إسلام ويب

لقد جاءت الأدلة النقلية من كتاب وسنة لإثبات توحيد الربوبية، وجاءت كذلك الأدلة العقلية مصدقة بما جاء به الكتاب والسنة، ودالة على وجود الله عز وجل وتوحيده بالفطرة السليمة وميلها إلى التصديق بوجود الخالق، واستعدادها للإقرار بتوحيد الألوهية تبعاً لتوحيد الربوبية، إذا سلمت مما يحجبها عن الحق، ولم يحصل لها المفسد الخارجي الذي ينحرف بها عن طريقتها السليمة.

الأدلة العقلية على صدق ما أخبر به رسول الله من توحيد الربوبية

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذا الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم هو الذي تشهد الأدلة العقلية بصدقه، منها: أن يقال: لا ريب أن الإنسان قد يحصل له من الاعتقادات والإرادات ما يكون حقاً..].

الميل بالفطرة إلى التصديق بوجود الخالق المقتضي للانتفاع

قوله: (وهذا الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم هو الذي تشهد له الأدلة العقلية) يقصد به الإخبار عما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من توحيد الله وطاعته وصدق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.

ويبدو لي أن العنوان الذي وضعه المحقق هنا ليس بدقيق، حيث قال: (الأدلة العقلية على صدق ما أخبر به الرسول) صلى الله عليه وسلم؛ إذ ليس مراده الأدلة على صدق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما أراد الأدلة العقلية على توحيد الربوبية وأنه مستلزم لتوحيد الإلهية الذي هو ضرورة طاعة الله واتباع شرعه، بناءً على دلالة العقل السليم والفطرة السليمة على وجود الله وكماله وقدرته، كما سيأتي تفصيله.

قال رحمه الله تعالى: [وتارة ما يكون باطلاً، وهو حساس متحرك بالإرادة فلا بد له من أحدهما، ولا بد له من مرجح لأحدهما].

هنا سيقرر الشارح ابن أبي العز أدلة وجود الله تعالى وتوحيده -أي: توحيد ربوبيته وإلهيته- من الفطرة السليمة والعقل السليم من وجوه متعددة كلها ترجع إلى أصل واحد في الاستدلال، وهو أن الفطرة السليمة والعقل السليم يدلان قطعاً على ضرورة توحيد الله تعالى في الربوبية والإلهية دون تفريق بين هذه الأمور.

قال رحمه الله تعالى: [ونعلم أنه إذا عرض على كل أحد أن يصدق وينتفع، وأن يكذب ويتضرر؛ مال بفطرته إلى أن يصدق وينتفع، وحينئذ فالاعتراف بوجود الصانع والإيمان به هو الحق أو نقيضه، والثاني فاسد قطعاً، فتعين الأول].

بناءً على القول بأن فطرة أي إنسان تميل إلى الصدق والانتفاع بالصدق وإلى ما ينفع إطلاقاً، وتنفر من الكذب وتتضرر به؛ فإن الإنسان بفطرته إما أن يصدق ما ينفعه -وهو الإقرار بوجود الصانع- أو لا يصدق، وإذا كان الإنسان قد فطر على التصديق والانتفاع، والتصديق والانتفاع هو في الإقرار بوجود الله تعالى وبعبادته وإلهيته؛ فحتماً لا بد من أن يكون هذا هو الافتراض اللازم؛ لأن الثاني قطعاً فاسد، أي: الميل إلى الكذب وإلى التضرر، فإذا كان كذلك تحتم الأول، وهو الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالى النافع الضار.

قال رحمه الله تعالى: [فوجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به، وبعد ذلك: إما أن تكون محبته أنفع للعبد أو لا، والثاني فاسد قطعاً، فوجب أن يكون في فطرته محبة ما ينفعه].

الفطرة على جلب المنافع ودفع المضار حال قيام السبب عند حصول الشرط وانتفاء المانع

قال رحمه الله تعالى: [ومنها: أنه مفطور على جلب المنافع ودفع المضار بحسبه، وحينئذ وإن لم تكن فطرة كل واحد مستقلة بتحصيل ذلك، بل يحتاج إلى سبب معين للفطرة كالتعليم ونحوه، فإذا وجد الشرط وانتفى المانع استجابت لما فيها من المقتضي لذلك].

الشرط هنا يعني: الشرط الذي يتوافر لإثارة الفطرة الكامنة التي هي فطرة التوحيد والفطرة على الخير، وتوافر الشرط يكون بالتعليم السليم وبالهدى وبما أنزله الله من الوحي ومن الخير على ألسنة الأنبياء، هذا هو الشرط.

والمانع: هو ما يحجب فطرة الإنسان عن الخير من الهوى، والشهوات، والشبهات، والتعليم المنحرف وهو أخطرها، فأكثر هذه الأسباب إضلالاً للبشر هو التعليم المنحرف، كما جاء في الحديث السابق عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الإنسان: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).

وقوله: (بحسبه) علق عليه المحقق فقال: إنها في جميع النسخ (بحسبه)، وكذلك في (درء تعارض العقل والنقل)، وفي بعض النسخ (بحسه)، وكله جائز، و(بحسه) كأنها أقرب، لكن نظراً لأن النسخ توافرت على (بحسبه) فهي جائزة، أي: تجوز في السياق، يعني: أن الإنسان مفطور على جلب المنافع ودفع المضار بحسبه، أي: بحسب مداركه، فبعضهم يدرك المنافع إدراكاً بيناً إذا كان إدراكه جيداً، وبعض الناس يدرك المنافع إدراكاً ضعيفاً بحسب إدراكه.

القوة الكامنة في النفس لقبول الحق إذا لم يحصل ما يفسد الفطرة

قال رحمه الله تعالى: [ومنها: أن يقال: من المعلوم أن كل نفس قابلة للعلم وإرادة الحق، ومجرد التعليم والتحضيض لا يوجب العلم والإرادة لولا أن في النفس قوة تقبل ذلك، وإلا فلو علّم الجماد والبهائم وحضضا لم يقبلا. ومعلوم أن حصول إقرارها بالصانع ممكن من غير سبب منفصل من خارج، وتكون الذات كافية في ذلك، فإذا كان المقتضي قائماً في النفس وقدر عدم المعارض؛ فالمقتضي السالم عن المعارض يوجب مقتضاه، فعلم أن الفطرة السليمة إذا لم يحصل لها ما يفسدها؛ كانت مقرة بالصانع عابدة له].

المقتضي السالم: هو الفطرة السليمة، والسالم عن المعارض يعني: عما يحجب هذه الفطرة عن الاستدلال على الخير، فالفطرة الأصل فيها أن تقتضي الدلالة على الخير والدلالة على الهدى والدلالة على الصلاح والإصلاح، هذا هو المقتضي للفطرة، فإذا سلمت هذه الفطرة من المعارض فإنها تبقى دالة على وجود الله تعالى وعلى طاعته وعبادته، ليس على الوجود فقط؛ لأن الوجود قل أن تنزع إلى إنكاره، لكن قد تنكر ما بعد ذلك من عبادة الله تعالى ومن طاعته واتباع أوامره، والمعارض: هو التربية السيئة أو الهوى أو الشهوة أو الشبهة أو وساوس الشيطان أو نحو ذلك، هذه كلها قد تحجب الفطرة عن الحق، فإذا سلمت الفطرة وبقيت على نقاوتها بقيت مستعدة للإقرار بتوحيد الإلهية تبعاً لتوحيد الربوبية.

اقتضاء الفطرة للصلاح بغير مؤثر خارجي

قال رحمه الله تعالى: [ومنها: أن يقال: إنه إذا لم يحصل المفسد الخارج؛ ولا المصلح الخارج، كانت الفطرة مقتضية للصلاح؛ لأن المقتضي فيها للعلم والإرادة قائم والمانع منتف].

الكلام على المفسد الخارج والمصلح الخارج ينطبق على ما سبق، ويقصد بذلك: أن الأصل في الفطرة الصلاح، والمفسد آت من الخارج، وكذلك المصلح الخارج الذي يضيف إلى الفطرة شيئاً من معرفة الهدى، بمعنى: أن الفطرة عبارة عن قوة كامنة مستعدة للحق، فإن جاءها مفسد خارج من تربية أو شهوة أو شبهة أو ضلال أو تقليد أو غير ذلك أو شبهات الشيطان ووساوسه؛ فإنها قد تنحرف، وإذا جاءها مصلح من الخارج -وهو الوحي الذي أنزله الله على رسله وما يتفرع عن هذا الوحي من أمور أخرى دالة على الخير- فإن الفطرة تستقيم.

قال رحمه الله تعالى: [ ويحكى عن أبي حنيفة رحمه الله: أن قوماً من أهل الكلام أرادوا البحث معه في تقرير توحيد الربوبية، فقال لهم: أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها، وتعود بنفسها، فترسي بنفسها، وتتفرغ وترجع، كل ذلك من غير أن يدبرها أحد، فقالوا: هذا محال لا يمكن أبداً! فقال لهم: إذا كان هذا محالاً في سفينة؛ فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟! وتحكى هذه الحكاية عن غير أبي حنيفة .

فلو أقر رجل بتوحيد الربوبية الذي يقر به هؤلاء النظار، ويفنى فيه كثير من أهل التصوف، ويجعلونه غاية السالكين، كما ذكره صاحب منازل السائرين وغيره، وهو مع ذلك إن لم يعبد الله وحده ويتبرأ من عبادة ما سواه، كان مشركاً من جنس أمثاله من المشركين].

تقرير القرآن لتوحيد الربوبية وجعله ذلك مستلزماً لتوحيد الإلهية

قال رحمه الله تعالى: [والقرآن مملوء من تقرير هذا التوحيد وبيانه وضرب الأمثال له، ومن ذلك أنه يقرر توحيد الربوبية، ويبين أنه لا خالق إلا الله، وأن ذلك مستلزم أن لا يعبد إلا الله، فيجعل الأول دليلاً على الثاني؛ إذ كانوا يسلمون الأول، وينازعون في الثاني، فيبين لهم سبحانه أنكم إذا كنتم تعلمون أنه لا خالق إلا الله، وأنه هو الذي يأتي العباد بما ينفعهم، ويدفع عنهم ما يضرهم، لا شريك له في ذلك؛ فلم تعبدون غيره وتجعلون معه آلهة أخرى؟! كقوله تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [النمل:59-60]، يقول الله تعالى في آخر كل آية: أإله مع الله ، أي: أإله مع الله فعل هذا؟! وهذا استفهام إنكار يتضمن نفي ذلك، وهم كانوا مقرين بأنه لم يفعل ذلك غير الله، فاحتج عليهم بذلك، وليس المعنى استفهام: هل مع الله إله؟ كما ظنه بعضهم؛ لأن هذا المعنى لا يناسب سياق الكلام].

يقصد بهذا الكلام أن الاستفهام هنا ليس لإنكار وجود إله آخر بمعنى: رب وخالق، إنما كان الاستنكار استنكار أن يكون هناك معبود مع الله: أإله مع الله؟ أي: أمعبود مع الله؟ ما دمتم تقولون بأن الله هو الخالق وحده. وهذا هو قول المشركين حينما قرر القرآن قولهم بأن الله هو خالق السموات والأرض وهو الذي خلقهم ورزقهم، فقال لهم: أإله مع الله ، إذا كنتم تقولون بأن الله هو الرب وهو الخالق وهو الرازق وهو المدبر، أتعبدون معه غيره؟! هذا هو وجه الاستفهام، وليس وجه الاستفهام: أرب مع الله؟ لأنه لا يمكن، فهم قالوا: كل شيء لله، وكل شيء من أفعال الله تعالى قالوا: الله هو الذي فعله، فبقي ما بعد ذلك، ولا يمكن أن يرد الاستفهام لأمر نفوه من قبل؛ لأنهم هم وكل الأمم التي أشركت وضلت قرر القرآن أنهم لم يقولوا بأن هناك خالقاً مع الله، ولا بأن مع الله رباً، ولا رازقاً، بل قالوا: هو رب السماوات والأرض، وهو الذي خلق كل شيء، وهو الذي خلقهم، فلا يمكن أن يرد السؤال مرة أخرى: أرب مع الله؟ لأنهم نفوا الربوبية لغير الله، فالمراد بالاستفهام الإنكاري: إذا كان الأمر كذلك أمعبود مع الله؟! وهذا يفهم من كلمة (إله) لغة؛ لأن الإله هو الذي تألهه القلوب وتقدسه وتعبده وحده، هذا معنى الإله، فقوله تعالى: أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ [النمل:60] ليس معناه: أرب مع الله؟ أخالق مع الله؟ إنما معناه: أتعبدون غير الله؟! أتتألهون لغير الله؟! هذا هو معنى السؤال، وكثير من المتكلمين إلى يومنا هذا يقررون تفسير هذه الآيات على المعنى الذي يقول به الفلاسفة، وهو أن معنى (أإله مع الله) أي: أرب مع الله؟ أي توحيد الربوبية، وهذا خطأ فادح وبعيد عن معنى ألفاظ كلام الله تعالى.

قال رحمه الله تعالى: [وليس المعنى استفهام: هل مع الله إله؟ كما ظنه بعضهم؛ لأن هذا المعنى لا يناسب سياق الكلام، والقوم كانوا يجعلون مع الله آلهة أخرى].

أي: يجعلون مع الله معبودين آخرين.

قال رحمه الله تعالى: [ كما قال تعالى: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ [الأنعام:19]، وكانوا يقولون: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، لكنهم ما كانوا يقولون: إن معه إلهاً جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً، بل هم مقرون بأن الله وحده فعل هذا، وهكذا سائر الآيات.

وكذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، وكذلك قوله في سورة الأنعام: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ [الأنعام:46]، وأمثال ذلك].

الرد القرآني على أهل الكلام في اعتبار توحيد الربوبية غاية

قال رحمه الله تعالى: [وإذا كان توحيد الربوبية الذي يجعله هؤلاء النظار ومن وافقهم من الصوفية هو الغاية في التوحيد].

يقصد بالنظار: الفلاسفة والمتكلمين الذين أخذوا بالقواعد العقلية الفلسفية في تقرير التوحيد، وكثيراً ما يطلق عليهم النظار؛ لأنهم ينظرون لهذه الأمور العقلية ولأمور العقيدة بمجرد هذه القواعد العقلانية البحتة.

قال رحمه الله تعالى: [ وإذا كان توحيد الربوبية الذي يجعله هؤلاء النظار ومن وافقهم من الصوفية هو الغاية في التوحيد داخلاً في التوحيد الذي جاءت به الرسل عليهم السلام، ونزلت به الكتب؛ فليعلم أن دلائله متعددة، كدلائل إثبات الصانع ودلائل صدق الرسول؛ فإن العلم كلما كان الناس إليه أحوج كانت أدلته أظهر رحمة من الله بخلقه.

والقرآن قد ضرب الله للناس فيه من كل مثل، وهي المقاييس العقلية المفيدة للمطالب الدينية، لكن القرآن يبين الحق في الحكم والدليل، فماذا بعد الحق إلا الضلال، وما كان من المقدمات معلومة ضرورية متفقاً عليها استدل بها، ولم يحتج إلى الاستدلال عليها.

والطريقة الفصيحة في البيان أن تحذف، وهي طريقة القرآن، بخلاف ما يدعيه الجهال الذين يظنون أن القرآن ليس فيه طريقة برهانية، بخلاف ما قد يشتبه ويقع فيه نزاع، فإنه يبينه ويدل عليه].

يقصد بقوله: [وما كان من المقدمات معلومة ضرورية متفقاً عليها] أن هناك من البدهيات العقلية والفطرية ما لا يحتاج إلى استدلال، إنما تكون هي بنفسها أدلة، فمثلاً:

من البدهيات أن الخلق لابد له من خالق، ومن البدهيات أن هذا الخالق سبحانه وتعالى هو المالك المتصرف وهو الرازق وهو الذي يحيي ويميت، فهذه البدهيات هي التي يستدل بها على الأمور الأخرى من مستلزماتها، كعبادة الله وحده وطاعته وطاعة رسله واتباع شرعه.

فيستدل بكون الله سبحانه وتعالى هو خالق السموات والأرض وكونه هو الذي يحيي ويميت، وكونه هو الذي خلق البشر، يستدل بهذه الأمور على أنه هو وحده المعبود.

إذاً: فالبدهيات الضرورية لا تحتاج إلى أدلة، إنما هي تكون أدلة على غيرها، وهذه هي قاعدة القرآن، لذلك نجد أن القرآن ليس فيه تكلف في الاستدلال على وجود الله تعالى، إنما نجد أكثر ما فيه من البراهين الاستدلال على ضرورة عبادة الله وحده، وأن الله هو وحده المستحق للعبادة، وقرر هذه الأدلة على أنها بدهية عند البشر حينما سألهم: من خلق السموات والأرض، ومن خلقهم؟ من يرزقهم؟ فقرر أنهم يقولون: إنه الله، ثم بعد ذلك استعمل هذه الأمور دليلاً على غيرها وعلى مستلزماتها، وهي عبادة الله وحده، وعدم الشرك، وأنه ما دام الله سبحانه وتعالى هو الخالق الرازق المدبر المحيي والمميت، وهو خالق السموات والأرض؛ فإذاً: لا يجوز أن يعبد غيره، ومن عبد غيره فقد أشرك.

إبطال القرآن اعتقاد بعض المشركين وجود خالق آخر خلق بعض العالم

إبطال الشرك في الربوبية بقوله تعالى: (وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض)

قال رحمه الله تعالى: [ولما كان الشرك في الربوبية معلوم الامتناع عند الناس كلهم، باعتبار إثبات خالقين متماثلين في الصفات والأفعال، وإنما ذهب بعض المشركين إلى أن ثم خالقاً خلق بعض العالم، كما يقوله الثنوية في الظلمة، وكما يقوله القدرية في أفعال الحيوان، وكما يقوله الفلاسفة الدهرية في حركة الأفلاك، أو حركات النفوس، أو الأجسام الطبيعية، فإن هؤلاء يثبتون أموراً محدثة بدون إحداث الله إياها، فهم مشركون في بعض الربوبية، وكثير من مشركي العرب وغيرهم قد يظن في آلهته شيئاً من نفع أو ضر بدون أن يخلق الله ذلك، فلما كان هذا الشرك في الربوبية موجوداً في الناس بين القرآن بطلانه، كما في قوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون:91]، فتأمل هذا البرهان الباهر بهذا اللفظ الوجيز الظاهر، فإن الإله الحق لابد أن يكون خالقاً فاعلاً، يوصل إلى عابده النفع ويدفع عنه الضر، فلو كان معه سبحانه إله آخر يشركه في ملكه لكان له خلق وفعل، وحينئذ فلا يرضى تلك الشركة، بل إن قدر على قهر ذلك الشريك وتفرده بالملك والإلهية دونه فعل، وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه وذهب بذلك الخلق، كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بممالكه إذا لم يقدر المنفرد منهم على قهر الآخر والعلو عليه، فلابد من أحد ثلاثة أمور:

إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه، وإما أن يعلو بعضهم على بعض، وإما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء ولا يتصرفون فيه، بل يكون وحده هو الإله، وهم العبيد المربوبون المقهورون من كل وجه.

وانتظام أمر العالم كله وإحكام أمره من أدل دليل على أن مدبره إله واحد، وملك واحد، ورب واحد، لا إله للخلق غيره، ولا رب لهم سواه.

كما قد دل دليل التمانع على أن خالق العالم واحد لا رب غيره، فلا إله سواه، فذاك تمانع في الفعل والإيجاد، وهذا تمانع في العبادة والإلهية، فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان، كذلك يستحيل أن يكون لهم إلهان معبودان، فالعلم بأن وجود العالم عن صانعين متماثلين ممتنع لذاته مستقر في الفطر معلوم بصريح العقل بطلانه، فكذا تبطل إلهية اثنين، فالآية الكريمة موافقة لما ثبت واستقر في الفطر من توحيد الربوبية، دالة مثبتة مستلزمة لتوحيد الإلهية].

إبطال الشرك في الربوبية بقوله: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)

قال رحمه الله تعالى: [وقريب من معنى هذه الآية قوله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]، وقد ظن طوائف أن هذا دليل التمانع الذي تقدم ذكره، وهو أنه لو كان للعالم صانعان إلى آخره، وغفلوا عن مضمون الآية، فإنه سبحانه أخبر أنه لو كان فيهما آلهة غيره، ولم يقل: أرباب].

أي: لو كان فيهما معبود، هذا معنى تقرير القول، فإنه سبحانه أخبر أنه لو كان فيهما آلهة، يعني: من يعبد غير الله أو يستحق العبادة غير الله، ولم يقل: أرباب؛ لأن مسألة الربوبية بدهية عند سائر العقلاء حتى الذين لا يقرون بالنبوات قد يقرون بضرورة وجود الرب الخالق، لكن المسألة التي هي محل نزاع، وهي التي خالف فيها البشر هي مسألة العبادة.

فإذاً: معنى الآية: لو كان فيهما معبود يستحق العبادة غير الله لكان الأمر كذلك.

قال رحمه الله تعالى: [ وأيضاً: فإن هذا إنما هو بعد وجودهما، وأنه لو كان فيهما وهما موجودتان آلهة سواه لفسدتا، وأيضاً: فإنه قال: لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]، وهذا فساد بعد الوجود، ولم يقل: لم يوجدا. ودلت الآية على أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة، بل لا يكون الإله إلا واحداً، وعلى أنه لا يجوز أن يكون هذا الإله الواحد إلا الله سبحانه وتعالى، وأن فساد السموات والأرض يلزم من كون الآلهة فيهما متعددة، ومن كون الإله الواحد غير الله، وأنه لا صلاح لهما إلا بأن يكون الإله فيهما هو الله وحده لا غيره، فلو كان للعالم إلهان معبودان لفسد نظامه كله، فإن قيامه إنما هو بالعدل، وبه قامت السموات والأرض.

وأظلم الظلم على الإطلاق الشرك، وأعدل العدل التوحيد، وتوحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس؛ فمن لا يقدر على أن يخلق يكون عاجزاً، والعاجز لا يصلح أن يكون إلهاً، قال تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف:191]، وقال تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل:17]].

إبطال الشرك في الربوبية بقوله تعالى: (قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً)

قال رحمه الله تعالى: [وكذا قوله تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الإسراء:42]. وفيها للمتأخرين قولان:

أحدهما: لاتخذوا سبيلاً إلى مغالبته، والثاني -وهو الصحيح المنقول عن السلف كـقتادة وغيره- وهو الذي ذكره ابن جرير لم يذكر غيره: لاتخذوا سبيلاً بالتقرب إليه، كقوله تعالى: إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا [المزمل:19]، وذلك أنه قال: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ [الإسراء:42]، وهم لم يقولوا: إن العالم له صانعان، بل جعلوا معه آلهة اتخذوهم شفعاء، وقالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، بخلاف الآية الأولى].

القول بأن معنى: (لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً): لاتخذوا سبيلاً إلى مغالبته، هذا القول -في الحقيقة- بعيد كل البعد؛ لأنا نجد أن هذه الآية تقرر مسألة العبادة، قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الإسراء:42]، والإله هو المعبود المألوه الذي تألهه القلوب وتعبده وتتجه إليه.

إذاً: لا يصح -بل يبعد كل البعد- أن يكون المقصود: سبيلاً إلى المغالبة؛ لأن ذا العرش هو ذو العظمة سبحانه، والقلوب إذا اتجهت إلى العظيم اتجهت إليه محتاجة لا مغالبة، ويبعد أن يقصد القرآن هذا؛ لأن البشر مهما بلغوا لا يمكن أن يغالبوا الله سبحانه وتعالى أو يغالبوا ذي العرش عقلاً ولا شرعاً، حتى وإن وصل الأمر ببعض الملاحدة إلى المغالبة كما فعل فرعون، فإن هذه المغالبة لم تكن حقيقة، إنما كانت من باب المراء والجدل للبشر ومن باب مغالبة الأنبياء لا مغالبة الله سبحانه.

فمسألة المغالبة التي هي محاولة التغلب بعيدة كل البعد، إنما الصحيح: لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الإسراء:42] إلى طاعته والتقرب إليه؛ لأنه ما دام هو الأولى والأجدر، وما دام هو الأعظم وهو الرب وهو الخالق سبحانه؛ فإنه هو الذي يتخذون إليه سبيلاً ليتقربوا إليه ويلجئوا إليه سبحانه، هذا هو المعنى الصحيح، وهو الذي قال به السلف.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح العقيدة الطحاوية [8] للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

https://audio.islamweb.net