إسلام ويب

شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة متنوعة ومتعددة، وهي خاصة بالموحدين من هذه الأمة، أما المشرك ولو كان محباً ومعظماً للنبي صلى الله عليه وسلم فهو محروم وممنوع من الشفاعة، ومهما توسل بالأنبياء أو الملائكة أو الصالحين واستشفع بهم فلا ينفعه شيء من ذلك.

أقسام التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم

قال ابن تيمية رحمه الله تعالى:

[ فصل:

ولفظ التوسل قد يراد به ثلاثة أمور: يراد به أمران متفق عليهما بين المسلمين].

الظاهر أنه يقصد التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن حديثه فيما بعد يتعلق أكثره بالتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك استطرد إلى التوسل بالأنبياء والملائكة، لكن في هذا التقسيم الذي بين أيدينا، وهو أن لفظ التوسل قد يراد به ثلاثة أمور يعني به التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وغيره يقاس عليه، إلا أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم له بعض الخصوصيات، لكن من حيث التنظير العام ما بعده يقاس عليه.

التوسل بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ودعائه وشفاعته

قال رحمه الله تعالى: [ أحدهما: هو أصل الإيمان والإسلام، وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته.

والثاني: دعاؤه وشفاعته، وهذا أيضاً نافع يتوسل به من دعا له وشفع فيه باتفاق المسلمين، ومن أنكر التوسل به بأحد هذين المعنيين فهو كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتداً.

ولكن التوسل بالإيمان به وبطاعته هو أصل الدين، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام للخاصة والعامة، فمن أنكر هذا المعنى فكفره ظاهر للخاصة والعامة.

وأما دعاؤه وشفاعته وانتفاع المسلمين بذلك فمن أنكره فهو أيضاً كافر، لكن هذا أخفى من الأول، فمن أنكره عن جهل عرف ذلك، فإن أصر على إنكاره فهو مرتد، أما دعاؤه وشفاعته في الدنيا فلم ينكره أحد من أهل القبلة ].

هذا الكلام كله يتعلق بالأمرين الأولين من التوسل به صلى الله عليه وسلم، وهما من التوسل المشروع، وكله متعلق بالتوسل به صلى الله عليه وسلم في حياته، فالشيخ لم يفصح عن النوع الثالث، لكنه ذكره ضمناً في الحديث عن الشفاعة يوم القيامة، أي: ذكر جزءاً من النوع الثالث.

التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته

والنوع الثالث فيه ممنوع وفيه مشروع، وهو التوسل به صلى الله عليه وسلم وهو ميت، فالتوسل به في الدنيا وهو ميت ممنوع قطعاً، فإنه صلى الله عليه وسلم بعدما مات انقطع التوسل به، ولا يجوز دعاؤه، ولا يجوز نداؤه، فمن الشرك صرف أي نوع من أنواع العبادة له ودعاؤه ونحو ذلك، فهذا في الدنيا.

أما التوسل به وهو ميت -يعني: يوم القيامة- ففيه تفصيل: إن قصد به الشفاعة العظمى أو الشفاعة لأهل الكبائر فهذا يقر له بشروطه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع الشفاعة التي وعده الله بها بشروطها.

إذاً: فالنوع الثالث: هو الاستشفاع به صلى الله عليه وسلم وهو ميت، فأغلب صوره شركية وبدعية، وكلها فيما يتعلق بالاستشفاع به في الدنيا وهو ميت، فلم يعد الاستشفاع به جائزاً إطلاقاً، فهو إما بدعة مغلظة وإما شرك، وهو الغالب.

عقيدة أهل السنة في إثبات الشفاعة في الآخرة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما الشفاعة يوم القيامة فمذهب أهل السنة والجماعة وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم: أن له شفاعات يوم القيامة خاصة وعامة، وأنه يشفع فيمن يأذن الله له أن يشفع فيه من أمته من أهل الكبائر، ولا ينتفع بشفاعته إلا أهل التوحيد المؤمنون دون أهل الشرك، ولو كان المشرك محباً له معظماً له لم تنقذه شفاعته من النار، وإنما ينجيه من النار التوحيد والإيمان به، ولهذا لما كان أبو طالب وغيره يحبونه ولم يقروا بالتوحيد الذي جاء به لم يمكن أن يخرجوا من النار بشفاعته ولا بغيرها.

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (قلت: يا رسول الله! أي الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال: أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه).

وعنه في صحيح مسلم أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً).

وفي السنن عن عوف بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني آت من عند ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً) وفي لفظ قال: (ومن لقي الله لا يشرك به شيئاً فهو في شفاعتي).

وهذا الأصل -وهو التوحيد- هو أصل الدين الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين ديناً غيره، وبه أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، كما قال تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45]، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل:36].

وقد ذكر الله عز وجل عن كل من المرسلين أنه افتتح دعوته بأن قال لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ .

وفي المسند عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم).

والمشركون من قريش وغيرهم الذين أخبر القرآن بشركهم واستحل النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم وأموالهم وسبى حريمهم وأوجب لهم النار، كانوا مقرين بأن الله وحده خلق السماوات والأرض كما قال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [لقمان:25]، وقال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [العنكبوت:61]، وقال تعالى: قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون:84-91].

وكان المشركون الذين جعلوا معه آلهة أخرى مقرين بأن آلهتهم مخلوقة، ولكنهم كانوا يتخذونهم شفعاء ويتقربون بعبادتهم إليه، كما قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس:18]، وقال تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر:1-3].

وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك.

وقال تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:28-32] ].

لا يزال استطراد الشيخ هنا في بيان التوسل الممنوع أو الاستشفاع الممنوع، وينبغي أن نستصحب في غالب حديث الشيخ في هذا الكتاب أنه يستعمل التوسل بمعنى الاستشفاع، سواء الممنوع أو المشروع، والشفاعة هي بمعنى التوسل، فهما مترادفان.

وحينما تكلم عن أنواع التوسل به صلى الله عليه وسلم ذكر الأنواع المشروعة أولاً، وهي بمعنى الاستشفاع به في حياته، وذلك يكون أولاً: باتباعه وطاعته، وثانياً: بطلب الدعاء منه أو بطلب الشفاعة الدنيوية منه، يعني: يطلب منه فلان من الناس وهو حي صلى الله عليه وسلم أن يشفع له عند فلان، كما حدث كثيراً.

النوع الثاني: الاستشفاع به وهو ميت، فهو على نوعين: التوسل به وهو في قبره، هذه مر عليها الشيخ دون أن يصرح بها، فلا يمكن أن النبي صلى الله عليه وسلم يقدم لأحد نفعاً أو ضراً وهو ميت في قبره، فمن دعاه أو توسل به فقد كفر أو ابتدع وأشرك.

والتوسل به بعد مماته بمعنى وقوع الشفاعة منه بشروطها هذا أمر واقع، بمعنى: أن الله وعده بأن يشفع، لكنها شفاعات مشروطة محدودة معلومة، ولا ندري لمن تحدث من الناس بعينه، إلا من ورد ذكره في السنة أو ثبت في القرآن أو السنة، أما من عداهم فنعرف أجناسهم لا أشخاصهم، فمن هنا لا يستطيع أحد أن يدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم سيشفع له يوم القيامة، ومن ادعى فهو كاذب، وهذه مسألة ينبغي أن تفهم جيداً.

إذاً: التوسل لا يزال يستخدم بمعنى الاستشفاع، ثم ذكر شبهة المشركين واستدل عليها هنا، ووقوعهم في الشرك مبني على أنهم وقعوا في الوسيلة الممنوعة في الاستشفاع الممنوع، وظنوا أن معبوداتهم من دون الله عز وجل وسيلة بينهم وبين الله عز وجل، أو أنها شافعة لهم في الدنيا وفي الآخرة، وأنهم إنما يعبدونهم لأنهم توسلوا بهم إلى الله، واستشفعوا بهم عند الله، فمن هنا كان استطراد الشيخ في محله.

أقسام الموصوفين بالشرك

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ بين سبحانه بالمثل الذي ضربه لهم: أنه لا ينبغي أن يجعل مملوكه شريكه فقال: هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم، فأنتم فيه سواء يخاف أحدكم مملوكه كما يخاف بعضكم بعضاً، فإذا كان أحدكم لا يرضى أن يكون مملوكه شريكه فكيف ترضونه لأنفسكم؟

وهذا كما كانوا يقولون: له بنات، فقال تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ [النحل:62]، وقد قال تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [النحل:58-60].

والمشركون الذين وصفهم الله ورسوله بالشرك أصلهم صنفان: قوم نوح وقوم إبراهيم، فقوم نوح عليه السلام كان أصل شركهم العكوف على قبور الصالحين، ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم، وقوم إبراهيم عليه السلام كان أصل شركهم عبادة الكواكب والشمس والقمر، وكل من هؤلاء يعبدون الجن، فإن الشياطين قد تخاطبهم وتعينهم على أشياء وقد يعتقدون أنهم يعبدون الملائكة وإن كانوا في الحقيقة إنما يعبدون الجن؛ فإن الجن هم الذين يعينونهم ويرضون بشركهم، قال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:40-41].

والملائكة لا تعينهم على الشرك لا في المحيا ولا في الممات ولا يرضون بذلك، ولكن الشياطين قد تعينهم وتتصور لهم في صور الآدميين، فيرونهم بأعينهم ويقول أحدهم: أنا إبراهيم، أنا المسيح، أنا محمد، أنا الخضر ، أنا أبو بكر ، أنا عمر ، أنا عثمان ، أنا علي ، أنا الشيخ فلان.. وقد يقول بعضهم عن بعض: هذا هو النبي فلان، أو هذا هو الخضر ، ويكون أولئك كلهم جناً يشهد بعضهم لبعض، والجن كالإنس، فمنهم الكافر ومنهم الفاسق ومنهم العاصي وفيهم العابد الجاهل، فمنهم من يحب شيخاً فيتزيا في صورته ويقول: أنا فلان، ويكون ذلك في برية ومكان قفر، فيطعم ذلك الشخص طعاماً ويسقيه شراباً أو يدله على الطريق، أو يخبره ببعض الأمور الواقعة الغائبة، فيظن ذلك الرجل أن نفس الشيخ الميت أو الحي فعل ذلك، وقد يقول: هذا سر الشيخ وهذه رقيقته وهذه حقيقته، أو هذا ملك جاء على صورته، وإنما يكون ذلك جنياً، فإن الملائكة لا تعين على الشرك والإفك والإثم والعدوان، وقد قال الله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:56-57].

قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء كالعزير والمسيح، فبين الله تعالى أن الملائكة والأنبياء عباد الله، كما أن الذين يعبدونهم عباد الله، وبين أنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه ويتقربون إليه كما يفعل سائر عباده الصالحين ].

أنواع الاستشفاع بالملائكة والنبيين

قال رحمه الله تعالى: [ والمشركون من هؤلاء قد يقولون: إنا نستشفع بهم أي نطلب من الملائكة والأنبياء أن يشفعوا، فإذا أتينا قبر أحدهم طلبنا منه أن يشفع لنا، فإذا صورنا تمثاله -والتماثيل إما مجسدة وإما تماثيل مصورة كما يصورها النصارى في كنائسهم- قالوا: فمقصودنا بهذه التماثيل تذكر أصحابها وسيرهم، ونحن نخاطب هذه التماثيل ومقصودنا خطاب أصحابها ليشفعوا لنا إلى الله، فيقول أحدهم: يا سيدي فلان، أو يا سيدي جرجس أو بطرس أو يا ستي الحنونة مريم ، أو يا سيدي الخليل أو موسى بن عمران.. أو غير ذلك، اشفع لي إلى ربك، وقد يخاطبون الميت عند قبره: سل لي ربك، أو يخاطبون الحي وهو غائب كما يخاطبونه لو كان حاضراً حياً، وينشدون قصائد، يقول أحدهم فيها: يا سيدي فلان! أنا في حسبك أنا في جوارك، اشفع لي إلى الله، سل الله لنا أن ينصرنا على عدونا، سل الله أن يكشف عنا هذه الشدة، أشكو إليك كذا وكذا، فسل الله أن يكشف هذه الكربة.

أو يقول أحدهم: سل الله أن يغفر لي، ومنهم من يتأول قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:64]، ويقولون: إذا طلبنا منه الاستغفار بعد موته كنا بمنزلة الذين طلبوا الاستغفار من الصحابة، ويخالفون بذلك إجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر المسلمين، فإن أحداً منهم لم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته أن يشفع له ولا سأله شيئاً، ولا ذكر ذلك أحد من أئمة المسلمين في كتبهم، وإنما ذكر ذلك من ذكره من متأخري الفقهاء، وحكوا حكاية مكذوبة على مالك رضي الله عنه سيأتي ذكرها وبسط الكلام عليها إن شاء الله تعالى ].

يقصد بذلك أن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وتابعيهم وأئمة السلف في القرون الثلاثة الفاضلة، لم يكن أحد منهم يأتي إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيسأله شيئاً ولا يطلب منه شيئاً لا لجلب نفع ولا لدفع ضر، هذا بإجماع أهل التحقيق من المسلمين، مع أن الصحابة تحدث لهم من الكروب والكوارث والمصائب الخاصة والعامة ما يستدعي أن يطلبوا لو كان ذلك مشروعاً من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله، والمعنى أن الصحابة لم يكونوا يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم، فهذه قاعدة عظيمة يجب استصحابها، وهي رد قاطع بين على جميع أهل الأهواء والبدع الذين يمارسون هذه الشركيات عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يرد ولم ينقل عن أحد من الأئمة المعتبرين أنه كان يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجيز الوقوف لدعائه أو يطلب منه شيئاً لا من أمر الدين ولا من أمر الدنيا، ولا يطلب منه أن يدعو الله له.

بعضهم يقول: نعم، أنا لا أطلب من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً؛ لكن أطلب منه أن يدعو الله أن يفرج عن المسلمين مثلاً. فنقول: هذا لم يحدث من الأئمة السابقين، بل كانوا إذا حدث أمر يتوجهون إلى القبلة ويدعون الله عز وجل جماعة وأفراداً مع قربهم من القبر.

إذاً: هذا إجماع على أن السلف لم يكن عندهم شيء من هذه البدع بإطلاق، فضلاً عن أن يقروها.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فهذه الأنواع من خطاب الملائكة والأنبياء والصالحين بعد موتهم عند قبورهم وفي مغيبهم، وخطاب تماثيلهم، هو من أعظم أنواع الشرك الموجود في المشركين من غير أهل الكتاب، وفي مبتدعة أهل الكتاب والمسلمين الذين أحدثوا من الشرك والعبادات ما لم يأذن به الله تعالى، قال الله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، فإن دعاء الملائكة والأنبياء بعد موتهم وفي مغيبهم وسؤالهم والاستغاثة بهم والاستشفاع بهم في هذه الحال، ونصب تماثيلهم بمعنى طلب الشفاعة منهم هو من الدين الذي لم يشرعه الله ولا ابتعث به رسولاً ولا أنزل به كتاباً، وليس هو واجباً ولا مستحباً باتفاق المسلمين، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا أمر به إمام من أئمة المسلمين، وإن كان ذلك مما يفعله كثير من الناس ممن له عبادة وزهد، ويذكرون فيه حكايات ومنامات، فهذا كله من الشيطان، وفيهم من ينظم القصائد في دعاء الميت والاستشفاع به والاستغاثة، أو يذكر ذلك في ضمن مديح الأنبياء والصالحين، فهذا كله ليس بمشروع ولا واجب ولا مستحب باتفاق أئمة المسلمين، ومن تعبد بعبادة ليست واجبة ولا مستحبة وهو يعتقدها واجبة أو مستحبة فهو ضال مبتدع بدعة سيئة لا بدعة حسنة باتفاق أئمة الدين، فإن الله لا يعبد إلا بما هو واجب أو مستحب.

وكثير من الناس يذكرون في هذه الأنواع من الشرك منافع ومصالح، ويحتجون عليها بحجج من جهة الرأي أو الذوق، أو من جهة التقليد والمنامات ونحو ذلك.

وجواب هؤلاء من طريقين: أحدهما: الاحتجاج بالنص والإجماع.

والثاني: القياس والذوق والاعتبار ببيان ما في ذلك من الفساد، فإن فساد ذلك راجح على ما يظن فيه من المصلحة.

أما الأول: فيقال: قد علم بالاضطرار والتواتر من دين الإسلام وبإجماع سلف الأمة وأئمتها أن ذلك ليس بواجب ولا مستحب ].

على أي حال أجاب الشيخ عن شبهتهم من هذين الطريقين: أحدهما: الاحتجاج بالنص الوارد في النهي عن هذه الشركيات والبدع نصاً صريحاً قاطعاً لا لبس فيه، وأيضاً الإجماع، فالإجماع أيضاً يرد دعواهم بأن النص قد يفهم له مفاهيم أخرى؛ لأنهم قد يتأولون النصوص، فيأتي الإجماع فيحكم دلالة النصوص، فقد أجمع الصحابة والتابعون وسلف الأمة وأئمة الدين المقتدى بهم إلى يومنا هذا على أن كل هذه الوسائل التي لم يرد بها الشرع باطلة، فهي إما بدع مغلظة، أو شركيات.

والثاني: القياس، أي: قياس الأمور الشرعية بعضها على بعض.

والذوق، أي: الفطرة، فإن الفطرة تنفر من هذه الأمور وتستقبحها وتستنكرها.

والاعتبار: وهو قريب من معنى الاستقراء، فإنه باستقراء الدلالات والوقائع، وشهادة حال الأمة قديماً وحديثاً نجد أن هذه الأمور كلها تتفق على أن هذه الوسائل التي يقوم بها أهل البدع لا أصل لها في الدين، وأنها من المحدثات، وأنها توقع في البدعة والشرك.

الأسئلة

الحكم على الجماعات والأحزاب

السؤال: هذا سؤال يتكرر عن بعض الجماعات، وأحياناً يكون عن جماعات بأسمائها؟

الجواب: قد لا يكون لمثل هذا السؤال موجب لمثل هذا الدرس، لكن أحب أن أجيب بجواب مجمل يشمل جميع الجماعات القائمة في الساحة:

أولاً: نحن نعلم أن السنة والجماعة ليست شعاراً ولا حزباً ولا مناهج ولا تنسب إلى أشخاص ولا تنسب إلى فئات، السنة والجماعة وصف لكل من كان على الحق واقتدى بأئمة الدين الأحياء والأموات، وليس للسنة والجماعة شعار ولا وصف إلا الأوصاف الشرعية؛ فمن رفع شعاراً غير السنة والجماعة وشعار الإسلام العام زعماً أنه هو شعار السنة والجماعة فليس معه دليل.

ويتفرع عن هذا القاعدة الأخرى، وهي أن أي انتماء لأي اسم أو وصف غير الإسلام في عمومه أو غير السلف والسنة على وجه الخصوص فإنما هو بدعة، أي: أن الانتماء لهذه الأوصاف والأسماء والأشكال والجماعات والرايات والأحزاب والشعارات فهو بدعة بحد ذاته، حتى وإن كان على الحق، لأن مجرد الانتساب لغير الإسلام والسنة والجماعة والسلف بدعة؛ لأنها أسماء شرعية وردت فيها النصوص والآثار وأجمع عليها سلف الأمة.

يرد إشكال وهو ما يعمله كثير من المسلمين الآن من مقتضى أحوال العصر ووسائله ومن الأعمال المؤسسية، كأن يعمل الإنسان في مؤسسة حكومية أو مؤسسة خيرية أو مؤسسة خاصة؛ فهذه مسألة لا تدخل في الشعارات إلا إذا تعصب لها وعادى ووالى، واعتبر مناهجها مناهج متميزة عن بقية السنة والجماعة، فإذا وجد التميز وجد الابتداع، وكذلك إذا وجد الولاء والبراء حتى وإن كان لمؤسسة تجارية، أما مجرد العمل المؤسسي فليس بدعة، كأن يعمل مثلاً في مؤسسة الحرمين أو في الرابطة أو في الندوة أو في إحدى المؤسسات التطوعية الخالصة أو الرسمية، أو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو متعاون مع هيئة بطرق مشروعة أو نحو ذلك، فهذا مادام في حدود أعمال الخير المباحة المشروعة فليس من الانتماءات المبتدعة، لكن إذا كان الانتماء لجماعة أو حزب أو منهج أو شعار، أو اتجاه أو نحو ذلك، فالأصل فيه الابتداع، فإن وافق الحق فيكون أقرب إلى السنة، وإلا فيزداد ابتداعاً مع ابتداع.

أرجو أن تكون القاعدة واضحة، بصرف النظر عما سأل عنه السائل من تشخيص بعض الجماعات.

معنى قوله: (يوم لا ظل إلا ظله)

السؤال: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (يوم لا ظل إلا ظله

الجواب: يسأل عن الظل، هذه من الأخبار عن الله عز وجل، والأخبار يجب الإيمان بها كما جاءت، وأن الظل يثبت لله عز وجل حقيقة على ما يليق بجلال الله، لكن هل يكون صفة أو لا يكون، هذه مسألة لا يلزم أن تكون صفة إنما هي خبر عن الله سبحانه.

مصادر العلم غير الصحيحة

السؤال: ذكرت مصادر العلم غير الصحيحة، فما هي مصادر العلم غير الصحيحة؟

الجواب: كأن السائل يشير إلى قولي بأن بعض طلاب العلم يأخذ العلم عن طريق القراءة الشخصية وعن الشريط، أقول: الاكتفاء بذلك خطر، أما أن تكون هذه من وسائل تحصيل العلم فنعم، فهي من الوسائل التي هيأها الله للأمة، وهي وسائل مباحة، لكن يجب أن يكون أصل طلب العلم على شيخ أو على طالب علم متمكن هذا هو الأصل، بمعنى: لا يستغني عن أن يتلقى العلم عن أهله، ومع ذلك إذا توفرت له مصادر أخرى رافدة تقوي علمه وتنشطه فهذا لا حرج فيه، فالسلف كانوا يأخذون عن العلماء ويقرءون الكتب، ولم يكن في ذلك حرج، لكن الاقتصار على الوسائل دون أخذ العلم عن مصادره الصحيحة أو مصدره الأصلي وهم العلماء، هذا في الغالب أنه يوجد في شخصية طالب العلم اضطراب وخلل.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [3] للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

https://audio.islamweb.net