إسلام ويب

يعتبر الحديث عن الاتجاهات العقلانية لتفنيدها أمراً مهماً لا يسع الغيورين من أبناء الإسلام إغفاله، إذ إن هذه الاتجاهات قد جعلت مسارها التشكيك في ثوابت الشريعة وهز عمود الاعتقاد، آخذة في ذلك جملة من الوسائل من أبرزها الجرأة على العلماء والسعي إلى إسقاطهم، وتنحية المرجعية الشرعية جانباً، مع ما عليه أغلب أصحابها من قلة البصيرة بالدين والجهل بأصوله، وضعف التدين والسعي وراء الشهوات.

الموقف من إثراء الحديث عن الاتجاهات العقلانية

المقدم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من برنامجكم: حراسة العقيدة.

(الاتجاهات العقلانية المعاصرة أصولها ومناهجها) هو موضوعنا في هذه الليلة من برنامج حراسة العقيدة مع الأستاذ الدكتور/ ناصر بن عبد الكريم العقل أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

أهلاً بكم شيخ ناصر !

الشيخ: أهلاً بكم وبالمشاهدين.

المقدم: أرحب بكم -مشاهدينا الكرام- مرة أخرى، ونتمنى منكم جميعاً المشاركة في إطار الموضوع الذي سنناقشه: الاتجاهات العقلانية أصولها ومناهجها.

شيخ ناصر ! تحدثنا في بداية حلقة (الاتجاهات العقلانية المعاصرة أصولها ومناهجها) عن بعض المسائل الأساسية، وأخذنا بعض المناهج العامة في ذلك.

وقبل أن نطرق هذا الموضوع أشير إلى أنه من خلال منتديات الصفوة في الإنترنت في نافذة حراسة العقيدة طرح بعض الإخوة طرحين مختلفين في إطار فكرة هذا البرنامج.

فمنهم من يقول: حاولوا أن تخففوا من المصطلحات الفلسفية والكلامية والعقلانية، وآخر يقول: الأمة ابتليت بهذه المصطلحات؛ فلا بد من مناقشتها، فما رأيكم فضيلة الشيخ؟

الشيخ: الخلاف في مثل هذه الأمور أمر عادي، لكن هذه الأمور ينبغي أن يراعى فيها رأي المتخصصين، وأنا -من وجهة نظري بوضعي متخصصاً في هذا الموضوع- أرى أنها من الأهمية بمكان؛ لعدة اعتبارات:

أهمها: أن هذه القضايا أصبحت الآن قضايا ساخنة ومؤثرة، وقضايا تتسبب في التشويش على أذهان الأجيال.

بل أقول وأنا جازم: إنه ذهب ضحيتها من أبنائنا ومن مثقفينا ومفكرينا عدد لا يستهان به، فركبوا موجة هذا التوجه الذي يصادم بعضه الدين، وبعضه يخل بالدين عن حسن نية في الغالب، لكن لشدة ضخ مثل هذه الأمور والمصطلحات والمفاهيم والنظريات أصبحت مؤثرة؛ حتى هزت ثوابت الكثير من الناس.

فمن هنا أصبح طرحها ضرورياً، مع أنه قد يكون محرجاً للكثير، أو ربما يكون صعباً عليهم تناوله وفهمه.

الأمر الثاني: أننا الآن في برنامج متخصص، وهو القناة العلمية، فهذا نوع من التخصص يحتاج إليه طائفة كبيرة من شبابنا وطلاب العلم، فمن هنا نطرحه على من يهمهم الأمر، أو من يستفيدون منه، وربما يكون كثير من المشاهدين لا يستفيد كثيراً من هذا البرنامج، أو لا يستوعب قضاياه، فليعذرنا حين نتكلم في جانب تخصصي هو فريضة من فرائض الأمة اليوم.

قلة الفقه في الدين سمة ذوي المنهج العقلاني

المقدم: دعنا -يا شيخ- الآن نشرع في مسألة مناهج العقلانيين العامة، فقد ذكرت في بداية الحلقات أن العقلانيين ليسوا على مرتبة واحدة، وأن المناهج قد تختلف من مدرسة إلى أخرى، ولكن هناك مناهج عامة تجمع هؤلاء القوم، فمن المناهج العامة أننا نلحظ في هؤلاء العقلانيين ضحالة المعرفة الإسلامية والثقافة الإسلامية والجهل بعلوم الشريعة.

الشيخ: نعم، هذه سمة عامة فأغلبهم -بل المؤثرون فيهم الذين لهم القيادة في هذه الاتجاهات على اختلاف طوائفها وأطيافها- يغلب عليهم الجهل، لا أعني الجهل بمفردات المعلومات؛ لأن الجهل له مصطلح شرعي ومصطلح عام، فلا أقصد المصطلح العام، وإنما أقصد المصطلح الشرعي، وهو قلة الفقه في الدين.

فهم لا يعرفون الأدلة، وإن عرفوها لا يفقهون منهج الاستدلال، وهذا نوع من الجهل، والجهل بالأصول والثوابت والقواعد أشد خطراً من الجهل بمفردات الشريعة؛ ولذلك نجد وضع عامة المسلمين الذين هم جهلة بتفصيلات الدين أو قضاياه الجزئية ليس بالخطير؛ لأنهم لا يتبنون أفكاراً ومبادئ وأصولاً ومناهج خطيرة.

أما هؤلاء فجهلهم جهل مركب وهم لا يشعرون، فهم يعلمون بعض المفردات، وعندهم كمٌ من الثقافة، ولكن ليس عندهم ضوابط ومناهج شرعية تسلم بها ذممهم ويسلكون بها المنهج الذي يرضي الله عز وجل، ويحقق مصالح للعباد، وهو منهج الدين في تطبيقاته وأصوله.

المقدم: ذكرت -يا شيخ- فرقاً مهماً بين الشخص الجاهل الذي لا يعلم مفردات الدين، وبين ذلك الجاهل جهلاً مركباً، ونحن بهذا الكلام نحاول أن نسهل هذه المعلومة أكثر، فما المقصود بالجاهل؟ وهل الجهل كله مذموم؟

الشيخ: الجهل كله مذموم، لكنه بالنسبة إلى الأفراد راجع إلى الاستطاعة والقدرة، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]، فالإنسان الذي مداركه بسيطة.. مداركه يسيرة لا نحمله ما لا يطيق؛ إذ لا يستطيع أن يعلم ما يعلمه من هو أعلى منه مداركاً، فالقادر على العلم الشرعي والتمكن فيه يختلف عن غير القادر، حتى لو كان عنده مقدرة ومواهب، ولكنه منشغل بأمور حياته ومنشغل بالقيام بواجبات الأمة في جوانب أخرى، فهذا يسعه أن يجهل كثيراً من أمور الدين ما عدا الضروريات، أعني ما يقوم به دينه، إذاً: هذا الجهل نسبي.

وعلى هذا فإنا نقول: إن أصحاب الاتجاهات العقلية جهلة؛ لأنهم -أعني الرواد والرءوس من ذوي المواهب- أصحاب ذكاء وأصحاب مقدرات، فهؤلاء لا يعذرون في تركهم المسلك الصحيح في الفقه في الدين، فجهلهم جاء من حيث إنهم انحرفوا في تلقي الدين بأصوله الصحيحة.

المقدم: بعضهم قد يقول: كيف تقولون: إن هؤلاء جهَّال وأحدهم قد يكون بروفسوراً في تخصص معين، ومنهم من كتب بعض الكتابات، أو ألف بعض الكتيبات حول مسائل دقيقة في الفقه، كالمرأة والصلاة، فكيف نجمع بين هذا وذاك؟

الشيخ: لأنه -كما قلت- قد لا يكونون جهلة بالمفهوم العام، فالجهل هنا شأنه كأي مصطلح من المصطلحات العامة، فله مفهوم شرعي، مثل العلم، فالعلم إذا أطلق في النصوص -كالأمر به وفضل طلبه- يقصد به العلم الشرعي، ومع ذلك سمى الله عز وجل سائر العلوم بأنها علوم، لكنها علوم مقيدة.

وكذلك الجهل، فالجهل أمر نسبي، فنقول: إن هؤلاء جهلة في الجانب المتعلق بأصول الدين وثوابته، وإلا فهم يدخلون غالباً تحت تصنيف المثقفين، فهم مثقفون، لكنهم من المنظور الشرعي -فيما يتعلق بموضوعنا- جهلة.

وهذا وارد في النصوص، فلماذا سميت المراحل التي كانت قبل الإسلام بالجاهلية الأولى، وجاء بذلك ذكرها في القرآن والسنة، مع أن فيهم شعراء وفيهم أدباء وفيهم أفذاذاً في بعض التخصصات؟! ذلك أنهم جهلوا حقيقة الحياة كما أراد الله عز وجل، وجهلوا مناهج الدين التي تضبط الحياة، ولم يكونوا على دين يهذب عقولهم ويهذب عواطفهم، ويجعلهم على مسلك يرضي الله عز وجل فسموا أهل الجاهلية.

منشأ جهل العقلانيين بالثقافة الإسلامية

المقدم: جهل العقلانيين بالثقافة الإسلامية بمصادرها وبطريقة الاستدلال الصحيحة هل هو ناتج عن عدم قدرتهم على معرفة هذه العلوم من منابعها، أم ناتج عن أمور أخرى كالهوى وغير ذلك؟

الشيخ: الذي يظهر لي من خلال الاستقراء أن كل هذا موجود، حيث يوجد أصحاب ضلالة ولجوا علينا من هذه المداخل، وأرادوا أن يفصلوا أجيالنا عن حقيقة النهج السليم، وهناك أناس أصحاب أمزجة شخصية وآراء شخصية، وربما لا يدركون خطر ما هم عليه، وهناك أناس أيضاً لهم أهواء ورغبات معينة، ولو لم يكونوا أصحاب مذاهب واتجاهات، فهذه التوجهات هي خليط، وينبغي أن نفهم أنه ليس همنا في مثل هذا التأصيل الدخول في المقاصد والنيات، فنحن نحكم على الآثار وعلى المناهج الظاهرة التي لها أثر بالغ على الأمة، وأما مقاصد الأشخاص وتوجهاتهم فهذا أمر لا ندخل فيه.

المقدم: ولا نحكم على الأعيان.

الشيخ: لا نحكم حتى لو كانت لنا قرائن معينة، فبعضهم قد يدان من كلامه، ولكن ليس هذا همنا، بل همنا أن نذكر الأصول والمناهج الحقة وما ينافيها، وأن نبين للناس هذه الأصول الخاطئة، وهذه المناهج الخاطئة؛ لتجنبها والحذر من شعاراتها الخادعة.

توجيه للمسلم في مورد منهله فيما يخص أمور دينه

المقدم: قبل أن نخرج من هذه المسألة هل من رسالة من الدكتور ناصر العقل إلى المشاهد الكريم يعرف من خلالها من أين يستقي هذا العلم وهذه الثقافة الإسلامية وهذه العقيدة وهذه الشريعة؟ هل يستقيها من كل أحد أم من أناس متخصصين؟

الشيخ: هذا أمر مهم جداً، فأقول:

أولاً: يجب على المسلم في مقتبل حياته سواء أكان طالب علم أم غيره أن يعرف ثوابت دينه، والأساسيات التي بها يعتقد اعتقاداً صحيحاً، فيعرف ما يجب عليه تجاه ربه عز وجل وتجاه الخلق.

وأيضاً لا بد من أن يعرف فرائض الدين التي تجب على الفرد، أو تجب عليه بحسب موقعه ذكراً كان أو أنثى، صغيراً أو كبيراً، يجب عليه أن يتعلم أساسيات دينه في العقيدة وفي الأمور المطلوبة منه في جوانب الشريعة.

فهذه كلها مصادرها الكتاب والسنة وما انبثق عن الكتاب والسنة بجهود العلماء أهل الذكر الذين قال الله عز وجل فيهم: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، ومن سؤال أهل الذكر قراءة ما يكتبون، وسماع ما يقولون لمن لم يتمكن من حضور دروس العلماء، أو لم يتمكن من أن يقرأ، فيسمع عبر الأشرطة والوسائل الأخرى.

المهم أن العلم الشرعي الذي يحصن به المسلم نفسه وأمته ودينه هو الذي يؤخذ من مصادره النقية: الكتاب والسنة وعلومهما.

وقد ينشأ سؤال: هل هذا يعني أن المسلم لا يقرأ الكتب الأخرى؟

فنقول: هذا الكلام يحتاج إلى تفصيل قد سيأتي، إلا أننا نقول ابتداءً: يقرأ، لكن بعدما يحصن نفسه، وللقراءة ضوابط أيضاً، وإلا فلماذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو من هو في فقهه وجلالة علمه؟! فقد غضب عليه لما رآه يقرأ صحيفة من التوراة؛ لأن هذا كان وقت تنزل الوحي، والتوراة مخلوطة بالحق والباطل، فهي محرفة ومنسوخة، فهي مصدر غير نقي.

فمن هنا يجب على الإخوة أن يعرفوا أن هذه حقيقية حتمية، ومن ثوابت الدين، وهي أنه لا يؤخذ الدين إلا من مصادره النقية.

الانتقائية في النصوص الموافقة للهوى سمة ذوي المنهج العقلاني

المقدم: هذا مظهر ومنهج عام عند أولئك، وهو ضعفهم في الثقافة الإسلامية، ولكن هناك منهج آخر عندهم وانحراف في الاستدلال، حيث نجد أن هؤلاء قد يحاولون أن ينظروا في هذه النصوص الشرعية وينتقون منها ما يوافق أهواءهم، وما يوافق الفكر الذي هم عليه، فهل هذا منهج مطرد عندهم؟

الشيخ: نعم، الانتقائية عندهم تنبني على النزعة بشرية في الإنسان، فأي إنسان يقرر في عقله وقلبه وفكره مقررات معينة يتبناها، سواء دان بها أم كانت أفكاراً له، وهؤلاء لا يدينون بدين غالباً، بل عندهم فكر، فيتبنون هذا الفكر، ويضعون القناعات ابتداءً، ثم إذا اطلعوا على النصوص الشرعية، أو اطلعوا على كلام العلماء، أو أرادوا أن يعالجوا واقع المسلمين؛ جعلوا ما عندهم من القناعات هو المرجع، فمن هنا يستدلون لها، مع أنهم يدعون التجرد العلمي، فهم ليسوا متجردين، بل أبعد الناس عن التجرد.

فهم عندهم انتقائية في اختيار النص، وفي اختيار الشاهد، وفي اختيار المعلومة، بل حتى في الطرائق العلمية التي يسلكونها في الاستبانات وفي الدراسات، فعندهم نوع من خدمة الفكر السابق في نوعية الأسئلة التي يطرحونها.

وقد رأيت بعض الباحثين من هذا الصنف له بعض النتائج حول قضية معينة تخالف الشرع، فرجعت إلى صيغة السؤال فوجدت أنه صاغ السؤال على المقررات التي في عقله، يريد أن يصل إليها من خلال السؤال، ومن خلال القارئ الذي قد يدري أو لا يدري أنها مبنية على الهوى.

المقدم: وفيها احتيال على القارئ.

الشيخ: نعم، فهم عندهم انتقائية، ولذلك يتبعون شواذ الأدلة وشواذ الشواهد.

منهج العقلانيين في نقد الحق

ولعلي أقف على أبرز مظهر لهذا التوجه عند الاتجاهات العقلانية والليبراليين والعلمانيين ومن سلك سبيلهم، وهو نقدهم للحق الذي هو منهج الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، ومنهج أهل السنة والجماعة ومنهج علمائنا في هذا العصر، ومنهج الدعاة الراشدين.

ففي نقدهم لهذا المنهج تجدهم يركزون على التقاط الاجتهادات الخاطئة، وعلى انتزاع المواقف التي لا تمثل الموقف الشرعي، بل إما أن تكون زلات علماء، وإما أن تكون اجتهادات خاطئة، وقد تكون أحياناً ممارسات ممن ينتسبون إلى الدين أو إلى أهل السنة والجماعة؛ ومما ينبغي أن يفهم أنه يجب ألا ندعي أننا في عصمة، فمنهجنا هو المعصوم؛ لأنه الحق، لا لأنه منهجنا، بل لأنه دين الله، فالمنهج معصوم، وأما نحن فلسنا معصومين، ولذلك إذا أخطأ عالم من علمائنا قديماً أو حديثاً، أو داعية من دعاتنا، أو أخطأ أحدنا فإنه يجب ألا ندافع عن خطئه؛ لأن أعداء الحق ينتقون مثل هذه التجاوزات أو التصرفات أو الأقوال أو المواقف، أو الفتاوى أو غيرها، فيحاسبوننا على أنها هي الأصل، وهم يعرفون أنها ليست هي الأصل، وأنا أعرف أن أكثرهم عنده خبرة في المنهج العلمي، أعني التجرد والموضوعية، لكن هذا مشربهم، فهو يتلقط الظواهر الخارجة عن المنهج فردية أو جماعية ويجعلها أصلاً، ويتناسى أن الأصل خلاف ذلك.

أسباب الانتقائية عند العقلانيين

المقدم: هل الانتقائية عندهم في الاستدلال -دكتور ناصر - ناشئة عن جهل بالأدلة الأخرى التي تعارض أقوالهم أم عن علم سابق؟

الشيخ: كل هذه أسباب، فهم من النوع الذي لا يحيط بعموم الأدلة كالعلماء الراسخين، ولذلك يندر أن يكون فيهم عالم راسخ، وأقول: يندر لئلا يكون فيما لا أعلم، وإلا فلا أعلم في هؤلاء عالماً راسخاً.

قد يكون فيهم عالم متخصص معين، وهذا هو سبب هلكته وغروره، أما أن يكون فيهم عالم راسخ شمولي فلا، فهم -إذاً- لا يحيطون بعموم الأدلة، ولا يحيطون بمنهج الاستدلال، وغالباً ما يأتون بأفكار سابقة كما قلت، وأي إنسان يأتي بفكر سابق أو رغبة معينة سابقة؛ فمن الطبيعي أن يفتن بالدليل؛ لأن حرصه على نوع معين من الاستدلال يكبله ويغلقه، كحال الغلاة، فالغلاة انغلقوا، فهم ينظرون من زاوية وهم لا يشعرون، فحشروا الأدلة مع فكرهم حشراً، ولذلك لا يأخذون بأدلة السعة، وأدلة الإعذار، وأدلة التيسير، ولا وجود لها في قواميسهم.

المقدم: هذه الأدلة ماذا يصنعون بها؟

الشيخ: يتجاهلونها ويجهلونها، والله عز وجل يعمي أبصارهم عنها، وهذا معنى إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء يمرقون من الدين، فهذا عمى البصيرة، ولذلك كنا نعرف بعضهم قبل أن يقع في هوى الغلو رجلاً منفتحاً على الرأي يناقش بحيوية وأريحية، تجده يتبصر، ولا يستعجل، وعنده نوع من الهدوء والسكينة، فما أن دخله الغلو حتى أصبح عدوانياً شرساً مغلقاً، يغضب لمجرد أن تأتيه بدليل يحرجه ويخرج من سمته، فما هو ذاك الرجل الذي كنت تعرف فيه سعة الصدر والحلم والتثبت وبراءة الذمة أبداً، وهم لا يشعرون، هم أتوا من قبل شدة التدين، لا نقول: ليسوا متدينين، بل هلكوا من شدة التدين، فهذا مثال على هذه المسألة.

وكذلك العكس؛ كي لا نظلم، فأصحاب المنهج الآخر هم أكثر ضيقاً من هؤلاء، لماذا؟

لأن هؤلاء الغلاة أمرهم بيِّن يعرفه العامي الذي هو على الفطرة، أما هؤلاء فأمرهم فيه تلبيس.

المقدم: هؤلاء ينادون بالرأي والرأي الآخر.

الشيخ: ينادون بالرأي الآخر وهم أكبر أعداء للرأي الآخر، ولكن بطريقة ملبسة مهذبة، مثلما نقول: هذا سارق مهذب، أو: كذاب مهذب.

فأولئك الغلاة عندهم من البساطة والسذاجة، والعنف في طرح الرأي.

أما هؤلاء فطرحهم غير مبني على التثبت، ولا قبول الرأي الآخر، ولكن يحتالون على نسف الرأي الآخر بالأساليب الخاطئة.

المقدم: لا يواجهون الرأي الآخر مواجهة، إنما يحاولون أن يحتالوا عليه.

الشيخ: نعم، وهذا منهج ذكره الله عز وجل في كتابه وذكره النبي صلى الله عليه وسلم، وهو منهج المنافقين: وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4].

المقدم: إذاً: عندهم خلل كبير في الاستدلال!

الشيخ: نعم.

موقف العقلانيين من العلماء الراسخين ومن المرجعية الشرعية

المقدم: ما هو موقف العقلانيين من العلماء الراسخين في العلم؟ وما هو موقفهم من المرجعية الشرعية لهؤلاء العلماء الذين يستدلون بالأدلة الشرعية ويأخذونها من منبعها الصحيح؟

الشيخ: هذا من أبرز وأوضح مواقفهم، وعامتهم ينتقصون العلماء انتقاصاً شديداً، ولأنهم أوتوا نوعاً من الفصاحة وحسن العرض، تجد عندهم شيئاً من المجاملة والمداراة للعلماء تخدع الآخرين، فكثير منهم لا يجرؤ على النقد الجارح للعلماء، لكنه يسقط العلماء بأساليب تعطي شيئاً من التفسير المرن من أجل أن يهربوا عندما يحاكموا.

المقدم: ما الغرض من إسقاط العلماء؟

الشيخ: إن هؤلاء يرون الدين محصوراً في جانب معين من الحياة، فهم يسمون العلماء رجال الدين، وهذه التسمية غربية.

المقدم: وهي تسمية خاطئة.

الشيخ: نعم. وهي تنبع عن فهم الدين عند الغربيين، فالدين عند الغربيين دين محرف، وأيضاً جعلوه في زاوية معينة، فهذا المفهوم انتقل إلى العقلانيين، فتصوروا وتوهموا أن العلماء مهمتهم هي العبادات والمواريث والأحوال الشخصية، فإذاً: ينبغي ألا يتجاوزوا حدهم، هكذا تصوروا.

ويرون أن العالم إذا تدخل في الاقتصاد وفي السياسة وفي جوانب الاجتماع وغيرها فقد تخطى وتجاوز حده.

إذاً: هذا مفهوم أغلبهم، وهو مفهوم راسخ، ومن هنا ائت نظرتهم إلى العلماء، هذا شيء.

الشيء الآخر: أن الإنسان إذا أشرب بهوى وضاق من التدين نظر إلى العالم نظرة المستثقل، فهم بطبيعتهم غالباً غير متدينين، وغير ملتزمين بالدين، تؤذيهم الاستقامة، فمن هنا كان من الطبيعي أن ينظروا إلى العالم نظرة الرجل الثقيل عليهم؛ لأن العالم هو قدوة المتدينين، والمتدينون عندهم لهم تجاههم تصور عجيب، كأنهم لا يعيشون بينهم.

نظرة العقلانيين إلى صلة الدين بالحياة

المقدم: يقولون: لماذا يدخل العالم في أمور السياسة أو يدخل في أمور الاقتصاد، وينطلقون من منطلق أن العالم لا يعرف إلا الأدلة الشرعية والنصوص الشرعية، أو المعاملات التي وردت في الفقه الإسلامي، أما الاقتصاد العالمي والنظرة الشمولية فالعالم غير محيط بها.

الشيخ: هذا شيء، شيء آخر قبل هذا ناتج عن نظرتهم إلى الدين نفسه، حيث يرون أن الدين لا علاقة له بكثير من شئون الحياة.

المقدم: عجيب!

الشيخ: نعم، هذا هو الأصل، لكنهم بين مقل ومكثر، فبعضهم يرى أن الدين لا بد من أن يحصر في الأحوال الشخصية فقط، ويصرحون بهذا.

وبعضهم يقول: لا، الدين عبارة عن معان عامة مجملة، فهو فضائل وأخلاق، فالدين مجرد توصيات عامة تحكم الحياة، والتفاصيل نأخذها من أي مصدر، ونشرعها من عندنا.

وطائفة أخرى تقول: الدين مقبول، ويدخل في جميع جوانب الحياة، لكن يجب أن نفسر الدين كما نشاء؛ وهؤلاء هم الطائفة الأكثر والأخطر.

المقدم: أخطر من أي جهة يا شيخ؟

الشيخ: هم أخطر لأنهم يعترفون بأن الدين يدخل في جميع جوانب الحياة، وربما يطالبون بهذا، وقامت على أيديهم جماعات كبرى الآن، وتوجهات وأحزاب.

المقدم: ويكون في رأيهم التلبيس على الناس؟!

الشيخ: لا، فقد لا يقصدون التلبيس، لكن رأيهم ملبس، فهؤلاء يتحمسون للدين ويدعون إلى تطبيق الدين، لكن عندما تأتي إلى نظرتهم إلى التطبيق تجدهم يريدون أن يتنصلوا من كثير من أمور الدين الكبيرة، مثل الحدود، ومثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد.

نظرة العقلانيين إلى العلماء في ضوء الحضارة المعاصرة

المقدم: لكن كيف نرد عليهم عندما يقولون: ما أدرى العالم بالسياسة، وما أدراه بالاقتصاد، وما أدراه بالمعاملات العالمية؟

الشيخ: هذه مسألة ذات جوانب متعددة، فهم أحياناً ينظرون إلى العلماء والمشايخ من خلال نماذج معينة قد يكون تخصصها أبعدها عن جوانب الحياة الأخرى، فيجعلون هذا النموذج من العلماء الذين ليس لهم تبصر في جوانب الحياة -وإن كانوا قلة- عندما يجيب أحدهم أو يتكلم لا يجيد عندهم، وربما كان هذا راجعاً إلى تقصيرهم؛ لأنهم لا يحسنون العرض على العالم، هذا جانب.

الجانب الآخر: أنهم يرون أن العلماء يجب عليهم أن يحلوا جميع المشكلات الجزئية في التخصصات، وهذا خطأ، فليس على العالم أن يدخل في كل تخصص، وأن يكون أسبق إليه، فالعالم ما هو إلا عبارة عن مرجع يقدم له أهل الاختصاص ما عندهم من علوم بأسلوب يتناسب مع القواعد الشرعية.

المقدم: هذه نقطة مهمة نود أن توضحها يا شيخ.

الشيخ: نعم، هذه مسألة يمثلها -مثلاً- المجمع الفقهي، فالمجمع الفقهي الآن يمثل علماء العالم الإسلامي تقريباً، وهو يعتبر نموذجاً تقوم به الحجة على العلمانيين وأمثالهم؛ لأنهم ما خدموه، ولو خدموه لأبدع وحل أكثر النوازل، بل كل النوازل المعاصرة.

فالمجمع العلمي تعرض عليه أي قضية معاصرة ليست من اختصاص علماء الفقه وعلماء العقيدة، فيرجعون فيها إلى المتخصص، فيعرض وجهة نظره، ثم يحكمون على ضوء هذا العرض.

المقدم: سواء أكانت مسألة اقتصادية أم مسألة طبية أم غير ذلك؟

الشيخ: أي مسألة طبية أو اقتصادية، وفي أي علم من العلوم في الأرض والآفاق.

المقدم: إذاً: العلماء يحترمون التخصص؟

الشيخ: نعم، العلماء يخدمون التخصص، لكن هذا العلماني لا يريد أن يعرض عليهم كل شيء، ولذلك يكبلون المؤسسات الدينية، فالعلمانيون في جميع العالم الإسلامي يحولون بين العالم وبين أن يكون عنده مؤسسة دينية تخدمه، فلا يوفرون له الوسائل؛ لأنهم يدعون أن العلماء عندهم قصور في استخدام الوسائل، وهل الطبيب يستطيع أن يوفر وسائل الطب وحده؟

المقدم: أبداً.

الشيخ: إن الدولة والمؤسسات العلمية والثقافية هي التي توفر له ذلك، أليس كذلك؟

المقدم: بلى!

الشيخ: إن هذه المؤسسات ما وفرت للعالم الآلية التي تجعله يقدم اجتهاده في كل قضية.

وبعضهم يعرف هذا ولا يريده، وبعضهم لا يعرفه، يظن أن العالم لا بد له من أن يكون طبيباً ومهندساً وكيميائياً وفيزيائياً، وهذا ليس بصحيح.

فإذا كنت صاحب الاختصاص فلا بد من أن ترجع باختصاصك إلى العالم لتجد عنده الجواب، وإذا ما وجدت الجواب عن واحد ستجده عند مجموعة؛ ولذلك فالقضايا المعاصرة إذا كانت كبيرة لا تحل غالباً عن طريق عالم واحد، بل يحلها العلماء الراسخون مع المختصين.

وهذا الموضوع مهم جداً وإن كانت مناسبته بعيدة، وأنا أرى أنه من الأشياء التي ينبغي أن يفهمها المشاهد، وأرجو أن يسمعني كثير من طلاب العلم ومن المسلمين الذين يهمهم أمر الأمة.

إنه يجب علينا أن نسعى إلى توفير الوسائل والتقنيات الحديثة لمراكز العلم والعلماء، مثل هيئة كبار العلماء، ومثل المجمع الفقهي، ومثل المؤسسات التي بدأت الآن تجمع فقهاء الأمة عبر مؤسسات علمية وإعلامية وثقافية ومراكز بحوث بدأت تظهر ولله الحمد، فهذه المنظومة من المؤسسات المتنوعة يجب علينا أن نتوجه إلى أن نعرض من خلالها مشاكلنا على العلماء؛ لنقطع الخط، ونقطع ألسنة هؤلاء المتقولين الذين يزعمون أن العلماء لم يعد لهم دور إلا الدور الهامشي، كما صرح به بعض رءوسهم اليوم.

هجوم العقلانيين على العلماء وجرأتهم عليهم والموقف المطلوب إزاء ذلك

المقدم: من وسائل إسقاطهم للعلماء أن العالم لو رد على أحد منهم في صحيفة أو في كتاب أو في موقع إنترنت نجد أنهم يردون على هذا العالم جماعات وفرادى، وقد يكون منهم أشخاص مشهورون، أو أناس نكرات لا يعرفون، أليس في هذا تهجم على العالم ومحاولة إسقاط له؟

الشيخ: بلى! فهذه -والله- معضلة كبيرة، وأنا أناشد المسئولين عن الإعلام في بلادنا وفي جميع البلاد الإسلامية، فكما شرعوا أنظمة تحمي الإعلامي والصحفي وتحمي حتى بعض الحيوانات، عليهم أن يسعوا إلى حماية مرجعية الأمة؛ لأن هذا من الثوابت الضرورية، فإذا كانوا يقولون: نخشى من خلل الأمن من خلال الغلو، أو نخشى من خلل انفلات الأمة وتفرقها؛ فإن من أعظم أسباب الفرقة المعلومة اليقينية شرعاً وواقعاً حجب الأجيال عن مرجعيتها.

ومن ذلك أيضاً جرأة بعض الكتاب على العلماء الكبار بأسلوب غير مؤدب، ونحن لا نقصد الرأي والرأي الآخر في الاجتهاديات، بل نقصد الجرأة على الطرح بأسلوب يستنقص قدر العلماء، مع أنه لو كان هذا الاستنقاص لمفكر كبير من العلمانيين لأقاموا الدنيا ولم يقعدوها.

المقدم: صحيح.

الشيخ: فعندما يعرِّض شخص بـطه حسين وله زلات كبرى، أو يعرض -مثلاً- بـمحمد عبده وله زلات كبرى -غفر الله لنا ولهم- يقيم هؤلاء الدنيا ولا يقعدونها.

وعندما يُتعرض لعالم -تحتاج إليه الأمة اليوم أكثر من أي وقت مضى- لا نجد من يحميه، فلا الصحافة ترشد هؤلاء، ولا وسائل الإعلام، بل تجرئهم وتشجعهم.

المقدم: وأحياناً قد يكون ذلك وسيلة لابتزاز أموال الناس وشراء الصحيفة؛ لأنه يهجم على الشخصية الفلانية أو العالم الفلاني.

الشيخ: هذا من الأساليب أو من الأسباب، لكن ليس هو السبب الأساسي.

إن لهم أشياء مقننة لا يتخطونها، فكيف يتخطون هذا الثابت من الثوابت؟!

وأنا أقول: كل أمة من الأمم الآن تحمي علماءها، فكيف وديننا يأمرنا باحترام العلماء؛ لأنهم ورثة الأنبياء، وأهل الذكر، ومرجع الأمة، وهم مع الولاة بعد الله صمام الأمان؟!

المقدم: صحيح، فكما يحرص أولئك الإعلاميون على أن لا يمس الحكام وولاة الأمر بسوء، عليهم أن يحرصوا على أن لا يمس العلماء بسوء.

الشيخ: حتى رموزهم لا يمسون إلا بطرائق معينة، فهم الآن يغربلون -فيما أعلم- ما يرد ضد رموزهم، فلماذا هذا وحقوق العلماء أكبر من كل ذلك؟!

المقدم: صحيح.

نظرة العقلانيين إلى ثوابت الدين

إذاً: واضح موقفهم من المرجعية الشرعية، ومحاولة إسقاطها، لكن يأتينا سؤال آخر: هل لهم موقف واضح من ثوابت الإسلام وأصول الاعتقاد؟

الشيخ: كل كلامنا حول هذا الموضوع، وقد يطول الكلام في هذا، لكن المستقرئ لتراث أو إنتاج هؤلاء العلمي يدرك ذلك، وقد تذهب الكلمات العابرة، والمشاركات العابرة في الفضائيات أو في غيرها قد تكون نتيجة ارتجالات، ولكن سنحاكمهم إلى الكتب والمقالات والبحوث.

فسنجد -إذا نظرنا إلى مجموع ما يكتبون وما يقولون وما يبحثون وما يطرحونه طرحاً جاداً- أنهم يرون أن جميع ثوابت الدين ليست ثوابت؛ بمعنى أنها قابلة للنظر.

المقدم: كأنها متغيرات عندهم.

الشيخ: قابلة للنقاش.

الشبهة الثانية -وهي الأخطر: أنهم يزعمون أو بعضهم أو كبارهم- أنه لا شيء هناك يتفق عليه، وأخص بذلك الحداثيين، فالحداثيون يزعمون أن كل شيء متغير، وأن الثوابت هذه ما هي إلا تقارير وأوهام وأساطير التاريخ.

وهذا ناتج عن زيغ إن كان متعمداً، أو عن جهل مطبق ولذلك قلت: هؤلاء أغلبهم من أصحاب الجهل المركب؛ لأن المرء منهم جاهل ولا يدري أنه جاهل بالدين.

إذاً: هم يقولون: مساحة الثوابت غير مستقرة، وهذا فهم خاطئ، فنحن نقصد بالثوابت الأمور المستقرة الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع.

وإن اتسع وقت المستقبل -إن شاء الله- فسأسرد نماذج الثوابت التي لا خلاف عليها؛ لأجل أن يفهم أني لا أتكلم من فراغ.

المقدم: حتى لا يقال: يتكلم عن علم ولا يعرفه.

الشيخ: مثلاً: أركان الإيمان، فهم عندهم شك في بعض أركان الإيمان، فيخوضون في القدر وينكرونه.

وعندهم شك في مسألة النبوة والوحي، فالوحي يهدمونه هدماً، وأصلحهم -إن صح التعبير- ممن أعرف من الكبار يقول: الوحي عرفان يجده الشخص من نفسه، وقد لا يُفهَم هذا الكلام بدقة، لكن قصدي أنه يرى أن الوحي صادر عن بشر، وهذا من كبارهم ومن مراجعهم في العصر الحديث.

الأمر الآخر: أنهم يكثرون الشكوك حول الثوابت، فبعضهم قد لا يستطيع أن يهدم، ولكنَّه يشكك، ويدخل في محارات الأمور المعضلة حول الثوابت ليثير الشبهات.

أنموذج الحدود شاهد على تجاوز العقلانيين لثوابت الدين

المقدم: لو أخذنا مثالاً حتى يتضح كيف يحاولون أن يشككوا في هذه الثوابت.

الشيخ: مثل الحدود، أليست من ثوابت الدين؟

المقدم: بلى!

الشيخ: أغلبية العلمانيين لا يطيقون مجرد أن تتكلم عن الحدود، فكيف تكون ثابتاً من الثوابت عندهم؟!

ولا يتصورون أن الحدود تصلح في هذا العصر؛ ولذلك عطلت في أكثر البلاد الإسلامية، وأما في بلادنا -ولله الحمد- فلا تزال قائمة، وأنا أسأل الله عز وجل أن يثبت ولاتنا على هذا المنهج، وأنا أعرف أن الدولة -وفقها الله لكل خير- تلقى من المضايقات والهجوم الشيء الذي تحمد على الصبر عليه، فقد صبرت وصابرت ولا تزال تدافع، وبدلاً من هذه الأقلام التي تسلط على الحدود نحتاج إلى هذه الأقلام التي تدافع عن الشرع وعن الحدود.

فهم لا يستسيغون الحدود، ويرون أنها من الأمور التي طبقت في عهد من العهود الإسلامية ولا تصلح في هذا العصر؛ فلذلك سموا بالعصرانيين.

المقدم: من أنكر حداً من الحدود فما حكمه يا شيخ؟

الشيخ: الحدود الثابتة لا شك في أن إنكارها.

المقدم: إذاً: هم على خطر عظيم، فهي مسألة إسلام أو كفر.

الشيخ: هذه من الأمور التي ليست محل خلاف، ولئلا يلتبس الأمر علينا، يجب أن نعرف أن الكفر كفران: كفر لا مجال للنقاش فيه؛ ككفر من لم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وككفر إنكار الثوابت، ومنها الحدود، وهناك كفر هو محل خلاف.

فأغلب صور الكفر هي محل خلاف، وكفر دون كفر.

إذاً: فإنكار حد من حدود الله كفر لا شك فيه، وهذا محل إجماع بين العلماء المعتبرين.

نظرة العقلانيين إلى الوحي والنبوة

المقدم: لكننا نلحظ في موقفهم من القرآن الكريم هم لا ينكرون القرآن، ولكن يحاولون أن يفسروه بتفسير خاص لهم.

الشيخ: ينبغي أن نسلسل أفكارهم بإيجاز حول نظرتهم إلى الوحي كله: القرآن والسنة.

فنظرتهم غالباً تقوم على أن هذا إنتاج إنساني، فالنبي صلى الله عليه وسلم عندهم رجل عبقري، يقول هذا من يحسن الظن منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فبعضهم قد يرميه ببعض النقائص.

المقدم: رجل عبقري؟! يعني: ليس بنبي عندهم؟!

الشيخ: النبوة عندهم تعني أنه اشتمل بقوة عبقريته وحدسه وقوة فراسته على الوحي؛ فصار هذا هو النبوة.

المقدم: هذا عند الغلاة منهم؟

الشيخ: هو -حسب تقديري- في الأغلبية، لكن بعضهم لا يعبر بهذا التعبير، وبعضهم يوجد في مفاهيمه، فليس هذا كلامه، لكن هذا لازم كلامه، فلازم موقفهم أنهم يرون أن النبوة ما هي إلا عبقرية، وما هي إلا جهد إنساني من إنسان فذ يسمونه مصلحاً.

وكذلك القرآن لا يرون أنه كلام الله حقيقة، وهنا امتداد لقول المعتزلة، لكن قد لا يفقهون قول المعتزلة بحذافيره، يعني: يرون أن القرآن نتيجة البيئة ومؤثراتها ونتيجة حلول مشكلات معينة، وليس عندهم تصور أن القرآن كلام الله، وأنه -أيضاً- يتضمن شرع الله، وأن القرآن دستور الحياة إلى قيام الساعة، وأن القرآن يعالج جميع أمور الحياة صغيرها وكبيرها، ليس عندهم هذا التصور.

منهجية دعوى الفهم الخاص للقرآن عند العقلانيين

المقدم: بعض العقلانيين عندنا قد يقول: أنا أؤمن بالله عز وجل، وأؤمن بالنبي عليه الصلاة والسلام، وأؤمن بأن القرآن هو كلام الله، لكن هذا القرآن فهمه أبو بكر رضي الله عنه بفهمه الخاص، وفهمه الحسن البصري كذلك، وأفهمه أنا بفهم خاص!

الشيخ: هذه من معضلاتهم، وهذا دليل جهلهم؛ فنصوص القرآن وما صح من السنة منها ثوابت ليست قابلة للجدل في نصها ومفهومها، وليست محلاً للنقاش.

ومنها نصوص هي عبارة عن قواعد للشرع، فتطبيق جزئيات الحياة على ضوئها يحتاج إلى اجتهاد المجتهدين الذين يملكون القدرة على الاجتهاد، لماذا؟

لأن النصوص يفسر بعضها بعضاً، ويبين بعضها بعضاً، ويخصص بعضها بعضاً، وبعضها ناسخ وبعضها منسوخ، فمن الذي يستطيع أن يميز بعضها عن بعض؟ إنه العالم الذي يدرك هذا كله.

ثم إنهم ليس لهم قاعدة في الاجتهاد، بمعنى أن فقهاء الإسلام كلهم عندهم قواعد في الاجتهاد منضبطة بضوابط الشرع، وأما هؤلاء فليس عندهم قاعدة.

ثم إننا لو تركنا كلاً يفسر القرآن برأيه؛ فمعنى هذا أننا أسقطنا المرجعية الأساسية، مرجعية الرسول صلى الله عليه وسلم الذي فسر القرآن بقوله وفعله وتقريراته، وكذلك الصحابة الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكونوا قدوة، وكذلك سبيل المؤمنين، فهذا عبارة عن حيدة عن الدين بحيلة، وخروج عن مقتضى الدين بحيلة أني أفهم كما يفهمون، وأننا رجال كما أنهم رجال، ولكن هل الرجال كالرجال؟!

المقدم: وهذا فيه إسقاط لثوابت الإسلام ونصوص الشريعة.

الشيخ: لا شك في أن أكبر وسيلة مريحة لهم تقرب لهم سبيل الهدم هي أنهم يقولون: هذه النصوص ننظر إليها كما ينظر إليها الآخرون.

فنقول: نعم، تنظرون إليها بشروط، فأنا -مثلاً- لست متخصصاً في الأدب؛ لأجرؤ على أن أتناول النقد الأدبي كما يتناوله أصحابه، ولو تجرأت عليه لعابوني كلهم، فكيف بالشرع؟! وكيف بالدين الذي له قواعد وأسس شرعية ثابتة، رسمها القرآن ورسمها النبي صلى الله عليه وسلم ورسمها سلف الأمة؟!

فلماذا يتجاوزون التخصص في القول على الله بغير علم وهم من أكثر الناس حرصاً على أن لا ينقدوا في جوانب التخصصات الأخرى؟!

إن الأديب لا يقتحم الطب، ولو اقتحمه عابه أصحابه قبل الآخرين، فلماذا يقال في الشرع الذي هو دين الله وله أسس ثابتة في الاستدلال بغير علم؟ كيف نأخذ بالنصوص؟ وكيف نستدل بها؟ وكيف نعرف النص الذي يستدل به والنص الذي لا يستدل به؟

إنها أمور يعرفها كل عاقل بفطرته.

فهم تجاوزوا الحق بدعوى أننا نجتهد كما يجتهد الآخرون.

موقف العقلانيين من شمولية الشريعة

المقدم: ننتقل إلى نقطة أخرى جوهرية في هذا الموضوع، وهي أن لهم موقفاً تجاه الصلة بين الدين والحياة، وتجاه شمولية هذه الشريعة، فما تعليقكم على ذلك؟

الشيخ: هم درجات، لكن غالبهم لا يرون أن الدين يحكم جميع أمور الحياة.

المقدم: هذا الغالب.

الشيخ: هذا الغالب، وهذا هو المنهج الذي هم عليه، لكن منهم أناس فيهم تدين تأثروا بالفكر، ومنهم أناس يدارون الآخرين، ومنهم أناس يستصعبون إخراج المجتمعات مما ألفته؛ فيأتون ويقولون: نحن نأخذ بعموم الدين، لكن الدين مفاهيم عامة، وقواعد، ونظم مشتركة، فدعونا من الجزئيات. فيتنصلون من الدين بهذه الدعوى، وأغلب هؤلاء من أصحاب الغفلة، أغلبهم ليسوا من أصحاب النيات والأهواء، بل من الذين انخدعوا بهذا التوجه.

المقدم: كأنك تشير إلى -يا شيخ- أن أغلبهم يريدون فصل الدين عن الحياة.

الشيخ: هذا هو الأصل عندهم، فصل الدين عن الحياة جزئياً أو كلياً هو الأصل عندهم، وهذا هو المنهج، لكن يتفاوتون.

المقدم: لكن عندما ننظر الآن إلى نظرتهم لشمولية الشريعة، وأن الدين لا بد له من أن يسود جميع نواحي الحياة، ألا يرى هؤلاء القوم -من خلال معرفتك لهم -يا شيخ- ودراستك حول هذا الموضوع والبحث في هذا الأمر- ألا يرون أن هذا يعد من الكفر، أي: فصل الدين عن الدولة، أو عن الحياة.

الشيخ: المشكلة أن هؤلاء بعيدون عن قضية الكفر، لا يميزون بين الكفر وغير الكفر، وأغلبهم يتعاطف مع الكفار من حيث طرح مناهج الحياة أكثر من تعاطفه مع المسلمين.

إن المسلمون عندهم مشاكل جعلت هذا الصنف يحكم على المسلمين من خلال مشكلاتهم، ولا يفصل الدين عن واقع الناس، فالناس انحرفوا، وكثير من المسلمين انحرفوا، فهو يحكم على الدين من خلال واقع الأمة، فمن هنا تجد ميله إلى الغربيين وميله إلى الكفار أكثر من ميله إلى المسلمين.

كما أنهم ليس عندهم تمييز حدي بين الإسلام والكفر، ولا بين المسلم والكافر، فكيف نتصور منه أنه يرى أن عزل الدين عن الحياة كفر؟!

إنه يرى أن عزل الدين عن الحياة من سنة التطور، ومن مقتضى الحياة، وفحوى الشريعة، وانظر إلى هذه الكلمة المائعة، فما معنى فحوى الشريعة؟! إنه الهوى.

أعمال الإسلام الظاهرة لا تشفع للأفكار الخبيثة

المقدم: بعضهم يقول: يا جماعة! أنتم تصفوني باللبرالي أو العقلاني مع أني أصلي وأصوم وأزكي وأحج مع المسلمين، فهل هناك تعارض بين هذه الصفة وهذه الأفعال؟

الشيخ: أولاً: يجب أن نفرق بين الصفة بالعموم وبين الأفراد، فنحن نتكلم عن مناهج وعن جماعات أو فرق أو أحزاب أو توجهات، ولكن عندما نأتي للأفراد يجب أن نتثبت ونتحقق.

المقدم: أهل هذا التوجه بعمومهم يقولون: نحن نصلي وندين الله عز وجل، ولكن هذه أفكار عامة لنا.

الشيخ: علينا أن نحكم موازين الشرع، فالشرع ما دل على أن إقامة الصلاة فقط هي الدين، وما دل على أن إقامة شعائر الإسلام الظاهرة فقط هي التي تحتسب ديناً.

إن إقامة الشعائر العامة يستوي فيها المؤمن الكامل مع المنافق الذي هو في الدرك الأسفل من النار، الذي ذنبه أعظم من ذنب المشرك.

فليس كل من جاء ليخدعنا بمثل هذا الأسلوب ننجرُّ معه ونقول: أي والله هو يصلي ويصوم! نعم نحن لا ندري بحاله كفرد.

وأوجه كلامي للإخوة المشاهدين، فأقول: الفرد ما أمرنا بتتبع حاله، لكن إذا ادعى هذه الدعوى فهو الذي ورط نفسه، فإذا قال: هذه أفكاري، لكني أصلي وأصوم؛ فإنا نقول: نحكم عليك من الوجهتين:

فكونك تصلي وتصوم يجعلك من المسلمين ظاهراً، لكن حينما أعلنت الفكر الآخر حكمت على نفسك، ونقضت عملك بقولك أو بعملك.

فإذا كان الدين يشمل الأمور العبادية وغير العبادية؛ فسنحاكمهم بأفكارهم، وإن صلوا وصاموا، أو أقروا بالصلاة والصيام، مع أنهم في عمومهم -نسأل الله أن يهديهم- من أبعد الناس عن إقامة شعائر الإسلام.

الاحتكام إلى الموازين الشرعية قاعدة الحوار مع العقلانيين

المقدم: منهم من حاول أن يستدل على مناهجه بأدلة شرعية هو يراها، كما في كتاب (الإسلام وأصول الحكم) وغيره، ويقول: كما أنكم -أيها العلماء- ألفتم فنحن ألفنا.

الشيخ: نحن نحكم الموازين الشرعية في هذا وذاك، والموازين الشرعية ليست قولي ولا قوله، إنما الموازين الشرعية هي مقررات الإسلام، فينبغي عليه أن يتعلم مقررات الإسلام، فإن خضع لها تحاكمنا إليها، وإن لم يخضع لها فمعنى ذلك أن نبحث عن الحد الأدنى لنتفق نحن وإياه عليه ثم نتدرج معه، وهذا يسمى أسلوب الحوار، ولذلك أرجو من الشباب من طلاب العلم الذين يدخلون في الحوار ألا يستعجلوا في الحوارات، بل ينبغي أن يعرفوا أسلوب الحوار والجدل وطريقته.

فلكل فئة من الناس أسلوب في الحوار، فهؤلاء العلمانيون واللبراليون ونحوهم من أصحاب هذا التوجه يحتاجون الآن إلى تخصص ينبري لهم، وقد ظهرت الآن دراسات جيدة ورسائل، ولكنها ما وصلت إلى حد وضع أساليب التطبيق بالشكل الكافي، فأنا أقول: يمكن أن نجيبهم على هذا فنقول: إلى أي شيء نحتكم؟

فسنأتي لهم بأولويات الإسلام، وبأوليات الثوابت، ونتدرج معهم، فما أقروا به نقف عنده، ثم نناقشهم على ضوئه، وإلا فسيبقى الكلام عائماً، وهذا عبارة عن ضياع للوقت فعندما يدعي أنه كذا وكذا ثم نأخذه بدعواه، فإننا نتحقق من دعواه، فهل دعواه صادقة، فإذا قال: أنا أحتكم للكتاب والسنة نقول: إذاً ما طريقة رجوعك إلى الكتاب والسنة؟

المقدم: كأنك تنادي -يا شيخ- بإيجاد دراسات وكتب تحاول أن تأخذ شبهات هؤلاء القوم وترد عليها بطريقة حوارية.

الشيخ: منهجية وعلمية، هذا الذي أرى أنه ملح الآن.

موقف العقلانيين من التدين والالتزام

المقدم: المسألة الأخيرة التي نريد أن نتوقف عندها لأن لها صلة بهذا الموضوع هي التدين، فهل عندهم مشكلة مع التدين؟

الشيخ: لا شك، فهذه تنتج عن تلك، هذا شيء.

الشيء الآخر: أن أغلبهم أصحاب أهواء، وأغلبهم ممن يحبون الشهوات، ولا يقعون فيها فحسب، فكثير من المؤمنين يقع في الشهوات، ولكن لا يحبها، بل ينفر منها، تجد المتدين قد يقع في شهوة أو يقع في فجور -لا قدر الله-، لكنه يوجد عنده تأنيب ضمير، وأما هؤلاء فمنهج أغلبهم يقوم على استسهال هذه الأمور، على التساهل، وعلى التمييع، وعلى التفريط، هذا هو الأصل.

وبناء على هذا فمن الطبيعي أن أي إنسان له مسلك في الحياة ينفر مما يكون ضد مسلكه.

فهم يستسهلون الشهوات، خاصة فيما يتعلق بالمرأة وتبرج المرأة، فقضية المرأة أقام أكثرهم الدنيا من أجلها ولم يقعدها.

فهو فقط يريد أن يحرر المرأة، أو يريد أن يتمتع بالمرأة، وأنا أقول: هذا هو الغالب من خلال كتاباتهم، وما أدينهم إلا من كتاباتهم، فغالبهم يريد التمتع، ولأجل ذلك هل تجدهم يكثرون الكلام عن المرأة كجدة؟

المقدم: أبداً!

الشيخ: أو كطفلة؟

المقدم: أبداً! ولا عن حقوق الزوجة.

الشيخ: لا، المرأة يريدونها سكرتيرة، أو مذيعة، هذا هو الغالب.

إنني أعلم أناساً هناك يدافعون عن قضايا المرأة، ونحن نعلم أن للمرأة قضية وللرجل قضية.

ولذلك أقول طرفة ينتقدني بعض الناس فيها، وهي أنه إذا كان حجم ظلم المرأة (70%)، فمعنى ذلك أن هناك ظلماً للرجل قد يكون بنسبة (30%)، فلماذا لا يكون للرجل جمعية؟

المقدم: ليس لهم هوى في هذا الأمر.

الشيخ: ما لهم هوى.

المقدم: نكمل -يا شيخ- موقفهم من التدين في الحلقة القادمة.

الشكر الجزيل لك شيخ ناصر .

باسمكم جميعاً -مشاهدينا الكرام- نتقدم بالشكر الجزيل لفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل ، أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

وفي الحلقة القادمة نكمل هذا الموضوع، ونناقش موضوعاً حساساً وهاماً، وهو موقف العقلانيين من المرأة عموماً، والمرأة المسلمة خصوصاً.

وإلى أن نلتقي بكم في حلقة قادمة نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الاتجاهات العقلانية المعاصرة أصولها ومناهجها [2] للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

https://audio.islamweb.net