إسلام ويب

تكلم الشيخ في هذا الدرس عن غزوة أحد، وكيف ثبت الصحابة بقلوب لم يداخلها الوهن، ثم كيف دخل بعضهم بصيحة من الشيطان استزلهم بها، ثم تاب الله عليهم بعد ذلك، ومع ذلك ما زالوا هم القدوة .. هم الرجال .. هم رموز الأمة، ومن لم يتبعهم ضل سواء السبيل. ثم بين أن هذا هو طريق كل الأنبياء والرسل وأصحابهم من بعدهم.

وقفة للعبرة من غزوة أحد

الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأصلي وأسلم على قائدي وقدوتي ومعلمي وقرة عيني وحبيبـي محمد رسول الله، وارض اللهم عن خلفائه، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعن العشرة المبشرين بالجنة، وعن أصحاب الشجرة وسورة البقرة، وعن سائر الصحابة والتابعين ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى يا مدمر الأكاسرة، ويا مقصر القياصرة، ويا مهلك الطواغيت، أسألك اللهم لأمتنا في مشارق الأرض ومغاربها قائداً ربانياً يسمع كلام الله ويُسمعها، وينقاد إلى الله ويقودها، ويحكم بكتاب الله وتحرسه.

وأسألك أن تنصر إخواننا المجاهدين في سبيلك، الرافعين لرايتك، المعلين لكلمتك، وأن تثبت أقدامهم، وتسدد رميهم، وتوحد صفهم، وتهدي قلوبهم، وتربط على قلوبهم بالأخوة والمحبة والثبات والشجاعة، وأن تنزل عليهم نصرك المبين، كنصر يوم بدرٍ يا رب العالمين، وأسألك اللهم أن تفرج عن إخواننا المسجونين من الدعاة المخلصين، وأسألك اللهم أن تكرم إخواننا الشهداء في سبيلك، وأن تلحقنا بهم بعد طول عمرٍ وحسن عمل في دار كرامتك في عليين، وأسألك اللهم أن تثبت إخواني الغرباء، المهاجرين بدينهم، القابضين على الدين .. القابضين على الجمر بل على أشد من الجمر ورب الكعبة، فإن فتنة القبض على الجمر تهون أمام فتنة الدين والعرض، فأسألك اللهم أن تثبتهم بما تثبت به عبادك الصالحين.

وأسألك اللهم أن تشفي مرضانا ومرضى أمة محمد، وأن ترحم موتانا وموتى أمة محمد، وأسألك اللهم مغفرة منك واسعة، تنجينا وأمة محمد بها من النار، ورحمة يا أرحم الراحمين تدخلنا بها الجنة مع الأبرار.

وأسألك اللهم علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاءً من كل داء، اللهم اجعل هذا البلد وسائر بلاد المسلمين رخاء، أمناً وإيماناً، وبراً وإحساناً، ادفع عنا غوائل الحروب والفتن، ما ظهر منها وما بطن، أمِّن في هذه الحرب الدائرة روعاتنا، واستر عوراتنا، وخفف لوعاتنا، وادفع عنا يا رب العالمين، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ويفعلون، ولا تهلكنا بما يفعل المبطلون.

وأسألك اللهم يا أرحم الراحمين رحماك الواسعة بالأطفال اليتامى الرضع، والنساء الثكالى والعجائز الركع، والبهائم الرتع يا أرحم الراحمين، وإذا ما ابتلينا فنسألك اللهم الثبات يوم الفتنة، والأمن يوم الفزع، والصبر يوم الجزع، والستر يوم العورة، والإطعام يوم الجوع، والسقيا يوم الظمأ، وأسألك اللهم أن تجمع فيها شتاتنا، وتجعل يأسنا فيها رجاءً، وقنوطنا رحمة، اللهم لا تسلط علينا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا يا أرحم الراحمين، آمين.

أحبتي في الله: إن أحبكم في الله.

الصحابة يصدون الرماح بصدورهم

الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد تتهاوى عليه السهام والرماح والنبال، ويسقط في خندق على وجهه، ويتسابق الكافرون على قتله، هذا يقذف بحجر فيصكه في وجهه فيكسر رباعيته، وهذا يلفحه بحديدة فيدخل المغفر في وجنته وينفجر الدم، ويلقي أبو دجانة عليه يقيه بجسده فتنهمر عليه أفواج النبال فتشتك بظهر أبي دجانة حتى يغدو كظهر القنفذ من كثرة النبال، والرسول صلى الله عليه وسلم ثابت القلب والقدم واثقاً بنصر الله رب العالمين.

فلما عجز الكفار عن القضاء عليه، جاء الشيطان مرة ثانية فصاح في الجيشين، أن قتل محمد فتلقفتها أفواه الكافرين وأشعلوها ناراً لا تبقي ولا تذر، عصفت في وحدة الصفوف، وأوهنت القلوب، وأضعفت الأرواح، وتساقطت السيوف من أيدي الأبطال، وجلس بعضهم يبكي، وبعضهم يولي، وبعضهم يزحف، وبعضهم يلتف حول الحفرة يقاتل ليموت على ما مات عليه محمد.

وفي زخم هذه المعركة حدثت بطولات نادرة، فإنك ترى طلحة بن عبيد الله، وأبا طلحة الأنصاري، وأبا بكر وعمر وعلي وأشداء الأنصار والمهاجرين يتساقطون واحداً تلو الآخر شهداء صيحتهم فداك أبي وأمي يا رسول الله، نحري دون نحرك.

أم عمارة ودفاعها عن النبي صلى الله عليه وسلم

وهنا من بين هذه الصفوف المتلاحمة في صهيل الخيول، وصليل السيوف، وقصف الرماح، وصراخ الأبطال، وثوران الغبار فوق الرءوس، ألقت امرأة القربة عن ظهرها، وألقت الدواء من يدها وشمرت عن نفسها، ونظرت بعينين كعيني اللبوة الكسور، واختطفت سيفاً من الأرض وأخذت تجول وتصول، تضرب يميناً وشمالاً وأمامه وخلفه وتحته وفوقه، تدور كما يدور الإعصار لا تبقي ولا تذر، فنهض النبي صلى الله عليه وسلم، متعجباً من هذه القوة التي لا تعهدها النساء، إنما هي قوة خاصة، ومعية خاصة أنزلها الله على نسيبة العامرية رضي الله عنها وأرضاها.

وهكذا إذا تقرب العبد إلى الله بالنوافل فأحبه الله كان سمعه الذي يسمع به، ويده التي يبطش بها، وبصره الذي يبصر به، ورجله التي يمشي عليها، ولئن استعاذه ليعيذنه، ولئن سأله ليجيبنه، هكذا يكون العبد ربانياً ولو كانت امرأة، هنا صاحت بأولادها من بعيد، أي بني لا تطرف عينٌ لأحدكم ويخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذت تدفعهم نحوه واحداً تلو الآخر يخوضون الصفوف والنبي ينهض من جراحه وينظر إلى فعلها ويقول: (من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟ من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة ؟!) متعجباً من ثباتها، وقوتها وصبرها ومغالبتها لعواطف الأمومة والبنوة وتدفع أبناءها ليتساقطوا دون الرسول صلى الله عليه وسلم ولا تبالي، هنا لم يملك النبي إلا أن قال وقلبه يفيض بالرحمة والعطاء: (سليني يا أم عمارة؟ قالت: أسألك رفقتك في الجنة يا رسول الله! قال: اللهم اجعلها رفيقتي في الجنة، ما نظرت عن يميني ولا شمالي ولا أمامي ولا من خلفي إلا ورأيتها تقاتل دوني).

مصعب الداعية حامل الراية

وهناك حيث يلتف الجنود عند الراية، والجنود دائماً في المعارك يلتفتون بين الحين والحين إلى الراية؛ لأن الراية شعار النصر وخفقانها فوق الرءوس دليل الثبات، ويوم أن تهوي على التراب، فقد هوى بعدها وقبلها كل شيء، ولا يحمل الراية إلا أشداء الرجال، ثابتو الأقدام، وكان حامل الراية في أحد مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه، فتى قريش المدلل، الذي كان يرفل بالنعيم وأطايب الطعام والثياب، ورائحته تعصف من بعيد، ويتمنى العذارى من قريش أن يكن أزواجه، ترك ذلك كله من أجل ربه ومولاه، وعق أمه، وقطع أرحامه محبةً في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمه تقول: يا عاق لا أذوق الطعام ولا الشراب ولا الظل إن لم تخرج من دينك وتعود إلى دين آبائك، قال: يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت دين محمدٍ أبداً؛ كلي أو لا تأكلي.

أحبتي في الله: هذا الصنديد المغوار كان يحمل الراية في يمينه ويقاتل بالأخرى فجاء أحد الكافرين فقال: ويحك حتى الآن تحمل الراية وقد قتل محمد؟ فماذا كان جوابه؟ قال: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" قالها قبل أن ينزل بها القرآن، تكلم بالقرآن قبل نزول القرآن، فبتر الكافر يده، وهوت الراية فتلقاها بالأخرى، ودمه يفور، ورجلاه تضطرب على الأرض من الألم، وقلبه من داخله يعتصره الوجع وأوجع ما يسمع قتل الحبيب فأعادها عليه: أقول لك قتل محمد؟ قال : "وما محمدٌ إلا رسول قد خلت من قبله الرسل".

إن الدين والجهاد عندي لا يرتبط بالأشخاص إنما ارتباطي بهذا الدين؛ لأنه قدر الله الشرعي، وأنا مكلفٌ ومأمورٌ بالقيام به عقيدة في القلب، وعبادة في الجوارح، وسلوىً في الحياة، مسئولٌ عنه أمام الله، لن ينفعني أحدٌ إذا قصرت، وجد محمدٌ أم لم يوجد، مات أم لم يمت، إن مسئوليتي أمام الله فردية وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر:18].

أقول لك: وما محمدٌ إلا رسول قد خلت وماتت وذهبت وقتلت الرسل قبله، فلما أعادها عليه نفحه بالسيف فقتله، واستشهد مصعب بن عمير وهو يردد هذا الكلام العظيم الذي يعلمنا أن ارتباطنا بهذا الدين وبهذه الدعوة وبرب هذا الدين هو الرابط الوثيق: واعتصموا بحبل الله لا بحبل غيره، وهنا أحبتي في الله، أنزلها الله قرآناً كما قالها مصعب بن عمير : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].

سبب الهزيمة في غزوة أحد

وهذه الحادثة علمت الأمة .. بل جميع معارك الإسلام تعيش على مائدة غزوة أحد، فالفتوحات الإسلامية الكبرى استفادت من هذا الدرس فائدة لا تقدر بثمن، وعلموا يقيناً أن الذي لم يحاب أصحاب محمدٍ وهو بينهم صلوات الله وسلامه عليه، وأخذهم بذنبهم وخطيئتهم فإنه لن ولا يحابي أمة من بعدهم أبداً، لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123]، لهذا تعلَّموا منها درساً عظيماً .. درس الطاعة، وتجنب المعصية، ووساوس الشيطان، فالشيطان يستزل القلوب والأقدام، وله خطواتٌ من بعد خطوات، ودركات من بعد دركات، ينزل بالعبد وهو لا يشعر، إن الذين تولوا هذا التولي يوم التقاء الجمعين ما سببه؟ الله يقول: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا [آل عمران:155]. الشيطان استزلهم، كأن الشيطان حط زلاجة من تحتهم -وهي الذنوب والمعاصي- فزلت الأقدام فسقطوا على وجوههم.

وكل معصية تعصيها الأمة هي زلاجة تتهاوى أمامها أشداء الرجال.

ويمر أنس بن النضر رضي الله عنه وأرضاه ويرى الناس قد ألقوا السلاح وجلسوا يبكون، وأمة محمدٍ ليست أمة أحزان، فإن الأحزان عواطف قلبية لا تدفع ولكنها لا تمنع من العمل، إن الذي يستسلم لأحزانه يلقي السلاح ويتعطل عن الجهاد، لهذا قال الله لرسوله وهو في أشد حزنه وهو ينظر إلى الشهداء ويقول : (ما وقفت موقفاً أشد علي من هذا، كيف يفلح قومٌ وقد أدموا وجه نبيهم؟!)، والله يقول: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]، والله يقول: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النمل:70].

نعم. إن الأمة التي تستسلم للأحزان تستسلم للهزيمة، تستسلم للعدو، تترك الجهاد، وتظل في مناسبات حزينة، تلطم مرة وتبكي مرة وتشق الجيب مرة، ولكن أمتنا دائماً تنهض من جراحها وأحزانها لتفتح صفحة جديدة جهادية تفتح البلاد وقلوب العباد، ولو ظلت الأحزان تعصف بها من يمنع الأقدار عندما تتخطف الأحباب ؟! ومن منا لم يمت له حبيبٌ أو قريبٌ أو عزيز.

أحبتي في الله: إن أمة محمدٍ دائماً وأبداً تنهض من أحزانها إلى واقع العمل والمسئولية، هكذا يعلمنا الله تبارك وتعالى في هذه الآيات الكريمات، ثم يبين أنه لا القتال قصَّر في أعمار الذين استشهدوا، ولا السلم طول في أعمار الذين قعدوا، إنما كل نفسٍ منفوسة لها أجلٌ وكتاب، لو اجتمع أهل السماء والأرض على أن يقسموا الأرزاق والأعناق ما استطاعوا إلا بإذن الواحد الخلاق، لهذا يقول الله : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144-145].

وهنا لما ذكر ثواب الآخرة ذكر الجزاء، وذكر أن الثبات على الدين في المحن والشدائد والفتن يجزي الله عليه وهو الشكر الحقيقي للصابرين الثابتين تكررت مرتين، في الآية التي قبلها وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144] وهنا ذكر اسم لفظ الجلالة (الله) لأن المصاب عظيم وهو في محمد صلى الله عليه وسلم قتلاً أو موتاً، فجاء باسمه الأعظم حتى يعطينا البديل فيخفف علينا الآلام، ويخفف علينا الأحزان، فنتذكر الله، وما دام الله موجوداً فتوكل على الحي الذي لا يموت، فقال في آخر الآية: وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، وأما في الآية التي بعدها والتي تذكر الآجال المحددة والتنافس على الدنيا أو الآخرة لم يأت بلفظ الجلالة وإنما قال: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:145]. ثم أخذ الله يضرب المثل بقدره الكوني والشرعي.

أنس بن النضر يسعى لنيل الجنة

في نفس اللحظة إذ جاء أنس بن النضر وقال: ما لكم؟

قالوا: قتل رسول الله، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله اللهم إني أبرأ إليك مما يفعل هؤلاء وأشار إلى معسكر الكفر، وأعتذر إليك مما فعل هؤلاء وأشار إلى القاعدين من الصحابة، ثم التفت إلى أحد ، وهو جبلٌ من جبال الجنة له علاقة وطيدة في شريعتنا وقلوبنا، (أحدٌ جبلٌ نحبه ويحبنا) دائماً يضرب النبي فيه المثل : (من شيع الجنازة له قيراطان قالوا: وما القراط يا رسول الله قال: مثل جبل أحد )، (شق التمرة في الميزان مثل جبل أحد )، (ساقا عبد الله بن مسعود الحمشاوين أثقل في الميزان من جبل أحد ) وهكذا دائماً وأبداً يثقل الميزان جبل أحد .

وهنا في هذه اللحظات يلتفت أنس بن النضر إلى جبل أحد فماذا يجد عنده؟ يجد عنده ريح الجنة، تعصف وتنادي، لبيك يا طالب الثواب، لبيك يا ماهر الحور، لبيك يا من تشتاق إلى لقاء الله، هذه رائحتي تهوي إليك، تجذبك، تدفع الشوق إلى اللقاء الأبدي الخالد، (إني لأجد ريح الجنة دون أحد ) ثم انطلق هناك خلف تلك الريح الطيبة لا يلتفت إلى شيء من الدنيا، لا يذكر الزوجة أو الأولاد أو المال أو المتاع، لا يرهب القتل ولا الجراح ما دام يشتم رائحة الجنة، إنما هي لحظات صبر بعده نصرٌ، وهل هناك أعظم من أن ينتصر الإنسان في الميدان على الشيطان، وأن تفيض روحه إلى الرحمن، وقاتل وتقطع السلاح في يده، وتقطع الجسد، وجاءت نفحات السيوف تحتها ظلال الجنة تمحي معالم وجهه فخر على الأرض بلا وجه، وتفقد النبي الشهداء وجاء عند آخر شهيد لم يعرفه أحد لا النبي عرفه ولا الصحابة عرفوه، ثم جيء بمن فقد حبيباً أو عزيزاً لم يعثر عليه، فجاءت أخته تتفحصه ترى أنامل يده فعرفته من أنامل يده، قالت: هذا أنس بن النضر.

فإن غاب وجهه تحت نفحات السيوف في الدنيا فإن الله يعطيه صورة في الجنة كصورة يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام، ما ترك عبدٌ لله شيئاً إلا أخلفه خيراً منه، ومات ومات الآخرون وماتت قرون وماتت أجيال ولكنهم كلهم يوم القيامة سيتمنون موتة أنس بن النضر، والإنسان لا يموت إلا مرة واحدة، فإما شهيدٌ وإما فطيسٌ ولا حول ولا قوة إلا بالله.

جليبيب طلب الحور فأعطيها

والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ماذا تفقدون؟ قالوا فلاناً وفلاناً وفلاناً من الوجهاء والسادة قال: أما أنا فإني أفقد أخي جليبيباً ) وما أدراك ما جليبيب ؟

شابٌ نحيف القامة، أسمر اللون، دميم الصورة، لا ترغب به النساء، كلما خطب طرد على الأبواب، لا يأذنون له بالدخول، فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم دامع العين حزين القلب وقال: يا رسول الله! ما لأصحابك يردونني، أنا فقير لا يرغب بي أحد وليس لي من الحسن فترغب بي النساء، قال : اذهب إلى فلان وقل له: يقول لك رسول الله: أنكحني ابنتك، وجاءت البنية ما كان يحلم بها وجاءه مهرها معونة من إخوانه في الله، وفي هذه اللحظات جاء منادِ الجهاد وأصبح بين جذبين، الزوجة الحسناء تنادي من جانب، والحورية تنادي من جانب؛ فآثر الباقي على الفاني.

وهكذا هم أصحاب العقول عندما يسألونك من أحسن الناس ذوقاً بالجمال؟

فقل: المؤمن.

فإذا قالوا لك: إذاً ما له يغض طرفه عن الحسناوات في الطرقات؟

قل له: لأنه تذكر من أحسن منهن -الحور العين- فغض عن الفاني رغبة في الباقي اللواتي يقلن: (نحن الخالدات فلا نمتن، نحن الناعمات فلا نبأسن، نحن المقيمات فلا نظعن الخيرات الحسان).

وحمل رأسه وهو فيه الدم والتراب ووضعه على فخذه الشريف ثم أشاح بوجهه عنه وابتسم وترقرقت عيناه بالدموع.

قالوا: يا رسول الله! رأينا من أمرك عجباً. قال : أما دموعي فلفراق أخي هذا، وأما ابتسامتي فقد أراني الله مكانه في الجنة، وأشحت بوجهي إذ رأيت زوجه في الجنة تريد أن تهبط إلى الأرض لتكون بين جلده وثوبه، وما ذلك إلا من شوقها إليه، فاز ورب الكعبة.

وقفة مع جهاد النبيين من قبلنا

أحبتي في الله: ويتنـزل القرآن ليثبت الأمة في محنها فلا يرعبها أزيز المدافع وانفجار الصواريخ، وإرجاف المرجفين، وهتاف التهريج، وإشاعات الطابور الخامس في الصفوف، بل دائماً وأبداً تدور حيث يدور الإسلام، وتتمسك وتعتصم بالقرآن، وإن الأمم من قبلها قاتلت وقُتلت وقتلت قياداتها، فما ضر الأحياء، وما فتن الباقين؛ لأن الذي ينزل الهزيمة هو الذي ينزل النصر، وأن النصر بعد الصبر، فضرب الله مثلاً فقال : وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146].

وفي قراءة أخرى لـعكرمة أخطر من هذه القراءة وأبين لواقع المعركة: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ أي: النبي قتل، و(كأي) تفيد الكثرة كم وكم وكم من نبيٍ جاهد أعداءه واستشهد معه قيادة جيشه، وأركان حربه، وخُلَّصِه من أتباعه وحواريه وأصحابه، وهم الربيون والمتبقون من الجند فما ضعفوا وما استكانوا وما استسلموا لأعدائهم، فما لكم ألقيتم السلاح عند أول إشاعة؟! ما لكم تتباكون؟! ما لكم تتخاذلون؟! ما لكم تستسلمون للعدو المرجف؟!

هل عقيدته كعقيدتكم؟ هل ترجون كما يرجو؟

إنه يعبد الشيطان وأنتم تعبدون الرحمن، إن الذي يملك قوة الإيمان والإسلام والقرآن لا ينخذل وينهزم قبل أرباب الشيطان، هذا ما ينبغي وهذا ما يليق، بل الثبات حتى آخر قطرة، كما ثبت الرسل الذين قتلوا تحت راية الجهاد في سبيل الله من قبلكم: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146].

ومن فاز بحب الله هل خسر؟ ومن خسر حب الله هل فاز بشيء؟ لو كانت الدنيا كلها ملكه إنه مع أخسر الخاسرين، والذي فاز بحب الله يحبه كل شيء، يحبه جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وحملة العرش ومَن حول العرش والحور وأهل السماء والملأ الأعلى والصالحون من الإنس والجن، بل تحبه ذرات الأرض وذرات الفضاء، وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:145].

فالمقاتل إن لم يعتصم بالله ويلوذ به فأول ما يدب في قلبه الضعف والوهن، والوهن كما يفسره النبي صلى الله عليه وسلم هو: (حب الدنيا وكراهية الموت).

لماذا ضرب الوهن قلوب الأمة؟

ما ضيع الأمم وهزم الجيوش إلا أن القلوب التي تحمل البنادق في الخنادق تتذكر الغانيات والراقصات في قاعات الفنادق، وكيف ترجو النصر من مقاتل جسده في الميدان وعقله وقلبه في الحان والخان، فكيف ينتصر؟

لا ينتصر، لهذا يقول الله: فَمَا وَهَنُوا [آل عمران:146] لأنهم يحملون الإيمان، ولا يستطيع الإنسان أن يتخلص من علائق الدنيا وجواذبها أبداً إلا بالتربية، فالألف ميل بدايته خطوة، والجبل بدايته صخرة، ولن تصل إلى القمة الشامخة إلا بعد التدريب والتشمير، فأمة الغناء والطرب والرقص لا تحقق النصر أبداً، هكذا يبين القرآن أن أول بوادر الهزيمة تكون في ميادين القلوب قبل أن تكون في ميادين الحروب.

(فما وهنوا) ميدان القلب يتفجر قوة وثباتاً كتفجر الدماء من الجراح، وما ضعفوا وهي الحالة النفسية الثانية التي تصيب المنهزم وهي الضعف.

الوهن: حب الدنيا وكراهية الموت، فينزل الوهن فيتداعى الجسم ويتحول الرجل المصارع الفحل القوي ذو العضلات الجبار الفاتك إلى أرنب، ضعف .. تداعي .. تمزق داخلي يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون:4].

أسدٌ علي وفي الحروب نعامة

قال: وَمَا ضَعُفُوا [آل عمران:146] ، وإذا دب الوهن وتبعه الضعف ألقى السلاح، لأنه لا يطيق أن يحمل السلاح ولا أن يخطو خطوة أبداً، ورفع رايته البيضاء، وسلم ناصيته للأعداء وقال: افعلوا بي ما شئتم فإني خروفٌ لكم اذبحوني على معابدكم وقرابينكم، لهذا قال سبحانه: (وما استكانوا) الوهن يتلوه الضعف والاستكانة وهو الاستسلام التام وإلقاء السلاح، وهنا يبدأ الذبح، فالعدو لا تبلغ جرأته على هتك العرض وسفك الدم ونهب المال وإزهاق الروح إلا بعد الاستسلام التام.

إن التتار عندما دخلوا بلاد المسلمين فبلغوا من درجة الاستسلام أنه كان الجندي يدخل الحي الكامل يخرج الرجال في جانب والنساء في جانب والذهب في جانب، ويقول للرجال احفروا قبوركم بأيدكم، وانتظروني سأذهب وآتي بالسيف، ويذهب ليأتي بالسيف وهم مثل الغنم يحفرون ثم يجلسون على الحفر مادين رقابهم، ويحضر السيف ويقطع رقابهم وهم يبكون، ولو قام أحدهم ونفخ عليه لطار، لكنها الاستكانة التامة.

إن عقبى الصبر نصر

(فما ضعفوا وما استكانوا) والله لم يقل: وصبروا هنا، لأنه عند مراحل الاستكانة وهو مراودة النفس بالاستسلام أستسلم أم لا أستسلم، الآن تقطع رجلي، الآن تقطع يدي، الصاروخ هذا سينزل علي، في الخندق الذي بجانبي، أستسلم أو لا أستسلم. هنا ينفع الصبر؛ فلهذا الله سبحانه وتعالى لما أراد أن يذكر الصبر في النهاية الذي بعده ينـزل النصر ألصق فيه حبه حتى يهضمه المقاتل ويرتاح، فقال: (والله) لفظ الجلالة الأعظم (يحب الصابرين)، تريد حب الله؟! الآن اصبر في اللحظة الأخيرة، انجح في الامتحان، فلما فازوا بحب الله بصبرهم ماذا قال الله بعد؟

نزل النصر في حمراء الأسد وولى المشركون وعاد المؤمنون وانقلبوا بفضل من الله ورضوان لم يمسسهم سوء، والله سبحانه وتعالى يقول عن الأمم السالفة عن بره وجوده بعد الصبر فماذا قال؟

أولاً: بين أسباب الهزيمة، وهو الإسراف والتقصير وترك الدعاء، فإذا اعترفوا بإسرافهم وتقصيرهم وذنوبهم أعلنوا التوبة العامة ونشروها بالصحف والإذاعات، من الحاكم والمحكوم، نبرأ من ذنوبنا ومعاصينا تبنا إلى الله، نستغفر الله، عدنا إلى الله وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:147-148]، فآتهم الله النصر والجنة، وشهد الله لهم بالإحسان .. أعلى مقامات العبودية أن تعبد الله كأنك تراه.

كل هذا في لحظة من لحظات الصبر في ميدان القتال، أي فضلٍ ينتظر الجندي الذي يقف هناك في جزيرة بوبيان وعلى الحدود في الغبار والبرد، أقرب منا إلى ارتجاف الأرض بالصواريخ والمدافع، وهو يستشعر ويعقد النية خالصة أنه ما خرج إلا دفاعاً عن العرض والدين والدم والمال والمظلمة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون مظلمة فهو شهيد) كل لحظة أو غبارة تدخل في أنوفهم وعيونهم وهم يعقدون مثل هذه النيات فضلٌ ما بعده فضل.

أحبتي في الله: لم أتمالك في لحظات الاستنفار العام لخروج القوات هناك على الحدود، لكي يدرءوا عنا بحول الله وقوته شرور الحرب الطاحنة المدمرة التي عمرها الزمني ست سنوات، وعمرها المأساوي ستة قرون، واسأل بها خبيراً، لم أتمالك إلا أن أذهب هناك على طريق القوافل وأقف أنظر إليهم وأدعو لهم، وأسأل الله أن يثبتهم وأن يخلص نياتهم، وأن يكفينا ويكفيهم شر الحرب، ثلاثة أيام أقف أنظر إليهم بأركانهم ودباباتهم وجنودهم واصطفافهم ومشيهم وأزيزهم، أرى أولهم لا أرى آخرهم، فقلت: لا إله إلا الله، ما أعظم الجهاد، هذا منظرهم زاد في إيماني حتى انهمرت دموعي واشتقت إلى الشهادة في تلك اللحظة فكيف لو قاتلت معهم.

صحيح أن الجهاد في سبيل الله ماضٍ إلى يوم القيامة، ويدفع الله به الهم والغم، نحن لا نتمنى لقاء العدو وليس من السنة لقاء العدو، بل علينا أن نسأل الله العافية، لكن أقول هذا حتى تعلموا أن الله ما فرض الجهاد على أمة محمد نكاية فيها، أو تعذيباً لها، أو إضراراً بها، لا وإنما أرحم الراحمين ورب العالمين اللطيف الخبير جعل الجهاد دون العرض والدين والدم والمال كرامة للأمة وقدر الله لا يرده شيء.

الدعاء مفتاح الفرج

فيا أحبتي في الله: الدعوة والدعاء يلطفان القضاء، فإن كان إخواننا هناك للدفاع عن عرضي وعرضك، وأختي وأختك، وديني ودينك من أن تجتاحنا الباطنية الحقودة فتدمر عقيدتنا وديننا فأنت هنا لك دور، أن تتوضأ وتصافح الماء، وأن تقف بين يدي الله تصف قدمك في الليل، وأن تسبل الدموع والخشوع والخضوع لرب العالمين، وأن تسأله أول ما تسأله العافية في الدنيا والآخرة، ثم تقول: فإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليها غير مفتون، اللهم إني أسألك للجنود المقاتلين، أن تخلص نياتهم وأن تصحح عقيدتهم، وأن تثبت أقدامهم، وأن تربط على قلوبهم، وأن تقيهم الفتن، وأن تجبر كسرهم، وتفك أسرهم، وترحم ضعفهم، وتسدد رميهم، وأن تدفع عنهم فإنه لا يدفع السوء إلا أنت، ندرأ بك في نحور أعدائنا، ونعوذ بك من شرورهم.

منـزل الكتاب، ومنشئ السحاب، وهازم الأحزاب، اهزم أحزاب الباطل، اللهم سلم عقيدتنا، وادفع عنا واكفنا، إنك على ذلك قادر يا أرحم الراحمين.

أمن فيها روعاتنا، واستر فيها عوراتنا، وخفف فيها لوعاتنا، رحماك رحماك بأعراضنا، وأموالنا، ودعوتنا.

اللهم إنا نسألك بصالح أعمالنا، وصالح أعمال هذا البلد، من الأيادي البيضاء فكم كفلت من يتامى، وبنت من مأوى، وأطعمت من جائعين، وآوت من مشردين، وداوت من جرحى ومرضى، أسألك اللهم بهذه الأعمال الصالحة، من لجان الزكاة العامرة، والدعاة الصادقين الذين يجأرون بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأسألك اللهم يا أرحم الراحمين، أن تدفع عنا غائلة هذه الحرب وأن تكفينا شرها فإنه لا يكفي شرها إلا أنت يا رب العالمين.

وأسألك اللهم أن تحرر الأقصى وأرض فلسطين، وأن تدفع عنا اليهود والصليبيين، فأنت مولانا في الدنيا والآخرة، يا أرحم الراحمين، ويا رب العالمين.

ادع يا أخي كل ليلة بقلبٍ خاضع، وعيونٍ دامعة، وبدنٍ خاشع، فإن الله يستجيب في الجوف الأخير من الليل، ورب دعوة تخرج من صالح يدفع الله بها آجال نيام وقيام، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , وقفات مع السيرة [2] للشيخ : أحمد القطان

https://audio.islamweb.net