إسلام ويب

إن أصل العلم الإلهي ومبدأه ودليله الأول هو الإيمان بالله ورسوله، فقد فطر الله عباده على الاعتراف بوجوده، وجعل طريقهم إلى ما يرضيه باتباع شرعه ومتابعة نبيه، ومما يدل على أن هذا الأصل هو أعظم المطلوبات وأجل الواجبات أن من أخل به أو لم يأت به ابتداء قوتل عليه.

أول واجب على العباد

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فسنشرع في هذا الدرس من المجلد الثاني من فتاوى شيخ الإسلام ويبدأ فيه بمسألة مهمة في توحيد الربوبية، وأحب أن أتكلم عنها قليلاً قبل أن نبدأ بها؛ لأنها من المسائل الكلامية التي فيها شيء من الغموض والتعقيد أحياناً، وهي مسألة أول الواجبات، ما هو أول واجب على العباد؟ هذه مسألة بدهية فطرية، لكن مع ذلك بعد دخول الأهواء على الأمة، وبعد وجود الافتراء، وبعد أن مالت كثير من الفرق إلى مناهج الفلاسفة في تقرير الدين، ومناهج أهل الكتاب، ومناهج الصابئة، ومناهج المجوس، ومناهج غيرهم من الأمم الأخرى، دخلت مفاهيم غريبة وبعيدة كل البعد عن مقتضى الفطرة والشرع، فصارت مسالك لأقوام منهم علماء، والسبب الذهول عن الحقيقة الفطرية البدهية، وهي أن أول واجب على العباد جميعاً الإيمان بالله عز وجل، لكن ليس مجرد الاعتراف بوجود الله، إنما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ لأن مسألة الإيمان بالله لا تعني مجرد الإقرار؛ لأن الإقرار فقط ليس هو الموصل إلى ما يرضي الله عز وجل ويسعد البشر، لا سيما وأن الإقرار فطري عند جميع الناس، ليس هناك أمة من الأمم تنكر مبدأ وجود الله أو وحدانية الله بالخلق والربوبية، ليس هناك أمة تنكر ذلك وإن وجدت بعض النزعات النادرة.

إذاً: القضية في أول واجب هو: ما المطلوب من العباد؟ المطلوب من العباد هو عبادة الله المتحقق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولذلك صار مفتاح الدخول في الإسلام الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وبذلك نقول: إن أول واجب هو الإقرار بالشهادتين، أول واجب هو تحقيق التوحيد، أول واجب هو تحقيق الإيمان، أول واجب تحقيق الإسلام وذلك يكون بأركان الإسلام.

هذا ما سيبينه الشيخ ويرد على المخالفين، والمخالفون لهم أقوال كثيرة في أول واجب، وسيأتي الكلام عنها الآن وسترون فعلاً مدى بعد المتكلمين عن المنهج الحق في تقرير التوحيد وبيانه.

أول العلم الإلهي ومبدؤه ودليله الأول عند الرسول وعند المؤمنين

قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدّس الله روحه: [ بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً.

قاعدة أولية:

أن أصل العلم الإلهي ومبدأه ودليله الأول عند الذين آمنوا: هو الإيمان بالله ورسوله، وعند الرسول صلى الله عليه وسلم: هو وحي الله إليه، كما قال خاتم الأنبياء: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)، وقال الله تعالى له: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي [سبأ:50].

وقال: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:7].

وقال: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف:3]، فأخبر أنه كان قبله من الغافلين.

وقال: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52].

وفي صحيح البخاري في خطبة عمر لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كلام معناه: أن الله هدى نبيكم بهذا القرآن فاستمسكوا به فإنكم.. ].

في السنن وردت هذه العبارة عن عمر بصيغ كثيرة، اخترت منها ما ورد في البخاري ، وهو أن عمر رضي الله عنه قال: قد جعل الله بين أظهركم نوراً تهتدون به، بما هدى الله به محمداً صلى الله عليه وسلم. وفي بعض الروايات بعد قوله: إن الله هدى نبيكم بهذا القرآن أو نحو هذا اللفظ قال: فخذوا به واهتدوا، بدل فإنكم.. وهناك عبارات أخرى، فالقصد أنه يتم الاستدلال بهذا الشاهد الذي أورده شيخ الإسلام بهذا اللفظ وبما يرادفه من الألفاظ الأخرى.

هنا وقفات موجزة عند كلام الشيخ منذ أن بدأ.

أراد الشيخ أن يبين تقرير أول الواجبات، وأنه الإيمان بالله عز وجل، الذي هو التوحيد والهدى واتباع المرسلين، قعّد لذلك بقاعدة وهي: أن أصل العلم الإلهي ومبدأه ودليله الأول عند الذين آمنوا: هو الإيمان بالله ورسوله إذاً: هذا هو أول واجب؛ لأن هذا هو مبدأ العلم الإلهي، وهو أصله ومبعثه ومنشؤه وغايته في الجملة الإيمان بالله ورسوله.

قال: (وعند الرسول صلى الله عليه وسلم: هو وحي الله إليه) يقصد أن الرسل جميعاً هم الوسائط بين الله وبين خلقه، فالواجب على الرسل التلقي عن الله، وأن العلم الإلهي هو من وحي الله عز وجل، وأن الرسل إنما يطلبون الهدى من الله، والرسل هم مبلّغون للأمم فيكون الواجب على أتباع الرسل وعلى الذين آمنوا الإيمان بالله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقد فرّق بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المؤمنين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتأتى منه أن يطيع نفسه إنما يطيع الله، فالرسول مطيع لله عز وجل، والأمة مطلوب منهم أن يطيعوا الله ويطيعوا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله أمرهم بذلك.

ثم ذكر ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم من أول مطلوب من العباد، وأنهم إذا أخلوا بهذا المطلوب قوتلوا، وهذا يدل على أن هذا أعظم المطلوبات؛ لأنه لا يكون القتال إلا على أعظم الواجبات، وأول الواجبات، فالنبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر القتال ذكر أول ما يقاتل عليه الناس هو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنهم إذا شهدوا بهما والتزموا بلوازمهما عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها، فيكون هذا دليلاً قاطعاً على أن أول واجب من العباد يُلامون ويؤاخذون ويقاتلون إذا تركوه هو: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، لا كما يقول المتكلمون الذين زعموا أن أول واجب هو النظر والقصد إلى النظر، أو هو التفكير، أو هو التوصل إلى معرفة الله من خلال الألفاظ والمصطلحات المحدثة، والمقاييس العقلانية المعقدة، كل هذا ليس مطلوباً من العباد؛ لأن الله عز وجل كفاهم، بأن فطر عباده على الاعتراف بوجوده، لكنهم لا يعرفون الطريق إلى ما يرضي الله عز وجل إلا بالعبادة على ما شرع الله وشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثم ذكر الأدلة الفرعية على هذا، منها: قوله عز وجل: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي [سبأ:50] في هذه الآية دلالة على أن الفارق بين الضلالة وعدمها هو اتباع الوحي؛ لأن الوحي هو الطريق إلى الهدى، الذي هو أول واجب، فأول واجب على العباد أن يهتدوا بهدي الله، أن يهتدوا بالحق الذي جاء به الرسل، وهذا إنما يتم بما أوحى الله إلى رسوله.

وكذلك في هذه الآية دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم مطلوب منه اتباع ما جاء من عند الله، فلا يتبع الناس، الناس يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يتبع ما جاء به الله، ويتبع الهدى الذي أُنزل من عند الله.

فكذلك الآيات التي بعد تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف الحق، ولم يكن يعرف أول واجب إلا من خلال ما هداه الله إليه، ولذلك قال الله عز وجل عن نبيه: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:7]، ولو كان إدراك أول واجب يُدرك بمجرد التفكير العقلي لأدرك ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أكبر الناس عقلاً.

فإذاً: لا يصح قولهم: إن أول واجب هو التفكير بالعقل أو النظر بالعقل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان يتعبد وينظر بعقله لم يصل إلى الهداية التفصيلية، وإلى الهدى والشرع الذي أراده الله من العباد، حتى هداه الله إلى ذلك وبعثه وأرسله، ولذلك قال: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:7].

وكذلك الآيات التي بعدها تدل على أن الله عز وجل إنما جعل الهدى وسيلة إلى الوصول إلى معرفة الواجب وأول واجب، لا مجرد النظر والقصد إلى النظر.

وكذلك قول عمر : إن الله هدى نبيكم بهذا القرآن، قال: فخذوا به تهتدوا. فيه دلالة قاطعة على أن الهداية لا تتم إلا من خلال الأخذ بما جاء به الله وجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تقرير الحجة في القرآن ببعث الرسل

قال رحمه الله تعالى: [ وتقرير الحجة في القرآن بالرسل كثير، كقوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165].

وقوله: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15].

وقوله: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ [طه:134].

وقوله: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا [القصص:59] الآية.

وقوله: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك:8].

وقوله: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الزمر:71] الآية.

وقوله: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ [الأنعام:130] الآية ].

وجه الاستدلال بهذه الآيات واضحة، وهو أنه لو كان الناس يستقلون بعقولهم لإدراك ما يرضي الله عز وجل لما احتجوا بأنهم يحتاجون إلى بعث الرسل، ولما كان بعث الرسل هو الطريق الموصل إلى رضا الله عز وجل، ولذلك فإن أول واجب على العباد لا يمكن أن يدركوه بعقولهم، أي: البداية لا يمكن أن تدرك بمجرد العقول، لا تدرك إلا من خلال الرسل الذين بعثهم الله لهداية العباد، لذلك أخبر الله عز وجل أنه لو لم يبعث الرسل لاحتجت الأمم بذلك، قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، وقال: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]، فلو كان الناس يدركون الواجب ويدركون ما يرضي الله بعقولهم لما قرر الله عز وجل هذه الحجة، وجعلها حجة قائمة لو لم يبعث الله الرسل، فهذا دليل على أن الناس لا يدركون الواجبات بعقولهم، ولا يقررون الدين بعقولهم، ولا يعرفون العقيدة تفصيلاً بعقولهم، ولا يتوصلون إلى ما يرضي الله عز وجل على جهة التشريع بعقولهم؛ فلذلك كان بعث الرسل حجة، والله عز وجل لو لم يبعث رسلاً لما عذّب العباد، ولكان في ذلك احتجاج من الأمم جميعاً فيما يقضيه الله عز وجل بينهم يوم القيامة.

والمقصود بالآية: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ [الأنعام:130] هي الآية: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الأنعام:130]، هذا هو الظاهر وهذا مقتضى السياق؛ لأن القصد بعث الرسل، ولذلك استنبط بعض أهل العلم من هذه الآية الدلالة على أن الرسل كلهم بعثوا في الإنس، وبعضهم استنبط منها العكس.

ابتداء طائفة من المصنفين بأصل العلم والإيمان عند تصنيفهم في العلم

قال رحمه الله تعالى: [ ولهذا كان طائفة من أئمة المصنفين للسنن على الأبواب، إذا جمعوا فيها أصناف العلم ابتدءوها بأصل العلم والإيمان، كما ابتدأ البخاري صحيحه ببدء الوحي ونزوله؛ فأخبر عن صفة نزول العلم والإيمان على الرسول أولاً، ثم أتبعه بكتاب الإيمان الذي هو الإقرار بما جاء به، ثم بكتاب العلم الذي هو معرفة ما جاء به، فرتبه الترتيب الحقيقي.

وكذلك الإمام أبو محمد الدارمي صاحب المسند ابتدأ كتابه بدلائل النبوة، وذكر في ذلك طرفاً صالحاً، وهذان الرجلان أفضل بكثير من مسلم والترمذي ونحوهما؛ ولهذا كان أحمد بن حنبل يعظّم هذين ونحوهما؛ لأنهم فقهاء في الحديث أصولاً وفروعاً ].

أشار الشيخ في المقطع السابق إلى منهجية مهمة جداً ينبغي أن يفهمها طلاب العلم، وما أكثر الأصول المنهجية التي ذكرها شيخ الإسلام عن السلف، لكن هذه مهمة جداً في هذا الوقت الذي كثر فيه التصنيف والتأليف، وكثر فيه الاستطراد وتشقيق الكلام وحشو العلم، ينبغي أن ننبه على ضرورة التزام منهج السلف في تقرير العقيدة وبيانها، وهو أنهم يبدءون بما بدأ الله به، ويبدءون بما هو الأصل في تقرير مسائل الدين، يبدءون بالأهم فالأهم، وهذا منهج للتأليف ومنهج للدعوة أيضاً، ينبغي أن يبدأ المسلم وطالب العلم والعالم في أي أمر بتقرير الدين وبتقرير التوحيد، ابتداء من بدء الوحي ومصادر الدين ومنهج التلقي، ثم بيان أصول الإيمان وما يحقق توحيد الله من قبل العباد، ولا يعني ذلك إغفال الجوانب الأخرى، لكنها تأتي ضمناً، فتقرير أسماء الله وصفاته وأفعاله جاء للوصول إلى عبادته، وتقرير الربوبية جاء للوصول إلى عبادة الله عز وجل، فلا يصح أن يبدأ بأمور فرعية؛ لأن ذلك يؤدي غالباً إلى إبعاد القلوب والعقول عن تقبل الهدى.

فمنهج السلف في تصنيف العقائد وتقرير العقيدة يبدأ بتقرير ما يتعلق بتوحيد الله عز وجل في أسمائه وصفاته وأفعاله، وتوحيد الربوبية والإلهيات دون فصل واحد عن الآخر؛ لأن هذا هو المطلوب من العباد، وهو الذي يحتاجونه، وهو الذي لا بد فيه من شرع مفصّل، وهذا عكس منهج المتكلمين والفلاسفة، فالمتكلمون والفلاسفة أول ما يبدءون في تقرير الدين بمسألة وجود الله، وهذا خلاف الأصل؛ لأن الله عز وجل يقول: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [إبراهيم:10]، ثم يعرّجون على مسألة وحدانية الله، وهذا أيضاً مما لا يخالف فيه أحد، ثم يعرّجون على مسألة تقرير الصفات بقواعد عقلية وفلسفية، أيضاً لو أنهم بدءوا بتقرير الصفات على منهج السلف لكان الأمر يسيراً وسهلاً، ولكان منهجهم قريباً من المنهج الحق، لكنهم يعرّجون على تقرير الصفات لله عز وجل بمناهجهم الكلامية التي ينفون بها صفات الله، أو يؤولونها على مختلف رؤيتهم.

ثم بعد ذلك أيضاً لو أنهم توصلوا بهذه الأساليب إلى توحيد الإلهية لكان الأمر فيه فائدة، وإن كانت فائدة عسيرة لا تتم إلا عبر الدخول في الشبهات والشكوك التي تمرض القلوب، كذلك لو أنهم ختموا مناهجهم وطرائقهم وأسلوبهم في تقرير التوحيد بتوحيد الإلهية لكان الأمر مقارباً، لكنهم ما عرّجوا على توحيد الألوهية، توحيد الألوهية لم يرد في كتبهم إلا نادراً، وهذا دليل فساد المسلك والمنهج، وأنهم تكلموا في قضايا فطرية ليست محل خلاف عند البشر، وإن خالف فيها بعض النزّاع من البشر، لكن ليست محل خلاف عند جماهير الأمم، ثم إنهم قرروها على مبادئ فلسفية تؤدي إلى شرك أكثر مما تؤدي إلى اليقين، ولذلك كان الواحد منهم لا يسلم من الشبهات والاعتراض عليها، وافتراض الشبهات والاعتراض عليها، فلا يصل بذلك إلى نتيجة، وأعظم من هذا كله أنهم صرفوا الناس عن الجد والعبادة إلى الجدل والمراء والمناظرات؛ بسبب سلوكهم هذا المنهج كما سيأتي بيانه.

الخلاصة وهو ما أردت أن نتوقف عنده: هو أن منهج السلف تقرير التوحيد المطلوب من العباد، والتوصل إليه بتوحيد الأسماء والصفات وتوحيد الربوبية لا حرج، لكن لا لتقرير البدهيات؛ لأنها واضحة، لكن منهج المتكلمين عكس ذلك، فهم يقفون عند مسائل بدهية ويتوهمون أن أمامهم خصوماً وإنما هم معترضون، والأمر لا يعدو أن تكون هناك شياطين في رءوسهم أوحت لهم ووسوست لهم وشككتهم، فظنوا أنهم بذلك يحسنون صنعاً.

ذكر هداية الخلق بالرسالة في القرآن الكريم

قال رحمة الله تعالى: [ولما كان أصل العلم والهدى هو: الإيمان بالرسالة المتضمنة للكتاب والحكمة، كان ذكره طريق الهداية بالرسالة التي هي القرآن، وما جاءت به الرسل كثيراً جداً، كقوله: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2].

وقوله: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:138].

وقوله: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9].

وقوله: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ [آل عمران:3-4].

وقوله: الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [إبراهيم:1].

وقوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:123-124].

وقوله: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ [الشورى:52-53].

وقال تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] فيُعلم أن آيات الله والرسول تمنع الكفر، وهذا كثير ].

يشير الشيخ بهذا إلى أمر مهم جداً، يحسن استصحابه في الكلام القادم، وهو أن أصل العلم الهدى، أي: أن أول واجب على العباد هو تحقيق التوحيد، فهذا هو أصل العلم والهدى، ويتحقق بالإيمان بالرسالة المتضمنة للكتاب والحكمة.

والعبد إذا عمل بأول واجب وهو مبدأ الإيمان بالله عز وجل والإيمان برسوله، ورضي العلم والهدى الذي تضمنه الكتاب والسنة فإن ما فيهما يرشد إلى كل ما زعمه المتكلمون من تحقيق وجود الله، وتحقيق وحدانية الله عز وجل، وتحقيق تعظيم الله عز وجل بأسمائه وصفاته كما يزعم المتكلمون ويسعون إليه، كل هذا إنما يحصل بالاهتداء بالكتاب والسنة؛ لأن هذه الأصول أرشد إليها القرآن والسنة، بل أول ما دعا إليها، فلا يمكن أن تتحقق عبادة الله التي هي أعظم الغايات إلا بتحقيق ما يحتاجه العباد من أسماء الله وصفاته وأفعاله وربوبيته؛ ولذلك فالله عز وجل حينما أقام الحجة على المشركين في تحقيق عبادته أقامها عليهم بإقرارهم بالربوبية.

فإذاً: ليست الربوبية محل نزاع إنما جعل إقرارهم بالربوبية وسيلة إلى إلزامهم بالمطلوب، وهو ألا يعبدوا غير الله، جعل الربوبية المعلومة عند جميع الأمم حتى عند المشركين وسيلة إلى تحقيق عبادة الله وحده لا شريك له.

فالشيخ كأنه يقول: إذا قلنا: إن أول واجب هو الاهتداء بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن هذا الهدى تضمن كل ما سعى إليه المتكلمون، وزعموا أنهم يريدون أن يحصلوه بزعمهم أن أول واجب هو التفكير والنظر العقلي إلى آخره، قال: هذه الأمور أرشد إليها القرآن بطرق سليمة فطرية صحيحة، لا على مناهجكم المعقّدة.

ذكر حصول الهداية والفلاح للمؤمنين وذكر أهل الجنة والنار وأعمالهم ومآلهم

قال رحمه الله تعالى: [ وكذلك ذكره حصول الهداية والفلاح للمؤمنين دون غيرهم ملء القرآن، كقوله: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:2-3] الآية، ثم ذم الذين كفروا والذين نافقوا.

وقوله: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العصر:1-3].

وقوله: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [التين:5-6].

فحكم على النوع كله والأمة الإنسانية جميعها بالخسارة والسفول إلى الغاية، إلا المؤمنين الصالحين.

وكذلك جعل أهل الجنة هم أهل الإيمان، وأهل النار هم أهل الكفر، فيما شاء الله من الآيات، حتى صار ذلك معلوماً علماً شائعاً متواتراً اضطرارياً من دين الرسول صلى الله عليه وسلم، عند كل من بلغته رسالته.

وربط السعادة مع إصلاح العمل به، في مثل قوله: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97].

وقوله: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:19].

وأحبط الأعمال الصالحة بزواله، في مثل قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ [النور:39].

وقوله: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ [إبراهيم:18].

وقوله: مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ [آل عمران:117] الآية.

وقوله: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، ونحو ذلك كثير.

وذكر حال جميع الأمم المهدية أنهم كذلك، في قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا [البقرة:62] الآية.

ولهذا أمر أهل العقل بتدبره، وأهل السمع بسمعه، فدعا فيه إلى التدبر والتفكير والتذكر والعقل والفهم، وإلى الاستماع والإبصار والإصغاء، والتأثر بالوجل، والبكاء.. وغير ذلك، وهذا باب واسع.

ولما كان الإقرار بالصانع فطرياً كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) الحديث، فإن الفطرة تتضمن الإقرار بالله والإنابة إليه، وهو معنى لا إله إلا الله؛ فإن الإله هو الذي يُعرف ويُعبد، وقد بسطت هذا المعنى في غير هذا الموضع ].

بدأ الشيخ يشير إلى منهج المتكلمين، وهو أنهم يسلكون في تحقيق التوحيد مسلك الإقناع بالإقرار بوجود الخالق، الشيخ عبّر بالصانع وأرى أننا نلتزم اللفظ الشرعي: الخالق؛ لأن شيخ الإسلام يرد على المتكلمين بمصطلحهم، وإلا فالأصل التزام الألفاظ الشرعية، ولذلك كان ينبغي أن يقول: ولما كان الإقرار بالخالق فطرياً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة).

إذاً: أراد بهذا الرد على زعمهم أن أول واجب من أجل إثبات وجود الخالق: النظر، يقول: هذا أمر فطري، فليس بصحيح أنه أول الواجبات، وليس صحيحاً أنه هو المنهج السليم في تحقيق التوحيد؛ لأن الإقرار بالخالق أمر بدهي فطري أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (كل مولود يولد على الفطرة)، فإن الفطرة تتضمن الإقرار بالله عز وجل، يعني بربوبيته، والإنابة إليه، يعني بالعبودية، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإذا قلنا: لا معبود إلا الله، فكيف يُعبد وهو لم يُعرف؟ هذا أمر مستحيل، إذاً: فالإله هو الذي يُعرف ويُعبد، فلا يُعبد إلا وقد عُرف، ولذلك حينما وجّه الله العباد وأمرهم بعبادته دل هذا بالضرورة أنهم ليسوا بحاجة إلى التعريف بوجوده؛ لأنه أمر فطري، إنما هم بحاجة إلى التعريف بعبادته، كيف يعبدونه، وإلى الأمر بأن يعبدوه، لا بأن يقروا بأنه الخالق، فإن هذا أمر تقتضيه الفطر، فالناس كأنهم مجمعون على الإقرار بالله، وما بعد هذا الإقرار هو المطلوب منهم، أما الإقرار فقد كفاهم الله إياه حيث فطرهم عليه، وهو مقتضى فطرة كل إنسان، وإن شذ بعض المختلّين في عقولهم فلا عبرة بهم؛ لأن النادر لا حكم له.

المقصود بدعوة المرسلين إيصال العباد إلى عبادة الله الحقة

قال رحمه الله تعالى: [ وكان المقصود بالدعوة: وصول العباد إلى ما خُلقوا له من عبادة ربهم وحده لا شريك له، والعبادة أصلها عبادة القلب المستتبع للجوارح ].

يقصد بهذا أن العبادة أصلها عبادة القلب لا العقل ولا الفكر، ولذلك الذين يعبدون الله بالتفكير أو العقول من الفلاسفة وغلاة الجهمية هؤلاء ما وصلوا إلى الحق، وهم أصحاب المذاهب الوثنية الآن، فتجد مثلاً في الديانات الهندية والديانات اليونانية القديمة أن هؤلاء الأقوام ضلوا الطريق مع أنهم اعترفوا بالرسل ويقرون بوجود الله ويرون الحاجة إلى عبادته، لكنهم يعبدونه بعبادة عقلية بالتأمل والنظر والتفكّر، أو عبادة فكرية بمجرد التأمل في آلاء الله عز وجل، يسمون هذا عبادة، ويستميتون لهذا الفكر ويقاتلون عليه، وهذا خطأ وضلال؛ لأنهم ما وصلوا إلى ما يريده الله عز وجل.

فإذاً: لا بد من تقرير بأن المقصود بدعوة المرسلين ودعوة المصلحين في كل زمان إيصال العباد إلى عبادة الله التي خُلقوا من أجلها، فقد خُلقوا كما قال الله عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] ما قال: ليقروا بي أو لينظروا أو ليتفكروا؛ لأن النظر والتفكر إنما يكون بعد الخضوع والعبادة على منهج، تنظر وتفكر كما أرشدك الله إلى أصول النظر والتفكر.

قال: (والعبادة أصلها عبادة القلب) يعني: يعبد الله بالمحبة والخوف والرجاء والتوكل، وسائر أنواع العبادة التي تنبثق عنها أعمال الجوارح.

الرد على المتكلمين في تقرير الربوبية والنبوة وإغفال توحيد الألوهية

قال رحمه الله تعالى: [ والعبادة أصلها عبادة القلب المستتبع للجوارح، فإن القلب هو الملك والأعضاء جنوده، وهو المضغة الذي إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، وإنما ذلك بعلمه وحاله كان هذا الأصل الذي هو عبادة الله بمعرفته ومحبته، هو أصل الدعوة في القرآن، فقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وقال في صدر البقرة بعد أن صنف الخلق ثلاثة أصناف: مؤمن، وكافر، ومنافق، فقال بعد ذلك: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، وذكر آلاءه التي تتضمن نعمته وقدرته، ثم أتبع ذلك بتقريره النبوة، بقوله: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23].

والمتكلم يستحسن مثل هذا التأليف ويستعظمه حيث قررت الربوبية ثم الرسالة، ويظن أن هذا موافق لطريقته الكلامية في نظره في القضايا العقليات.

أولاً: من تقرير الربوبية، ثم تقرير النبوة، ثم تلقي السمعيات من النبوة كما هي الطريقة المشهورة الكلامية للمعتزلة والكرامية والكلابية والأشعرية، ومن سلك هذه الطريق في إثبات الصانع، أولاً: بناء على حدوث العالم، ثم إثبات صفاته نفياً وإثباتاً بالقياس العقلي، على ما بينهم فيه من اتفاق واختلاف إما في المسائل وإما في الدلائل، ثم بعد ذلك يتكلمون في السمعيات من المعاد والثواب والعقاب والخلافة والتفضيل والإيمان بطريق مجمل ].

نقف عند هذا؛ لأنه سيبدأ في موضوع جديد، ختم الشيخ هذا المقطع بالإشارة إلى منهج المتكلمين وخطر هذا المنهج وخطئه؛ لأن الشيخ قال حين ذكر قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] ذكر أن المتكلم يستحسن مثل هذا التأليف؛ لأن الله عز وجل ذكر آلاءه ونعمه في قوله عز وجل: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [البقرة:22] إلى آخر الآيات التي يقرر فيها النعم، ثم يقرر فيها التحدي لهؤلاء العباد؛ لأنهم إن كانوا في ريب مما نزل على عبده فليأتوا بسورة من مثله.. أو نحو ذلك.

فهو يقول: إن المتكلمين يعجبهم هذا المنهج، لكنه خلاف ما قصدوا من أنه يبدأ بذكر الآلاء والنعم ثم ذكر النبوة، لكنهم نسوا أن الله عز وجل صدّر الآية بقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:21] بعد تقرير توحيد العبادة لفتهم إلى نعمه وآلائه، وإلى النبوة وتقريرها، وأشار إلى أنه يتحداهم بأن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن، فهم ذُهلوا عن أصل القضية وهو الدعوة إلى عبادة الله، فقال: (المتكلم يستحسن مثل هذا التأليف) أي: ذكر الخلق أولاً، ثم النعم، ثم الرسالة والنبوة، ثم يعرّج بعد ذلك على ما ذكره الشيخ من تقرير الربوبية وتقرير النبوة والسمعيات، ثم الكلام في الصفات.. إلى آخره، وأن هذا منهج معوّج من حيث الأصل، وكل قضية يبدأ أصلها خطأ تكون نتائجها خطأً، لذلك هم قد يوافقون الحق في بعض الأمور، لكن على أصل خاطئ، فتقريرهم للنبوة بحد ذاته صحيح، وينبغي أن يقرر مبدأ صحة النبوة وصدق الأنبياء، وتقريرهم لذكر نعم الله وخلقه للوصول إلى صحة وجود الخالق صحيح أيضاً، لكن النتيجة التي هي مطلوبة من العباد لم يصلوا إليها، ولذلك عندما ذكر الشيخ منهجهم هذا الإثبات بالقياس العقلي وما بينهم من اختلاف في مناهجهم الكلامية قال: (غاية ما يصلون إليه هو هذه الأمور) كأنه يقول: ومع ذلك فإنهم لا يعرّجون على توحيد العبادة الذي هو الغاية الكبرى وهو المطلوب ابتداء وانتهاء.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

معنى قول الناظم: (قالوا بم عرف المكلف ربه... قلت بالنظر الصحيح المرشد)

السؤال: قال الكلوذاني في منظومة عقيدة أهل السنة:

قالوا بم عرف المكلف ربهقلت بالنظر الصحيح المرشد؟

الجواب: نعم، ليس هذا على إطلاقه، إن قصد النظر الصحيح تحقيق العبادة فصحيح، لكن ظاهر البيت أنه يوافق المتكلمين وهذا خطأ في المنهج.

على أي حال هذا البيت يبدو أن له احتمالين: إن قصد المعرفة التي هي معرفة وجود الله فهذا صحيح، وإن قصد بالمعرفة التوحيد فغير صحيح.

تعريف الإسلام

السؤال: ما رأيكم بهذا التعريف للإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك وأهله؟

الجواب: زيادة (أهله) ليس لها لزوم؛ لأن من خلص من الشرك فأهله تبع، فالتعريف ينبغي أن يوجز إلى أقصى حد ممكن، فالعبارة التي تغني عن غيرها يوقف عندها ولا يؤتى بالفروع والاحترازات، والتعريف إذا كان جامعاً شاملاً مانعاً أولى من أن يفرّع عنه، فأقول: إن الخلوص من الشرك تكفي عن زيادة عبارة (وأهله) كما ذكر السائل.

والبراءة هو الخلوص، وكلها عبارات صحيحة، والقصد الوصول إلى المعنى الصحيح، الخلوص قد تكون ليست واضحة عند بعض الناس فيقال: والبراءة من الشرك، وليس بينهما فرق، لكن لفظ البراءة أدق على معنى والخلوص له معنى آخر، والخلوص أشمل من البراءة.

ثناء شيخ الإسلام على الدارمي ومسنده

السؤال: ذكر الشيخ مسند الدارمي وعظمه فهل يرى أنه يقدّم على صحيح مسلم ؟

الجواب: لا أظن.

حكم الجهاد ضد اليهود وغيرهم

السؤال: هل الجهاد فرض عين ضد اليهود؟

الجواب: هذه مسألة من المسائل التي تتعلق بمصالح الأمة العظمى، لا بد من الرجوع فيها إلى أهل الحل والعقد من العلماء الكبار؛ لأن هذه فيها مزلة وفيها أيضاً افتئات على الشرع والدين والعلم، والفتاوى المتسرعة فيها سواء كانت بالمنع أو بالمشروعية، كل ذلك قد يؤدي إلى نتائج وخيمة إذا صدر من أناس لم يتدارسوا هذا الأمر مع أهل العلم الكبار، ففرضية العين لها شروط وضوابط، أنا أظنها لا تتحقق في هذا الظرف الذي نعيشه، نعم الواجب تجاه إخواننا المسلمين في كل مكان الذين يستضعفون ويقاتلون النصرة لهم بما نملك من الوسائل المتاحة والمشروعة أيضاً، لكن ليس بالعواطف والأعمال المتهورة أو الفتاوى المتعجّلة، أو إيقاع الأمة والناس في حرج قد يكون الذي يفتي جالساً على أريكته، ويوقع شباب المسلمين في أمور قد تكون نتائجها غير مشروعة ومحرجة، وليست على وجه شرعي صحيح.

أنا لا أفتي في كون الجهاد على اليهود الآن فرض عين أو غيره، هذا يرجع فيه إلى أهل العلم، لكن فيما يبدو لي ولست بهذا أفتي، إنما أوجه المسألة توجيهاً يمهّد للفتوى وهو أنه قد لا يتأتى فرض العين في الواقع الذي تعيشه الأمة الآن.

ثم كيف السبيل إليه؟ الراية راية من؟ لا يجوز الجهاد إلا تحت راية شرعية، أما التصرف الفردي فهذا تهوّر لا يجوز أن يسلكه المسلم، وحتى التسرع شبه الفردي، أن تتجمع مجموعات أو طوائف محدودة وتقوم بعمل انتحاري.. ونحو ذلك، فهذا في تقديري أنه ليس بمشروع على هذا النحو، فالجهاد يكون براية، والراية لها شروط وضوابط، لكن لابد من نصرة إخواننا في كل مكان، والناس أيضاً أحياناً تثيرهم قضية المسجد الأقصى، نعم هذا صحيح المسجد الأقصى لا شك أنه من مساجد المسلمين ومن المساجد الثلاثة، لكن ما السبيل إلى تحريره؟ ما السبيل إلى الجهاد؟ هذا أمر يحتاج إلى أناة ودراسة مشروعة، فالمسلمون أنفسهم هل هم مهيئون للجهاد؟ يحتاج الأمر إلى مناقشة شرعية مؤصّلة، نسأل الله أن يعلي كلمته، وينصر دينه، ويعز الإسلام والمسلمين في كل مكان.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [1] للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

https://audio.islamweb.net