إسلام ويب

الفرق بين النبي والرسول ناشئ عن القول بأن النبي غير الرسول، وإن كان الرسل يصطفون من الأنبياء، وكل رسول نبي ولا عكس، وهذا هو قول جمهور السلف، ولكنهم اختلفوا في سبب التفريق، فمنهم من أرجع ذلك إلى وجود شريعة جديدة يبعث بها الرسول، بينما النبي يكون متبعاً لمن قبله، ومنهم من جعل الفرق في الكتاب، فمن نزل عليه كتاب فهو رسول، ومن لم ينزل عليه كتاب فهو نبي، وغير ذلك من التفريقات.

الفرق بين النبي والرسول

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد ذكروا فروقاً بين النبي والرسول، وأحسنها: أن من نبأه الله بخبر السماء إن أمره أن يبلغ غيره فهو نبي رسول، وإن لم يأمره أن يبلغ غيره فهو نبي وليس برسول].

التفريق بين النبي والرسول ناشئ عن القول بأن النبي غير الرسول، وهذا هو القول الصحيح الذي عليه جمهور السلف، فالأنبياء غير الرسل وإن كان الرسل يصطفون من الأنبياء، وكل رسول نبي، لكن ليس كل نبي رسولاً، فالقول بالتفريق بين النبي والرسول هو الراجح، وهو الذي تقتضيه ظواهر الآيات والنصوص، بل ورد من الأحاديث ما يدل على التفريق، وإن كانت أحاديث قد لا تصل إلى درجة الصحة، لكن ما ورد من ظواهر النصوص يوصلنا إلى الجزم بأن هناك فرقاً بين النبي والرسول، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو ذر وأبو أمامة أيضاً، وأخرجه أحمد في المسند والحاكم وغيرهما -وهو حسن، وصححه كثير من أهل العلم- (أن أبا ذر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: كم عدد النبيين؟ فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً. ثم سأله: كم عدد المرسلين؟ فقال: ثلاثمائة وبضعة عشر).

إذاً: فالتفريق يدل قطعاً على الفرق؛ لأنه حينما سأل أبو ذر رضي الله عنه عن عدد النبيين أجابه النبي صلى الله عليه وسلم بعدد معين، ثم لما سأله عن عدد المرسلين أجابه بذكر عدد معين، فتنويع السؤال دليل على التفريق، ثم لما أجابه عن عدد المرسلين دل ذلك قطعاً على أن الرسل غير النبيين، فالمرسلون يصطفون من النبيين، لكن ليس كل نبي يصل إلى الرسالة.

فأقول: إذا صح الحديث فهو دليل قاطع، لكن لم يصل إلى درجة الصحة عند بعض أهل العلم، وإن كان روي بطرق حسنة، وقد اختلف الناس في التفريق بين النبي والرسول على أقوال كثيرة:

فمنهم من نظر إلى الشرائع فقال: الفرق بين النبي والرسول: أن الرسول يأتيه شرع، والنبي لا يأتيه شرع، وإنما يكون متبعاً لشرع من قبله.

ومنهم من قال: الفرق هو الكتاب، فمن نزل عليه كتاب فهو رسول، ومن لم ينزل عليه كتاب فهو نبي.

ومنهم من نظر إلى مسألة المعجزة فقال: من حصلت له معجزة كبرى فهو رسول، ومن لم تحصل له معجزة كبرى فهو نبي.

ومنهم من نظر إلى فعل الأنبياء، فمن دعا إلى الدين بالقوة واستعمل القتال والسيف ضد خصومه فهو رسول، ومن لم يفعل ذلك فهو نبي.

ومنهم من نظر إلى كيفية الوحي فقال: من نزل عليه جبريل بالوحي فهو رسول، ومن لم ينزل إليه جبريل فليس برسول، بل هو نبي، كمن يلهم إلهاماً أو يوحى إليه بأنواع الوحي الأخرى.

ومنهم من نظر إلى نوع الوحي فقال: من أوحي إليه يقظة ومناماً فهو رسول، ومن أوحي إليه مناماً فقط فهو نبي.

وكل هذه الأقوال لا تصمد أمام النظر والاستقراء لأحوال الأنبياء والمرسلين ولمن سماهم الله أنبياء وسماهم الله مرسلين.

وهناك تفريق مشهور عند أهل العلم، وهو أن النبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، وهذا أبعد من الفروق الأخرى، لكن هناك تفريق أحسن من هذه التفريقات كلها، وهو أن يقال: إن النبي من أوحي إليه بشرع تابع لشرع من سبقه من المرسلين وأمر بتبليغه؛ لأنه لا يتأتى أن يوحى إليه بشرع ولا يؤمر بالتبليغ، بل الله سبحانه وتعالى كلف بالتبليغ أتباع الرسل، وأتباع الأنبياء من المصلحين والدعاة، فكيف لا يؤمر بالتبليغ من هو أعلم منهم؟!

إذاً: فيقال: إن النبي هو من أوحي إليه بشرع تابع لشرع من سبقه من الرسل لأقرب رسول إليه وأمر بالتبليغ، والرسول: هو من أوحي إليه بشرع جديد وأمر بتبليغه، سواء أكان هذا الشرع الجديد شرعاً كاملاً كما أوحي إلى موسى، أم شرعاً مكملاً كما أوحي إلى عيسى عليه السلام، فهذا أسلم تعريف، وهو الذي استقر عليه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقال بأن النبي: هو من أوحي إليه بشرع تابع لشرع من سبقه وأمر بتبليغه، والرسول: هو من أوحي إليه بشرع جديد وأمر بتبليغه.

قال رحمه الله تعالى: [فالرسول أخص من النبي، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً، ولكن الرسالة أعم من جهة نفسها، فالنبوة جزء من الرسالة؛ إذ الرسالة تتناول النبوة وغيرها، بخلاف الرسل فإنهم لا يتناولون الأنبياء وغيرهم، بل الأمر بالعكس، فالرسالة أعم من جهة نفسها، وأخص من جهة أهلها].

يقصد بذلك: أن الرسالة من حيث قدرها أخص؛ لأنها أعظم قدراً، وكذلك من حيث عدد المرسلين تعتبر الرسالة أخص؛ لأن عدد المرسلين أقل، لكنها أعم؛ لأنها أرفع درجة، فالرسالة أعم من النبوة من هذا الجانب، فهي تشمل النبوة وزيادة، والعكس بالنسبة للنبوة، فالنبوة أعم من جهة أهلها، أي: أن عدد النبيين أكثر، وأخص من جهة نفسها؛ فإنها جزء من الرسالة، فالنبوة مرحلة سابقة للرسالة، فهي أخص، يعني: أقل رتبة وأدنى درجة من الرسالة؛ فلذلك كل رسول نبي؛ لأن كل رسول ينبأ أولاً، ثم يصطفي الله من النبيين رسلاً، فيكون كل رسول نبياً، ولكن ليس كل نبي رسولاً؛ لأن من الأنبياء من لم يصل إلى درجة الرسالة، فلذلك جاء في مسألة ختم النبوة الإشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]، فذكر ختم النبوة فحسب، وما قال: وخاتم النبيين والمرسلين؛ لأنه إذا ختم به النبيون فمن باب أولى أن يختم به المرسلون؛ لأن النبوة مرحلة سابقة للرسالة، فإذا أغلق باب النبوة ختماً فمن باب أولى أن يغلق باب الرسالة؛ لأنه لا رسالة إلا بعد النبوة، فهذا يعتبر من الإيجاز والإعجاز في كلام الله تعالى.

عظيم نعمة الله على عباده بإرسال الرسل

قال رحمه الله تعالى: [وإرسال الرسل من أعظم نعم الله على خلقه، وخصوصاً محمداً صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164]، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]].

يشير بهذا إلى أن إرسال الرسل من نعم الله تعالى؛ لأن البشر لو لم يأتهم رسل لما اهتدوا إلى ما يريده الله سبحانه وتعالى وما يرضاه، وهذا معلوم قطعاً بالضرورة؛ فإن الشرائع تشتمل على ما لا يحيط به البشر من الحكم والمقاصد الشرعية والغايات التي لا تتعلق بجيل دون جيل، ولا تتعلق بشخص دون شخص، فلو فرضنا أن إنساناً أدرك مصالح نفسه فلن يدرك مصالح الآخرين، ولو فرضنا أن جيلاً أدرك مصالحه فلن يدرك مصالح من سبقه ومن يلحقه، إذاً: فالبشر بحاجة إلى شرع من الله تعالى، هذا أمر.

والأمر الآخر: أن الأديان تنبني بالدرجة الأولى على العقائد ثم على الأحكام، والعقائد بجملتها لا يدركها البشر، فكان لا بد من بعث المرسلين؛ ليبينوا للناس التوحيد أولاً ثم الأحكام ثانياً.

والأمر الآخر: أن الرسالات جاءت لإنقاذ طائفة من البشر ممن كتب الله لهم الهداية وليس لجميع البشر؛ لئلا يظن أن من مقتضى الرسالة أن يؤمن الناس جميعاً، فإن الله كتب على الخلق الابتلاء، ومن مقتضيات الابتلاء أن تهلك طوائف من البشر وأن تنجو طوائف، فعلى هذه قد يحرم من هذه النعمة طائفة من خلق الله تعالى، وهم الذين يتنكبون الصراط المستقيم، ويعصون الأنبياء ولا يطيعونهم، مع أنه لا يمكن أن يتأتى من عاقل من البشر أن يعصي الرسول إلا بعد إقامة الحجة عليه، وهذا أمر ضروري يجب أن يفهمه كل إنسان، لا يمكن أن يتأتى عصيان الرسل عصياناً مباشراً إلا بعد إقامة الحجة على العصاة، بمختلف أنواع الأدلة التي تكون لكل أمة بحسب ما يصلح لها، وحجة النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة ظاهرة لجميع البشر الذين يبلغهم خبر النبي صلى الله عليه وسلم، ظاهرة بوجود دينه وبوجود المسلمين وبوجود السنة، وظاهرة بوجود القرآن أيضاً، والتمكين لهذا الدين، ووجود المسلم في أي بقعة من الأرض حجة على البشر؛ لأنه يمثل دين الرسول صلى الله عليه وسلم، إذاً: فلا يلزم من إقامة الحجة وجود شخص النبي صلى الله عليه وسلم أو حتى إدراك تفصيل سيرته، بل مجرد وجود مسلم تابع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض يعتبر حجة، ويعتبر من النعمة التي أسداها الله إلى الخلق تبعاً لما أنعم الله به من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، أي: أن من لم تبلغه الرسالة لا يعذب حتى تقام عليه الحجة، فلذلك اختلف أهل العلم فيمن مات من البشر ولم يسمع برسول ولم تبلغه رسالة، وهذا وارد في طوائف من البشر في كل زمان، فقد يوجد الآن في الأرض على كثرة وسائل انتشار الأخبار والتبليغ من لم يسمع برسول، فهذا -كما قال أهل العلم- حكمه إلى الله سبحانه وتعالى، وأرجح ما قيل -وقد ورد في ذلك أحاديث وآثار صحيحة- أن الله يبتلي هؤلاء بابتلاء في الآخرة على نحو ما ابتلى الناس في هذا الدنيا، فيختبرهم فيشقى من شقي ويحيا من حي عن بينه، والله أعلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح العقيدة الطحاوية [23] للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

https://audio.islamweb.net