إسلام ويب

كانت السنة الثانية من الهجرة حافلة بالأحداث الجسام والأمور العظام، ثم تلتها السنة الثالثة والتي ابتدأت بغزوة ذي أمر، حيث سمع النبي بجماعة من غطفان تجمعوا لمحاربة النبي، فخرج إليهم النبي في أربعمائة وخمسين رجلاً، فما إن وصل إلى ماء ذي أمر حتى تفرق الأعراب وهربوا إلى رءوس الجبال، فعاد النبي ولم يلق بأساً، وبعد ذلك خرج النبي لملاقاة بني سليم الذين تجمعوا لقتاله في الفرع من بحران، فلما بلغها النبي تفرق بنو سليم ولم يواجهوه، فقفل راجعاً إلى المدينة.

أحداث السنة الثالثة من هجرة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم

قال: [أحداث السنة الثالثة من هجرة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم: أولى غزوات السنة الثالثة:]

غزوة ذي أمر

قال: [غزوة ذي أمر: ودخلت السنة الثالثة -بعد انقضاء الثانية بما فيها من أحداث جسام وأمور عظام- وها هي ذي السنة الثالثة تفتتح بغزوة ذي أمر.

وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن جمعاً من غطفان من بني ثعلبة بن محارب، قد تجمعوا عند ماء يقال له: (ذو أمر) من أرض نجد؛ ليحاربوه صلى الله عليه وسلم فسار إليهم في أربعمائة وخمسين رجلاً، وكان ذلك يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول من سنة ثلاث من الهجرة. واستخلف صلى الله عليه وسلم على المدينة عثمان بن عفان رضي الله عنه وسار حتى بلغ ماء (أمر) فعسكر حوله، وقد هرب الأعراب الذين تجمعوا لحربه صلى الله عليه وسلم، والتحقوا برءوس الجبال، وكان قد نزل عليهم مطر غزير بلَّ الثياب، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم لما ابتلت ثيابه الطاهرة جلس تحت شجرة، ونشر ثيابه لتيبس من البلل، فرآه المشركون المعتصمون برءوس الجبال خالياً وحده، فنزل رجل منهم يقال له: غورث أو دعثور بن الحارث نزل بإيعاز من إخوانه المشركين، وكان أشجعهم وأقدرهم على القتال، ومشى حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سل سيفه وقال: يا محمد! من يمنعك اليوم مني؟ وهمَّ بضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (الله) فوقع السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لـدعثور : ( من يمنعك مني؟ ) فقال: لا أحد] لا عمه قريب منه ولا أهل القرية، ولا هو يؤمن بالله، إذاً: لا أحد [وأنا أشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله] فدخل في رحمة الله؛ لأن شجاعته وقدرته على القتال ومراسه الشهور والسنين انهار ولم ينفعه، إذاً: هذا محمد رسول الله. وهذه آية من آيات النبوة، لاحت في الأفق، وشهد بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لأنه كان يعرف هذا، وأن المسلمين يقاتلون من أجله.

قال: [ووالله لا أكثر عليك جمعاً أبداً] أي: لا أجد جمعاً يتجمع ضدك يريد أن يقاتلك فأقف معهم أكثرهم [فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه فرجع إلى قومه] الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه سيفه: قال: خذه [فقالوا له: ويلك ما لك؟] يعني: لماذا لم تنفذ المأمورية وجئتنا منهاراً، أما بعثناك لتقتل الرجل؟ [فقال لهم: نظرت إلى رجل طويل، فدفع في صدري فوقعت لظهري، فعرفت أنه ملك، وشهدت أن محمداً رسول الله، ووالله لا أكثر عليه جمعاً] أبداً [وجعل يدعو قومه إلى الإسلام، ونزل في هذه الحادثة وفي نظائرها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المائدة:11]].

وهذه الآية لنا أيضاً، فلو مات النبي أو قتل من يندب ويصرخ ويتألم؟ نحن، فكل مؤمن يجب أن يشكر الله على هذه النعمة، وهي نجاة نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد حصل هذا عدة مرات والآية واحدة اقرأها في كل حادثة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المائدة:11].

قال: [وعاد صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ولم يلقوا -والحمد لله- كيداً] عادوا سالمين ولكن غير غانمين سوى الأجر، فقد خرجوا في سبيل الله يومين أو ثلاثة، والحمد لله وقاهم الله مكر العدو، وكان قائد الحملة هذه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

نتائج وعبر من غزوة ذي أمر

قال: [نتائج وعبر] لهذه الغزوة نُذكِّر بها أنفسنا [إن لهذه المقطوعة من السيرة العطرة نتائج وعبراً نوجزها فيما يأتي: أولاً: مشروعية محاربة من يحارب ومسالمة من يسالم] كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قبيلة من قبائل العرب سالمته سالمها، وإذا حاربته حاربها، وهؤلاء العرب تجمعوا ليضربوه، فلما بلغه ذلك رسمياً من طريق جبريل أو من طريق إنسان ما، ما كان منه إلا أن أعلن التعبئة وخرج بأربعمائة وخمسين رجلاً، ومن هذه الحادثة استنبطنا مشروعية قتال من يقاتلنا، وعدم قتال من لا يقاتلنا.

[ثانياً: مشروعية الخروج إلى العدو وتتبعه؛ إرهاباً له] ما دمنا قد عرفنا أنهم يتملمون ويتجمعون نخرج لإرهابهم وتخويفهم.

[ثالثاً: ظهور آية من آيات النبوة المحمدية] والآية هي: العلامة الظاهرة الدالة على الشيء، وآيات النبوة: علامتها الناطقة بها، وآيات القرآن كلها تدل دلالة قطعية على أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.. وإن قلت: ما وجه ذلك؟ وكيف؟

فنقول: إن الآية فيها علم وحكمة ومعرفة، فهل هذا الكلام لم يقله أحد؟ أيمكن هذا؟ أيكون كلام بلا متكلم؟ مستحيل! إذاً: هذه الآية وحدها دالة على وجود الله، ثم على علمه وقدرته وحكمته ورحمته، والذي نزلت عليه لا يكون إلا رسولاً؟ وكيف لا يكون رسولاً؟ مستحيل أن ينزل عليه كلام الله ولا يكون رسولاً، فكل آية من ستة آلاف ومائتين وأربعين آية كلها تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

وآيات النبوة المحمدية هي المعجزات، فكل حادثة تخرق العادة وليس في استطاعت الناس أن يأتوا بها دالة على نبوته صلى الله عليه وسلم قال: [وذلك بسقوط السيف من يد دعثور ، وإعلان إسلامه، وتعهده بألا يكثر جمعاً ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لِما شاهد من آية نبوته صلى الله عليه وسلم].

[رابعاً: تجلي الرحمة المحمدية في العفو عمن أراد قتله بعد التمكن منه] لأنه جاء ليقتله فانهزم أمامه، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم سيفه وعفا عنه، فأي رحمة أكثر هذه؟ ولو كنت أنا أو أنت فعلى الأقل نسبه أو نشتمه، أليس كذلك؟ هذا إذا لم نصفعه، لكن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عز وجل عنه: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43]. والتجلي هو الظهور، قال تعالى: وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى [الليل:2] أي: ظهر بطلوع الشمس.

[خامساً: بيان حسن عاقبة العفو بعد القدرة على المؤاخذة] من قدر على أن يأخذ ثم عفا بشره بالعاقبة الحميدة، وهذه تجلت في موقف النبي صلى الله عليه وسلم من دعثور ، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم قادراً على قتله وعفا عنه، وكان من نتائج ذلك أن أسلم دعثور وأخذ يدعو إلى الإسلام. ولو سبه وشتمه لمشى يألب عليه جماعة أخرى. فهيا نأخذ بهذا المبدأ إن شاء الله، فإذا شتمك من شتمك قل له: جزاك الله خيراً.

غزوة الفرع من بحران

الآن مع غزوة الفرع، والفرع على طريق الهجرة الآن، وقد كانت أمنا الصديقة عائشة أم المؤمنين تحج مُفرِدة، وعندما تقضي الحج وتعود تنزل بالفرع لتستريح عشرين يوماً أو خمس عشرة يوماً ثم تعود للعمرة وتعتمر. كانت فقيهة رضي الله عنها.

قال: [غزوة الفرع من بحران] المنطقة تسمى بحران، وهي قريبة من المهد الآن [ببحران] بهذا المكان [(معدن بالحجاز) ناحية الفُرع تجمع بنو سُليم لقتال النبي صلى الله عليه وسلم] في هذا المكان بنو سليم تجمعوا لقتال الرسول صلى الله عليه وسلم [وعلم صلى الله عليه وسلم بتجمعهم لحربه] عرف بالوسائل المعروفة: المسافرون أو القادمون أو الذاهبون.. فالحركة دائمة ليل نهار، وإن شئتم قولوا: بالوحي الإلهي، أو الرؤية فقط الصالحة، فلا عجب! وممكن له رجال -أيضاً- يمشون حول المدينة ويتعرفون إلى الأعداء ولمن يريد أن يكيد ويقاتل.

المهم علم صلى الله عليه وسلم بتجمعهم لحربه [فانتدب أصحابه] والمندوب ضد الواجب، فانتدبهم بكل سهولة ويسر لا بتشدد ولا بإلزام ولا بإيجاب، قال: من أراد أن يخرج معنا فليخرج، هذا هو الانتداب. والآن نعرف الانتداب في الوظيفة فقط، مثلاً انتدبت الجامعة فلان إلى كذا وكذا.. والرسول صلى الله عليه وسلم أمر أن يقاتل وحده، ويحرض المؤمنين على القتال، قال تعالى: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:84] وهنا قالت العلماء -العالمون بالأسرار-: هذه الكلمة تدل قطعاً على أنه لا أشجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في العالم، ومليون عنتر لا يكون مثله، وكيف لا يكون من أشجع الرجال والله عز وجل يكلفه أن يقاتل وحده؟ ولولا علم الله بقدرته وشجاعته وبطولته لما أمره بذلك، وهذا كشفت عنه الوقائع، فأصحاب الألف كـالزبير وعلي وفلان وفلان .. قالوا: كنا إذا حمي الوطيس نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى نلوذ به: نأتي وراءه، ونحتمي به.. اللهم صل عليه وسلم، هذا عبد الله ورسوله.

قال: [وخرج إليهم في ثلاثمائة رجل بعد أن استخلف على المدينة ابن أم مكتوم ] وكان رجلاً أعمى يؤذن لصلاة الصبح، واستخلفه مرة قبل هذه في السنة الثانية على المدينة أيضاً، والآن الهابطون واللاصقون بالأرض لو رأوا عالماً أعمى سخروا منه!! أين هبطنا؟ إن ابن أم مكتوم وهو رجل أعمى يستخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على إدارة البلاد والعباد، لمعرفته بعلمه وإيمانه وتقواه وعدله ورحمته.

وهو الذي نزل فيه قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى [عبس:1-2]، والسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ذات مرة في مكة في حزم وقوة وعزم يتصدى لرجال قريش وخاصة ذوي المنزل أو المنصب ليستهويهم ويأخذهم إلى رحمة الله، فجاء عبد الله بن أم مكتوم يناديه: يا رسول الله! علمني، والرسول صلى الله عليه وسلم مشغول إما بـعتبة وإما بـأبي جهل أو بغيرهم .. فلا يريد أن يكلمه، ومن ثم نظر إليه وعبس، يعني كأنه قال: دعني أنا في مهمة، فعاتبه ربه عز وجل قائلاً: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى [عبس:1-2] ولم يقل: عبست وتوليت، لا، فهذه تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا يريد أذاه بل يريد فقط تربيته وتزكية نفسه، فلو قال: عبست وتوليت، لا يطيقها، ولذا جاء بصورة الغائب، فقال تعالى: عَبَسَ حبيبنا وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا [عبس:1-11] أي: لا تعد لهذا. وجربوا أنفسكم، هل تتجلى هذه الكمالة فيكم أم لا؟

ومن ثم كان إذا جاء ابن أم مكتوم يقوم له رسول الله صلى الله عليه وسلم ويترك له فراشه إلى جنبه، ويقول: ( هذا من عاتبني ربي من أجله! )، ويكفي أن يستخلفه أميراً على المدينة مرتين، وقد قلت لكم غير ما مرة: لو أن شخصاً يُرفع به قضية إلى الأمير، ويُوبخ فيها، فلن ينظر بعد ذلك في وجه من رفع به، بل يلعنه ويشتمه، وهذه هي تجربتنا، فلا عفو ولا صفح ولا إحسان ولا.. ولا..؛ وسبب ذلك: أننا ما رُبينا في حجور الصالحين، إن أولادكم يتربون في حجور العواهر: الفيديوهات والتلفاز والأدشاش والرقص والصور البشعة.. فينشأ الأولاد على هذا النوع، وأعوذ بالله من مستقبلهم! من جنى عليهم؟ أنتم أيها الفحول؛ لأنكم ما عرفتم، وما علمتم، أتحول بيتك إلى مباعة للشياطين، وتطرد منه الملائكة، ولا لشيء، لا لريال ولا لقرش أبداً.. هل تأخذون أجوراً على هذا؟ هل تعلو مراتبكم وتسمو آدابكم وأخلاقكم؟ وهل سمت آداب وأخلاق الكفار الذين صنعوا هذا الباطل وعاشوا عليه؟ أشيروا إلى كمالات لهم؟ إنهم كالبهائم هابطون، إذاً: لم نجري وراءهم نحن؟ آه! لقد أصبحت بيوت كثير من الناس يتعلم فيها الخبث والشر والفساد.

قال: [وسار إليهم، فلما علموا بمسيره إليهم تفرقوا] أما قال صلى الله عليه وسلم: ( نصرت بالرعب مسيرة شهر )، وقد تجمع الرومان وأعدوا العدة لغزو محمد النبي الخاتم، فأعدوا ثلاثمائة ألف أو مائتي ألف، وعزموا على أن يزحفوا إلى الحجاز من الشام، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلن التعبئة العامة: وخرج في اثني عشر ألفاً -والحمد لله- وكانت هذه الغزوة ذات أحداث، فما إن سمع الروم بخروجه حتى انهارت قواهم وعدلوا عن حرب محمد صلى الله عليه وسلم، وعسكر بتبوك على الحدود عشرين يوماً، ثم عاد، وبينما هو عائد لاحلت له المدينة فقال: ( هذه طابة، وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه )، وقد علمنا هذا من صحيح البخاري، فهل تحبون العلم أم لا؟ وطابة منها الطيب، وعلى الذين يريدون أن يعيشوا فيها على الزنا، والربا، واللواط، والخيانة، والغش، والكذب، وترك الصلاة.. أن يرحلوا، فليست هذه بديار فساد، وهذا الكلام قلناه من أربعين سنة، فإذا كنت لا تستطيع أن تستقيم في مكة والمدينة فارحل، واخرج من بلد الله.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أمرت بقرية تأكل القرى ) وصدق رسول الله، فقد أكلت قرى فارس والروم، وسلبتهم تلك السيادة، وسادت المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي .. فمن كان لا يستطيع أن يستقيم عليه أن يرحل، عليه أن ينزل في بلاد أخرى، فالمدينة كالمسجد. وهل هناك من يسرق في المسجد؟ آه! الآن يسرقون حول الكعبة وفي الروضة؛ لأنهم ميتون، من علمهم؟ من بصرهم؟ من رباهم؟ الجواب لا أحد، فقد تربوا على الباطل والخيانة والكذب وحب الدنيا وزخارفها ..

إذاً: ما المخرج؟ لِم لا تسألون هذا السؤال؟ لأننا ما زلنا هابطين، وستقولون: لا ندري، أو ما عندنا استعداد لنخرج من هذا أبداً وإن بينت لنا المخرج.. وهذا لسان الحال.

والمخرج هو: أن نرجع إلى الله في صدق، وأن نحقق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويأخذ أهل القرية -سواء في الحجاز أو في الشام أو في اليمن أو في العراق..- قائلين لإخوانهم: من الليلة لا يتخلفن رجل ولا امرأة ولا طفل في قريتنا عن المسجد، فإذا مالت الشمس إلى الغروب أوقف العمل في المزرعة والدكان وفي غيره .. ونأتي المسجد ليجلس لنا مرب حكيم، يعلمنا الهدى ويعرفنا بالطريق السوي والنهج القويم المستقيم، وهكذا ليلة يعلمنا آية وأخرى يعلمنا حديثاً، فما إن تغرب الشمس كل يوم إلا والقرية خالية من سكانها، وكلهم في بيت الرب عز وجل! الله أكبر، عرفوا الله، وآمنوا به، وصدقوا وعده ووعيده؛ فاجتمعوا يتعلمون الكتاب والحكمة، فلا تمضي سنة إلا وهم أشباه الملائكة بالتمام، ووالله لتختفين مظاهر الخبث والشر والظلم والفساد بكلها، ويحل محلها الحب، والولاء، والصدق، والوفاء، والطهر، والصفاء .. إي نعم. فالكتاب والسنة يزكيان النفوس ويهذبان الروح والعقل، وقد مضى التاريخ بهذا، فوالله ما رأت الدنيا ولا اكتحل عين الوجود بأمة أطهر ولا أرحم ولا أعدل ولا أصفا من تلك التي كانت تجلس في حجر رسول الله يعلمها الكتاب والحكمة ويزكيها، والواقع عندنا واضح، ويا أهل المجلس سامحوني إذا قلت لكم: والله إن أعلمنا بالله أتقانا له، وأجهلنا هو أفسقنا، ولا نتردد.

فهبوط أمة الإسلام من عرب وعجم سببه الوحيد الجهل، فما علمناهم ولا عرفناهم ولا هديناهم ولا طهرناهم، تجدهم يسلمون ويدخلون في الإسلام وهم لا يعرفون، ونريد منهم أن يصبحوا أولياء لله، كيف يتم هذا؟ أين الإيمان وأين التقوى؟

وعرفنا حال أهل القرى لكي يستقيموا، والآن مع أهل المدن، فكل مدينة ذات سبع مناطق أو ثمانية تلتزم بمبدأ الإيمان بالله الصادق كالقرية. وينادي فيها يا معشر الإخوان والأبناء! إن شاء الله من الليلة، لا يتخلفن رجل ولا امرأة ولا طفل إلا ذو عذر عظيم، فنجتمع في بيت ربنا ونبكي بين يديه، ونطرح بين يديه، نسترحمه ونطلب هداه، ونطلب معرفته، ونطلب الكمال منه والسعادة .. عن طريق تعلم الكتاب والحكمة.

فإذا التزموا بذلك وفي سنة واحدة يصبح ذاك الحي والله ككوكب في السماء بالنسبة إلى ما حوله، فأنواره تلوح، ولا خبث ولا شر ولا فساد ولا شح ولا بخل ولا تكالب على الدنيا.. ووالله ليفيض المال.. آه! ما المانع أن نفعل هذا؟ ألا نستطيع، سبحان الله! ألا نستطيع وتلك القرية انتهى فيها المنكر والباطل والسوء، وما قاله المربي هو الذي قالوه، وما دعوا إليه هو الذي سمعوه وفعلوه، وتصبح كلمتهم واحدة وقلبهم واحد كمثل رجل واحد، فلا مذهبية ولا طائفة ولا حزبية ولا.. ولا.. وهل هذا يكلف شيئاً؟ هل يكلف مالاً؟ لا، بل -والله- ليوفر المال.

وهذا والكلام سمعتموه أيها الحاضرون من سنين، فما بلغنا أن أهل قرية اجتمعوا أبداً، وقد قلنا: لو علمنا أن القرية الفلانية أهلها نهجوا هذا المنهج لزرناهم، نتبرك بهم، ونشاهد آثار الرحمة الإلهية عندهم، ولكن لا يوجد من فعل ذلك.

قد أسمعت لو ناديت حيـاًولكن لا حياة لمن تنادي

هل بلغكم أن خطيباً في يوم الجمعة في الشام أو العراق أو الحجاز قال: هذا هو المنهج فهيا بنا نجتمع في بيوت الله؟! هل بلغكم أن كاتباً من كتاب الصحف والمجلات كتب وقال: ينبغي أن نطبق هذا؟ هل هناك لجنة قامت وزارت الحاكم وقالت: هيا بنا نطبق هذا المنهج المحمدي؟ ليس هناك من فعل هذا.

إذاً: ننتظر فقط رحمة الله عز وجل.

قال: [وكان هذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: ( نصرت بالرعب مسيرة شهر )، فرجع صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ولم يلقوا -والحمد لله- كيداً، وكانت مدة الغياب عن المدينة عشرة أيام] فقط. وهذه الغزوة غزوة الفرع لها نتائج وعبر، كالعادة نسمعكم إياها.

نتائج وعبر من غزوة الفرع من بحران

قال: [نتائج وعبر: إن لهذه المقطوعة من السيرة العطرة نتائج وعبراً نذكرها فيما يلي:

أولاً: مظاهر العزم والحزم لدى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم] فما إن بلغه خبر تجمع الأعراب حتى أعلن التجمع في المسجد، وما تردد يومين أو ثلاثة، فالحزم لا يقتضي هذا والعزم، ولكن على الفور.

[ثانياً: آية النبوة المحمدية] تجلت [في انهزام المشركين بمجرد تحركه صلى الله عليه وسلم نحوهم] تفرقوا وشردوا.

[ثالثاً: فضيلة ابن أم مكتوم لاستخلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم له غير مرة إماماً وحاكماً] وكان أعمى يصلي بالناس ويقضي بينهم ويحكم، وهل اختاره النبي لعماه؟ لا، ولكن لأنواره القلبية، ولزكاة نفسه ومعرفته بشريعة الله، فهو تلميذ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[رابعاً: جواز تولية الأعمى إذا كان ذا أهلية للولاية من الإيمان والعلم والتقوى] صاحب الإيمان الصحيح والعلم بالشريعة والتقوى لله عز وجل وله ولا تخف، فإنه ينفع بإذن الله.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه..



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , هذا الحبيب يا محب 56 للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net