إسلام ويب

أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ستظهر فتن كقطع الليل المظلم، وحذر منها أشد تحذير، وأمرنا بالفرار منها إلى البيوت، وكسر السيوف، وتفادي الشر أينما كان، وقد وقع ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه معجزة بينة من معجزاته وعلامة من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم، وقد كان الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان القدوة الحسنة في كيفية التعامل مع هذه الفتن.

باب إعلام النبي صلى الله عليه وسلم أمته أمر الفتن الجارية، وأمره بلزوم البيوت ولزوم العقلاء بيوتهم

إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فقد ذكر المصنف رحمه الله تعالى: [باب إعلام النبي صلى الله عليه وسلم أمته أمر الفتن الجارية، وأمره لهم بلزوم البيوت وفضل القعود، ولزوم العقلاء بيوتهم، وتخوفهم على قلوبهم من اتباع الهوى، وصيانتهم لألسنتهم وأديانهم].

هذا باب في غاية الأهمية، ويتعلق غالبه بموقف المسلم من الفتن، أي: إذا قامت فتنة عامة فماذا يكون على المسلم أن يتصرف، وكيف يتصرف والحالة هذه؟

الفتنة العامة بخلاف الفتن الخاصة، فالفتنة الخاصة لكل مسلم أن يتصرف فيها بمقتضى الشرع، لكن الفتن العامة هي البلاء العام الذي ينزل بالمسلمين يستأصل شأفتهم.

بيان كيف يتصرف المؤمن مع الفتن العامة

فماذا على المؤمن؟ وكيف له أن يتصرف والحالة هذه؟ فمن الفتن العامة الفتنة التي وقعت بين الصحابة رضي الله عنهم، كما وقع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما.

فماذا ينبغي أن يكون حال المسلم الذي ليس طرفاً بينهما؟

الأمر كما قال أهل العلم: إن المسلم حينئذ على ثلاثة أقسام:

القسم الأول: إذا كان من أهل النظر والاجتهاد، فتيقن أن الحق مع فلان دون الآخر؛ فيجب عليه أن ينصر صاحب الحق.

وإذا ترجح لديه أن الآخر هو الذي معه الحق، فينبغي عليه أن ينصر الآخر؛ لأن هذا هو الذي تجب الإعانة في حقه، وأما إذا لم يترجح له أيهما على الحق؛ فينبغي أن يتوقف، لا يلحق بهذا ولا بذاك، هذا لمن كان له نظر واجتهاد.

أما لو أنه قعد ولم ينظر ولم يجتهد في الأمر في حال الفتنة العامة؛ فبلا شك هذا موقف، وحالة أحسن من سابقتها، حتى لو كان صاحب اجتهاد ونظر، ولكنه آثر ألا يجتهد، وألا ينظر في هذه القضية، ويلزم بيته، ويكون حلس بيته؛ فهذا بلا شك أفضل له بكثير، وأنجى له من الأمر الأول.

أما عامة الناس فلا عبرة بعملهم وبأقوالهم، والواجب في حقهم أن يلزموا بيوتهم، وأن يسمعوا كلام أهل العلم وأن يطيعوا، هذا فيما يتعلق بالفتنة العامة في الزمن الأول.

من الفتن العامة التي نزلت بالمسلمين حديثاً فتنة العراق والكويت.

في الحقيقة يا إخواني! إذا وقعت فتنة عامة، أي: بلاء عام نزل بأهل الإسلام؛ فإن الأصل فيه أن الذي يتصدى له ويجتهد فيه هم أهل العلم الثقات الأثبات المجتهدون، لا طلاب العلم فضلاً عن عامة الناس، وإذا قلت: (لا طلاب العلم) فلا أقصد جموع الملتحين؛ لأن غالب الملتحين ليسوا طلاب علم ابتداء، فإذا قلنا: طلاب علم، أي: من هم دون العلماء.

أما عامة طلاب العلم وعوام المسلمين من الإخوة وغيرهم؛ فلا يحل لهم أن يتفوهوا ببنت شفة فيما يتعلق بفتنة عامة نزلت بالمسلمين.

وهذا على خلاف ما رأيناه وسمعناه منذ عشر سنوات في فتنة العراق والكويت وبلاد الحجاز وغيرها، واستقدام الكفار إلى ديار المسلمين.

الأصل: أن أهل العلم يتكلمون ونحن نسمع ونطيع، لكن هذه الفتنة التي نزلت بالمسلمين كان آخر من تكلم فيها أهل العلم، ليس لأنهم تقاعسوا ولم يؤدوا الواجب الذي أنيط بهم، ولكنها العجلة من الجهال وعامة الطلاب أن تصدروا، وكلفوا أنفسهم ما لم يكلفهم الله تعالى به، فمنهم من أفتى بالجواز، ومنهم من أفتى بالمنع، ومنهم من توقف.. وغير ذلك.

حتى الذي اجتهد وتوقف جعل نفسه في دائرة التوقف، وهذا نوع من أنواع الاجتهاد كذلك، يعني: هو اجتهد فتوقف، والأصل ألا يجتهد، بل الأصل ألا يخطر على باله شيء؛ لأن هذه ليست مهمته.

كما لو أنك رأيت مريضاً يتلوى من الألم، هل تفكر أن تجري له عملية وأنت لست طبيباً؟

الجواب: لا، لا تفكر في ذلك؛ فيلزمك أن تمسك في أمر الشرع، وكذلك عما لم يكلفك الله تعالى به.

فنجد في هذه الفتن عامة أن الكل يسأل، والكل قد انشغل بحكم الشرع في هذه القضية، ليس لأنه يريد أن يعلم حكماً شرعياً، ولكنه يريد رأياً معيناً وفتوى بعينها، فإذا سمع غيرها اعترض، وربما أساء الأدب مع مفتيه، وهذا بلا شك خروج عن حد الشرع، وعن المألوف عند أهل العلم من الآداب التي يجب أن يتخلق بها طلاب العلم.

فهذه آثار ذكرها الإمام ابن بطة في هذا الباب تبين حال المسلم إذا نزلت فتنة عامة، فكيف يتصرف؟

حديث محمد بن مسلمة أن الفتنة لا تضره

قال: [قال أبو بردة بن أبي موسى الأشعري : لما قتل عثمان رضي الله عنه خرج محمد بن مسلمة] وهو رجل من كبار الأنصار ومن كبار الصحابة، [قال: خرج إلى البرية فضرب بها خباء، وقال: لا يشتمل علي مصر من أمصارهم حتى تنجلي بما تجلت].

أي: حتى تنقشع هذه الغمة، ومقتل عثمان رضي الله عنه كان بلية ورزية، وأي رزية نزلت بالأمة، أن يقتل خليفة راشد، وهو ثالث الخلفاء الراشدين، وهو زوج ابنتي النبي صلى الله عليه وسلم، وله من المنزلة ما له، رجل تستحي منه الملائكة، وله من الفضل والعلم والورع والذكر والعبادة.. بل هو من المبشرين بالجنة صراحة.

قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة).. وغير ذلك من فضائله رضي الله عنه، فكونه يقتل وعلى يد المصريين بتحريك من عبد الله بن سبأ اليهودي الذي زعم ظاهراً أنه أسلم، وليس الأمر كذلك.

فخرج محمد بن مسلمة بعد مقتله وضرب لنفسه خباء في الصحراء، وقال: لا أدخل بلداً قط حتى تنقشع هذه الغمة، مع أن ابن مسلمة قد بشر في غير ما نص منه عليه الصلاة والسلام أن الفتنة لا تضره.

يعني: لو بقي في المدينة -وهي محل مقتل عثمان بن عفان - لما كان داخلاً في الفتنة، أو متخوضاً فيها، ولكنه آثر أن يبتعد عن الفتنة كلها، فانظروا إلى موقف هذا الصحابي الجليل الفقيه العالم العابد؛ يهرب من الفتنة كالهروب من الأسد وزيادة.

أما نحن فبجهلنا وجرأتنا نرى الفتنة خامدة نائمة، فنكون أول من يوقظها، دائماً نلج فيها، الواحد منا يسأل عن فتنة بعينها شرقاً وغرباً.. شمالاً وجنوباً، حتى يدخل فيها برأسه.

كان لي أخ من ليبيا يحضر معنا منذ أعوام مضت في مسجد التوحيد لا يسألني إلا عن فتنة، ونصحته مراراً، قلت له: يا فلان! أرجو أن تستغل بقاءك هنا، أرجو أن تطلب العلم، الطريق الذي أنت فيه ليس هو الطريق الصحيح السليم، وكم نصحته مراراً حتى استبعد من البلاد، وذهب إلى بلد من بلاد أوروبا، وقد حدثني في الأسبوع الماضي رجل أتى من عنده، فقال: إنه فتن تماماً، وترك الصلاة والصيام، لم يصم رمضان الماضي، وأخذ يشرب الخمر ويأتي النساء.

يا إخواني! سنن الله تبارك وتعالى الكونية لا تتبدل ولا تتغير، الله تعالى إذا أمرنا فخالفناه فإن جنود الله كثيرة، يسلط عليك جنداً من جنده يهلكك وأنت لا تدري.

فهذا اختار طريقاً ليس هو طريق الطلب، وليس هو طريق العلم؛ فعاقبه الله تعالى بأن فتنه في دينه، كيف لا وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء؟!

هذا نموذج من نماذج متعددة كثيرة في مصر وفي غيرها، الذي يتنكب عن شرع الله لا بد أن تنزل به عقوبة آجلاً أو عاجلاً، وهو يتأول هذه العقوبة ويخفى عليه أنها نزلت من السماء بسبب انحرافه.

وصدق النبي عليه الصلاة والسلام الذي قال: (لن يشاد الدين أحد إلا غلبه).

الذي يتنطع في الدين لا بد أن يرجع إلى الطريق الجادة والاستقامة إذا كان صادقاً موفقاً مسدداً، وإلا فلا بد أن ينقطع به الطريق، ويضل السبيل.

قال محمد بن مسلمة: (لا يشتمل علي مصر من أمصارهم حتى تنجلي هذه الفتنة بما تجلت)، أي: بما نزلت به من بلاء.

قال: [وعن حذيفة قال: (ما أحد تدركه الفتنة إلا وأنا أخافها عليه إلا محمد بن مسلمة ؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الفتنة لا تضره)].

كأنها خاصية لـمحمد بن مسلمة رضي الله عنه.

قال: [وعن ابن ثعلبة قال: سمعت حذيفة يقول: إني لأعرف رجلاً لا تضره الفتنة: محمد بن مسلمة ، قالوا: فخرجنا من الكوفة فإذا فسطاط -أي: خيمة- خارج منها، وإذا فيه محمد بن مسلمة ، فأتيناه فسألناه عن ذلك، فقال: ما أريد أن يشتمل علي شيء من أمصارهم]، أي: لا أريد أن أساكن أهل الفتنة في ديارهم، ولا في بلادهم، [حتى تنجلي الفتنة التي دخلوا فيها].

حديث سعد بن أبي وقاص في فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه

قال: [وقال سعد بن أبي وقاص عند فتنة مقتل عثمان : أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنها ستكون فتنة: القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي. قال: أفرأيت إن دخل علي بيتي أو بسط إلي يده ليقتلني؟ قال: كن كابن آدم الذي قال: لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [المائدة:28-29])].

ولعل شبهة تطرأ على بعض العلماء، وهي قوله عليه الصلاة والسلام: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد)، ليس هناك أدنى تعارض بين هذين؛ لأن هذا الحديث في الفتنة الخاصة، أما الأحاديث التي بين أيدينا ففي الفتنة العامة.

فلو أن رجلاً دخل عليك ليغتصب امرأتك؛ وجب عليك الدفاع عنها وعن عرضك: إما أن تقتله، وإما أن يقتلك.

وإذا أراد أحد أن يأخذ مالك حتى وإن كان مسلماً، فدخل عليك بيتك، فقاتلك ليأخذ مالك؛ فقاتلته، فإن قتلك فأنت شهيد، وإن قتلته فلا دية ولا قصاص عليك، فهذا كله في الفتنة الخاصة، أما الفتنة العامة فاهرب منها ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.

وإن دُخِلَ عليك في بيتك فسلم نفسك للقتل، لا شيء عليك، بل أنت مأجور غير مأزور، وأما المأزور فهو الذي قتلك، هذا في الفتنة العامة؛ ولذلك قال له: (أفرأيت إن دخل علي بيتي، أو بسط إلي يده؟) فماذا كان الجواب؟ كان جواب سعد بن أبي وقاص أن قال: كن كابن آدم الأول الذي قال: مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ، يعني: اقتلني إذا كنت تريد ذلك.

حديث أبي بكرة في كيفية التصرف مع الفتن العامة

قال: [وعن أبي بكرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنها ستكون فتن، ثم تكون فتنة؛ ألا فالماشي فيها خير من الساعي إليها، والقاعد فيها خير من القائم فيها، والمضطجع فيها خير من القاعد، والقاعد فيها خير من القائم، فإذا نزلت فمن كان له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه، ومن كانت له إبل فليلحق بإبله)].

انظر إلى هذا الحديث وجماله وروعته، يقول: إذا نزلت الفتنة العامة وأنت صاحب غنم؛ فانشغل بغنمك، تصور لو أن فتنة عامة نزلت الآن -نسأل الله السلامة- فماذا يكون؟ كل الناس يدعون أعمالهم ويتحولون للتفكير في هذه الفتنة، مع أنهم غير مطالبين بهذا، إنما المطالب بهذا هم العلماء.

الآن إذا أتيت لأجهل الجهلاء، وهو شخص راسب في الابتدائية، وكل ما في الأمر أنه إنسان ملتح، ولابس ثوباً أبيض، فإذا نزلت فتنة عامة أو خاصة لا فرق في ذلك عنده؛ لأنه لا يميز بين الخاصة والعامة، لكنه يجعل نفسه مسئولاً أن يفتي في هذه النوازل؛ ولذلك يقول العلماء: لو سكت الجاهل لقل الكلام، لكن إذا نزلت نازلة تجد فيها ألف فتوى في كل حي؛ لأن كل واحد يقول ما يريحه، كما لو سئل عالم من العلماء في مسألة وحوله طلاب، لوجدت أن هذا الطالب يفتي فيها برأيه، وذاك يفتي فيها برأيه، والثالث برأي ثالث، وكل واحد من الموجودين -إلا من رحم الله- يفتي فيما سمع من فلان بفتوى معينة على حسب اجتهاده.

والعالم لم يتكلم بعد، ينظر إليهم ويتعجب من سوء الأدب، مندهش من هذه الأخلاق الرديئة، والسؤال إنما وجه إلى العالم، والذي أجاب مجموع الطلاب، أمر عجيب جداً، أخلاق لا تتناسب حتى مع اليهود والنصارى، فضلاً عن المسلمين، فضلاً عن طلاب علم.

فينبغي على الجميع أن يتأدب بآداب العلم وأهله قبل أن يطلب العلم، فكم من إنسان طلب العلم وفقد الأدب، ففقد معه كل شيء.

قال عليه الصلاة والسلام عن هذه الفتن: (القاعد فيها خير من القائم، والماشي خير من الساعي، والمضطجع خير من القاعد).

كأنه يحض الناس جميعاً ألا يلجوا في هذه الفتن، وكلما تأخر المرء كان أفضل من غيره الذي تقدم وولج في هذه الفتن، ونصح كل واحد أن يلحق بعمله، وإن لم يكن له عمل إلا على غنمات أو إبل، أو أرض، أو زرع؛ فلينشغل بها ولا علاقة له بهذا.

تصور أن هذا الحديث يوجه إلى أبي بكرة الثقفي رضي الله عنه، أو يوجه إلى كبار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، لكن هذا تشريع عام للأمة كلها.

قال: [(فقال له رجل من القوم: يا نبي الله! جعلني الله فداك، أرأيت من ليس له غنم ولا أرض ولا إبل؟ قال: فليأخذ سيفه، ثم ليعمد إلى صخرة، ثم ليدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاة)].

شخص ليس عنده غنم ولا إبل ولا زرع، يعني: جالس يفكر بالنوازل والبلاء، ماذا يصنع يا رسول الله؟! قال: يأخذ سيفه الذي أعده، ثم يأتي إلى صخرة قوية ويضرب بحد سيفه هذه الصخرة حتى يفسد سيفه؛ لأنك لو أتيت بالسكين وطفقت تضرب به البلاط أو الحائط بحده الذي يقطع؛ فإنه لا بد أن تكسر السكين؛ ولذلك قال: يأخذ سيفه فيضرب به الصخرة أو الحجر حتى يفسد لينجو حينئذ؛ لأن العرب ما كان يدخلون في قتال إلا ومعهم سيوفهم ورماحهم، وغير ذلك من آلات الحرب التي أعدوها لهذا الغرض.

إن الفتنة أمر عجيب جداً، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: أعدوا لها ما استطعتم، وإنما قال: اكسر سيفك والزم بيتك؛ هذا هو فقه الفتن، أن ينجو الإنسان منها بقدر الطاقة ويهرب منها.

أيها الأخ الكريم! لك أن تتصور أن الفتنة هي عبارة عن سبع ضارٍ لم يطعم منذ أيام أو أسابيع، ثم أطلقوا هذا السبع عليك، فماذا يكون عملك؟!

فينبغي أن يكون فرارك من الفتنة أعظم من فرارك من هذا السبع؛ لأن السبع مهما أكل سيأكل بدنك، أما الفتنة فإنها تأكل قلبك، وتأكل دينك، وهذا أخطر من أكل بدنك؛ لأنك لو مت مع سلامة قلبك، أو سلامة دينك؛ لكنت من الناجين.

أما لو مات دينك، ومات قلبك وأنت حي، فأنتم تعلمون أن أكثر أهل الأرض على هذا النحو: أجسام كالبغال، وقلوب حمقى مغفلين، لا يحلون حلالاً، ولا يحرمون حراماً، لا يعرفون لماذا خلقوا؟

قال النبي عليه الصلاة والسلام حينئذ: [(ثم لينج إن استطاع النجاة، اللهم هل بلغت؟! اللهم هل بلغت؟! اللهم هل بلغت؟! قال: يا رسول الله! جعلني الله فداك، أرأيت إن أخذ بيدي مكرهاً حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين، أو إلى إحدى الفئتين، فيحذفني رجل بسيفه فيقتلني، فماذا يكون من شأني؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: يبوء بإثمك، فيكون من أصحاب النار)].

يقول: يا رسول الله! تصور لو أني لزمت بيتي وكسرت سيفي كما أمرتني، وأتى رجل وأكرهني، وأخذني من يدي حتى وضعني في الصف وأنا كاره، فأصابني سهم فقتلني، فماذا علي؟ قال: ليس عليك شيء، قال: فماذا على الذي أكرهني؟ قال: (يبوء بإثمك؛ فيكون من أصحاب النار).

حديث عبد الله بن مسعود في كيفية التصرف مع الفتن

قال: [وعن عمرو بن وابصة الأسدي عن أبيه] وأبوه وابصة الأسدي من كبار الصحابة، [قال: إني لفي داري بالكوفة، إذ سمعت على باب الدار: السلام عليكم أألج؟].

وهذه العبارة كانت معروفة عند العرب، أما في الإسلام فيقال: أأدخل؛ ولذلك (أتى رجل النبي عليه الصلاة والسلام فقال بعد أن طرق الباب: أألج؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـأنس : اذهب فعلمه كيف يستأذن، فقال أنس للطارق: إذا أتيت قوماً فاطرق عليهم ثلاثاً وقل: أأدخل)، أي: لا تقل: أألج، لكن هذا الطارق الذي طرق على وابصة قال: [أألج؟ قلت: وعليكم السلام. فلج]، أي: فادخل.

[قال: (فدخل فإذا هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقلت: يا أبا عبد الرحمن! أية ساعة زيارة هذه في نجد الظهيرة؟)]، ما الذي أتى بك في عز الحر، وليست هذه الساعة ساعة يتزاور فيها الناس، بل هذا وقت قيلولة وراحة، فقال: قد وقع أمر عظيم، ونزلت بلية عظيمة، آل علي النهار، فذكرت من أتحدث إليه. قال وابصة : (فجعل يحدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدثه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تكون فتنة النائم فيها خير من المضطجع، والمضطجع فيها خير من القاعد، والقاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الراكب، والراكب خير من المجري، قتلاها كلها في النار، فقلت: يا رسول الله! فمتى ذلك فينا؟ قال: أيام الهرج. قلت: وما أيام الهرج؟ قال: حين لا يأمن الرجل جليسه)]، علامة من العلامات، أيام الهرج، والهرج: هو الفتن والافتراق والاختلافات والقتل، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لذلك علامة قال: (حين لا يأمن الرجل جليسه).

يعني: يجالس الرجل أخاه، لكنه يحذر منه كل الحذر، [(قلت: فما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: اكفف يدك ونفسك، وادخل في دارك، قلت: أرأيت إن دخل علي داري؟ قال: فادخل بيتك)]، الرجل لو دخل في بستانه أو حديقته اللاحقة للبيت فقد دخل داره. قال: فإذا دخل علي داري؟ قال: (ادخل بيتك)، أي: ادخل المكان الذي أعد لأهل البيت، [(قلت: أرأيت إن دخل علي بيتي؟ قال: فادخل مسجدك)]، والمسجد: هو المكان الذي اتخذه الرجل في بيته مكاناً لصلاته وسجوده.

قال: [(فادخل مسجدك واصنع هكذا، وقبض بيمينه على الكوع)]، يعني: ضم إليه يده ولم يطلقها؛ أي: حتى لا تؤذي الداخل، ولا تقاتل بها الداخل، كأنه يقول له: اضمم إليك جناحك، واضمم إليك نفسك، وكف لسانك وكف يدك.

قال: [(وقل: ربي الله حتى تقتل على ذلك)]، أي: على هذه الحالة، فالنبي عليه الصلاة والسلام هنا يدل على النجاة بلا شك.

والفرق بين الفتنة العامة والفتنة الخاصة: أن الفتنة الخاصة هي فتنة الرجل في ماله، وفي أهله، وفي ولده، وفي زوجه، وبينه وبين أهله.

أما الفتنة العامة: فهي التي تنزل على عموم المسلمين، ليست متعلقة بكل شخص على حدة.

أحاديث أبي موسى الأشعري في أن هناك فتناً كقطع الليل المظلم

قال: [وعن زيد بن وهب قال: أتينا أبا موسى الأشعري فذكر الفتنة، فقال: القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، فتركناه وأتينا حذيفة]. وأنتم تعلمون أن حذيفة متخصص في باب الفتن وأشراط الساعة.

قال: [وأتينا حذيفة فقال: أتتكم الفتنة السوداء المظلمة المحبطة، ما أبالي في أيتها رأيتك. وربما قال: عرفت وجهك، قتلاهم قتلى الجاهلية.

وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة -أي: قرب قيام الساعة- فتناً كقطع الليل المظلم)].

انظر إلى هذا التصوير! الفتن كقطع الليل، وشبه الليل بالقطع والأجزاء، كلما ذهبت قطعة كانت الثانية في إثرها، ظلمة وسواد.

قال: [(يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، القاعد فيها خير من القائم، والماشي فيها خير من الساعي؛ فكسروا قسيكم، وقطعوا أوتاركم، واضربوا بسيوفكم الحجارة؛ فإن دُخِلَ على أحد منكم فليكن كخير ابني آدم)].

(فإن دخل على أحد منكم)، أي: في بيته، فليكن موقفه من هذا أن يسلم نفسه، حتى ولو كان ذلك للقتل؛ لأن هذا هو النجاة، وهذا هو الخير.

قال: [وعنه قال عليه الصلاة والسلام: (إن بين أيديكم فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً)].

هل تتصور هذا التقلب؟ رجل في أول النهار مؤمن، وفي آخره كافر، وفي آخر النهار مؤمن وفي الصباح كافر، لك أن تتصور هذا التقلب في أثناء الفتنة، فأنت في هذه الفتنة ملزم أن تدخل بيتك، وأن تغلق عليك بابك، وإذا دخل عليك بهذه الفتن العامة؛ فلا بأس أن تكون أنت المقتول، [(قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟! قال: كونوا أحلاس بيوتكم)]، فمهمتك في هذه الفتنة أن تدخل بيتك.

والأحلاس: جمع حلس، والحلس: هو الغطاء الملاصق لظهر البعير.

فكأنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يقول: إذا وقعت فتنة فالزموا بيوتكم ولا تشاركوا فيها.

أحاديث الضحاك بن قيس والمقداد في تقلب المرء في دينه أثناء الفتن

قال: [وعن الحسن : أن الضحاك بن قيس كتب إلى قيس بن الهيثم : سلام عليك!

أما بعد:

فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، فتناً كقطع الدخان، يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً، ويصبح كافراً، يبيع قوم خلاقهم -أي: حظههم من الآخرة- ودينهم بعرض من الدنيا).

وعن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لقلب ابن آدم أسرع انقلاباً من القدر إذا استجمعت غلياناً)].

قلب ابن آدم أسرع في تقلبه من القدر إذا وضعت على النار فوصلت درجة الغليان، فانظروا إلى الذي بداخل القدر من تقلب واختلاف، فكذلك قلب ابن آدم، بل أسرع في تقلبه من القدر إذا استجمعت غلياناً.

قال: [وقال: (إن السعيد لمن جنب الفتن، يرددها ثلاثاً)].

وهذا الكلام لا يخرج إلا من النبي عليه الصلاة والسلام، يعني: لا يصلح أن يكون إلا كلام نبوة: (إن السعيد لمن جنب الفتن)، أي: السعيد حقاً هو الذي يتجنب الفتنة، أو أن الله تعالى يلهمه أن يتجنب هذه الفتنة، أو يبعده عنها، هذا هو السعيد حقاً، ردد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً.

قال: [وعن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن المقداد بن الأسود الكندي قال: جاءنا المقداد لحاجة فقلنا: اجلس عافاك الله حتى نطلب لك حاجتك، فجلس ثم قال: العجب من قوم مررت بهم آنفاً يتمنون الفتنة، يزعمون ليبلينهم الله فيها ما أبلى رسوله وأصحابه].

وهذا دائماً أيها الإخوة! هو ما تحدثنا به أنفسنا، نقول: نحن لو كنا مع النبي عليه الصلاة والسلام لنصرناه وعزرناه وأيدناه.

أولاً: ماذا ستفعل مما فعل الصحابة؟ ولو أن الله تعالى علم فيك خيراً لجعلك من أهل ذلك القرن، فنحن لم نر النبي عليه الصلاة والسلام، لكننا آمنا به، وإيماننا يحتاج إلى إيمان آخر، وتصديقنا للنبي صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى تصديق؛ لأننا نأخذ من الدين ما وافق أهواءنا وأفئدتنا وأمزجتنا، هذا لا يصدق أن يكون من مؤمن إلى قيام الساعة، فضلاً أن تتمنى أن تكون من أهل القرن الأول، وأن تكون من أصحابه رضي الله عنهم.

فقال المقداد : (عجبت لقوم مررت بهم الآن قبل أن آتيكم يتمنون الفتنة؛ يزعمون أنهم لو وقعوا في الفتنة لأبلوا فيها بلاء حسناً كما أبلى النبي وأصحابه الكرام رضي الله عنهم أجمعين).

قال: [والله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن السعيد لمن جنب الفتن ثلاثاً، ولمن ابتلي فصبر فواها، لايم الله لا أشهد على واحد أنه من أهل الجنة حتى أعلم بما يموت عليه، لحديث سمعته من النبي عليه الصلاة والسلام. قال: لقلب ابن آدم أسرع انقلاباً من القدر إذا استجمعت غلياً)].

تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو كيف يتصرف عندما يكون بين حثالة الناس

قال: [وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف أنت إذا بقيت في حثالة من الناس)].

والحثالة: هي ما يسقط من قشر الشعير والأرز، أو هو الحشف الرديء من التمر، أو سائر المطعومات.

قال: (كيف أنت إذا بقيت في حثالة من الناس؟)، أي: في سقط الناس ورعاعهم، ليس فيهم أهل تقوى ولا أصحاب دين ولا غير ذلك، فماذا تصنع؟ [(قال: قلت: يا رسول الله! كيف ذاك؟)] سؤال فيه تعجب! أي: هل يبلغ الأمر بالناس إلى أن يكونوا حثالة؟

[(قال: مرجت عهودهم وأماناتهم؛ فكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه)].

يعني: اختلط الحابل بالنابل، واختلط الطيب بالخبيث، ولم يعرف الحرام من الحلال، وإن عرفوه لم يلتزموا الحلال، ولم ينتهوا عن الحرام؛ أمور كلها تداخلت، فكان الليل فيه نهار، والنهار فيه ليل، اؤتمن فيها الخائن، وخون فيها الأمين، وكذب فيها الصادق، وصدق فيها الكذوب، وغير ذلك كما هو واقع المسلمين اليوم.

إن أحاديث هذا الباب علم من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، أخبر بالأمور الغيبية التي تكون فكانت، وتعيشها الأمة منذ زمن بعيد، ولا زالت تعيشها وتغرق في هذا البلاء.

ٌ[(قال: قلت: فما أصنع عند ذاك يا رسول الله؟! قال: اتق الله! وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك خاصتك، ودع عنك أمر العوام)].

أرأيت العلاج؟! النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: اتق الله! هذه أول وصية، وهي وصية الله تعالى للأنبياء والمرسلين: (اتق الله، وخذ ما تعرف)، الذي تعرف أن الشرع قد عرفه فالزمه.

(ودع ما تنكر) أي: الذي أنكره الشرع فأنكره واتركه، ولا تعمل به، (واجتهد في خاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام)، فهذه خمس وصايا نبوية للخروج من الفتن.

بيان معنى قوله تعالى: (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)

قال: [وعن أبي أمية الشعباني قال: (أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت: يا أبا ثعلبة ! كيف تقول في هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]؟ فقال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً؛ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر)]؛ لأن هذه الآية لم يفهمها كثير من الناس، حتى قرأها أبو بكر رضي الله عنه فقال: إنكم تقرءون هذه الآية فتفهمونها على غير وجهها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ، أي: بعد أدائكم لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بعد ذلك لا يضركم شيء.

وبعض الناس يفهم هذا أنه ملازمة البيوت، وترك الدعوة إلى الله عز وجل، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقول: ما لي وما للناس وقد ضلوا، والله تعالى أمرني بخاصة نفسي! نقول: ومن خاصة نفسك أن تعتذر إلى الله عز وجل بتبليغ الناس دينهم، وحملهم على المعروف، ونهيهم عن المنكر، ثم بعد ذلك لا يضرك إذا ضل الناس، ولم تنفعهم دعوتك.

قال: [(ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً)]، البخيل الشحيح الذي يطاع، [(وهوى متبعاً)]، كل واحد يتبع هواه، أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:43]. [(ودنيا مؤثرة)]، الدنيا مقدمة على الدين، [(وإعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فعليك بخاصة نفسك، ودع أمر العوام؛ فإن من ورائكم أياماً الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله، قال: يا رسول الله! خمسين منهم؟ قال: بل منكم)].

ففي هذه الأيام وفي هذه الفتن الذي يأتمر بأوامر الشرع، وينتهي بنواهيه، ويدعو إلى الله تعالى، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويلزم الشرع ظاهراً وباطناً؛ له أجر خمسين من الصحابة.

وهذا لا يعني أنه أفضل من الصحابة، فلا أحد في الأمم كلها بعد الأنبياء والمرسلين أفضل من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.

إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هناك فتنة صماء بكماء عمياء

قال: [وعن الحكم بن مسعود البحراني أن أنس بن مزيد الأنصاري حدثه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ستكون فتنة بكماء صماء عمياء، المضطجع فيها خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، ومن أبى فليمد عنقه)]، يعني: من أبى أن يجتنب الفتن فليدخل فيها، لكنه لا بد أن يعلم أنها ستستأصل شأفته وتأخذ عنقه؛ لأنه قد خالف الأوامر النبوية الآمرة والقاضية بأن يلزم بيته، ويكون حلس بيته، وأن يجتنب هذه الفتن، فلو استشرف إليها استشرفته، ولو مد إليها يده قطعتها، ولو مد إليها عنقه لقطعته كذلك، وهذا شأن الفتن عموماً.

[وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من يستشرف لها تستشرف له)]، أي: لو تطلَّعْت إليها تطلَّعَت إليك وأخذتك. قال: [(ومن وجد منها ملجأً أو معاذاً فليعذ به)]، أي: من وجد منها فراراً وهروباً فليهرب.

موقف الصحابة من الفتن والنهي عن الدخول فيها

إرشاد عبد الله بن مسعود للناس في كيفية التصرف مع الفتنة

قال: [وعن جعفر بن برقان قال: حدثني بعض أصحابنا أن رجلاً من حمير كان يتعلم القرآن عند عبد الله بن مسعود ، فقال له نفر من قريش: لو أنك لم تعلم القرآن حتى تعرف؟]

يعني: يقولون له: لماذا تدخل على عبد الله بن مسعود ؟ قال لهم: لأجل أن أتعلم القرآن، قالوا له: تعال تعلم الكلام والفلسفة والجدل والمنطق قبل أن تتعلم القرآن، فإنك لو تعلمت الكلام فلك أن تتعلم بعده ما تشاء.. فجعلوا الكلام أصلاً والقرآن فرعاً، وهذا بلاء عظيم جداً، مثلما أننا الآن نمر بأزمات فكرية وفساد دعوي في قطاع كبير من أبناء الصحوة، كل يتبع هواه، ويتبع رأيه، ويعرض عن النصيحة.

قال: [فذكر ذلك الحميري لـابن مسعود كلام القوم؛ فقال: بلى! فتعلمه؛ فإنك اليوم في قوم كثير فقهاؤهم قليل خطباؤهم، كثير معطوهم قليل سؤّالهم، يحفظون العهود ولا يضيعون الحدود، والعمل فيه قائد للهوى، ويوشك أن يأتي عليكم زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه، كثير سؤاله قليل معطوه، يحفظون الحروف ويضيعون الحدود، والهوى فيه قائد للعمل]، أرأيت؟ هذا كلام صادر من ابن مسعود كأنه كلام نبي.

قال الحميري: [وليأتين علينا زمان يكون فيه الهوى قائداً للعمل؟]، يعني: هل يعقل أن يأتي على الأمة يوم من الأيام يكون هواها هو القائد للعمل؟

قال: [قال ابن مسعود : نعم. قال: فمتى ذلك الزمان؟ قال: إذا أميتت الصلاة، وشيد البنيان، وظهرت الأيمان، واستخف بالأمانة، وقبلت الرشوة؛ فحينئذ النجاة النجاة. قال: فأفعل ماذا؟ قال: تكف لسانك، وتكون حلساً من أحلاس بيتك]. يعني: لو استطعت أن تكون خرقة ملاصقة لبيتك فافعل.

[قال: فإن لم أترك؟] اعتبر يا ابن مسعود ! أنني جالس في البيت ودخلوا علي. [قال: تسأل دينك ومالك، فاحرز دينك وابذل مالك].

يعني: إذا دخلوا عليك سيقولون لك: تعال. شارك معنا في الفتنة أو أعطنا مالك، فيقول له: احرز دينك وادفع لهم مالك، فإذا كانت القضية قضية مال أو دين يحرز الدين ويبذل المال.

[قال: فإن لم أترك؟ أي: بعد أن أخذوا مالي كذلك لم يتركوني. قال: تسأل دينك ودمك، فاحرز دينك وابذل دمك]. يعني: احفظ دينك ولا تشترك في الفتنة، وابذل لهم دمك إذا كانوا يريدون قتلك فدعهم وما يريدون.

[قال: قتلتني يا ابن مسعود!] يعني: وصلت معي إلى القتل.

[قال ابن مسعود : هو القتل أو النار]. أي: فماذا تختار، فـابن مسعود يقول: إن كلامي مبني على أمرين:

إما أن تُقتل؛ فتكون من أصحاب الجنة.

وإما أن تَقتُل؛ فتكون من أصحاب النار.

[قال: هو القتل أو النار. قال: فمن خير الناس في ذلك الزمان؟ قال: غني مستخفي]. ومعناه: أن يكون حلس بيته.

[قال: فمن شر الناس في ذلك الزمان؟ قال: الراكب الموضع المستقع]، يعني: الشديد البائن على الفتن.

قال: [وعن عبد الله بن رواع قال: ذكرت الفتنة عند عبد الله بن مسعود . قال: أما أنا فإن وقعت دخلت بيتي، فإذا دُخل علي كنت كالبعير الثقال الذي لا ينبعث إلا كارهاً، ولا يمشي إلا كارهاً].

قوله: (كالبعير الثقال) يعني: بعير كبير في السن، إذا جلس وبرك لا يقوم إلا ثقيلاً، وهذا معنى قوله: (لا ينبعث إلا كارهاً) تضربه ليقوم، وتستخدم معه كل الطرق كي يقف في مكانه، لكن لا يقوم إلا كارهاً، ولا يمشي إلا كارهاً لكبر سنه، هكذا يقول ابن مسعود: أنا في الفتنة أدخل بيتي، فإذا دُخل علي وحملوني على القيام؛ أقوم كما يقوم البعير الثقال، العليل، الكبير في السن، الذي لا يقوم لأول وهلة، ولا يقوم إلا كارهاً.

قال: [وعن ابن رواع قال: يا أبا عبد الرحمن ! إنا نرى أموراً نخاف أن تكون لنا فتناً، فإن كان ذلك فكيف نصنع؟ فقال: تدخل دارك، قال: فإن دُخل علي داري؟ قال: تدخل بيتك، قال: فإن دُخل علي بيتي؟ قال: لا أحسبه إلا قال: ادخل مخدعك -أي: المكان الذي تنام فيه- فإن دخل عليك فكن كالجمل الأورق الثقال الذي لا ينبعث إلا كرهاً، ولا يمشي إلا كرهاً.

وعن أبي الدرداء قال: نعم صومعة الرجل بيته]، أي: أحسن مكان للرجل عند الفتنة بيته، [يكف فيها بصره ولسانه، وإياكم والسوق؛ فإنها تلغي وتلهي].

تتابع الفتن حتى يقول الناس إنها سنة

قال: [وقال مطرف : إن الفتنة لا تجيء تهدي الناس، ولكن لتقارع المؤمن عن دينه. أي: لتصرف المؤمن عن دينه].

هذا شأن الفتن، فتجد الشخص طوال حياته وعمره في الفتنة الخاصة يسعى ويتحرك، ويصور له الشيطان أنه باحث عن الحقيقة، حتى سمى أحدهم نفسه سلمان الفارسي ، فقلنا له: ما سبب تسمية نفسك بهذا الاسم؟ قال: لأنني باحث عن الحقيقة، ويقول: إن الله عز وجل ذكر في القرآن الذي هو منقول عندنا بالتواتر الأمر بإقامة الصلاة فقط، لكن أنا ما يدريني أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى الظهر أربعاً، وصلى العصر أربعاً والمغرب ثلاثاً؟ فهل يمكن أن نتفاهم مع هذا؟!

قال مطرف : إن الفتنة لا تجيء تهدي الناس، ولكن لتقارع المؤمن عن دينه.

قال: [وعن حذيفة قال: إياكم والفتن؛ فوالله ما يشخص فيها أحد إلا نسفته كما ينسف السيل الدمن، إنها مشبهة متصلة، حتى يقول الجاهل: هذه سنَّة].

ترد الفتن الأولى وراء الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة، فتكون فتناً متلاحقة إلى أن يألف الناس حياة الفتن.

فتصور أن الفتن تنزل بك واحدة فالثانية فالثالثة فالرابعة فالعاشرة.. إلى أن تألف العيش طوال عمرك في الفتن، فتخرج من فتنة وتدخل في أخرى، فلما كثرت الفتن صارت هي الأصل، وهذا كالبدع تماماً، فالآن لو صدر قرار مثلاً من وزارة الداخلية ووزارة الأوقاف في وقت واحد بإلغاء القبور من المساجد، وإخراج الموتى منها ونقل عظامهم إلى المقابر، وتطهير المساجد كلها من الشرك والبدع وإقامتها على التوحيد؛ فإن ثلاثة أرباع الأمة سيظل يبكي ويولول ويقول: إنهم خربوا الدين وخربوا الدنيا، وعملوا كذا وكذا، فبذلك تنعدم السنن؛ يقول ذلك لأن السنة بالنسبة له هي البدعة، وطن نفسه على أنها هي البدعة، فلما أزيلت البدع قال: ما بال السنن قد غيرت؟ يقول ذلك لأنه تربى على البدعة، وتربى على الفتنة حتى صارت الفتنة أصلاً، وصارت البدعة أصلاً، فلما غيرت وبدلت البدع والفتن؛ قيل: ما بال السنن قد بدلت وغيرت؟ وليس الأمر كذلك، لكن لإلف الناس للبدع، فقد ألفوها وصارت عندهم أصلاً.

قال: [حتى يقول الجاهل: هذه سنة، وتتبين مدبرة، فإذا رأيتموها فاجثموا في بيوتكم، وكسِّروا سيوفكم، وقطِّعوا أوتاركم].

علامات الزمان الذي تظهر فيه الفتن

قال: [وعن قتادة : أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كيف بكم إذا لبستكم فتنة، يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير].

وهذا يدل على أن هذه الفتنة بقيت مدة من الزمان طويلة، حتى إن الذي كان صغيراً أصبح كبيراً، والذي كان كبيراً أصبح شيخاً هرماً.

قال: [فتتخذ سنة]، أي: تتخذ هذه الفتنة سنة، [فإذا غيرت يوماً قيل: هذا منكر]، أي: إذا غير هذا البلاء قيل على التغيير: هذا منكر، [وقالوا: ومتى ذلك يا أبا عبد الرحمن ؟! قال: ذاك إذا قلَّت أمناؤكم، وكثرت أمراؤكم، وقل فقهاؤكم، وكثر قراؤكم، وتفقه لغير الدين، والتمست الدنيا بعمل الآخرة].

يذكر أمارات وعلامات لهذا التغيير وهذا التبدل.

متى ذلك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال: (إذا قل أمناؤكم، وكثرت أمراؤكم).

فأمراؤنا اليوم كثير وكثير، ومنهم من عمره إحدى عشرة سنة، أو تسع سنين، أو ثمان سنوات، وعندنا في مصر كل واحد أمير نفسه، ممنوع على أحد أن ينصحه أو يكلمه أو يغير عليه، ممنوع على أحد أن ينكر عليه، ممنوع على أحد أن يعلمه، كل واحد فينا حر لوحده.

قال: (وقل فقهاؤكم).

يدل على ذلك مشروع الثقافة الذي بين أظهرنا، ظل هذا المشروع الثقافي شهراً وهو يبحث عن سبعة من المشايخ!

قال: (وكثر قراؤكم) وهاهم من الكثرة بمكان.

قال: (وتفقه لغير الدين) للرياء، للدنيا، للمال، للجاه، للشهوة، للسلطان.. لأي شيء.

إن الورقة الرابحة الآن أنه يكون إنساناً مثقفاً ويدرس، ويحفظ قليلاً من الآيات وقليلاً من الأحاديث، ويقرأ كتاباً في الفقه ويجلس في المجالس ليفتي، ولا يتحرج من شيء؛ وهو لا يعرف الصحيح من الضعيف، ولا المتواتر من الآحاد، ولا أي شيء من ذلك، كما أنه يحرص كل الحرص على أن ينجح في هذه السنة، فيعطونه شهادة بأنه أصبح عالماً، وهناك من يأخذ الليسانس، فإن قيل له: من أنت؟ قال: أنا فلان الأزهري، فيعطونه جزئية من البحث أو فرعية من فرعيات المسائل، حضَّر فيها وألف فيها أقوال الفقهاء قديماً وحديثاً، ورجح ما كان مرجوحاً حتى وإن خالف القرآن؛ لأنه لا بد أن يرجح حتى يكون مجتهداً، فيرجح ويأخذ الرسالة، فبمجرد أن يأخذ الرسالة لا يستطيع أحد أن يكلمه نهائياً؛ لأنه دكتور في الجامعة، وإن شئت فقل: هو الكور من غير الدال والتاء.

وصية أبي هريرة لمن أظلته الفتن

قال: [قال أبو هريرة رضي الله عنه: يا أيها الناس! أظلتكم فتن كأنها قطع الليل المظلم، أنجى الناس منها -أو قال: فيها- صاحب شياه يأكل من غنمه، أو رجل من وراء الدرب آخذ بعنان فرسه يأكل من سيفه].

إذا وقعت هذه الفتن المظلمة الكلحاء السوداء؛ فأنجى الناس منها:

شخص يأخذ غنمه، ويذهب إلى المرعى ويذبح ويأكل.

أو شخص معه فرسه يستطيع أن يتكسب به.

موقف التابعين من الفتن وتحذيرهم من الدخول فيها

الحث على اعتزال الفتن والابتعاد عن صفها

قال: [وقال أبو عقيل : (قلت لـأبي العلاء: ما كان مطرف يصنع إذا هاج هيج)]، يعني: إذا وقعت الفتنة، [قال: كان لا يقرب لها صفاً ولا جماعة حتى تنجلي عما انجلت.

وعن الفضيل بن عياض قال: الزموا في آخر الزمان الصوامع -يعني: البيوت- فإنه ليس ينجو من شر ذلك الزمان إلا صفوته من خلقه، قال: وسمعت الفضيل يقول:

حتى متى لا نرى عدلاً يسر به ولا نرى لدعاة الحق أعواناً

ثم بكى الفضيل وقال: اللهم أصلح الراعي والرعية.

وعن ابن طاوس عن أبيه قال: لما وقعت فتنة عثمان قال لأهله: قيدوني فإني مجنون، فلما قتل عثمان قال: خلوا عني القيد، الحمد لله الذي عافاني من الذنوب وأنجاني من فتنة عثمان].

يدعي أنه مجنون من أجل أن ينجو من الفتنة، لما شعر بوقوع الفتنة، قال: قيدوني أنا مجنون، وطاوس بن كيسان هو من كبار التابعين، ومن سادة أهل اليمن علماً وعبادة ورواية.

فقيدوه ثم بلغه وهو في القيد أن عثمان قد قتل وانجلت الفتنة، فقال: فكوا قيودي انتهت الفتنة؛ لأنه مأمور أن يكون حلس بيته؛ فعمل بالأمر وترك الناس.

قال: [وعن سيار بن عبد الرحمن قال: قال لي بكير بن عبد الله بن الأشج : ما فعل عمك؟ قلت: لزم البيت منذ كذا وكذا، قال: أما إن رجالاً من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان ، فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم].

وهؤلاء من أهل بدر، فيا أخي الكريم! من أنت بجانب أهل بدر؟ هل نحن الآن نصل إلى ما وصلوا إليه؟ هل نفهم أكثر منهم؟ إذا كانت المسألة مسألة أفهام وعقول، فهل عقولنا مقدمة أم عقول أهل بدر؟ الجواب: عقولهم وأفهامهم مقدمة على أفهامنا، فضلاً عن وجود الأوامر النبوية باعتزال الفتن فهؤلاء أهل بدر الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعل الله اطلع على قلوب أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم).

فهؤلاء مع تقدمهم وعلمهم وإخلاصهم في الصحبة وبلائهم البلاء الحسن مع النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا إذا سمعوا بفتنة لزموا بيوتهم حتى تنجلي.

قال: [فالفتن على وجوه كثيرة، ودروب شتى، قد مضى منها في صدر هذه الأمة فتن عظيمة نجا منها خلق كثير عصمهم الله فيها بالتقوى، وجميع الفتن المضلة المهلكة المضرة بالدين والدنيا فقد حلت بأهل عصرنا، واجتمع عليهم -مع الفتن التي هم فيها التي أضرموا نارها وتقلدوا عارها- الفتن الماضية والسابقة في القرون السالفة، فقد هلك أكثر من ترى بفتن سالفة وفتن آنفة، اتبعوا فيها الهوى، آثروا فيها الدنيا؛ فعلامة من أراد الله به خيراً، وكان ممن سبقت له من مولاه الكريم عناية، أن يفتح له باب الدعاء باللجاء والافتقار إلى الله عز وجل بالسلامة والنجا، ويهب له الصمت، إلا بما لله فيه رضا، ولدينه فيه صلاح، وأن يكون حافظاً للسانه، عارفاً بأهل زمانه، مقبلاً على شأنه، قد ترك الخوض والكلام فيما لا يعنيه، والمسألة والإخبار بما لعله أن يكون فيه هلاكه، لا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، فإن هذه الفتن والأهواء قد فضحت خلقاً كثيراً، وكشفت أستارهم عن أحوال قبيحة، فإن أصون الناس لنفسه أحفظهم للسانه، وأشغلهم بدينه، وأتركهم لما لا يعنيه.

[وقال سفيان : لما قتل الوليد بن يزيد ، كان بالكوفة رجل يكون بالشام وأصله كوفي، سديد عقله، فقال لـخلف بن حوشب لما وقعت الفتنة: اصنع طعاماً واجمع بقية من بقي، فجمعهم، فقال سليمان بن مهران الأعمش حينئذ للضيوف: أنا لكم النذير، كف رجل يده، وملك لسانه وعالج قلبه]. أي: أنا اليوم أنذركم، كفوا ألسنتكم، وأمسكوا بأيديكم، وعالجوا قلوبكم. أي: لا تدخلوا في هذه الفتنة.

قال: [وقال سليمان بن عتيق لما وقعت الفتنة قال طلق بن حبيب : اتقوها بالتقوى، قالوا: وما التقوى؟ قال: أن تعمل بطاعة الله، على نور من نور الله، رجاء ثواب الله].

انظروا إلى تفسير التقوى: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله -أي: على بصيرة- ترجو ثواب الله.

قال: [وأن تترك معاصي الله، على نور من الله؛ خوف عقاب الله].

إذاً: التقوى فعل وترك؛ فعل للطاعة ببصيرة وعلم، ترجو بها ثواب الله، وترك للمعصية لعلمك أنها معصية، وهذا هو النور من الله، تخاف عقاب الله عز وجل.

قال: [وقال سعيد بن جبير : قال لي راهب: يا سعيد ! في الفتنة يتبين لك من يعبد الله ممن يعبد الطاغوت]، يعني: الفتن هي المحك.

قال: [وقال معقل بن يسار : قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العبادة في الهرج كالهجرة إلي)].

والهرج: هي الفتن، فأن يلزم إنسان بيته في الفتنة، وأن ينشغل بطاعة الله تعالى: بقراءة القرآن والذكر والتسبيح والصلاة وغير ذلك، وأن يهجر هذه الفتنة؛ يكون كمن هاجر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام.

قال: [فرحم الله عبداً آثر السلامة، ولزم الاستقامة، وسلك الجادة الواضحة والسواد الأعظم -أي: من أهل العلم- ونبذ الغلط والاستعلاء، وترك الخوض والمراء والدخول فيما يضر بدينه ودنياه، ولعله أيضاً مع هذا لا يسلم من فتنة الشهوة والهوى]. أي: بعد ذلك كله.

الانصراف عن الفتن بالقلب

قال: [وقال إبراهيم: قال شريح : ما أخبرت خبراً ولا استخبرت خبراً منذ وقعت الفتنة، ولا أصيب من مال رجل ولا من دينه.

وقال لرجل: لو كنت مثلك ما كنت أبالي لو مت الساعة]. يعني: يقول: يا ليتني مثلك، مع أنه لم يتكلم، ولم يطلب من أحد أن يخبره بخبر الفتنة، ولم يصب من مال أحد ولا من عرضه، ولم يتكلم قط، وهو مع هذا يتمنى أن يكون كآحاد الناس الموجودين أمامه.

يقول: لو أني مثلك لتمنيت أن أموت الساعة؛ لأنك على خير.

قال: [وقال شريح : فكيف بقلبي وهواي ما التقت فئتان إلا وقلبي يهوى أن تظفر إحداهما].

يعني: رغم أنني ما أصبت من مال أحد ولا من عرضه وما تكلمت في أحد، وكما أنني كذلك لم أستخبر أحداً، ولم أخبر أحداً بشيء، إلا أنه إذا وقعت فتنة بين طائفتين هوى قلبي الظفر والنصر لإحدى الطائفتين، قال: هذه عقوبة وبلاء عظيم جداً.

فهذا النص يا إخواني! نص خطير جداً، ومخوف إلى أقصى حد، حتى الإنسان ينصرف عن الفتنة بقلبه فلا يفكر فيها، ولا تخطر بقلبه ألبتة، بل يلزم بيته لزوماً، كما [قال حذيفة : إن كان الرجل يتكلم الكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون بها منافقاً، وإني لأسمعها اليوم من أحدكم عشر مرات]، كان الرجل يتكلم بها في عمره مرة في حياة النبي عليه الصلاة والسلام فيعد بها من المنافقين، فما بالكم تتكلمون في كل يوم بهذه الكلمة عشر مرات؟

الدخول على السلاطين وأثره على العلماء والدعاة

قال: [وقال عبد الله بن مسعود : إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه، فيخرج ما معه منه شيء].

والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن).

فقوله: (من بدا جفا)، أي: من سكن البادية كان فيه شيء من الجفاء والغلظة، وهذا أمر معلوم مشاهد.

(ومن اتبع الصيد غفل)، أي: غفل عن الذكر والتسبيح والصلاة وغيرها؛ لأنه يهوى الصيد، فقد انشغل به واستحوذ على قلبه، مع أنه من المباح، لكن لا ينبغي الانشغال بالمباح عن الواجب.

(ومن أتى السلطان افتتن)؛ لأن إتيان السلطان مرهون بالفتنة، إلا أن يكون سلطان خير ودين وتقوى وصلاح، فيجب على أهل العلم حينئذ إعانته على مسئوليته، وعلى المهمة التي أنيطت برقبته، أما إذا كان غير ذلك فيحظر على الرجل أن يقترب منه، وإلا فالفتنة على باب بيته.

يذكر أن محمد بن واسع دخل على مالك بن دينار ، وإذا برسول السلطان يعطي مالكاً صرة فيها مال، فقبل مالك هدية السلطان وأنفقها في الناس، ولم يأخذ منها شيئاً، فقال محمد بن واسع : أقبلت هدية السلطان؟ قال: أما رأيتني قد أنفقتها في طلاب العلم؟ قال: أسألك بالله أقلبك عليه بعد أن أخذت الصرة كقلبك عليه قبل أن تأخذها؟ قال: لا. والله إني حمار.

وهذا فقه عظيم جداً؛ ولذلك أذكر أن أحد الدعاة قد أمات نفسه وهو حي، صعد المنبر في سنة (1981م)، وقال: إن لمصر إلهين: إلهاً في السماء، وإلهاً في الأرض، وهو مجلس الشعب، وكان يفتينا بأن حزب العمل والوفد وغيرها من الأحزاب أحزاب بدعية شركية، فإذا به يدخل في الحزب، ويدخل مجلس الشعب، فلما حدثناه في ذلك، قال: أنتم لا تدرون ما العلاقة التي بيني وبين فلان؟ إنها علاقة قوية نقية، وكلها خير، والرجل على صلاح وتقوى ودين وخلق؛ فقلنا له: لم كفرته آنفاً؟

إما أن تعرف عنه ما عرفته الآن، فتكون قد كفرت رجلاً أنت تعلم أنه على خير، وعلى دين، وإما أن تكون قد جهلت هذا؛ فتكون قد كفرت بغير علم، فأنت في حرج في الحالين.

فأرسل الله تعالى إليه جنداً من السماء، وهو جند الحب والبغض؛ فأبغضه شباب الصحوة وانصرفوا عنه تماماً، فهو الآن حي ميت، لا يتكلم بكلمة قط لله عز وجل؛ لأنها غير مسموعة تماماً، وهذه عقوبة نزلت من السماء.

وكان السلف رضي الله عنهم يتحرجون أشد التحرج من الدخول على السلطان، حتى وإن كان فيه نوع صلاح.

سفيان الثوري كان من أشد الناس هرباً عن بيوت السلطان، فقد دعاه سلطان الكوفة مرة، وأرسل إليه مرات ومرات فلم يأته، فحملوه حملاً حتى وضعوه على بساط السلطان، فدخل وجلس ولاطفه السلطان وكلمه بكلام يليق بمنزلة أهل العلم وكرامتهم، وطلب منه أن يتولى قضاء الكوفة، فقال: أنا لا أعرف القضاء، فلما ضغط عليه أظهر أنه مريض أو مجنون، فلما رأى ذلك منه السلطان، وعلم أنه لن يصلح معه أي حيلة قال: انصرف على أن تأتينا. قال: أفعل. قال: أتعد بذلك؟ قال: نعم. فخرج سفيان الثوري وترك نعله، ثم عاد مرة أخرى ليأخذ نعله، ففطن لذلك أحد الجالسين وقال: يا فلان! إن سفيان لن يأتيك بعد ذلك، إنه قد وفَّى بما وعد، ودخل مرة أخرى.

أرأيتم الهروب من السلطان إلى أين يصل؟ هي والله فتنة عظيمة جداً.

قال: [إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه، فيخرج ما معه منه شيء. قيل: لم يا أبا عبد الرحمن ؟! قال: لأنه يرضيه بما يسخط الله عز وجل عليه].

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح كتاب الإبانة - إعلام النبي صلى الله عليه وسلم أمته أمر الفتن الجارية وأمره العقلاء بلزوم بيوتهم للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

https://audio.islamweb.net