هي حقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ؟
الشيخ: في الحقيقة أن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب يعرفها أكثرية البشرية وليس العالم الإسلامي فقط، وعندي من خلال بحثي عن إسلامية لا وهابية دلائل على ذلك، بعضها باستبانات، وسأذكر منها إن شاء الله في حلقة من الحلقات استبانة توضّح للمشاهدين بعض الحقائق الغائبة عنا، فالآن أكثر الدول وأكثر الشعوب وأكثر الديانات تعرف شيئاً اسمه: الوهابية غالباً بهذا الاسم، وليس عندي إحصائيات تدل على أن الأغلبية الساحقة لا يفهمون حقيقة هذه الدعوة، لكن أظن أني صادق إذا قلت: كثير من مناصريها بل من أبنائها من يجهلون الحقائق الكثيرة عنها.
المقدم: يعني: إذا كان أغلب الناس الذين يسمعون بهذه الدعوة ولا يعرفون حقيقتها، إذاً فأغلب الناس عندهم الدعوة مشوهة؟
الشيخ: أغلب الناس لا يسمعون عنها إلا من خلال مفتريات عليها، من خلال النافذة الناقدة الظالمة، لا من خلال الحقيقة، فأقول وعندي براهين على هذا: إن أهل السنة والجماعة أنفسهم الذين أهل هذه الدعوة في جميع الدنيا يجهلون الكثير من الحقائق عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي تسمى: الوهابية.
إذاً: دعني أعرّج على أهم النقاط في حقيقة هذه الدعوة بإيجاز:
أولاً: هذه الدعوة ما هي إلا امتداد لمنهاج النبوة، لا أتكلم عن الجزئيات ومفردات التطبيقات، فالمنهج الذي قامت عليه هذه الدعوة هو المنهج العقدي والعلمي والعملي السياسي والاقتصادي والاجتماعي وجميع جوانب منهج إقامة الدعوة، وهذه الدعوة شاملة، لا كما يقول بعض الناس: إنها مجرد دعوة إصلاحية، أي: صلاح ديني، وهذا خطأ فادح، ومع الأسف سمعت من بعض أتباع الدعوة من يقول هذا الكلام، مع أنها دعوة دينية شاملة، وهذا خطأ فادح، وواقعها يخالف هذا القول.
إذاً: هي امتداد لمنهاج النبوة، فهي دعوة الإسلام، ودعوة السنة والجماعة بعد الافتراق، قامت على إحياء السنن بجميع معانيها، السنن في العقيدة، التي هي الاعتقادات السليمة، والسنن في العبادات، والسنن في فرائض الدين، والسنن في الأخلاق، والسنن في جميع شعب الحياة.
وأيضاً قامت على محاربة البدع، ابتداءً من الشركيات فجميع أنواع البدع، قامت على هذا قياماً متكاملاً.
كذلك من حقيقة الدعوة أنها عبارة عن تجديد للدين في مصادره، وفي منهج الاستدلال وفي التطبيقات، وفي التعامل مع الرب عز وجل، وفي التعامل مع الخلق، وفي الجانب الفردي والجانب الأسري والجانب الاجتماعي والجانب الدولي والأممي.
المقدم: ما هو المقصود بتجديد هذا الدين؟
الشيخ: التجديد هو إحياء ما اندثر من السنن ونفي البدعة، يعني: التجديد بمفهومه الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم أنه على رأس كل مائة سنة يبعث الله من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، هذا الحديث صحيح، فالإمام محمد بن عبد الوهاب مجدد في الدين التجديد الشامل، ولا أعرف في التاريخ مثل هذا التجديد، ولا سيما أنه وجد في وقت ضعُفت فيه كثير من مناهج الدين العلمية والعقدية والتطبيقية في الأمة، ولا أقول: اندثرت؛ لأن الحق لن يندثر، والدعوى بأن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب تدّعي أنه لا يوجد في الأمة خير، هذه دعوى سنفندها إن شاء الله من خلال كلام الشيخ نفسه، عندما رد على هذه الشبهة.
إذاً: هذه الدعوة هي حقيقة الإسلام وهي حقيقة السنة والجماعة، وهي ذات منهج متكامل عقدي ديني إصلاحي شامل لجميع جوانب الحياة، قامت عليه دولة، وقام عليه كيان اجتماعي في مهبط الوحي، والدعوة عبارة عن دعوة متكاملة حقيقتها حقيقة الدين، وقامت بكيانين:
الكيان الأول: كيان دولة، الذي هو الدولة السعودية الأولى والثانية والثالثة التي نعيش في ظلالها الآن حماها الله من كل سوء.
الكيان الثاني: الذي هو انتشار الدعوة، وانبعاج الدعوة في جميع الدنيا، ولا تزال دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب حيّة، والدليل على أنها حية ردود الأفعال ضدها، فلو كانت ميتة ما همّت الأمم الضالة وأهل الأهواء، والناعقون الآن باسم أهل الأهواء من أبناء جلدتنا.
المقدم: الصورة على قدر الألم؟
الشيخ: نعم الصورة على قدر الألم، فإذاً حقيقة الدعوة هي كيان الإسلام، والذي نعيش الآن ثماره؛ لأنه عرق الأجداد والآباء، ونحن جيل يكاد يفرِّط بهذه النعمة، بل من أجيالنا الآن من تنكر لهذه النعمة وملَّ منها، أسمعت أحداً مل من النعمة؟ نعم هم أهل سبأ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا [سبأ:19]وهذه حقيقة، فحال كثير منا الآن سواء الذين مالوا إلى التفريط والانفلات وإلى التبعية وتمييع الدين، أو الذين مالوا إلى الغلو والتشدد ومعالجة الأمور بالعنف..، فهؤلاء كلهم ملّوا النعمة، ملّوا الدعوة وإن ادّعوا أنهم ينهلون من ثوابتنا، وما أبعدهم عن الثوابت.
السؤال: ذكرت يا شيخ أن التجديد أحياناً يكون في مصادر الدين، ما المقصود بالتجديد في المصادر؟
الشيخ: ليس المعنى أنه جدد في مصادر الدين بالمعنى الاصطلاحي العام، ولكنه نقى مصادر الدين، وأرجع الأمة إلى الأخذ بمصادر الدين النقية من حيث الاستدلال والتلقي، فدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب قامت على ألا يُستدل في الدين إلا من كتاب الله أو ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه التزموا هذا المنهج التزاماً دقيقاً يُشبه عهد الخلفاء الراشدين من وجوه كثيرة، إلا اجتهادات خاطئة أو تجاوزات وزلات قد تقع من العالم، وهذه أمور معروف الحكم فيها، لكن أقصد من حيث المنهج، التزموا مصادر نقية، ولذلك أثّرت هذه الدعوة تأثيراً باهراً، أزعج الخصوم وحيّر الأصدقاء.
المقدم: ذكرت يا شيخ قبل قليل حسب علمكم حفظكم الله أنه لا توجد دعوة مرت من بعد عهد النبي عليه الصلاة والسلام إلى هذا الوقت تشابه دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في إحياء السنة، قد يقول قائل: إنكم تبالغون بهذا الكلام، وأنتم معجبون بهذه الدعوة حتى إنكم عممتم هذا الحكم، أين عصر الدعوة الأموية والعباسية والإمام أحمد بن حنبل ومواقفه؟
الشيخ: عصر القرون الثلاثة الفاضلة ما كانت بحاجة إلى التجديد الشامل، وإنما كانت فقط بحاجة إلى التجديد الجزئي، فقامت المذاهب وقامت حركات إصلاحية قوية في القرون الثلاثة الفاضلة، فبعد الخلفاء الراشدين جاء عهد عمر بن عبد العزيز ، ثم الأئمة الكبار أمثال الإمام أبي حنيفة فقد كان له أثر كبير في تأصيل كثير من أمور الفقه في الدين، ثم الإمام مالك ، ثم الإمام الشافعي ، ثم الإمام أحمد ، وهؤلاء كلهم لهم إسهام في التجديد، لكنه تجديد يتناسب مع وضع الأمة؛ لأن الأمة ما كانت بحاجة إلى التجديد الشمولي، كذلك في عهد الإمام ابن تيمية وتلاميذه هناك نوع من التجديد، لكن الأمة ما أعرضت إعراضاً شمولياً، أما في عهد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان هناك نوع من البعد عن الإسلام ككيان لا كوجود، وإلا فيوجد علماء وصالحون ولا شك حتى في جزيرة العرب، ونجد بالذات التي قامت فيها الدعوة، كان يوجد فيها علماء ويوجد فيها طلاب علم، لكن لا يوجد كيان متكامل كالكيان في القرون الثلاثة الفاضلة، فما كانت الأمة بحاجة إلى مثل هذه التجديد الشامل كما هي بحاجة إليه بعد القرن العاشر والحادي عشر والثاني عشر، فلما احتاجت الأمة إلى التجديد الشامل وجدت مثل هذه الحركة فكانت فعلاً تتميز بالشمولية التي لم يسبقها مثلها بعد القرون الثلاثة الفاضلة؛ لأن الأمة ما كانت بحاجة إلى مثل هذه الشمولية.
المقدم: بما أنا في مقدمات لحلقات قادمة حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى نود أن نتعرف على طبيعة الافتراءات حول هذه الدعوة بشكل عام؟
الشيخ: لو أردنا أن ندرس هذه الافتراءات دراسة موضوعية لوجدناها تنقسم إلى ثلاثة أقسام، فالافتراء الذي قيل عن هذه الدعوة غالبه من الكذب والبهتان المتعمد ممن أشاعوه، والدليل على هذا أنهم قوبلوا من قبل أئمة الدعوة الأوائل ومن بعدهم بإقامة الحجة والحوار، وأيضاً التاريخ كشف هذا الكذب والبهتان، فالتاريخ إذا حُقق فهو من أعظم الوسائل لكشف الكذب، فبالتحقيق التاريخي انكشف الكذب الكثير على الدعوة من خلال الواقع، ومن خلال البحث العلمي المؤصّل، ومن خلال التتبع التاريخي.
إذاً: أغلب المفتريات من باب الكذب والبهتان.
فمثلاً: أشاعوا في العالم كله إلى اليوم أن الوهابية مذهب خامس، أقول: هذا يدل على الجهل عند هؤلاء الكذبة، المذهب الخامس هل فيه عيب؟ لو جاء إمام من أئمة الدين بمذهب يشبه المذاهب الأربعة مؤصل على أصول الشرع بالاستدلال، هل ننكره؟ فـابن حزم مثلاً مجتهد، وكثير من العلماء يعتبرونه خامساً مع الأئمة، وابن تيمية يعتبرونه مجتهداً مطلقاً، ويعتبرونه إماماً خرج عن تقليد الأئمة الأربعة، وهكذا أئمة لا يُعدّون.
فإذاً: تسميتهم مذهباً خامساً جاءت من باب الجهل، لكن هم يقصدون إثارة العامة بأن مذاهب المسلمين محصورة بأربعة، وأن ما خرج منها خارج عن أصل الإسلام، فكلمة (مذهب خامس) كأنه مذهب خارج عن الإسلام.
المقدم: هذا الافتراء حقيقة يا شيخ يثير الدهشة، فالمذاهب الأربعة مذاهب فقهية، فما أتى به الشيخ محمد بن عبد الوهاب في إطار الفقه كان فيه تبعاً لأحد المذاهب الفقهية وهو الحنبلي، علماً أن أصول العقيدة ليس فيه خلاف بين أئمة المذاهب، وهذه الأصول هي التي جاء الإمام ببيانها في زمنه؟
الشيخ: على أي حال هذه معادلة صعبة وقديمة، ونريد أن نتعمق فيها، لكن أشير إليها هنا بشيء من الإيجاز، وهي أن هذه الدعوة تنسحب على كل الذين خرجوا عن السنة والجماعة، فكثير من أهل الأهواء والبدع يدّعون أنهم مالكية، ولا أقول: كل المالكية؛ لأن المالكية الأصل أنهم على السنة، والشافعية على السنة، لكن هناك من يدّعي الشافعية وتجده بدعي بكل معنى الكلمة، وهو من أبعد الناس عن مذهب الشافعي ، وكذلك من الحنابلة أيضاً، وبعض الناس يظن أنا نعتقد أن الحنابلة ليس فيهم من خرج عن السنة والجماعة، ويوجد ممن ينتسب إلى الإمام أحمد من خرج عن السنة والجماعة.
إذاً: هم يوهمون الناس بأن المذاهب مختلفة في الدين، بينما المذاهب هي اجتهادية، وكل الأئمة الأربعة دينهم واحد وعقيدتهم واحدة، والإمام محمد بن عبد الوهاب هو على هذه العقيدة وصرّح بهذا، وكان يستدل بوضوح بأقوال أبي حنيفة والشافعي والإمام مالك وأحمد في قضية تأصيل الدين وأصوله.
إذاً: هذه معادلة معضلة، وهي أنه يوجد ممن كان قبل دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب خارج عن السنة ويقول: أنا شافعي، مع أن الشافعي إمام في العقيدة والسنة قبل أن يكون إماماً في الفقه، بل إنه عرض أقواله في الفقه على الدليل، وقال: إذا خالف رأيي وقولي الدليل فاضربوا به عرض الحائط.
فالعقيدة لا يساوم عليها ولا يتنازل عن شيء منها؛ فهو على عقيدة أبي حنيفة ومالك والإمام أحمد .. وهكذا.
المقدم: كيف ينسب الأشعرية أنفسهم للشافعي ، مع أن الشافعي من أكثر العلماء ذماً لأهل الكلام؟
الشيخ: بل السؤال أعمق ولعلي أصحح المسار لنختصر: المتكلمة الأشاعرة لماذا سموا أشاعرة انتساباً لمن؟ انتساباً لـأبي الحسن الأشعري وهو على مذهب أهل السنة والجماعة.
المقدم: ألم يكن كلابياً مثلاً؟
الشيخ: لا، هو عاصر ابن كلاب وما التقيا، بل هو أقدم وأعمق في فهم الفرق والأهواء من ابن كلاب ، والإمام الأشعري على مذهب أهل السنة والجماعة فضلاً عن الإمام الشافعي ، فمن هنا تأتي المعضلة وهي الانتماء للإمام والانتساب إليه، في حين أنه ليس على دينهم، فكتبه موجودة، و(مقالات الإسلاميين) الذي هو للإمام الأشعري ، وكذلك و(الإبانة) و(رسالة إلى أهل الثغر)، يوجد فيها بعض الثغرات التي خرج فيها عن السنة، وهي نزعات باقية من تبعيته الكلامية لـابن كلاب ..وغيره، لكن مع ذلك في الجملة فالإمام الأشعري على منهج السلف، ويثبت الصفات الذاتية والفعلية، إلا تأويلاته التي تعلقت بالكلام ومسائل معدودة عند أهل العلم فتُعتبر زلات عالم.
إذاً: ما دمتم أنتم تعتبون علينا اتباع محمد بن عبد الوهاب وتقولون: نحن ندفع المذاهب الأربعة نقول: الإمام محمد بن عبد الوهاب على مذهب الأئمة الأربعة وعلى مذهب الأشعري ، وأتحدى أن يكون الأشاعرة أقرب من الإمام محمد بن عبد الوهاب إلى الأشعري ، بل هو أقرب إلى الأشعري بنسبة (90 % ) أو أكثر.
المقدم: فعلاً الأشاعرة انحرفوا إلى مذهب المعتزلة؟
الشيخ: أي: متكلمة الأشاعرة؛ لأن المعاصرين الآن لا يتعمقون بالكلاميات، فهؤلاء -إن شاء الله- هم أقرب إلى السنة والفطرة، خاصة العوام منهم الذين لا يتعمقون في الكلاميات، أما متكلمة الأشاعرة فقد بعدوا، وأنا لا أدري لماذا جاء هذا الموضوع، لكن بمناسبة نسبة المذهب الخامس لدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب نقول: ليست مذهباً خامساً، بل هو يلتزم بمذهب الأئمة الأربعة، وهذه الدعوى من باب التشويه.
كذلك من الكذب قولهم: إن أئمة الدعوة يكفّرون بالذنوب، بل هم أبعد الناس عن التكفير بالذنوب، صحيح أنهم حازمون في الأحكام التي وصف الله عز وجل بها الكفار والمشركين، وحازمون في مسألة حماية العقيدة من غوائل الشرك والبدع، وهذا الحزم لا يطيقه بعض الناس، فيفسّره بأنه تشديد، ويفسّره بأنه تكفير، في حين أنهم أبعد الناس عن التكفير، خاصة الإمام محمد بن عبد الوهاب ، فعنده ورع عن التكفير لم نجده عند كثير من أئمة السلف الأوائل.
المقدم: لعلنا نأخذ أمثلة يا شيخ؟
الشيخ: من البهتان والكذب: الأول: دعواهم أن دعوة الشيخ خارجية وأنها مجسّمة.
الثاني: الجهل والتقليد الذي عليه عامة المسلمين شُوهَتْ في أذهانهم دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، فتجدهم يسمونها الوهابية، فهم مقلّدة للكذبة والمفترين، ولعلي أكتفي بنموذج طريف على هذا الجانب الثاني وهو الجهل والتقليد.
هناك قصة مشهورة سمعتها من عدد من العلماء، منهم الشيخ الألباني رحمه الله يقول: إن أحد العوام من بلد مجاور للملكة العربية السعودية زار الرياض، وهو في ذهنه مما في بعض بيئته أن الوهابية لا يحبون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه يرى أنهم يستنقصون النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنهم جفاة في حقه، فهذا العامي عندما أتى إلى الرياض رغب أن يذهب إلى السوق، وهذا السوق مشهور، حتى قال لي الشيخ الألباني رحمه الله: أنتم تسمونها سوق ابن قاسم، هذه خصوصية للرياض، حراج ابن قاسم، فيقول: عندما ذهب إلى السوق صُعق وجاء إلينا مرتبك وهو يشتم أناساً معينين وغير معينين، قلنا: ما الذي حصل؟ قال: إني كنت أفهم من فلان وفلان وفلان بديارنا أن هؤلاء أهل نجد لا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: وأنا في السوق وهم يتبايعون بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: فأسأل أول هؤلاء: بكم هذه السلعة؟ فيقول: صل على محمد صلى الله عليه وسلم، هي بكذا وآخر يقول: صل على النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: إنهم يتبايعون بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ملء السمع والبصر، وسمعت عدة أشخاص يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم في كل أمر وهم في السوق، ويقول هذا العامي: أما نحن فنتشاتم، وأحياناً يسب بعضنا الدين أثناء البيع والشراء، ثم يقول: أهذه الوهابية التي يقولون عنها؟!
هذا نموذج للجهلة والمقلّدة.
بداية نشكر لشيخنا الشيخ ناصر بن عبد الكريم العقل هذا الطرح المميز لهذا الموضوع المهم، والذي نحن بحاجة إليه في هذا العصر، خاصة فيما يتعلق بمسائل العقيدة، ودعوة الأئمة المجددين إليها.
فدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هي امتداد لدعوة أئمة السلف ودعوة المجددين من العلماء، فالشيخ رحمه الله لم يأت بجديد، وإنما هو يدعو لما دعا إليه نبينا عليه الصلاة والسلام، وما دعا إليه الصحابة الكرام، والمتأمل في دعوة الشيخ -وكتبه موجودة بحمد الله ومنتشرة في العالم الإسلامي- يجد أن هذه الدعوة المباركة ما هي إلا امتداد لدعوة الصحابة رضوان الله عليهم وأئمة الهدى، ولهذا العلماء رحمهم الله يشبهون (كتاب التوحيد) لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بأنه قطعة من صحيح الإمام البخاري , وأنا عندما أدرس الطلاب في الجامعة، وخاصة طلاب المنح يُعجبون كثيراً بـ(كتاب التوحيد).. وغيره بأسلوب الطرح المتميز، ما هو إلا آية وحديث وقول لصحابي، ومصطلحات شرعية مأخوذة من الكتاب والسنة وأئمة السلف؛ ولهذا ندعو كل من يلمز دعوة الشيخ إلى أن يقرأ كتب الشيخ رحمه الله في مصادرها وفي مصطلحاتها وفي دلالاتها، فسوف يتبين له الحق في أن دعوة الشيخ رحمه الله ما هي إلا امتداد لدعوة أئمة السنة وأئمة الدين من الفقهاء الأربعة المتبعين في العالم الإسلامي؛ ولهذا كل من يلمز دعوة الشيخ أو غيره فلنقل له: اقرأ كتب الإمام الذي تتبعه في الفقه سواء الإمام مالك أو الإمام أبي حنيفة أو الإمام الشافعي أو الإمام أحمد تجد أن كلام هؤلاء الذي يقولونه في العقيدة هو ما يقوله إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
المقدم: دكتور سهل أحياناً من يقرأ كتب الشيخ يرى أنها مختصرة، هل في هذا مغزى؟
مداخلة: مختصرة من جهة ماذا؟
المقدم: من جهة عدم الحشو في الكلام أحياناً وعدم إطالة الشروح إنما أحياناً يكتفي بآيات أو بحديث.
مداخلة: هذا من أساليب الشيخ رحمه الله، وأساليب الأئمة أنهم يذكرون الكلام المختصر الذي يفهمه العالم ويفهمه العامي، ولكن المتأمل في كتبه يجد أنها تعتمد على الدليل، ولننظر في كتاب (التوحيد) وفي كتاب (الأصول الثلاثة) وفي كتاب (كشف الشبهات).. وغيرها يجد مع اختصار العبارة سهولة العبارة واعتمادها على الدليل من الكتاب والسنة، وهذا ما يميز هذه الدعوة المباركة، كدعوة المجددين قبله.
المقدم: دكتور سهل شكراً لك على هذه المداخلة.
لنكمل ما تبقى من النقاط حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وما أشيع حوله من المفتريات في الحلقات القادمة بإذن الله تعالى.
أسأل الله أن يبارك فيكم وفي جهودكم شيخ ناصر .
نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , حقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل
https://audio.islamweb.net