إسلام ويب

لقد وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم فيها الأمر بالعدل، والتحذير من الظلم، وتبيين عاقبة الظالمين، وكذلك جاءت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها الحث على العدل والأمر به، وقد كان في السلف الصالح رضوان الله عليهم الكثير من الأئمة الذين اتقوا الله عز وجل في رعيتهم وقاموا بما أوجبه الله عليهم تجاه رعيتهم دون تفريق بين غني وفقير وبين قوي وضعيف.

أئمة العدل .. أقوال ومواقف

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، حيث أمرنا بها في كتابه الكريم فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] وأعطانا الأمان النفسي والمعيشي في التقوى فقال سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3] وأعطانا الضمان لذريتنا من بعدنا في التقوى وفي الدعوة إلى الله فقال: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9].

اللهم إنا نسألك لأمتنا قائداً ربانياً يسمع كلام الله ويسمعها، وينقاد إلى الله ويقودها، ويحكم بكتاب الله وتحرسه، لا يخضع للبيت الأبيض ولا يركع للبيت الأحمر، إنما شعاره:

نحن الذين بايعوا محمدا>>>>>على الجهاد ما بقينا أبدا

والله لولا الله ما اهتدينا>>>>>ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينـا>>>>>وثبت الأقدام إن لاقينا

(اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة).

أبي الإسلام لا أب لي سواه>>>>>إذا افتخروا بقيس أو تميم

هذا شعاره؛ ورايات التوحيد والعقيدة تخفق بقيادته فوق الأقصى، يوم أن يقود جند الإيمان في الميدان وهم يحملون القرآن في قلوبهم.

عدالة محمد صلى الله عليه وسلم وخلفائه

أيها الأحبة الكرام: إن قضية العدل في الإسلام قضية خطيرة، فالله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188] ويقول سبحانه -أيضاً- في قضية العدل: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام:152] ويقول سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:58] ويقول سبحانه: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [الشورى:15] وكان هذا هو شعار محمد صلى الله عليه وسلم وشعار أبي بكر وشعار عمر والخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم وأرضاهم، ويقول سبحانه: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ [الأعراف:29] ويقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ [النحل:90] لماذا كل هذه الأوامر؟

للوصول إلى هذه الحقيقة: لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25] ليقوم الناس، لا ليقعد الناس، أو يسكت الناس، أو يهادن الناس الظلم والاستبداد، إنما القيام حركة، وانبعاث ثورة، واحتجاج وإنكار للمنكر لِيَقُومَ النَّاسُ [الحديد:25] أي: بماذا؟ قال: بِالْقِسْطِ [الحديد:25] بالعدل، وهكذا تكون القيادات قدوة للقاعدة فيقوم الناس بالقسط.

ماذا كانت أقوال الصالحين من حكام المسلمين أمام هذه الأوامر من رب العالمين؟

أما إمام العادلين محمد صلى الله عليه وسلم فاسمعوا ماذا يقول: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها) وفي لحظاته الأخيرة وهو يودع دولته وحكومته وأمته يختمها بالعدل قائلاً في آخر خطبة يخطبها صلى الله عليه وسلم في الناس: (أيها الناس! من جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه، ومن أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يخش الشحناء من قِبلي فإنها ليست من شأني، ألا إن أحبكم إلي من أخذ مني حقاً إن كان له أو حللني فلقيت ربي وأنا طيب النفس) هكذا يقول محمد صلى الله عليه وسلم.

أما خليفته الراشد أبو بكر الصديق فماذا كان يقول؟ استمعوا إليه في خطبته رضي الله عنه وأرضاه وهو يقول للمسلمين: [أُمِّرت عليكم ولست بخيركم -مع أنه كان خير الأمة بعد محمد صلى الله عليه وسلم- أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم].

ويأتي الخليفة الراشد عمر، فماذا يقول؟ [أيها الناس! القوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف عندي قوي حتى آخذ الحق له].

وهذا عثمان ذو النورين يتمرد عليه أتباع اليهود، يتمرد عليه الذين غرر بهم ويحاصرونه في داره، ويأتيه الصحابة وأبناء الصحابة يستأذنونه في قتال هؤلاء فيقول: بل أصبر وأحتسب. ويأبى أن يهرق في سبيله ولأجله محجم دم، ويظل يقرأ القرآن -كتاب العدل والعدالة- حتى دخل المتمردون عليه وذبحوه وهو يقرأ المصحف، ونزل دمه على كلام الله ليكون صرخة في وجوه المستبدين الظالمين الذين يبيدون الشعوب وينهبون الثروات.

وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يختصم مع يهودي ليس من دينه ولا من عقيدته ولا من لغته من أجل درع له سرقت فوجدها بيد اليهودي يبيعها، فقال اليهودي: إنها درعي، بيني وبينك قاضيك. فذهبا إلى القاضي شريح ووقف علي أمير المؤمنين واليهودي جنباً إلى جنب أمام القاضي، فلما لم يحضر علي الأدلة على أنها درعه حكم القاضي لليهودي؛ عند ذلك لما رأى اليهودي ذلك قال: أمير المؤمنين يحكم في دولته بقاضيه! أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

العدالة تفتح قلوب النصارى واليهود، تفتح قلوب الناس إلى التوحيد والإيمان والإسلام، إن السلطة المطلقة لا تكون إلا لله وحده، السلطة المطلقة التي لا يقترح عليها ولا تسأل ولا تناقش ولا تحاسب هي سلطة الله وحده، ماذا يقول الله سبحانه وتعالى عنها؟ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج:18].. إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [الحج:14].. فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107].. لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] وهم يسألون، أما الله فلا يسأل سبحانه وتعالى.

عدالة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

أيها الأحبة الكرام: وهذا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز يأتيه أركان دولته بعد أن حاسب نفسه قبل الناس، جاءوه في لحظاته الأخيرة وهو على فراش موته، يقولون له: يا أمير المؤمنين! أقفرت أفواه بنيك -أي: منعت أولادك من ملاذ الطعام والمال والكساء- أقفرت أفواه بنيك من هذا المال، وتركتهم فقراء لا شيء لهم، وكان في مرض موته، فماذا كان جوابه؟ قال رضي الله عنه: أدخلوهم علي. فأدخلوهم وهم بضعة عشر ذكراً ليس فيهم بالغ، فلما رآهم بكى، وذرفت عيناه بالدموع، ثم قال: [يا بني! والله ما منعتكم حقاً هو لكم، ولم أكن بالذي يأخذ أموال الناس فأدفعها إليكم، إنما أنتم أحد رجلين: إما صالح فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح فلا أترك له ما يستعين به على معصية الله، قوموا عني، فقاموا عنه ودموعه تتحدر على وجنتيه ولحيته رضي الله عنه وأرضاه!].

عمر بن عبد العزيز إمام العادلين بعد الراشدين.

ظهور الظلم والظالمين في المستقبل

إن الرسول صلى الله عليه وسلم بأحاديثه الصحيحة كان يحذر الأمة وينذرها، فماذا يقول عليه الصلاة والسلام؟ يقول عن الظلم والظالمين في المستقبل: (سيأتي عليكم أمراء بعدي يفعلون ما يعلمون، تعرفون منهم وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع) أي: الهالك الذي يرضى ويتابع، ويقول صلى الله عليه وسلم: (والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم) يقول صلى الله عليه وسلم: (سيلي أموركم من بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فمن أدرك ذلك منكم فلا طاعة لمن عصى الله عز وجل) ويقول صلى الله عليه وسلم: (ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونن عريفاً ولا شرطياً ولا جابياً ولا خازناً) ويقول صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوشك أن أُدعى -أي: أموت- فأجيب، فيليكم عمال من بعدي يقولون ما يعملون، ويعملون بما يعرفون، وطاعة أولئك طاعة، فتلبثون كذلك دهراً، ثم يليكم عمال من بعدهم يقولون ما لا يعملون ويعملون بما لا يعرفون، فمن ناصحهم ووازرهم وشد على عضدهم؛ فأولئك قد هلكوا وأهلكوا، خالطوهم بأجسادكم وزاينوهم بأعمالكم، واشهدوا على المحسن بأنه محسن وعلى المسيء بأنه مسيء).

ويقول صلى الله عليه وسلم: (تكون أمراء يقولون فلا يرد عليهم، يتهافتون في النار يتبع بعضهم بعضاً) ويقول صلى الله عليه وسلم: (من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله) ويقول صلى الله عليه وسلم: (من قلد رجلاً عملاً على عصابة -أي: على جماعة أو أمة أو شعب- وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين) ويقول صلى الله عليه وسلم: (من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو قرابة، فقد خان الله ورسوله والمسلمين).

وهذه الأحاديث يفسرها الإمام ابن تيمية رحمة الله عليه، فيقول: فإن عدل هذا الحاكم عن الأصلح الأحق إلى غيره، لأجل قرابة أو ولاء، أو عتاقة أو صداقة، أو موافقة ببلد أو مذهب، أو طريقة أو جنس، كالعربية أو الفارسية أو التركية أو الرومية، أو لرشوة، أو لغير ذلك من الأسباب، أو لضغن وحقد في قلبه على الأحق، أو عداوة بينهما؛ فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، ودخل في نهيه سبحانه وفي قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27] ثم يقول ابن تيمية : فإن الرجل لحبه لولده أو لعتيقه قد يؤثره في بعض الولايات أو يعطيه ما لا يستحقه فيكون قد خان أمانته، كذلك قد يؤثره زيادة في ماله أو حفظه يأخذ ما لا يستحقه، أو محاباة من يداهنه في بعض الولايات فيكون قد خان الله ورسوله وخان أمانته.

وهكذا يكون صمام الأمان في الحاكم والمحكوم في أموال الأمة والدماء والأعراض والأديان والعقيدة.

أيها الأحبة: إنه ديننا الذي يأمر بذلك، لماذا؟ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25] وإن الله سبحانه وتعالى شهد على نفسه بالقسط وملائكته والعلماء فيقول سبحانه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18] فعلى ولاة الأمر في مشارق الأرض ومغاربها في أمة الإسلام أن يقوموا بالقسط، وأن يبدءوا بأنفسهم ثم بشعوبهم وإلا فلن تتغير الحال: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11].

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

عمر بن عبد العزيز وحرصه على أموال العامة

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

عباد الله: وقف عمر بن عبد العزيز قبل أن يكون خليفة على المسلمين يستعرض دول الإسلام من حوله فماذا قال؟ -وكان الحجاج بـالعراق والوليد بـالشام وقرة بن شريك بـمصر، وعثمان بن حيان بـالمدينة، وخالد بن عبد الله القسري بـمكة !- [اللهم قد امتلأت الدنيا ظلماً وجوراً فأرح اللهم الناس] هكذا كانت دعوة عمر بن عبد العزيز أن يريح الله الناس، فاستجاب الله دعوته فجعله خليفة في الأرض فملأ الأرض عدلاً حتى أن الغني يخرج بمال الزكاة فلا يجد فقيراً يعطيه، نعم أيها الأحباب: [جاءته ابنته يوماً وهي تحمل قرطاً واحداً في أذنها وقالت: يا أبتاه! ألا أجد عندك قرطاً أزين به أذني الأخرى؟ فأمر بإحضار جمرة ثم أرسل الجمرة على طبق وقال: أي بنية! ضعي هذه الجمرة على أذنك فإن استطعت آتيك بدلها بقرط. فقالت: لا أستطيع. فقال: إذاً إنها النار، إنها النار، إنها النار!!].

نعم أيها الأحباب: عمر بن عبد العزيز تقول له زوجته وقد باع قصوره ودوره وهو يعجن الطين ليسد بها ثغور السقف حتى لا يدلف عليه المطر، تقول له زوجته: [أتذكر أيامنا في دابق؟ قال: أذكرها. فتقول له: إنك الآن عليها أقدر. قال: أعلم ولكنها النار يا فاطمة ، إنها النار!!].

وتدخل جارتهم تشتكي حالها فتجد أمير المؤمنين يعجن الطين وينزع من البئر فتقول للملكة: ألا أخذت ثوبك على رأسك وتغطيت أمام هذا الخادم الأجنبي؟! قالت: اسكتي.. هذا ليس بالخادم، هذا أمير المؤمنين عمر .

نعم أيها الأحباب: يحتلم ذات ليلة في البرد الشديد فلا يملك قيمة حطب يسخن الماء ليغتسل، فذهب خادمه إلى فرن العامة ووضع الإبريق يسخنه، فقال: لعلك ذهبت بالماء إلى تنور المسلمين؟ لا يحل لي أن أغتسل به، لأغتسلن بالماء البارد ولو مت. عند ذلك قال له الخادم: أنا أدفع قيمة هذا الحطب فاغتسل يا أمير المؤمنين.

لقد كان يتذكر الآخرة والحساب فيشهق شهقة، تقول زوجته: كنا نقول سيصبح المسلمون ولا أمير لهم لشدة خوفه من الله.

إنها العدالة، العدالة هي التي جعلته يفعل ذلك.

أما الظالمون فما هو شعارهم؟ استمعوا ماذا يقول الله عن الظالمين، هذا النمرود لا يبالي يقول: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258] وفرعون يقول: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29] وهذا الطاغوت قارون وما أكثر القارونات في زماننا هذا: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص:78]وهذا طاغوت مصر يقول: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ [الزخرف:51] إنه شعار الظالمين في كل زمان ومكان، أما الصالحون فماذا يقولون؟ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285].

عمر بن الخطاب وخوفه على رعيته

إن الشعوب العربية لتطالب حكامها بحق عنـزة عمر ، تلك العنـزة التي تسير على أرض العراق فيقول عنها عمر وهو في المدينة : [لو عثرت عنزة في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها: لِمَ لم أمهد لها الطريق].

إن شعوب الأمة الإسلامية والعربية تطالب على جميع المستويات حقوق عنزة عمر، نعم أيها الأحباب.

نسأل الله سبحانه وتعالى العدل والأمن والإيمان، فإن العدل هو أساس الملك، وإن العدل إلى قيام الساعة، وإن دولة الظلم ساعة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

والرسول صلى الله عليه وسلم يخبر فيقول: (إن من خيانة الوالي، أو من أخون خيانته تجارته في رعيته) وما أكثر التجار من الولاة، رحم الله عمر بن الخطاب يوم أن ولى أبا هريرة على البحرين، فلما جاء بأموال قال له: من أين لك هذا؟ ثم شاطره المال، فوضع نصفه في بيت مال المسلمين، فما كان من ممثل الشعب أبي هريرة إلا أن رفع يده وقال: اللهم اغفر وارحم لأمير المؤمنين. وأما عمر فلم يبالِ أبداً حتى توفي وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف ينظران إليه ويقولان: رحمك الله يا أمير المؤمنين! لقد أتعبت من بعدك. أتعبهم بالعدل الذي قامت به دولته، نام تحت الجدار فقال الفارسي له: حكمت فعدلت، فأمنت فنمت يا عمر . وقال عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين! إنك لو رتعت رتعت الرعية، ولكنك عففت فعفت. يا لها من عدالة تقوم عليها الدولة الإيمانية الإسلامية!!

وقف الحسن البصري أمام الحجاج فقال الحجاج: أنت الذي تزعم أن بني أمية جعلوا أموال الله دولاً وعباد الله خولاً؟ قال: نعم. قال: ولم ثكلتك أمك؟ قال: يوم أن أخذ الله الميثاق على العلماء: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187].

ولكن مع الأسف الشديد العلماء يكتمون، لماذا يكتمون؟ لأن الولاة الناهبين لثروات الشعوب أعطوهم الدور والقصور والأراضي والقروض والسيارات وشيكات مفتوحة، والإحسان يملك القلوب.

كان أعرابيٌ يهدي عمر بن الخطاب كل أسبوع فخذ جزور، فصارت خصومة بين الأعرابي ورجل، فدخل على عمر في محكمة العدل وقال: يا أمير المؤمنين! افصل بيني وبين هذا كما يفصل فخذ الجزور. عند ذلك أعلنها عمر : أيها الناس! لا تقبلوا الهدية، إنها لمحمد هدية وإنها لكم رشوة، ثم أخذ يحاسب عماله بعد ذلك على الهدية.

أيها الأحبة الكرام: نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقيم فينا العدل على جميع المستويات، ثم وصيتي إلى أحبابي وإخواني التجار الذي يملكون العمارات والإيجارات: نحن مقبلون على عيد ومقبلون على شهر رمضان فاجعلوها صدقة رمضان واجعلوها عيدية العيد فلا تأخذوا من المستأجرين أجورهم لشهر رمضان المبارك، يفرح المسلمون وتخففون عليهم مصاريف العيد ومصاريف رمضان، والصدقة تقي مصارع السوء، وإنها صورة من صور العدل، ورب صدقة تأتي يوم القيامة تقول: أنا إيمان فلان، أنا إيمان فلان.

اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا سوءاً إلا صرفته، ولا عيباً إلا سترته وأصلحته، ولا مسافراً إلا حفظته، ولا غائباً إلا رددته، ولا مجاهداً في سبيلك إلا نصرته، ولا عدواً إلا قصمته، فاز عبدٌ أدى فرضه، فاز عبدٌ صان عرضه، فاز عبدٌ زكى ماله، فاز عبدٌ ربى عياله، فاز عبدٌ كان في الذاكرين.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، والصدق والإخلاص، واليقين والمعافاة.

إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , صورة من العدل للشيخ : أحمد القطان

https://audio.islamweb.net